نهاية القضية
خيم صمتٌ مُطبق على الغرفة وشاغليها. جلس السيد جيليكو وعيناه مُثبتتان على الطاولة كما لو أنه مُستغرق في تفكيرٍ عميق، وفي يده السيجارة غير المشتعلة، واليد الأخرى تُمسك بكأس الماء. سعل المُحقق بادجر بفارغ الصبر وتطلَّع إليه. قال: «أستميحك عذرًا يا سيدي، لأني أجعلك تنتظر.»
أخذ رشفةً من الكأس، وفتح علبة ثقابٍ وأخرج منها عودًا، ولكنه فيما يبدو أنه غيَّر رأيه، ووضعه ثم استهلَّ حديثه قائلًا:
«المسألة المؤسفة التي أتت بكم إلى هنا الليلة، ترجع أصولها لما قبل عشر سنوات مضت. في ذلك الوقت، صار صديقي هيرست فجأةً مُتورطًا في مشكلاتٍ مادية … هل أتحدَّث بسرعة كبيرة بالنسبة إليك، سيد بادجر؟»
أجاب بادجر قائلًا: «كلَّا، على الإطلاق. أنا أدوِّن ملاحظاتٍ مختصرة.»
قال السيد جيليكو: «شكرًا لك. صار مُتورطًا في مشكلات خطيرة وقصدني لمساعدته. أراد أن يقترض خمسة آلاف جنيه لكي يتمكن من الوفاء بالتزاماته. كان لديَّ مبلغ من المال تحت تصرُّفي، ولكنني لم أعتبر ضمان هيرست مقبولًا؛ ومِن ثَم شعرتُ أنني مُجبر على الرفض. ولكن في اليوم التالي مباشرة، استدعاني جون بيلينجهام لمعاينة مُسوَّدة وصيته التي كان يرغب في أن ألقي نظرةً عليها قبل تنفيذها.
كانت وصيةً سخيفة، ولقد أخبرته بذلك تقريبًا؛ ولكن حينئذٍ خطر ببالي فكرة مُتعلقة بهيرست. كان واضحًا بالنسبة إليَّ، بمجرد أن ألقيتُ نظرة متمعِّنة على الوصية؛ أنه إذا تُرك بند الدفن كما كتبه المُوصي، فسيحظى هيرست بفرصةٍ جيدة جدًّا ليرث المُمتلكات، وباعتباري منفذًا للوصية يجب أن أكون قادرًا على تنفيذ هذا البند بالكامل. ومِن ثَم، طلبتُ بضعة أيام لدراسة الوصية، ثم قمتُ بزيارة هيرست وقدمت له عرضًا؛ وكان كما يلي: يتعين عليَّ توفير خمسة آلاف جنيه له بدون ضمانات، ويجب عليَّ عدم المطالبة بالسداد، ولكنه يتعين عليه أن يتنازل لي عن أي فوائد قد يحصل عليها أو يكتسبها من مُمتلكات جون بيلينجهام بحدٍّ أقصى عشرة آلاف جنيه، أو ثُلثي أي مبلغٍ قد يرثه فوق هذا المبلغ. سألني ما إذا كان جون قد كتب أي وصية، وأجبتُه، إجابة صحيحة تمامًا، بأنه لم يفعل. وسألني ما إذا كنتُ أعرف شيئًا عن ترتيبات الوصية التي ينوي جون القيام بها، وأجبتُه ثانية، إجابة صحيحة تمامًا، بأنني أعتقد أن جون ينوي أن يُورِّث أخاه جودفري جزءًا كبيرًا من ممتلكاته.
وبناءً على ذلك، قبل هيرست عرضي، وقدمتُ له المبلغ ونفَّذ هو مهمة التنازل عن الممتلكات. وبعد تأخير لبضعة أيام، وافقتُ على الوصية باعتبارها مقبولة. كتب المُوصي بنفسه الوثيقة الفعلية من المسوَّدة؛ وبعد أن نفذ هيرست التنازل عن الممتلكات بأسبوعين، وقَّع جون على الوصية في مكتبي. وبموجب بنود تلك الوصية، سنحتْ لي فرصة ممتازة لكي أصير المُستفيد الرئيسي فعليًّا، ما لم يعترِض جودفري على طلب هيرست وما لم تُلغِ المحكمة شروط البند الثاني.
ها أنتم فهمتم الدوافع التي تحكَّمت في تصرُّفاتي اللاحقة. وسترى أيضًا، دكتور ثورندايك، كيف اقتربتَ كثيرًا من الحقيقة التي قادك إليها استنتاجك؛ وستفهم، كما آمُل، أن السيد هيرست لم يكن طرفًا في أيٍّ من هذه الإجراءات التي أنا بصدَد وصفها الآن.
بالرجوع إلى المقابلة التي جرت في ميدان كوين في شهر أكتوبر، عام ألف وتسعمائة واثنين، أنتم تعرفون الظروف العامة من شهادتي في المحكمة، والتي كانت صحيحة بالحرف الواحد حتى نقطة معينة. جرت المقابلة في غرفة بالطابق الثالث، الذي كانت تُخزن فيه الصناديق التي أحضرها جون معه من مصر. لم تكن المومياء قد فُرِّغت، وكذلك بعض الأغراض الأخرى التي لم يكن جون ليقدمها إلى المتحف، إلا أن عدة صناديق لم تُفتح بعد. وفي نهاية المقابلة، اصطحبتُ دكتور نوربيري حتى الباب الخارجي، وقفنا على عتبة الباب لنتبادل أطراف الحديث لمدة ربع ساعة تقريبًا. ثم مضى دكتور نوربيري في طريقه وعدتُ أنا إلى الطابق العلوي.
الآن، كان المنزل في ميدان كوين عبارة عن متحف تقريبًا. الجزء العلوي منفصل عن الجزء السُّفلي ببابٍ ضخم يُفتح من الردهة ويفضي إلى الدرَج ويُقفل بمزلاجٍ متين. ويُوجَد مفتاحان للمزلاج، اعتاد جون أن يحتفظ بواحدٍ وأنا أحتفظ بالآخر. وستجدون كليهما في الخزنة الموجودة ورائي. حارس المنزل ليس معه مفتاح ولا يُسمح له بدخول الجزء العلوي من المنزل إلا إذا سمح له أيٌّ منَّا بذلك.
في الوقت الذي دخلت فيه، بعد أن غادر دكتور نوربيري، كان الحارس موجودًا في القبو، حيث يمكنني أن أسمعه وهو يكسر الفحم لفرن الماء الساخن. كنتُ قد تركت جون في الطابق الثالث يفتح بعض الصناديق المُغلقة على ضوء المصباح بأداةٍ تُشبه مطرقة الجص؛ وهي مطرقة ذات نصل فأسٍ صغير عند الطرف المعاكس لها. وبينما كنت أتحدَّث مع دكتور نوربيري، استطعتُ أن أسمعه وهو يدقُّ المسامير وينزع الأغطية، وحين دخلتُ من الباب المؤدي إلى الدرَج، كان لا يزال بإمكاني سماعه. وحين أغلقتُ الباب خلفي، سمعتُ صوت ضجيجٍ مدوٍّ قادم من أعلى، ثم هدأ كل شيء.
صعدتُ إلى الطابق الثاني، ونظرًا لأن الدرَج كله كان مظلمًا، توقفتُ لإشعال مصباح الغاز. وبينما كنتُ أستدير لأصعد مجموعة الدرجات التالية، رأيتُ يدًا تبرُز عند حافة منبسط الدرج الأوسط. ركضتُ إلى أعلى الدرَج، وهناك عند المنبسط، رأيتُ جون مُتكومًا عند بداية الدرجات العلوية. كانت الدماء تسيل من جرحٍ في جانب جبهته. وعلى الأرض بالقُرب منه أُلقيَتْ مطرقة حديدية، وكان هناك دم على نصل المطرقة. وعندما نظرتُ لأعلى السلَّم، رأيتُ حصيرةً مُمزقة على الدرجة العُليا.
كان من السهل جدًّا تخيُّل ما حدث. كان يسير بسرعةٍ على منبسط الدرَج وفي يده المطرقة الحديدية. تعثَّرت قدمه في الحصيرة المُمزَّقة وانقلب رأسًا على عقب لأسفل الدرج وهو لا يزال مُمسكًا بالمطرقة الحديدية. لقد سقط بحيث ارتطم رأسه بحافة نصل المطرقة المُتجهة لأعلى؛ ثم تدحرج وسقطت المطرقة من يده.
أشعلتُ عود ثقاب وانحنيتُ لأتفحصه. كان رأسه في وضع غريب جدًّا، مما جعلني أشكُّ أن عنقه كُسرت. وسال من الجرح نزيف ضئيل جدًّا؛ ورقد بلا حراك تمامًا؛ لم أستطع تحرِّي أي علامةٍ للتنفُّس؛ وشعرتُ أنه مات بلا شك.
كانت مسألة مؤسفة للغاية، ووضعتني — كما فهمتُ في الحال — في موقفٍ حرج للغاية. كان دافعي الأول للتصرُّف هو إرسال الحارس ليأتي بطبيبٍ وشرطي؛ ولكن التفكير المتأنِّي لدقيقةٍ أقنعني بأن ثمة اعتراضات خطيرة أمام هذا التصرُّف.
لم يكن هناك ما يُثبت أنني لم أضربه، بنفسي، بالمطرقة. وبالطبع، لم يكن هناك ما يثبت أنني فعلتُ ذلك؛ بيد أننا كنَّا بمفردنا في المنزل، باستثناء الحارس الذي كان موجودًا في القبو بعيدًا عن الأسماع.
سيكون هناك تحقيق. وأسئلة التحقيق ستطول إلى الوصية التي عُرف بوجودها. ولكن بمجرد أن خرجَتِ الوصية إلى النور، ستحوم الشبهة حول هيرست. وسيُدلي على الأرجح بإفادةٍ أمام قاضي التحقيقات وسأُتهم بجريمة القتل. وحتى إن لم أُتَّهم، سيَشك فيَّ هيرست وسيتبرأ على الأرجح من التنازل عن الملكية؛ وفي ظل هذه الظروف، سيستحيل عليَّ فرض الأمر بقوة. سيرفض أن يدفع المبلغ ولا يمكنني أن أرفع دعوى أمام المحكمة.
جلستُ على السلَّم فوق جثة جون مباشرة وتفكرتُ في الأمر بالتفصيل. على الأسوأ، أواجه احتمالية معقولة للموت شنقًا؛ وعلى الأفضل، كنتُ على مقربة من خسارة مبلغ خمسة آلاف جنيه. لم يكن هناك أي بدائل سارة.
من ناحية أخرى، بافتراض أنني أخفيتُ الجثة وأعلنتُ أن جون سافر إلى باريس، بالطبع، كان خطر الافتضاح قائمًا، وفي هذه الحالة سأُدان بجريمة القتل بالتأكيد. ولكن إذا لم يفتضح الأمر، فلن أكون فوق مستوى الشبهات وحسب؛ وإنما سأضمن مبلغ الخمسة الآلاف جنيه. وفي كلتا الحالتين، ثمة مخاطرة كبيرة، ولكن الخسارة واقعة في إحداهما لا محالة، بينما في الأخرى ثمة ميزة لتبرير المخاطرة. تمثلت المُعضلة فيما إذا كان من الممكن إخفاء الجثة. لو كان هذا مُمكنًا، فإن الربح المُحتمل يستحق القليل من المجازفة الإضافية. ولكن من الصعب جدًّا التخلص من جثةٍ بشرية، ولا سيما لشخصٍ قليل المعرفة بالثقافة العلمية مِثلي.
من المُثير للاهتمام أنني تفكرتُ في هذه المسألة لوقتٍ طويل جدًّا قبل أن يطرح الحل الواضح نفسه. تدبرتُ ما لا يقلُّ عن عشر طرُق للتخلص من الجثة، واستبعدتُها جميعًا باعتبارها غير عملية. ثم، فجأة، تذكرتُ المومياء الموجودة بالطابق العلوي.
في البداية، خطر على بالي احتمال رائع بأنه يمكنني إخفاء الجثة في صندوق المومياء. ولكن بينما كنتُ أتدبر الفكرة بدأتُ أرى أنه يمكن تنفيذها؛ وليس فقط إمكانية التنفيذ وإنما سهولة التنفيذ أيضًا؛ وليست فقط السهولة، وإنما الأمان المُطلق. فإذا وُضع صندوق المومياء في المتحف، فسأكون قد تخلَّصتُ منها إلى الأبد.
كانت الظروف، كما لاحظت يا سيدي، مواتيةً على نحوٍ استثنائي. لن يكون هناك جلبة وصراخ وتسرُّع وقلق؛ وإنما مُتسع من الوقت الكافي للاستعدادات اللازمة. بعد ذلك، كان صندوق المومياء في حدِّ ذاته مُناسبًا على نحوٍ غريب. كان طوله كافيًا، كما عرفت من قياساته. كان عبارة عن غلاف كرتوني مصنوع من مادةٍ مرنة نوعًا ما وله فتحة خلفية، مَحمية برباطٍ بحيث يتأتَّى فتحها بدون ضرر. لا حاجة إلى قطع أي شيءٍ سوى الرباط، الذي يمكن الاستعاضة عنه. قد يحدُث تلف بسيط لاستخراج المومياء ووضع جثة المُتوفَّى بدلًا منها؛ ولكن هذه التشقُّقات التي يمكن أن تحدُث ليست ذات أهمية. وهنا حالفني الحظ مرةً أخرى. كان الجزء الخلفي بأكمله من صندوق المومياء مُغطًّى بمادة القار، وسيكون من السهل وضع طبقةٍ جديدة بمجرد أن يوضع المُتوفَّى داخل الصندوق بأمان، وهذه الطبقة لن تخفي التشقُّقات فحسب، وإنما ستخفي الرباط الجديد أيضًا.
وبعد تفكيرٍ متأنٍّ، قررتُ تنفيذ الخطة. نزلت إلى الطابق السفلي وأرسلتُ الحارس في مأموريةٍ بسيطة إلى منطقة محاكم العدل الملكية. ثم عدتُ وحملت المتوفَّى إلى إحدى غرف الطابق الثالث، حيث خلعتُ ملابسه ووضعتُه على صندوق شحنٍ طويل في الوضعية التي سيستلقي بها في صندوق المومياء. طويتُ ملابسه بعنايةٍ وحزمتها، باستثناء حذائه، في حقيبة سفر كان يُسافر بها إلى باريس ولا تحتوي على شيء سوى ثيابٍ للنوم وأدوات الحمام وملاءة كتَّانية. وفي الوقت الذي انتهيتُ فيه من ذلك وغسلتُ جيدًا المشمع الموجود على درجات السلَّم والمنبسط، كان الحارس قد عاد. أخبرته بأن السيد بيلينجهام سافر إلى باريس ثم ذهبتُ إلى المنزل. بالطبع، كان الجزء العلوي من المنزل مُؤمنًا بالمزلاج، ولكني — توخِّيًا للحرص الشديد — أغلقتُ باب الغرفة التي وضعت فيها المتوفَّى.
بالطبع، كان لديَّ قدْر من المعرفة بطرُق التحنيط، ولا سيما تلك الطرُق التي استخدمها القدماء. ومِن ثَم، في اليوم التالي، ذهبتُ إلى مكتبة المتحف البريطاني واطَّلعتُ على أحدث الأعمال حول هذا الموضوع؛ كانت مُثيرة جدًّا للاهتمام، حيث أظهرت التحسينات الرائعة التي أدخلتها المعرفة الحديثة على هذا الفن القديم. لا يجب عليَّ إزعاجكم بتفاصيل مألوفة لكم. كانت الطريقة التي انتقيتُها باعتبارها الأسهل بالنسبة لشخصٍ مبتدئ هي حقن الفورمالين، فخرجتُ من المتحف مباشرة لشراء المواد اللازمة. غير أنني لم أشترِ مِحقنة خاصة بالتحنيط: ذكر الكتاب أن المحقنة العادية الخاصة بالتشريح ستفي بالغرض نفسه، ورأيتها صفقة شراء أفضل.
خشيتُ أن أسيء استخدام المِحقنة، على الرغم من أنني درستُ بعناية الأدوات في أطروحة حول علم التشريح — أظنها لجراي. وحتى إن كانت أساليبي خرقاء؛ فإنها كانت فعَّالة للغاية. أجريتُ العملية في مساء اليوم الثالث؛ وحين أغلقتُ المنزل في تلك الليلة، شعرتُ بالرضا عندما عرفتُ أن رفات جون المسكين مُحصَّن ضد التحلل والتعفُّن.
لم يكن هذا كافيًا. سيلاحظ القائمون على التعامل مع صندوق المومياء فارق الوزن الكبير بين الجثة الجديدة والمومياء. علاوة على ذلك، ستُفسد الرطوبة المُتسربة من الجثة الغلاف الكرتوني سريعًا وستتسبَّب في طبقة مُشبعة بالبخار داخل الصندوق الزجاجي التي ستُعرَض فيه. وهذا سيؤدي على الأرجح إلى إجراء فحصٍ طبي. كان من الواضح حينئذٍ أنه لا بدَّ من تجفيف رفات المُتوفَّى تمامًا قبل وضعها في الغلاف الكرتوني.
هنا كان جهلي المؤسف بالمعرفة العلمية عائقًا كبيرًا. لم يكن لديَّ أدنى فكرة كيف ستتحقق هذه النتيجة، وفي النهاية، اضطُررت إلى استشارة خبير تحنيط، أوضحتُ له أنني أنوي جمع بعض الحيوانات والزواحف الصغيرة وتجفيفها سريعًا لسهولة نقلها. ونصحني هذا الشخص بغمر الحيوانات النافقة في مرطبان كحول مِيثيلي لمدة أسبوع ثم تعريضها لتيارٍ من الهواء الدافئ والجاف.
إلا أنه كان من الواضح أن خطة غمر رفات المُتوفَّى في مرطبان كحول ميثيلي هي خطة غير عملية. ولكني ذكَّرتُ نفسي بأن لدينا في مجموعة مُقتنياتنا تابوتًا حجريًّا، تجويفه على شكلٍ مُهيَّأ لوضع مومياء صغيرة الحجم في صندوقه. جرَّبتُ وضع المتوفَّى في التابوت الحجري ووجدتُ أن التجويف يناسبه على نحوٍ فضفاض. حصلت على بضعة جالونات من الكحول الميثيلي، الذي صببتُه في التجويف، ليُغطي الجثة، ثم وضعتُ الغطاء وثبَّتُّه بإحكامٍ بمعجون. أخشى ألَّا أكون قد أثقلتُ عليكم بهذه التفاصيل؟»
قال بادجر: «سأطلب منك الاختصار بقدْر الإمكان، سيد جيليكو. إنها قصة طويلة والوقت يداهمنا.»
قال ثورندايك: «من جانبي، أرى هذه التفاصيل مُثيرة للاهتمام ومُفيدة جدًّا. إنها تُكمل الخطوط العريضة التي رسمتُها بالاستدلال.»
قال السيد جيليكو: «بالضبط، إذن سأكمل.
تركتُ المتوفَّى مغمورًا في الكحول لمدة أسبوعين ثم أخرجته، وجففتُه ووضعته على أربعة كراسٍ بقاعدةٍ خشبية مُخرمة فوق مواسير المياه الساخنة مباشرة، وسمحتُ لتيار هواءٍ يمرُّ عبر الغرفة. أذهلتني النتيجة جدًّا. وفي نهاية اليوم الثالث، صارت اليدان والقدمان جافةً تمامًا ومُتغضنة وصُلبة — بحيث سقط الخاتم من الإصبع المُتقلص — بدت الأنف أشبه بورق برشمان؛ كان جلد الجثة جافًّا جدًّا وأملس لدرجة أنه يمكنك طباعة عَقد عليه. ولمدة يومٍ أو يومين، قلبتُ المتوفَّى على فترات حتى تجفَّ جميع الأجزاء بالتساوي، ثم بدأتُ في إعداد الصندوق. قطعت الرباط وأخرجت المومياء بحرصٍ شديد — أقصد بحرص شديد بالنسبة إلى الصندوق؛ حيث إن المومياء تعرضت لبعض الضرَر أثناء استخراجها. كان تحنيطها سيئًا للغاية، هشَّة جدًّا لدرجة أنها تكسَّرت لعدة أجزاء بينما كنتُ أستخرجها، وحين كشفتُها انفصل الرأس وسقط الذراعان.
وفي اليوم السادس من إخراج الجثة من التابوت الحجري، أخذتُ اللفافات التي أزلتُها من سبك حتب ودثَّرتُ المتوفَّى فيها بحرصٍ بالغ، ناثرًا مسحوق المُر وراتنج البنزوين بإفراطٍ على الجثة وبين ثنايا اللفافات لإخفاء الرائحة الضعيفة للكحول والفورمالين التي لا تزال عالقةً بالجثة. وبعد وضع اللفافات، كان مظهر المُتوفَّى في أقصى درجات الإتقان حقًّا؛ كان يبدو في حالة جيدة جدًّا داخل صندوق زجاجي حتى بدون الغلاف الكرتوني، كدت أشعر بالندم من الاضطرار إلى إخفائه بعيدًا عن الأنظار إلى الأبد.
كان وضعه في الصندوق بدون مساعدة مهمةً صعبة، تصدَّع الغلاف الكرتوني بشدة في عدة مواضع قبل وضعه بداخله في أمان. ولكني وضعتُه داخله في النهاية، وحين أغلقتُ الصندوق برباطٍ جديد، وضعت طبقةً جديدة من القار أخفت التشقُّقات والرباط الجديد. مرَّرتُ قطعة قماش مُغبرة فوق طبقة القار حين جفَّت لتُخفي حداثتها، هكذا كان الغلاف الكرتوني بمحتواه الداخلي جاهزًا للنقل. أخطرتُ دكتور نوربيري بالواقعة، وبعد مرور خمسة أيام جاء ونقلَه إلى المتحف.
وبعد أن تخلَّصتُ من المعضلة الرئيسية، بدأت التفكير في المُعضلة اللاحقة التي ألمحتَ إليها بسهولةٍ مُثيرة للإعجاب، يا سيدي. كان من الضروري أن يظهر جون بيلينجهام على الملأ مرة أخرى قبل أن يطوي النسيان صفحته إلى الأبد.
هكذا، لفَّقتُ الزيارة إلى منزل هيرست، والتي كانت محسوبة لتخدم غرضَين. لقد أوجدتْ تاريخًا مقبولًا لاختفائه، نافية بذلك أي صِلة لي، وإلقاء بعض الشكوك على هيرست سيجعله أكثر انصياعًا، وأقل مَيلًا للاعتراض على طلبي عندما يعرف بنود الوصية.
كانت المسألة بسيطة جدًّا. عرفتُ أن هيرست قد غيَّر خدَمه منذ آخر مرة زرتُ فيها منزله، وكنت أعرف عاداته. وفي ذلك اليوم، أخذتُ حقيبة السفر إلى محطة تشيرينج كروس ووضعتُها في حجرة المعاطف، واتصلتُ بمكتب هيرست للتأكُّد من أنه موجود هناك، وذهبتُ من هناك مباشرة إلى شارع كانون واستقللتُ القطار إلى إلثام. وعند وصولي إلى المنزل، أخذتُ الاحتياطات اللازمة لنزع نظارتي الطبية — السمة الوحيدة المميزة لمظهري الخارجي — واقتِدْتُ حينها إلى غرفة المكتب بناءً على طلبي. وبمجرد أن خرجت الخادمة من الغرفة، خرجتُ بهدوء من النافذة الفرنسية، التي أغلقتُها خلفي ولكن لم أتمكن من إغلاقها بإحكام، وخرجتُ من البوابة الجانبية وأغلقتُها خلفي أيضًا، مُمسكًا بلسان المزلاج بسكين الجيب خاصَّتي لكي لا أُضطرَّ إلى صفق البوابة لإغلاقها.
لست بحاجة إلى وصف الأحداث الأخرى لهذا اليوم، وفيها إسقاط حلية الجعران، لأنكم تعرفونها. ولكن لعلِّي أُبدي بعض الملاحظات بشكلٍ مناسب على الخطأ التكتيكي الذي وقعتُ فيه بخصوص العظام. وقع هذا الخطأ، كما فهمتم بلا شك، بسبب عادة المحامي المُستعصية التي تتمثل في الاستهانة بالخبرة العلمية. لم يكن لديَّ أدنى فكرة أن العظام وحدَها قادرة على تقديم الكثير من المعلومات لرجل العلم.
الطريقة التي حدث بها الأمر، كانت كما يلي: المومياء التالفة سبك حتب، تتلف تدريجيًّا بتعرضها للهواء، لم تكن مزعجة بالنسبة لي وحسب؛ وإنما كانت تُمثل خطرًا مؤكدًا. كانت هي الصلة الوحيدة الباقية بيني وبين واقعة الاختفاء. عزمتُ على التخلص منها وفكرتُ في بعض الوسائل لتبديدها. ثم في لحظةٍ شريرة، خطر على بالي فكرة استغلالها.
ثمَّة خطورة أكيدة بأن المحكمة ربما ترفض افتراض الوفاة بعد مرور فترةٍ قصيرة جدًّا؛ إذا كان ينبغي تأجيل الالتماس، فلن يتم تنفيذ الوصية أثناء حياتي. فإذا كان يمكن جعل عظام مومياء سبك حتب تُحاكي رفات المُوصي المتوفَّى، فسيتحقَّق خير مؤكد. ولكني كنتُ أعرف أنه لا يمكن الخلط بين هذا الهيكل العظمي بأكمله والهيكل العظمي للمتوفَّى. فالمُتوفى كان يعاني من كسرٍ في رضفة الركبتين وكاحل مشروخ، وجروح افترضت أنه من شأنها أن تترك بعض الآثار الدائمة. ولكن إذا وضعتُ العظام المُنتقاة بعناية في مكانٍ مناسب، بالإضافة إلى بعض الأغراض الأخرى التي من شأنها أن تُحدد بوضوح الهوية باعتبارها خاصة بالمُتوفَّى، بدا لي أن هذا من شأنه أن يجعلني قادرًا على التغلب على هذه الصعوبة. لستُ بحاجة إلى إزعاجكم بالتفاصيل. والتصرُّف الذي اتبعته معروف بالنسبة إليكم في ظل الظروف المصاحبة، حتى الانفصال غير المقصود لليد اليُمنى — التي انكسرت بينما كنتُ أضع الذراع في حقيبة يدي. ورغم أن هذا التصرُّف ثبت أنه خطأ، كان من الممكن أن يُحقِّق نجاحًا لولا تدخلك الطارئ وغير المُتوقع في القضية.
ومِن ثَم، لمدة عامين تقريبًا، ظللتُ في أمانٍ تام. ومن وقتٍ لآخر، كنت أمرُّ على المتحف لأرى ما إذا كان المرحوم محفوظًا في حالةٍ جيدة؛ وفي تلك المناسبات اعتدتُ الشعور برضًا حين أفكر في الظروف المُرضية — رغم أنها غير مقصودة — التي توافقت مع رغباته، كما ذكرها (على نحوٍ معيب جدًّا) في البند الثاني من الوصية، ودون الإخلال بمصالحي.
جاءت الصحوة في تلك الأمسية حين رأيتك عند مدخل شارع ذا تيمبل تتحدَّث مع دكتور بيركلي. شككتُ على الفور أن ثمة خطأً ما قد وقع وأنه فات الأوان لاتخاذ أي إجراءٍ مُفيد. ومنذ ذلك الحين، مكثتُ هنا أنتظر هذه الزيارة كل ساعة. والآن قد حان الأوان. لقد لعبتُ بالورقة الرابحة ولم يتبقَّ لي سوى أن أُسدد ديوني كمقامر أمين.»
توقف لبرهة وأشعلَ سيجارته بهدوء. تثاءب المُحقق بادجر ووضع مُفكرته جانبًا.
سأل المحقق قائلًا: «هل انتهيت سيد جيليكو؟ أريد أن أرسل خطابًا، كما تعلم، على الرغم من أن الوقت تأخَّر كثيرًا.»
أخرج السيد جيليكو سيجارته من فمه وشرِب كوب ماء.
قال: «نسيتُ أن أسألك ما إذا كنت كشفت المومياء، إذا كان يسعني استخدام هذه الكلمة للإشارة إلى رفات موكلي الراحل التي عُوملت على نحوٍ معيب.»
ردَّ ثورندايك: «لم أفتح صندوق المومياء.»
قال السيد جيليكو: «لم تفعل! إذن كيف تأكدتَ من شكوكك؟»
«التقطتُ صورة بالأشعة السينية.»
«أها! حقًّا!» تأمَّل السيد جيليكو لبضع دقائق. ثم تمتم قائلًا: «مُذهل! وأكثر ابتكارًا. مصادر العِلم في الوقت الحالي رائعة فعلًا.»
سأله بادجر: «هل لديك أقوال أخرى؟ لأنه إذا لم يكن لديك، فلقد انتهى الوقت.»
ردَّد السيد جيليكو ببطءٍ قائلًا: «أقوال أخرى؟ أقوال أخرى؟ لا … أظن … أظن … انتهى … الوقت … أجل … اﻟ… الوقت …»
سكتَ فجأة وجلس بنظرةٍ غريبة مُثبتة على ثورندايك.
لقد تغيَّر وجهه فجأة على نحوٍ غريب. بدا مُنكمشًا وشديد الشحوب وظهر على شفتَيه لون أحمر قرمزي غريب.
سأله بادجر في ارتباك: «ما الخطب سيد جيليكو؟ أتشعر أنك لستَ بخير يا سيدي؟»
بدا أن السيد جيليكو لم يسمع السؤال، ولم يُحر سؤالًا؛ وإنما جلس بلا حراك، يتكئ إلى الخلف في كرسيه، ويداه ممدودتان على الطاولة ونظرته الغريبة مُثبتة على ثورندايك.
وفجأة سقط رأسه على صدره وبدا أن جسده ينهار؛ وفجأة هببنا واقفين على أقدامنا على قلبٍ واحد، انزلق إلى الأمام من فوق كرسيه واختفى أسفل الطاولة.
صاح بادجر: «يا إلهي! الرجل فقد وعيه!» وفي دقيقة، جثا على يديه وركبتيه، وهو يرتعد من الإثارة، مُتخبطًا أسفل الطاولة. وسحب المحامي فاقد الوعي إلى الخارج أسفل النور وجثا فوقه، مُحدقًا في وجهه.
سأل وهو ينظر لأعلى إلى ثورندايك: «ما خطبه، يا دكتور؟ هل هي سكتة دماغية؟ أم هل هي نوبة قلبية، في رأيك؟»
هز ثورندايك رأسه، وانحنى ووضع أصابعه على معصم الرجل الفاقد للوعي.
أجاب قائلًا: «حمض البروسيك أو سيانيد البوتاسيوم هو ما يُوحي به المظهر الخارجي.»
سأله المُحقق: «ولكن ألا تستطيع أن تفعل شيئًا؟»
ترك ثورندايك الذراع التي سقطت في وهنٍ على الأرض.
قال: «لا يمكنك أن تفعل الكثير لرجلٍ ميت.»
«ميت! إذن لقد أفلتَ من بين أيدينا بعد كل شيء!»
«لقد توقَّع العقوبة. هذا كل ما في الأمر.» كان ثورندايك يتحدث بنبرةٍ محايدة وغير متأثرة رأيتها غريبة جدًّا، واضعًا في الاعتبار وقوع المأساة على نحوٍ مفاجئ، كما أذهلني الغياب التام لعنصر الدهشة من سلوكه. بدا أنه يتعامل مع الواقعة باعتبارها واقعة طبيعية تمامًا.
على النقيض كان المُحقق بادجر، الذي هبَّ واقفًا على قدمَيه ووقف وهو يدس يديه في جيبه وينظر في تجهُّم وعبوس إلى المحامي المتوفَّى.
قال متذمرًا بنبرةٍ حادة: «يالي من أحمق لَعين حين وافقتُ على شروطه البغيضة.»
قال ثورندايك: «هراء! لو كنتَ قد اقتحمت المكان، لوجدتَ رجلًا ميتًا. وكما هي الحال، وجدتَ رجلًا على قيد الحياة وحصلتَ على إفادة مُهمة. لقد تصرفتَ على نحوٍ صحيح تمامًا.»
سأله بادجر: «في رأيك، كيف استطاع أن يفعل ذلك؟»
مد ثورندايك يده.
وقال: «لنلقِ نظرة على علبة سجائره.»
أخرج بادجر العلبة الفضية الصغيرة من جيب المُتوفَّى وفتحها. كان يُوجَد بها خمس سجائر، اثنتان منها كانتا عاديتين، بينما الثلاث السجائر الأخرى كانت ذات مِبسم ذهبي. أخذ ثورندايك واحدة من كل نوع وضغط برفقٍ على أطرافها. أعاد السيجارة ذات المِبسم الذهبي؛ بينما مزَّق السيجارة العادية بطولها، حتى قبل ربع بوصة من نهاية طرفها؛ سقط منها على الطاولة قُرصان أسودان صغيران. التقط بادجر واحدًا منهما بحماسٍ وكاد أن يتشمَّمها حين أمسك ثورندايك بمعصمه. وقال: «توخَّ الحذر.» وعندما تشمَّم القرص بحذَر — وهو يمسك به على مسافة آمنة من أنفه — أضاف قائلًا: «أجل، سيانيد البوتاسيوم. ظننتُ هذا حين تحوَّلت شفتاه إلى ذلك اللون الغريب. حدث هذا في السيجارة الأخيرة؛ يمكنك أن ترى أنه قضم طرفها.»
وقفنا في صمتٍ لبعض الوقت ننظر إلى أسفل إلى الجسد الهامد المُسجَّى على الأرض. وفي الحال نظر بادجر لأعلى.
قال: «أثناء مرورك أمام حجرة البواب في طريقك إلى الخارج، ادخل إليه وأخبره أن يرسل لي شرطيًّا.»
قال ثورندايك: «حسنًا جدًّا. وبالمناسبة، يا بادجر، من الأفضل أن تضع تلك الخمرة في الإناء مرةً أُخرى وأغلق عليها بالقفل والمفتاح، أو اسكُبها من النافذة.»
قال المُحقق: «أجل، يا إلهي! أنا سعيد لأنك ذكرتَ ذلك. ربما يكون لدينا تحقيق بشأن شُرطي فضلًا عن محامٍ أيضًا. تصبحون على خير، أيها السادة، إذا كنتم بصدد المغادرة.»
خرجنا وتركناه مع سجينه — الذي كان هامدًا بالدرجة الكافية، وفقًا لوعده الغامض. وبينما كنَّا نمرُّ عبر البوابة، أبلغ ثورندايك رسالة المُحقق، باقتضابٍ وبدون تعليق، إلى البواب المتثائب، ثم عُدنا أدراجنا إلى حارة تشانسري.
التزمنا جميعًا الصمت والجدية الشديدة، ورأيتُ أن ثورندايك بدا مُتأثرًا بعض الشيء. لعلَّ النظرة الأخيرة المقصودة من جانب السيد جيليكو — التي أشكُّ أنه كان يعرف أنها نظرة رجل مُحتضَر — عالقة في ذاكرته كما علقتْ في ذاكرتي. وفي منتصف الطريق إلى حارة تشانسري، تحدَّث لأول مرة، فقط لكي يهتف: «الشرير المسكين!»
وافقه جيرفيس قائلًا: «كان شريرًا ماهرًا، يا ثورندايك.»
جاء رده: «ليس كذلك، بالأحرى يجب أن أقول إنه كان غير أخلاقي. كان يتصرَّف دون خُبثٍ ودون ورَع أو ندم. أظهر سلوكه نفعية متجردة من العواطف وهذا أمر مروِّع لأنه سلوك غير إنساني بالمرة. ولكنه كان رجلًا قويًّا؛ رجلًا شجاعًا ومُستقلًّا، وكنت أسعد حالًا لو قُدِّر ليدٍ أخرى غير يدي لتنفذ حُكم الإعدام.»
ربما بدا تأنيب الضمير لدى ثورندايك غريبًا ومتناقضًا، بيد أنني انتابتني نفس مشاعره أيضًا. ورغم القدر الكبير من البؤس والمعاناة اللذين فرضهما هذا الرجل الغامض على حياة من أحببتُهم، غفرتُ له ذنبه. وفي خضم سقوطه المفاجئ غفرتُ له القسوة المتجردة من الشفقة التي سعى بها وراء تحقيق غرضِه الشرير. فهو من أدخل روث في حياتي، وفتح لي أبواب جنة الحُب التي دخلتُها توًّا. ومِن ثَم، تحوَّلت أفكاري بعيدًا عن الجثة الهامدة المُسجَّاة على أرضية الغرفة العتيقة في لينكولنز إن، إلى المُستقبل المشرق، حيث سأسير يدًا بيدٍ مع روث حتى يحين أجلي أيضًا؛ وحتى أسمع ناقوس المساء يدعوني لأبحر في ظلمة البحر الصامت، مثلما حدث مع المحامي المُكفهر الوجه.