جون ثورندايك
حقيقة أن شخصية المرء تنعكس كثيرًا على ملابسه هي حقيقة معروفة لمن يتحلَّى بأقل قدرٍ من قوة الملاحظة. وحقيقة أن هذه الملاحظة تنطبق تمامًا على مجموعات الرجال هي حقيقة مُتعارف عليها بدرجةٍ أقل؛ إلا أنها على القدْر نفسه من الصحة. أليس أفراد المهن القتالية يرتدون حتى يومنا هذا الريش والألوان المبهرجة والحُليَّ المطلية بالذهب، على غرار قادة الحروب الأفارقة أو «شجعان» الهنود الحمر، وبالتالي تُشير إلى مكانة الحروب في الثقافة الحديثة؟ ألا ترسل الكنيسة الرومانية قساوستها إلى مذبح الكنيسة بملابس كانت شائعة قبل سقوط الإمبراطورية الرومانية، كرمزٍ يُشير إلى تحفظها الراسخ؟ وأخيرًا، ألا يرمز رجال القانون، الذين يأتون في ذَيل التقدُّم، بخضوعهم إلى طقس ارتداء الباروكة الذي يعود إلى الأيام الخوالي لحُكم الملكة آن؟
يجب أن أعتذر للقارئ على إقحامه في هذه التأمُّلات السخيفة بعض الشيء؛ التي أثارتها الأدوات الغريبة التي يعرضها متجر صنع الباروكات في الأروقة المسقَّفة لإنر تيمبل (مجمع لنقابات المهن القانونية)، حيث كنتُ أتجول في فترة ما بعد ظهيرة يوم قائظ بحثًا عن مكانٍ ظليل وهادئ. وقفتُ أمام نافذة عرض متجر صغير، مُثبتًا عينيَّ بنظرة حالمة على صفٍّ من الباروكات، كنت مستغرقًا في متابعة سلسلة الأفكار الآنفة الذكر حين فاجأني صوت عميق يقول بعذوبة في أذني: «لو كنتُ مكانك لاشتريتُ الباروكة الطويلة.»
استدرت بسرعة وعنف بالغين، ونظرتُ إلى وجه صديقي القديم وزميل الدراسة، جيرفيس، ومن ورائه وقَفَ مُدرسي السابق، دكتور ثورندايك، يرمُقنا بابتسامة رزينة. رحَّب بي كِلا الرجلين ترحيبًا حارًّا لدرجة أنني شعرتُ بتملُّقٍ شديد، حيث إن ثورندايك كان شخصية عظيمة للغاية، وكان جيرفيس يَسبقني أكاديميًّا بعدة سنوات.
قال ثورندايك: «آمُل أن تأتي لتناول الشاي معنا.» وحين قبلتُ الدعوة بكل سرورٍ أخذني من ذراعي وقادني عبر الفناء في اتجاه وزارة المالية.
سألني قائلًا: «ولكن لماذا كنتَ تنظُر إلى تلك الحُلي الخاصة بالقضاة بنظرةٍ نهمة، يا بيركلي؟ هل تُفكر أن تسير على خُطاي أنا وجيرفيس، وتترك طرف السرير وتتَّجِه إلى نقابة المحامين؟»
هتفتُ قائلًا: «ماذا! هل دخل جيرفيس مجال القانون؟»
أجاب جيرفيس: «باركك الرب، أجل! لقد صرتُ أتطفل على ثورندايك! كما تعلم؛ البراغيث الكبيرة لديها براغيث صغيرة. أنا جزء من الكسر الذي يأتي خلف العلامة العشرية بعد رقمٍ كبير.»
قاطعه ثورندايك قائلًا: «لا تُصدِّقه يا بيركلي. هو العقل المدبر للشركة. أنا أقدم عُنصر الاحترام والقيمة الأخلاقية. ولكنك لم تجب عن سؤالي. ما الذي تفعله هنا في فترة ما بعد الظهيرة في يومٍ صيفي مُحدقًا في نافذة عرض صانع باروكات؟»
«أنا طبيب بديل عن برنارد؛ الطبيب الذي يعمل بعيادة في حارة فيتر.»
قال ثورندايك: «أعرف ذلك، نحن نلتقي به من وقتٍ لآخَر، لقد بدا شاحبًا وهزيلًا جدًّا مُؤخرًا. هل أخذ إجازة؟»
«أجل! لقد ذهب في رحلةٍ إلى جزُر اليونان على متن سفينةٍ تجارية.»
قال جيرفيس: «إذن، أنت مُمارس عام على النطاق المحلي. ظننتُ أنك كنت تبدو جديرًا بالاحترام إلى حدٍّ بعيد.»
أضاف ثورندايك: «واستنادًا إلى أسلوبك لتمضية وقت الفراغ حين التقيناك، العيادة ليست مُجهِدة. أظن أنها محلية الطابع تمامًا!»
أجبت قائلًا: «أجل، يعيش معظم المرضى في الشوارع والأزقة الصغيرة في نطاق دائرة قُطرها نصف ميل من العيادة، ومساكن بعضهم وضيعة جدًّا. أوه! وهذا يُذكرني بصُدفة غريبة للغاية. أظن أنها ستُثير اهتمامك.»
علق ثورندايك: «الحياة عبارة عن صُدَف غريبة. لا أحد يتفاجأ من الصُّدَف سوى نقَّاد الروايات. ولكن عن أي صدفة تتحدث؟»
«إنها ذات صِلة بقضيةٍ ذكرتها لنا في المستشفى قبل عامين، قضية الرجل الذي اختفى في ظروفٍ غامضة جدًّا. هل تتذكَّرها؟ كان اسم الرجل بيلينجهام.»
«عالم الآثار المصرية؟ أجل أتذكَّر هذه القضية جيدًا. ماذا عنها؟»
«أخوه مريض لديَّ. إنه يعيش في شارع نيفيلز مع ابنته، ويبدو أنهما فقيران فقرًا مُدقعًا.»
قال ثورندايك: «حقًّا، هذا مُثير للاهتمام جدًّا. لا بدَّ أن الحياة تعثرت بهما فجأة. إذا أسعفتني الذاكرة، كان الأخ يعيش في منزلٍ رثِّ الحال.»
«أجل، هو كذلك. أرى أنك تتذكَّر كل شيءٍ بخصوص القضية.»
قال جيرفيس: «زميلي العزيز، ثورندايك لا ينسى قضيةً واعدة أبدًا. هو أشبه بجَمَل طبي وقانوني. فهو يبتلِع الحقائق الخام من الجرائد وغيرها من المصادر ثم يجترُّها بهدوء، في أوقات فراغه، ويمضغها في تأنٍّ. إنها عادة عجيبة؛ إذ تظهر قضية على صفحات الجرائد أو في أروقة إحدى المحاكم، فيبتلعها ثورندايك ويستوعِب خيوطها كلها. ثم يخفُت بريقُها وينساها الجميع. وبعد عامٍ أو عامين تظهر مرةً أخرى على الساحة في شكلٍ جديد، وما يُدهشك أنك تجد ثورندايك قد أوضحها وبيَّنها. لقد كان يُفكر بها مليًّا على نحوٍ دَوري في فترات استراحته.»
عقَّب ثورندايك: «كما تُلاحظ يسرُّ صديقي المُتعلم الانغماس في الاستعارات المُتباينة. ولكنَّ كلامه صحيح إلى حدٍّ بعيد، رغم أن كلماته غامضة. يجب أن تُخبرنا بالمزيد عن آل بيلينجهام أثناء تناولنا فنجان شاي.»
أخذنا الحديث إلى مكتب ثورندايك، الكائن في الدور الأول من ٥أ شارع كينجز بينش ووك، وما إن دخلنا الشقة الأنيقة الواسعة ذات الجدران الخشبية، حتى وجدْنا رجلًا مُسنًّا نحيفًا يرتدي زيًّا أسود أنيقًا وقد وضع طقم الشاي على الطاولة. نظرتُ إليه بشيءٍ من الفضول. كان لا يبدو خادمًا، إلا أنَّ زِيَّه الأسود الأنيق، جعل مظهره مُحيرًا للغاية، ففي حين أن وقاره الهادئ ووجهه الذكيَّ الحادَّ كانا يُوحِيان بأنه رجل مِهني من طرازٍ ما، فإن يدَيه الماهِرتَين والبارِعتَين هما يدا ميكانيكي ماهر.
تفحَّصَ ثورندايك صينية الشاي بعناية ثم نظر إلى خادمه قائلًا: «أراك وضعتَ ثلاثة فناجين يا بولتون. كيف عرفتَ أنني سأجلب معي ضيفًا لتناول الشاي؟»
ابتسم الرجل النحيف ابتسامة رضًا جذابة أظهرت تجاعيد وجهه وهو يشرح قائلًا:
«اعتدتُ النظر من نافذة المُختبر حين تنعطف عند ناصية الشارع يا سيدي.»
قال جيرفيس: «يا للبساطة المُخيِّبة للآمال! كنَّا نأمُل في فكرةٍ غامضة تنطوي على توارُد الخواطر.»
ردَّ بولتون، وهو يتفحص طقم الشاي ليتأكد من عدم نسيان أي شيء، قائلًا: «البساطة هي جوهر الكفاءة، يا سيدي.» وبعد أن قال هذه الحكمة الرائعة اختفى في صمت.
قال ثورندايك بينما كان يصبُّ الشاي: «بالعودة إلى قضية بيلينجهام، هل جمعتَ أي حقائق تخصُّ أطراف القضية — وأعني بالحقائق هنا، تلك التي سيكون من المناسب أن تذكُرها بالطبع؟»
«لقد عرفتُ شيئًا أو شيئَين لا ضَير من تكرارهما؛ على سبيل المثال، عرفتُ أن جودفري بيلينجهام — مريضي — قد فقدَ جميع مُمتلكاته على نحوٍ مفاجئ تمامًا في توقيت الاختفاء نفسه.»
علق ثورندايك قائلًا: «هذا أمر غريب فعلًا. العكس سيكون مفهومًا تمامًا؛ ولكن المرء لا يتخيل بالضبط كيف يمكن أن يحدُث ذلك، ما لم يُوجَد مُخصصات بطريقةٍ ما أو بأخرى.»
«بلى، هذا ما أدهشني، ولكن يبدو أنه يُوجَد بعض السمات الغريبة في هذه القضية، فمن الواضح أن الوضع القانوني يزداد تعقيدًا. فمثلًا ثمَّة وصية أثارت مُشكلات.»
عقَّب ثورندايك قائلًا: «لن يتمكنوا من تنفيذ الوصية دون وجود إما دليل أو قرينة على الوفاة.»
«بالضبط، هذه إحدى الصعوبات. الأخرى هي أنه ثمة خطأ جسيم في صياغة الوصية بحدِّ ذاتها. لا أعرف ماهية هذا الخطأ، ولكني أتوقع سماعه عاجلًا أم آجلًا. بالمناسبة، لقد ذكرتُ الاهتمام الذي أبديتَهُ حيال القضية، وأظنُّ أن بيلينجهام كان يودُّ استشارتك، ولكن الرجل المسكين ليس لديه أموال.»
«هذا أمر مُحرِج بالنسبة إليه إذا كانت الأطراف المَعنية الأخرى لديها أموال. سيكون هناك على الأرجح إجراءات قانونية بشكلٍ ما، ونظرًا لأن القانون لا يضع في اعتباره الفقر، فمن المُرجَّح أن يخسر هو الجلد والسقط. يجب أن يحصل على أي شكلٍ من أشكال النصيحة.»
قلتُ له: «لا أرى كيف يتسنَّى له الحصول عليها.»
قال ثورندايك مؤكدًا: «ولا أنا. لا تُوجَد ملاجئ خيرية للخصوم المُعدمين؛ بل يُفترَض أن أصحاب الموارد فقط هم من لديهم حق اللجوء إلى القانون. بالطبع، إذا كنَّا نعرِف الرجل والظروف، لعلَّنا نتمكن من مساعدته؛ ولكن كل ما نعرفه هو العكس، ولعلَّه يكون وغدًا مُتشردًا.»
تذكرتُ الحوار الغريب الذي سمعتُه صدفة، وكنتُ أتساءل ما سيكون رأي ثورندايك لو كان مسموحًا لي بتكراره. من الواضح أنَّ الأمر ليس كذلك، لكن لا يُمكنني أن أفعل شيئًا سوى أن أُعطي انطباعاتي.
قلت: «لا يبدو لي أنه كذلك؛ ولكن بالطبع لا أحدَ يعرف يقينًا. لقد أثار إعجابي بصفةٍ شخصية أكثر من الرجل الآخر.»
تساءل ثورندايك: «أي رجلٍ آخر؟»
«كان يُوجَد رجل آخر بالقضية، أليس كذلك؟ لقد نسيتُ اسمه. رأيته في المنزل ولم يرُقني مظهره كثيرًا. أشك أنه يمارس نوعًا من الضغط على بيلينجهام.»
علق جيرفيس قائلًا: «بيركلي يعرِف عن هذا أكثر مما يُخبرنا به. لنلقِ نظرة على التقرير ونعرف من يكون هذا الغريب.» أنزلَ من فوق الرفِّ مُجلدًا كبيرًا من قصاصات الجرائد ووضعَه على الطاولة.
قال وهو يُمرر إصبعه على الفهرس: «كما ترى، يحتفظ ثورندايك بجميع القضايا التي من المُرجح أن تُسفر عن شيء، وأعرف أنه كان لديه توقعات بخصوص هذه القضية. يُخيل إليَّ أنه كان لديه أمل جامح في العثور على رأس الرجل المُختفي في صندوق قمامة أحدهم. ها نحن أولاء؛ اسم الرجل الآخر هو هيرست. يبدو أنه ابن عمٍّ له، وفي منزله كانت آخِر مرة شُوهد فيها الرجل المختفي على قيد الحياة.»
قال ثورندايك حين ألقى نظرةً على التقرير: «إذن، أنت تعتقد أن السيد هيرست مُتورط في تحريك الأمور!»
أجبتُ قائلًا: «هذا انطباعي، رغم أنني لا أعرف شيئًا عن الأمر.»
قال ثورندايك: «حسنًا، إذا كنتَ تعرف ماذا يحدث ولديك الإذن للحديث عنه، فسأكون مُهتمًّا جدًّا بمعرفة تطورات القضية، وإذا كان من المُفيد إبداء رأيٍ غير رسمي بخصوص أي نقطة، فأظن أنه لا ضير من إبدائه.»
قلت: «بالتأكيد، سيكون من المُفيد جدًّا إذا حصلتِ الأطراف الأخرى على نصيحةٍ مهنية.» وبعد بُرهة سألته: «هل أعطيتَ هذه القضية قدرًا كبيرًا من الاهتمام؟»
فكر ثورندايك مليًّا وقال: «كلَّا، لا يُمكنني قول ذلك. تفكرت فيها بحرصٍ بالغ حين ظهرت على صفحات الجرائد لأول مرة، وأتفكر فيها من وقتٍ لآخر منذ ذلك الحين. إنها عادتي، كما أخبرَك جيرفيس، أنا أستغل أوقات الفراغ (مثل رحلةٍ على متن القطار) في وضع النظريات لتفسير الحقائق الخاصة بمثل هذه القضايا الغامضة حين تَلفتُ انتباهي. أظن أنها عادة مفيدة، فضلًا عن التدريب الذهني والخبرة التي يكتسبها المرء منها، يقع بين يديَّ جزء كبير من هذه القضايا في النهاية، ثم تستعيد الاهتمام السابق بها.»
سألته قائلًا: «هل كوَّنت أي نظرياتٍ تُفسر الحقائق الخاصة بهذه القضية؟»
«أجل، لديَّ عدة نظريات، إنني أُفضِّل إحداها على وجه الخصوص، وأتوقع باهتمامٍ بالغ أنَّ مثل هذه الحقائق قد تُبين لي أي من هذه النظريات هي الصحيحة على الأرجح.»
قال جيرفيس: «لن تستفيد من الضغط عليه يا بيركلي. فهو مُزوَّد بصمام معلوماتٍ يُفتح من الداخل. يمكنك أن تصبَّ فيه بقدْر ما تشاء، ولكن لا تستطيع أن تَخرُج منه بأي شيء.»
ضحك ثورندايك وقال: «صديقي المُتعلم مُحق بوجهٍ عام. كما ترى، ربما يتم استدعائي في أي يومٍ لتقديم المشورة بشأن القضية، وفي تلك الحالة سأشعر بالغباء الشديد لو أنني قدمتُ آرائي بالتفصيل. ولكن يروقني أن أسمع ما استنتجتَهُ أنت وجيرفيس بخصوص القضية ممَّا ورد في الصحف.»
صاح جيرفيس قائلًا: «انتبه، ماذا قلتُ لك؟ إنه يريد أن يمتصَّ عقولنا.»
قلت: «فيما يتعلق بعقلي، لن تُسفِر عملية الامتصاص عن الكثير سوى الفراغ، ومِن ثَم أنا سأستسلم لصالحك. أنت مُحامٍ مُحنك، بينما أنا مُمارس عام بسيط.»
ملأ جيرفيس غليونه بالتبغ بحرصٍ بالغ وأشعله، ثم نفث خيطًا رفيعًا من الدخان في الهواء قائلًا:
«إذا كنتَ تريد أن تعرف ما الذي استنتجتُهُ بخصوص القضية من ذلك التقرير، يمكنني أن أقول لك كلمتين؛ لا شيء. يبدو أن كل طريق ينتهي بحائط سد.»
قال ثورندايك: «أوه، بالله عليك! هذا مجرد تكاسُل. بيركلي يريد أن يشهد استعراضًا لحكمتك الجنائية. ربما يُعاني الاستشاري المُتعلم من تشوش الرؤية — وغالبًا ما يكون كذلك — إلا أنه لا يذكر الحقيقة بصراحة مطلقة؛ وإنما يضعها تحت قناع لفظي لائق. أخبرنا كيف توصَّلتَ إلى استنتاجك. بَيِّن لنا أنك فعلًا قد وازنت الحقائق.»
قال جيرفيس: «حسنًّا جدًّا، سأقدم لك تحليلًا بارعًا للقضية؛ لا يقودك إلى شيء.» وواصل النفخ في غليونه لبعض الوقت بشيءٍ من الارتباك، كما أظن، وتعاطفتُ معه تمامًا. في النهاية نفث سحابةً صغيرة وبدأ حديثه:
«بدا الموقف كالتالي: رجل شُوهد يدخل منزلًا مُعينًا واقْتِيد إلى غرفةٍ معينة وتُرك هناك. لم يشاهده أحد يخرج، ولكن حين يدخل أحدهم الغرفة يجدها فارغة؛ ولا يُرى ذلك الرجل مرةً أخرى مُطلقًا، حيًّا أو ميتًا. هذه بداية صعبة إلى حدٍّ كبير.
خطط الشام، ٣ الآن، من الواضح أنه لا بدَّ أن شيئًا من ثلاثة قد حدث. إما أنه بقي في تلك الغرفة، أو على الأقل في ذلك المنزل، حيًّا، أو لا بدَّ أنه مات، لأسبابٍ طبيعية أو غير ذلك، وأُخفِيت جثته؛ أو لا بدَّ أنه غادر المنزل دون أن يلاحظه أحد. لنأخذ الاحتمال الأول؛ هذه الواقعة حدثت قبل عامَين تقريبًا. الآن، لا يمكن أن يبقى على قيد الحياة في المنزل لمدة عامين. لا بدَّ أن تتمَّ ملاحظته. من شأن الخدم مثلًا أن يلاحظوا وجوده عند تنظيف الغرَف.» ١٢٢-١٢٣.
عند هذه النقطة، تدخَّل ثورندايك بابتسامةٍ مُلطِّفة للأجواء إلى مُساعده: «صديقي المُتعلم يتعامل مع المسألة بطيشٍ غير لائق. نحن نقبل الاستنتاج بأن الرجل لم يظلَّ حيًّا في المنزل.»
«تمامًا! إذن، هل ظلَّ فيه ميتًا؟ لا يبدو كذلك. يقول التقرير: بمجرد أن اختفى الرجل، فتش هيرست والخدم المنزل بالكامل، ولكن لم يكن هناك وقت أو فرصة للتخلُّص من الجثة، ولذا فإن الاستنتاج المُحتمل الوحيد هو أن الجثة لم تكن هناك. علاوة على ذلك، إذا قبلنا باحتمالية أنه قُتل، ما الذي سيفترِضه إخفاء الجثة؟ إليك هذا السؤال: «من الذي كان بإمكانه قتله؟» بالتأكيد، ليس الخدم، أما بالنسبة إلى هيرست، حسنًا، نحن لا نعرف ماذا كانت علاقته بالرجل المختفي، أو على الأقل، أنا لا أعرف.»
قال ثورندايك: «ولا أنا كذلك؛ أنا لا أعرف شيئًا خلافًا لما جاء في تقرير الصحف وما قاله بيركلي لنا.»
«إذن، نحن لا نعرف شيئًا. ربما لديه دافع لقتل الرجل أو ربما لا. مربط الفرس هو أنه لا يبدو أنه أُتيحت له الفرصة. حتى إن كنا نفترض أنه استطاع إخفاء الجثة بصفةٍ مؤقتة، لا يزال لُغز التخلُّص النهائي منها قائمًا. لم يكن باستطاعته دفن الجثة في الحديقة مع وجود الخدم من حوله؛ وكذلك لم يكن بإمكانه حرقها. الطريقة المحتملة الوحيدة التي يمكنه بها التخلُّص من الجثة هي تقطيعها إلى أجزاء ودفن الأجزاء المُقطعة في أماكن مُنعزلة أو إغراقها في البرك والأنهار. ولكن لم يتم العثور على أشلاء كهذه، التي تحولت على الأرجح إلى أشلاء بحلول هذا الوقت، ومِن ثَم لا يُوجَد شيء يدعم هذا الاقتراح؛ بالتأكيد، فكرة القتل، في هذا المنزل على الأقل، تبدو مُستبعَدة من خلال التفتيش الذي تمَّ في لحظة اختفاء الرجل.
هيا، لنستعرض الاحتمال الثالث: هل غادر المنزل دون أن يُلاحظه أحد؟ حسنًا، ليس مُستبعدًا، ولكن سيكون من الغريب القيام بذلك. ربما يكون رجلًا متهورًا أو غريب الأطوار. لا يمكننا أن نجزم بذلك؛ نحن لا نعرف شيئًا عنه. ولكن مرَّ عامان ولم يظهر مُطلقًا، فإذا كان قد غادر المنزل سرًّا فلا بدَّ أنه مُختبئ ولا يزال مُختبئًا حتى الآن. ربما يكون مجنونًا بشكلٍ أو بآخر ليتصرف بتلك الطريقة، أو ربما لا يكون كذلك. ليس لدينا أي معلوماتٍ عن شخصيته.
ثم تأتي التعقيدات الخاصة بحلية الجعران التي عُثِر عليها في حديقة منزل شقيقه بوودفورد. يبدو أن هذا يُبين أنه زار ذلك المنزل في وقتٍ ما. ولكن لا أحد يعترف بأنه رآه هناك؛ وبالتالي، ليس من المؤكد أنه ذهب أولًا إلى منزل شقيقه أم إلى منزل هيرست. إن كان يرتدي الجعران حين وصل إلى المنزل الكائن بحي إلثام، فلا بدَّ أنه غادر المنزل دون أن يُلاحظه أحد وذهب إلى وودفورد، ولكن إن كان لا يرتدي الجعران، فإنه على الأرجح ذهب من وودفورد إلى إلثام، ثم اختفى هناك في النهاية. ولكن لا يُوجَد دليل حتى هذه اللحظة بخصوص ما إذا كان يرتدي الجعران أو لا يرتديه حين رأته خادمة هيرست آخِر مرة على قيد الحياة.
فإذا ذهب إلى منزل شقيقه بعد زيارته إلى هيرست، فسيكون الاختفاء مفهومًا أكثر إذا كنَّا لا نُمانع توجيه أصابع الاتهام بالقتل بصورةٍ عشوائية تمامًا؛ حيث إن التخلص من الجثة سيكون أقلَّ صعوبة في تلك القضية. من الواضح أن لا أحد رآه يدخل المنزل، وإذا كان قد دخله فلا بدَّ أنه دخل من خلال بوابة خلفية مُتصلة بالمكتبة؛ وهي مبنًى مُنفصل يبعُد عن المنزل بمسافة. وفي تلك الحالة، لكان من الممكن لآل بيلينجهام، من الناحية المادية، أن يُخفوه عن الأنظار. يُوجَد مُتَّسع من الوقت للتخلص من الجثة دون ملاحظة أحد — بصفة مؤقتة على أي حال. لم يرَه أحد يدخل المنزل ولم يعرف أحد أنه موجود هناك — لو كان هناك، ولا يبدو أنه أُجرِي تفتيش سواءً في وقت الاختفاء أو بعده. في الواقع، لو كان بالإمكان إثبات أن الرجل المفقود ترك منزل هيرست حيًّا، أو أنه كان يرتدي الجعران حين وصل إلى هناك، لبدت الأمور مُريبة جدًّا بالنسبة إلى بيلينجهام — ولا بد أن الفتاة كانت ستتورط إن كان أبوها مُتورطًا. ولكن النقطة الجوهرية هي أنه لا يُوجَد دليل على أن الرجل غادر منزل هيرست حيًّا. وإن لم يفعل … ولكن مهلًا! كما قلتُ في البداية، أي منعطف تأخُذه، تجد أنه ينتهي بحارةٍ سد.»
«نهاية خرقاء لتفسيرٍ بارع.» كان هذا تعليق ثورندايك.
قال جيرفيس: «أعرف ذلك، ولكن ماذا سيكون لديك؟ يُوجَد عددٌ كبير من الحلول الممكنة، ولا بدَّ أن واحدًا منها هو الصحيح. ولكن كيف لنا أن نحكم أيها صحيح؟ أحتفظ بهذا إلى أن نعرف شيئًا عن الأطراف المَعنية والأمور المالية وغيرها من العناصر ذات الصِّلة والتي ليس لدَينا بها أي بيانات.»
قال ثورندايك: «هنا أنا لا أتفق معك مُطلقًا. أؤكد أن لدَينا البيانات الكثيرة. أنت تقول إننا ليس بوسعنا تحديد أي من الحلول المُحتملة الكثيرة هو الصحيح؛ ولكني أظن أنك إذا قرأت التقرير بعنايةٍ وتمعُّن، فستجد أن الحقائق التي نعرفها الآن تُشير إلى تفسيرٍ واحد، واحد فقط. ربما لا يكون التفسير الصحيح، ولا أفترض أنه كذلك. ولكننا نتعامل مع الأمر بشكلٍ تخميني، ومن الناحية الأكاديمية، وأنا أؤكد أن بياناتنا تُسفِر عن نتيجةٍ مُحددة. ما رأيك، يا بيركلي؟»
«رأيي أنه حان الوقت لأُغادر؛ الكشوفات المسائية تبدأ في الساعة السادسة والنصف.»
قال ثورندايك: «حسنًا، لن نُعطلك عن أداء واجباتك، بينما برنارد المسكين مُنشغل بجني العنب في جزُر اليونان. ولكن تعالَ وزُرْنا مرةً أخرى. مُرَّ علينا حينما تشاء بعد انتهاء عملك. لن تُعطلنا حتى إن كنَّا مشغولين، ونادرًا جدًّا ما نكون كذلك بعد الساعة الثامنة.»
شكرتُ دكتور ثورندايك من كل قلبي على دعوتِه لي إلى مكتبه واستقباله لي بهذا الكرَم، وغادرت مُتجهًا إلى البيت مُتخذًا شارع ميديل تيمبل لين وشارع إمبانكمينت؛ ولا بدَّ أن أعترف بأنه طريق غير مباشر إلى فيتر، إلا أنَّ حديثنا أعاد اهتمامي بأهل بيت بيلينجهام وجعلني أدخُل في حالةٍ من التفكير العميق.
واستنادًا إلى المحادثة الاستثنائية التي سمعتها مُصادفةً، كان من الواضح أن الأمر يزداد تعقيدًا. ورغم أنني لا أفترض أنَّ هذين الرجُلَين المُحترمَين يشتبِه أحدهما في الآخر بخصوص التخلُّص من الرجل المُختفي؛ فإن كلماتهما العفوية، ونبرة صوتهما الغاضبة، أوضحت أنَّ كلًّا منهما سمح لفكرة الاحتمالات المشئومة أن تدخُل ذهنه؛ وهي حالة خطيرة قد تتحول بكل سهولةٍ إلى شكوكٍ فعلية. ثم صارت الظروف غامضةً للغاية، حين كوَّنتُ انطباعًا خاصًّا بعد الاستماع إلى تحليل صديقيَّ للأدلة.
وبعيدًا عن المشكلة في حدِّ ذاتها، تطرَّق ذهني، ليس للمرة الأولى خلال البضعة الأيام الأخيرة، إلى الفتاة الجميلة التي بدت في عينيَّ كبيرة الكهنة لمعبدٍ غامض في حارة صغيرة غريبة. يا لها من صورة غريبة تختلف عن هذه الخلفية الغريبة، بأسلوبها الهادئ والرزين والمُستقل ووجهها الشاحِب الحزين والمُرهَق جدًّا، وحاجبَيها الأسودَين المُستقيمَين، وعينَيها الرماديتَين المَهيبتَين، وكأنه تنبُّؤ بشيءٍ غامض ومُبهم. استغرقتُ في أفكاري، يا لها من شخصيةٍ ساحرة بل مُثيرة للإعجاب، بها شيء غامض وكئيب يجذبك ويُنفِّرك في الوقت نفسه.
وهنا تذكرتُ كلمات جيرفيس: «ولا بدَّ أن الفتاة كانت ستتورط إن كان أبوها مُتورطًا.» كانت فكرة مُفزعة، رغم أنها قيلت على نحوٍ تخميني، وقلبي يرفضها، يرفضها بسخطٍ فاجأني للغاية. ورغم ذلك، هذه الصورة للفتاة الحزينة ذات الرداء الأسود التي استحضرَتْها ذاكرتي، هي صورة مرتبطة بفكرة الغموض والمأساة.