المتنصِّت
تُعدُّ إحدى قواعد السلوك القويم، المرتبطة ارتباطًا وثيقًا (في السياق الملائم) بجميع الأشخاص المهذبين، هي ضرورة تقديم المعارف تقدمةً لائقة. الآن، يجدُر بي الالتزام بهذه القاعدة الصارمة، التي تغاضَيْتُ عنها على مدى فصلٍ كامل؛ وقد مر ما يقرب من عامين على أول ظهور غير رسمي لي.
اسمحوا لي أن أقدِّم لكم بول بيركلي، الحاصل على بكالوريوس طب، وما إلى ذلك، مؤخرًا — مؤخرًا جدًّا — والمؤهَّل للعمل، والذي يرتدي بالكامل السترة السوداء الاحترافية وقبعةً طويلة، في لحظة تقديمه هذه كان يجول بحرصٍ يشوبه القلق في ممرٍّ ضيق بين صفٍّ من أشولة الفحم الممتلئة عن آخِرها وطبق ضخم مُكدَّس بثمار البطاطس الصغيرة الحجم.
قادني هذا الممر الضيق إلى أرضٍ فسيحة لحارة فلور دي ليس، حيث وقفت لدقيقةٍ لمراجعة قائمة زياراتي. كان أمامي مريض واحد لزيارته هذا الصباح يسكن في ٤٩ نيفيلز كورت، أينما كان هذا العنوان. سعيتُ للحصول على معلومات من صاحبة متجر الفحم.
«هلَّا من فضلك أرشدتِني إلى شارع نيفيلز، سيدة جابليت؟»
كان بوسعها أن تُرشدني، وأرشدتني فعلًا، ممسكةً بذراعي على انفراد (حتى ظلَّت علامة أصابعها على كمِّي لأسابيع) مشيرة بسبابتها المهتزة إلى الجدار المصمت أمامي. قالت السيدة جابليت: «نيفيلز كورت يقع في حارة، تدخلها عبر قنطرة. وعندما تمضي قدمًا يظهر على اليمين حارة فيتر، في الجهة المقابلة من مباني بريم.»
شكرتُ السيدة جابليت ومضيتُ في طريقي وأنا سعيد بأن الجولة الصباحية أوشكت على الانتهاء، مُدركًا بشكلٍ غامض النزعة المتزايدة والرغبة في الاغتسال بماءٍ ساخن.
الكشف الذي كنت أقوم به لم يكن خاصتي. كان كشفًا منوطًا بأدائه ديك برنارد المسكين، رجل عجوز يعمل بمستشفى سانت مارجريت ذو روح جامحة وبنية ضئيلة، وكان قد بدأ في اليوم السابق رحلةً عبر البحر المتوسط على متن سفينةٍ تعمل في تجارة العنب؛ وكانت هذه الجولة؛ جولتي الصباحية الثانية، تُشبه رحلة استكشاف جغرافي.
سرتُ بخطًى سريعة متجهًا إلى حارة فيتر حتى وصلتُ إلى فتحة ضيقة مقنطرة، تحمل لافتة «نيفيلز كورت»، أبطأت خطواتي، وهنا التفتُّ لأواجه واحدةً من تلك المفاجآت التي تنتظر المتجول في الطرق الجانبية بلندن. توقَّعت العثور على الواجهة القذرة الكئيبة للقصور المعتادة في لندن، إلا أنني نظرتُ من تحت ظلال القنطرة إلى ما وراء صفٍّ من المتاجر الصغيرة ذات المستوى الجيد عبر مشهدٍ مفعم بالأضواء والألوان — مشهد الأسقف والجدران القديمة مُغطاة بألوانٍ باهتة تُنعشها أوراق النباتات المضاءة بأشعة الشمس. فأن ترى شجرة في قلب لندن بمثابة مفاجأة سارة دائمًا؛ ولكن هنا لا تُوجَد أشجار فقط؛ وإنما شُجيرات وزهور أيضًا. كانت الأرصفة الضيقة يُتاخمها حدائق صغيرة ذات أسيجةٍ خشبية وشُجيرات منسَّقة جيدًا، أضافت إلى المكان طابعًا ريفيًّا جذابًا ووقورًا؛ بينما كنتُ أهِمُّ بالدخول، صادفتُ سربًا من العاملات، يرتدين بلوزات مبهجة الألوان وشعورهن تلمع في ضوء أشعة الشمس، مما جعل الخلفية الهادئة تسطع بالضوء كالزهور البرية التي تزخرف سياجًا من أشجار الصيف.
وفي إحدى الحدائق، لاحظت أن الممرات الصغيرة كانت مُعبَّدة بما يشبه البلاط الدائري، ولكن عند تدقيق النظر، وجدت أنه حجر قديم الطراز على هيئة قوارير الحبر، الجزء السُّفلي منها مقلوب لأعلى؛ كنت أتأمل الغرور الغريب الذي قاد كاتب العدل المنسي الذي زخرف محيط مسكنه بهذه الطريقة — أو لعلَّه يكون كاتب قانون أو مؤلفًا أو ربما يكون شاعرًا — حين لاحظت الرقم الذي كنت أبحث عنه مكتوبًا على بابٍ مُهترئ من جدار عالٍ. لم يكن هناك جرس ولا مطرقة، ومِن ثَم رفعت المزلاج ودفعت الباب ودخلت.
ولكن إذا كانت الحارة في حدِّ ذاتها مفاجأة، فقد كان هذا مُدهشًا على نحوٍ إيجابي وكأنه حلم. وهنا على مقربةٍ من ضجيج شارع فلييت، كنت أقف داخل حديقةٍ عتيقة الطراز محاطة بجدران عالية، والآن بعد أن أُغلقت البوابة، انقطعت الحديقة عن مرأى ومعرفة العالَم الحضري المهتاج بالخارج. وقفتُ وحدَّقت في دهشة مبتهجة؛ أشجار لامعة بأشعة الشمس وأحواض زهور يانعة الخطمية الوردي الرائع، كل هذا يُشكِّل طليعة المشهد؛ وفوقها تُحلق فراشتان ذواتا لونٍ أصفر فاقع، غافلتان عن قطةٍ بيضاء سمينة ونظيفة على نحو إعجازي تلاحقهما، وهي تتراقص عبر الحدود وتلوِّح بمخالبها البيضاء، كبياض الثلج، في الجو سُدًى. لم تكن خلفية المشهد أقل روعة؛ كان يطلُّ على هذه الحديقة منزل عتيق فاخر له سقف داكن وطراز مهيب يعود إلى الفترة التي كان يُحمل فيها العجائز المتأنقون على مِحَفَّاتٍ عبر الفناء، وكان النبيل إيزاك والتون يتسلل من متجره في شارع فلييت، ويتجول في حارة فيتر ذاهبًا إلى منطقة تمبل ميلز ليصطاد.
كنتُ مبهورًا جدًّا بهذا المشهد الخلَّاب المفاجئ لدرجة أن يدي كانت تقترب من مقبض الجرس المتدلي قبل أن أستجمع نفسي، ولم أنتبه حتى ذكَّرني أبشع صوت صلصلة آتٍ من الداخل بمهمَّتي، لاحظتُ بالأسفل منه لوحة نحاسية صغيرة مكتوبًا عليها «الآنسة أومان».
انفتح الباب على نحوٍ مباغت بعض الشيء، رمقتْني سيدة قصيرة القامة في منتصف العمر بنظرات نهمة.
«هل قرعتُ الجرس بالخطأ؟» سألتها بحماقةٍ بالغة، لا بدَّ أن أعترف بذلك.
فردَّت بسؤال: «كيف يمكنني أن أعرف؟ أتوقع أنك فعلتُها. هو أمر قد يفعله الرجال — يقرعون الجرس ثم يعتذِرون.»
أجبتُ بسرعة: «لم يبلُغ بي الأمر هذا الحد. يبدو أن هذا كان له التأثير المرغوب، بالإضافة إلى أنني اكتسبتُ معرفتك.»
تساءلت قائلة: «من الذي تريد زيارته؟»
«السيد بيلينجهام.»
«هل أنت الطبيب؟»
«أنا … أنا طبيب.»
قالت الآنسة أومان: «اتبعني إلى الطابق العلوي ولا تضع يدك على الطلاء.»
عبرتُ الردهة الفسيحة تسبقني مُضيفتي، وصعدتُ درجًا من سلالم خشب البلوط الفخم، كنتُ أمشي بعناية على شريطٍ من الحصير مفروش في منتصف الدرَج. توقفت الآنسة أومان في الطابق الأول وفتحت بابًا وأشارت إلى الغرفة قائلة: «ادخل إلى هنا وانتظر، سأُخبرها بأنك قد أتيت.»
«قلت — السيد — بيلينجهام.» هممتُ بقول هذه العبارة ولكن أُغلق الباب بعنف، وخفَتَ وقع أقدام الآنسة أومان بسرعة وهي تنزل الدرج.
في الحال اتَّضح لي أنني كنتُ في وضع صعب للغاية. الغرفة التي اقتُدت لها كانت ملحقةً بغرفة أخرى، ورغم أن الباب الفاصل بينهما كان مغلقًا، فقد أدركتُ على نحوٍ بغيض أن ثمة محادثة تجرى في الغرفة المجاورة. في البداية، وصلني عبر الباب مجرد تمتمة مُبهمة، بعباراتٍ غير مترابطة، ثم فجأة رنَّ صوت غاضب بوضوحٍ وعلى نحو جليٍّ ومؤلم.
«أجل، فعلتها! وأُكرِّرها مرة أخرى. رشوة! مؤامرة! هذا ما بلغه الأمر. أنت تريد رشوتي!»
«لا شيء من هذا القبيل، جودفري.» جاء الردُّ بنبرةٍ منخفضة أكثر؛ ولكن عند هذه اللحظة سعلتُ بشدة وحركتُ أحد الكراسي، انخفض الصوتان مرةً أخرى إلى همهمةٍ مُبهمة.
ولكي أُشتِّت انتباهي بعيدًا عن جارَيَّ الخفيَّين، رمقتُ الغرفة في فضول وتكهنت بشخصيات سكانها. كانت غرفة غريبة جدًّا، ذات إيحاء مؤثر بفخامة بالية ووقار العالم القديم؛ غرفة مثيرة للاهتمام، ذات طابع مميز ومليئة بالاختلافات والتناقضات المحيرة. فالجزء الأغلب منها ينمُّ عن فقرٍ لا تخطئه عين؛ لكنه جدير بالاحترام. كادت الغرفة أن تكون خاليةً من الأثاث تقريبًا، والقليل الموجود كان عبارة عن أرخص أثاث: طاولة مطبخ صغيرة وثلاثة كراسي وندسور خشبية (اثنان منها بلا أذرع)، وسجادة رثَّة مفروشة على الأرض، ومَفرش قطني رخيص فوق الطاولة؛ هذا بالإضافة إلى مجموعة أرفف، مصنوعة بلا شك من صناديق البقالة. شكَّل كل هذا جناحًا بأكمله. وعلى الرغم من فقره، بدا المكان مُغلفًا بأجواءٍ منزلية مريحة بل زاهدة، وذوق رفيع لا غبار عليه. كان اللون الخمري الهادئ لمفرش الطاولة متوافقًا على نحوٍ سائغ مع اللون الأخضر الباهت المائل للزرقة للسجادة البالية، كانت الكراسي وأرجل الطاولة قد تعرَّت من الطلاء اللامع وبقيتْ ملطخةً باللون البني. وبساطة المشهد بأكمله استعارتها جرَّة صفراء فاقعة اللون ذات زهورٍ نضرة وُضعت في منتصف الطاولة.
غير أن التناقُضات التي تحدثتُ عنها كانت الأكثر غرابةً وغموضًا. فعلى سبيل المثال، كانت أرفُف الكتُب منزلية الصنع ومطلية بتكلفة زهيدة، ولكنها زاخرة بأحدث وأجدد الأعمال الباهظة من عِلم الآثار والفنون القديمة. وكان يُوجَد أغراض على رف المدفأة: نسخة طِبق الأصل بالبرونز — لا الجص البرونزي اللون — من تمثال رأس هيبنوس الجميل، وزوج من تماثيل أوشبتي. كانت ثمة ديكورات على الجدران؛ عدد من النقوش — أدلة موقعة، على كل واحدٍ منها — لموضوعاتٍ شرقية ونُسَخ طبق الأصل رائعة من أوراق البردي المصرية. كان التناقُض لأقصى درجة، هذا المزيج من الأعمال النفيسة وضرورات الحياة البخسة والرثة، من الثقافة المرهفة والفقر الواضح. لم أستطع فهم شيء من هذا. تساءلتُ في نفسي: أي نوع من الرجال ينتمي إليه مريضي الجديد؟ هل هو رجل بخيل، يُخفي نفسه وثروته داخل هذه الحارة المنعزلة؟ عالِم غريب؟ أم فيلسوف؟ أم شخص غريب الأطوار، وهو الأكثر ترجيحًا؟ ولكن عند هذه اللحظة، قطع تأمُّلاتي صوت قادم من الغرفة المجاورة، ارتفع الصوت مرةً أخرى في غضب.
«ولكني قلت إنك … إنك توجِّه اتهامًا! أنت تُلمح بأنني قتلتُه.»
جاء الرد: «إطلاقًا، ولكني أُكرر أنها مسئوليتك أن تتحقق مما حدث له. المسئولية تقع على عاتقك.»
ردَّ الصوت الأول قائلًا: «على عاتقي أنا! وماذا عنك؟ موقفك مُريب جدًّا، إذا كنَّا سنتحدَّث بصراحة.»
صرخ الصوت الآخر: «ماذا؟ هل تُلمح بأنني قتلتُ أخي؟»
أثناء هذا الحديث العجيب، وقفتُ فاغرًا فمي في دهشةٍ عارمة. ثم استجمعت نفسي فجأة، وجلستُ على الكرسي، ووضعتُ مِرفقي على ركبتي وربتُّ بيديَّ على أُذنيَّ؛ لا بدَّ أنني بقيتُ في هذا الوضع لدقيقة كاملة حين أدركت أن بابًا يُغلق خلفي.
وقفتُ على الفور واستدرتُ وقد بدا عليَّ بعض الإحراج (لا بدَّ أنني بدوتُ سخيفًا بشكلٍ لا يُوصَف) لأواجه فتاةً طويلة القامة وبارعة الجمال على نحوٍ لافت للنظر، وقفت ويدها على مقبض الباب، حيَّتني بإيماءةٍ رسمية. ومن نظرةٍ خاطفة، لاحظتُ كيف توافقتْ على نحوٍ مُتقن مع ما يحيط بها. رداء أسود، وشعر أسود، وعينان سوداوان رماديَّتان، ووجه حزين شاحِب وحاسِم ذو بشرةٍ عاجية اللون، وقفتْ وكأنها إحدى لوحات الرسام جيرارد تيربورخ القديمة؛ تناسُق في درجات الألوان محدود للغاية لدرجةٍ تجعلها صورة مقتصرة على لونٍ واحد فقط. وعلى الرغم من الرداء الرث البالي، فإن ثمة شيئًا في وضعية الرأس المتزن والحواجب المستقيمة يُوحي بأنها تملك روحًا لم تكسرْها الشدائد وإنما زادتها قوة.
قالت: «يجب أن أطلُب منكَ أن تُسامحني على تركك تنتظر.» بينما كانت تتحدَّث، برز قَدْر من اللين عند زاويتي الفم المتيبِّس ذكَّرني بالموقف السخيف الذي وجدَتْني فيه.
تمتمت قائلًا إن التأخير كان بسيطًا ولا يترتب عليه أي عواقب من أي نوع، وإنني في الواقع سعدتُ بالاستراحة القصيرة؛ وكنتُ، على نحوٍ غامض بعض الشيء، بصدَد التطرُّق إلى موضوع المريض حين اخترقَ الصوت القادم من الغرفة المجاورة بوضوحٍ بشِع:
«قلتُ لك إنني لن أفعل شيئًا من هذا القبيل! يا إلهي، تبًّا لك، الأمر لا يقلُّ عن كونه مؤامرةً كما تقترح!»
سارت الآنسة بيلينجهام — حسبما افترضتُ أن تكون — عبر الغرفة بسرعة، مُستشيطة غضبًا على الأرجح؛ ولكنها بمجرد أن وصلتْ إلى الباب، فُتح ليخرج مُسرعًا إلى الغرفة رجلٌ نحيف أنيق الهندام في منتصف العمر.
صاح قائلًا: «جُنَّ والدُك، يا روث! جُنَّ تمامًا! وأنا أرفض استمرار التواصُل معه بأي شكلٍ من الأشكال.»
ردَّت الآنسة بيلينجهام ببرود: «هو لم يسْعَ للمقابلة الحالية.»
جاء الردُّ الغاضب: «كلَّا، لم يكن الأمر كذلك. كرَمي كان غلطتي. ولكن ها أنا ذا. ما فائدة الحديث؟ لقد بذلتُ قصارى جهدي من أجلكم ولن أبذل المزيد. لا تُتعبي نفسك لتوصيلي إلى الخارج؛ أستطيع الخروج بنفسي. صباح الخير.» قالها بإيماءةٍ جامدة ونظرة سريعة إليَّ، خرج المتحدِّث من الغرفة، وأغلق الباب بقوةٍ وراءه.
قالت الآنسة بيلينجهام: «حريٌّ بي أن أعتذِر على هذا الاستقبال الغريب؛ ولكن أعتقد أن الأطباء لا يندهِشون بسرعة. سأُقدمك إلى مريضك حالًا.» فتحت الباب، بينما تبعتُها إلى الغرفة المجاورة، ثم قالت: «إليك زائر آخر، يا عزيزي. دكتور …»
قلت: «بيركلي. أنا أنوب عن صديقي دكتور برنارد.»
كان المريض رجلًا وسيمًا يبلغ من العمر نحو خمسةٍ وخمسين عامًا، جالسًا في الفراش مدعومًا بكومة وسائد؛ مدَّ المريض يدًا مُرتعشة بشدَّة، أمسكتُ بها على نحوٍ ودود وسجَّلت في ذهني ملاحظةً عن الرعشة.
قال السيد بيلينجهام: «كيف حالك، يا سيدي؟ أتمنَّى ألا يكون دكتور برنارد مريضًا.»
أجبته قائلًا: «أوه، كلَّا. لقد ذهب في رحلةٍ عبر البحر الأبيض المتوسط على متن سفينة تجارية. لقد أتته الفُرصة فجأة، وشجَّعتُه على قبولها قبل أن يُغير رأيه. ولذا، جاءت زيارتي غير رسمية، وأتمنى أن تصفح عن ذلك.»
جاء ردُّه الودود قائلًا: «لا عليك. أنا سعيد بأنك شجَّعته على الرحلة، الرجل المسكين كان يريد إجازة. كما أنني سعيد أيضًا بمعرفتك.»
قلت: «هذا لُطف بالغ منك.» وحينئذٍ أومأ بخفة بالقدْر المسموح لرجل يجلس في الفراش تدعمه كومة من الوسائد، وبعد الانتهاء من تبادل عريضةٍ من مُقدِّمات اللُّطف والكياسة، إن جاز التعبير، بدأنا أو على الأقل بدأتُ العمل.
سألته في حذر، راغبًا في عدم توضيح حقيقة أن مُديري لم يُعطني أي معلوماتٍ بخصوص حالته الصحية: «منذ متى وأنت راقِد في الفراش؟»
ردَّ قائلًا: «أسبوع حتى اليوم. بدأتِ الحادثة المشئومة بسائق عربة خيول اعترض طريقي أمام محاكم العدل الملكية، وطرحَني أرضًا وسط الشارع. بالطبع، الغلطة غلطتي، أو على الأقل هذا ما قاله السائق، أفترض أنه قالها. ولكن هذا لم يُواسِني.»
«هل تأذَّيتَ كثيرًا؟»
«كلَّا، ليس تمامًا؛ ولكنَّ السقوط أصاب رُكبتي بكدمةٍ شديدة نوعًا ما تسبَّبت لي في صدمة. كما ترى أنا رجُل طاعن في السن ولا يمكنني تحمُّل مثل هذه الأشياء.»
قلت: «أغلب الناس كذلك.»
«صحيح، ولكن يمكنك أن تقود آلة الحصاد بسلاسةٍ وأنت في العشرين من عمرك أكثر مما لو فعلتَ وأنت في الخامسة والخمسين. غير أن الركبة تتحسَّن بصورة كبيرة — يمكنك أن تكشف عليها الآن — وستُلاحظ أنني أمنحها الراحة التامة. لكن هذه ليست كل المشاكل أو أسوأها. المشكلة في أعصابي المرتبكة. فأنا سريع الانفعال كشيطانٍ وعصبي كقط. ولا أستطيع الحصول على قِسط من الراحة ليلًا.»
تذكَّرت اليد المرتعشة التي مدَّها إليَّ. لا يبدو أنه شخص سكِّير، ولكن لا يزال …
سألته بنبرةٍ دبلوماسية: «هل تُدخِّن كثيرًا؟»
نظر إليَّ نظرة خبيثة وضحك قائلًا: «هذه طريقة كَيِّسة جدًّا لطرح الموضوع، يا دكتور. كلَّا، أنا لا أُدخن كثيرًا، أنا لا أثني إصبعي الصغير. رأيتُك تنظر إلى يدي المرتعشة الآن، أوه، هوِّن عليك؛ أنا لستُ مستاءً. مهمة الطبيب أن يبقى يقظًا. ولكن يدي ثابتة بدرجةٍ كافية عمومًا، حين لا أكون مُضطربًا، ولكن أقل انفعال يجعلني أرتجف كحلوى الهلام. والحقيقة أنني كنتُ في مقابلة مزعجة جدًّا …»
قاطعتْهُ الآنسة بيلينجهام قائلة: «أظن أن دكتور بيركلي بالتأكيد، والحيَّ بأكمله، يُدركون هذه الحقيقة.»
ضحك السيد بيلينجهام في خجلٍ بالغ وقال: «آسِف على أنني فقدت أعصابي، ولكنني عجوز مُتهور، يا دكتور، وحين أنزعج أكون على استعدادٍ للتعبير عن رأيي، ربما بقدْرٍ قليل جدًّا من الغلظة.»
وأضافت ابنته: «وبصوتٍ عالٍ. هل تعرف أن دكتور بيركلي اضطر إلى سدِّ أُذنيه؟» نظرت إليَّ أثناء حديثها، وفي عينيها الرماديتين الوقورتين بريق.
«هل صحت؟» تساءل السيد بيلينجهام، دون إبداء ندمٍ شديد، وأظن أنه أضاف: «آسِف جدًّا يا عزيزتي؛ ولكن لن يتكرر الأمر مرة أخرى. أظن أن هذه هي المرة الأخيرة التي سنرى فيها ذلك الرجل الطيب.»
ردَّت قائلة: «بالتأكيد أتمنى ذلك. والآن، سأتركك لتستأنف حديثك؛ سأكون في الغرفة المجاورة إذا كنتَ تريدني.»
فتحتُ لها الباب، وعندما خرجت أشارت إليَّ بإيماءةٍ رسمية بسيطة، جلستُ عند طرف السرير واستكملتُ الكشف. كان من الواضح أنها حالة انهيارٍ عصبي، لا شك أن حادثة عربة الخيول أسهمت فيها. وأما بالنسبة إلى السوابق الأخرى، فلم تكن من اهتماماتي، رغم أن السيد بيلينجهام أبدى أنه يظن العكس، حيث استطرد قائلًا: «كانت حادثة العربة هذه القشة التي قصمت ظهري وقضت عليَّ، كما تلاحظ، ولكن ساءت الأمور معي أكثر فأكثر منذ فترةٍ طويلة. لقد عانَيت من مشكلاتٍ كثيرة خلال السنتين الأخيرتين. وأظنُّ أنني لا ينبغي أن أزعجك بتفاصيل حياتي الشخصية.»
قلتُ له: «أنا مُهتم بأي شيءٍ يؤثر على حالتك الصحية الحالية إن كنت لا تمانع في إخباري بها.»
هتف قائلًا: «أُمانع! هل التقيتَ من قبلُ مريضًا لا يستمتع بالحديث عن حالته الصحية؟ القاعدة العامة هي أن المستمع هو الذي يمانع.»
قلت: «حسنًا، المستمع الحالي لا يمانع.»
قال السيد بيلينجهام: «إذن، سأنتهز الفرصة لإخبارك بجميع مشكلاتي، فأنا لا تُتاح لي الفرصة عادةً لأشكو إلى شخصٍ مسئول ومؤتمَن من طبقتي. وأنا لي بعض الأعذار لأشكو حظي، كما ستتَّفِق معي عندما أخبرك أنني قبل عامين مَضيا أويتُ إلى الفراش في إحدى الليالي وأنا رجل مُستقل لديَّ مواردي الخاصة وأتمتع بإمكانيات رائعة، واستيقظتُ في الصباح لأجد نفسي شحَّاذًا تقريبًا. وكما تعلم، هذه تجربة من حياتي ليست مبهجة على الإطلاق، أليس كذلك؟»
وافقتُه الرأي قائلًا: «بلى، ولا حياة أي شخصٍ آخر.»
واستطرد قائلًا: «ولم يكن هذا كل شيء؛ حيث إنني في اللحظة نفسها فقدتُ أخي، وأعز وأطيب أصدقائي. اختفى — اختفى من فوق وجه الكرة الأرضية — ولعلك سمعتَ عن القضية. الجرائد اللعينة تعجُّ بهذه القضية في الوقت الحالي.»
توقف فجأة، وقد لاحظ بلا شكٍّ تغيرًا مفاجئًا في ملامح وجهي. بالطبع، تذكرتُ القضية الآن. ومنذ أن دخلتُ المنزل وثمة وترٌ في الذاكرة يهتزُّ بصوت ضعيف، إلا أن كلماته الأخيرة جعلت النغمة الموسيقية واضحة.
عقَّبت قائلًا: «أجل، أتذكر الحادثة، على الرغم من أنني لا أظن أنها كانت لتلفتَ انتباهي لولا أن مُحاضر مادة الطب الجنائي أشار إليها.»
قال السيد بيلينجهام في استياءٍ بالغ، كما خُيل إليَّ: «بالتأكيد، ماذا قال عنها؟»
«أشار إليها باعتبارها قضية يظن أنها تنطوي على بعض التعقيدات القانونية المثيرة جدًّا.»
صاح السيد بيلينجهام: «يا إلهي! هذا الرجل عرَّاف! تعقيدات قانونية، قطعًا! ولكني مُتأكد من أنه لا يتوقَّع مُطلقًا أي نوع من التعقيدات الجهنمية التي تجتمع حول القضية بالفعل. بالمناسبة، ما اسمه؟»
أجبتُه قائلًا: «ثورندايك؛ دكتور جون ثورندايك.»
كرَّر السيد بيلينجهام بنبرةٍ تأملية وكأنه يستعيد ذكريات الماضي قائلًا: «ثورندايك. يبدو أنني أتذكر الاسم. أجل، بالتأكيد. لقد سمعتُ صديقًا لي من الأوساط القانونية، يُدعى السيد مارشمونت، يتحدث عنه في إشارةٍ إلى قضية رجل كنتُ أعرفه معرفة سطحية منذ سنوات — رجل يُدعى جيفري بلاكمور اختفى في ظروفٍ غامضة جدًّا. أتذكَّر الآن أن دكتور ثورندايك حلَّ لغز هذه القضية ببراعةٍ لافتة للأنظار.»
اقترحت عليه: «أجرؤ على القول إنه سيكون مُهتمًّا جدًّا بسماع قضيتك.»
فجاء ردُّه: «أفترض أنه سيهتم. ولكن لا يستطيع المرء أن يأخذ من وقت شخصٍ محترف بلا مُقابل، وأنا لا أستطيع تحمُّل تكلفة نفقاته. وهذا يُذكرني بأنني آخُذ من وقتك للحديث عن شئونٍ شخصية صِرفة.»
قلت له: «انتهت جولتي الصباحية، بالإضافة إلى أن شئونك الشخصية مُثيرة جدًّا للاهتمام. أظن أنني لا يجب أن أسأل عن طبيعة التعقيدات القانونية!»
«إلا إذا كنتَ مُستعدًّا لقضاء باقي اليوم هنا، وتعود إلى المنزل وقد فقدتَ عقلك كمجنونٍ يهذي. ولكني سأخبرك بالكثير: المشكلة متعلقة بوصية أخي المسكين. ففي المقام الأول، لا يمكن تنفيذها لأنه لا يُوجَد دليل كافٍ بأنَّ أخي تُوفي؛ وثانيًا، وإذا كان من الممكن تنفيذها، فإن الممتلكات ستذهب إلى أشخاصٍ لم يكن من المفترض أبدًا أن يستفيدوا منها. الوصية في حدِّ ذاتها هي أكثر وثيقة تُثير السخط أعدتها البراعة المنحرفة لرجلٍ عنيد. هذا هو كل ما في الأمر. هلا كشفتَ على رُكبتي!»
ونظرًا لأن شرح السيد بيلينجهام (الذي جاء بنبرةٍ سريعة ومُتصاعدة انتهت تقريبًا بصرخة) تركه في حالة انفعالٍ انعكست على وجهه المحتقن ورعشةِ يده، رأيتُ أنه من الأفضل إنهاء حديثنا. وبناءً على ذلك، شرعتُ في فحص الركبة المصابة، التي كانت الآن على ما يُرام تقريبًا، وفحصتُ مريضي فحصًا عامًّا؛ وأعطيته تعليماتٍ تفصيلية بخصوص سلوكه العام، ونهضتُ وهممتُ بالرحيل.
وقلتُ له وأنا أصافح يدَه: «تذكَّر، ممنوع التبغ والقهوة والانفعال بأي شكلٍ من الأشكال. عِشْ حياةً هادئة بلا انفعال.»
قال في تذمُّر: «كل هذا جميل جدًّا، ولكن افترض أن الناس أتَوا إلى هنا واستفزوني؟»
قلت له: «تجاهلهم واقرأ روزنامة ويتاكر.» وبهذه النصيحة الأخيرة خرجتُ مُتجهًا إلى الغرفة الأخرى.
كانت الآنسة بيلينجهام تجلس إلى المائدة وأمامها كومة من الكراسات المغلَّفة باللون الأزرق، اثنتان منها كانتا مفتوحتين، تُظهران صفحاتٍ مكتوبة بخطٍّ صغير مُنمق. وقفتْ بمجرد أن دخلتُ ونظرتْ إليَّ مُستفسِرة.
قالت: «سمعتُك تنصح أبي أن يقرأ روزنامة ويتاكر؛ هل هذا تدبير علاجي؟»
أجبتُها قائلًا: «تمامًا، لقد نصحتُ بها لمناقبها الدوائية، باعتبارها ترياقًا ضد الانفعال النفسي.»
ابتسمَتْ في تردُّد وقالت: «لا بدَّ أنه بالتأكيد ليس كتابًا شديد العاطفية!» ثم تساءلت: «هل لديك أي تعليمات أخرى؟»
«حسنًا، لعلِّي أُسدي النصيحة التقليدية ألا وهي الحفاظ على أجواءٍ مرِحة وتجنُّب القلق؛ ولكني لا أعتقد أنكِ ستجدينها مُفيدة.»
ردَّتْ في مرارة قائلة: «كلَّا، إنها نصيحة مثالية. الناس في موقفنا لا ينتمون إلى طبقةٍ مرحة للغاية؛ يؤسِفني أن أقول إنهم لا يسعَون وراء دواعي القلق من منطلق العناد الصرف. وإنما يأتيهم القلق دون سَعي منهم. ولكن لا يسعك الدخول في هذا النقاش.»
«يؤسِفني أنني لا أستطيع تقديم مُساعدة عملية في هذا الصدد، ولكني آمُل من كل قلبي أن تستقيم أمور والدِكِ وتُحل مُشكلاته في القريب العاجل.»
شكرتْني على أُمنياتي الطيبة ورافقتني إلى الطابق السفلي وحتى باب الخروج، وبإيماءةٍ ومصافحةٍ جامدة بعض الشيء ودَّعتْني.
عصفَ ضجيج حارة فيتر الشديد بأُذنيَّ وأنا أمرُّ عبر القنطرة، وظهرت قذارة الشارع الصغير واضطرابه الشديد مقارنةً بوقار وهدوء الأديرة الخاصة بالحديقة العتيقة. أما العيادة، بأرضيتها المفروشة بالمشمع وحوائطها، فقد كانت بغيضة بأطُرها الذهبية الزائفة المبهرجة لبطاقات التأمين، كان مظهرها مُثيرًا للاشمئزاز لدرجة أنني توجَّهت مُسرعًا إلى سجلِّ الزيارات اليومية لتشتيت انتباهي، وشغلتُ نفسي بتسجيل زيارات الصباح حين دخل التمرجي، أدولفوس، خلسةً ليعلن وقت الغداء.