تعقيدات قانونية ومُوظفة روتينية
قادتني تأمُّلاتي، بعد أن سلكتُ طريقًا غير مباشر وتأخرتُ عشر دقائق، إلى نهاية حارة فيتر، حيث تحوَّل مسار تفكيري المجرد إلى السلوك اليقِظ اللائق بطبيبٍ مشغول، سِرتُ بخطواتٍ مُسرعة واتجهتُ نحو العيادة عاقدًا حاجبي، كما لو أنني خرجتُ توًّا من حالة قلق. كانت هناك مريضة واحدة فقط في انتظاري، حَيَّتْني بمجرد أن دخلتُ وكسَتْ وجهي ملامح الجمود.
قالت: «ها أنت ذا!»
أجبتها قائلًا: «أنتِ مُحقَّة تمامًا، آنسة أومان. في الواقع، لقد لخصتِ الحالة. ما الذي يمكنني القيام به من أجلكِ بكل سرور؟»
جاء الرد: «لا شيء! لديَّ مُستشارة طبية؛ ولكني جئتُ إليك برسالة من السيد بيلينجهام. تفضل!» ثم زجَّت الظرف بين يدي.
نظرتُ في عجالةٍ إلى الرسالة، وعرفت أن مريضي قضى بضع ليالٍ سيئة ويومًا مُرهقًا للغاية. واختتم رسالته بعبارة: «هل يمكنني الحصول على شيءٍ يجعلني أرتاح مساءً؟»
فكرتُ مليًّا لبضع دقائق. المرء ليس على استعدادٍ لوصف العقاقير المُنومة للمرضى المجهولين؛ ولكن الأرق حالة مُرهقة للغاية. في النهاية، تريثتُ ووصفت جرعةً بسيطة من دواءٍ مُهدِّئ للأعصاب، عاقدًا العزم على زيارته وتحديد ما إذا كان من الضروري اتخاذ تدابير أكثر فعالية.
قلتُ وأنا أعطي لها الزجاجة: «من الأفضل أن يأخُذ جرعةً من هذا حالًا آنسة أومان. وسأزوره في وقتٍ لاحق لأرى كيف حاله.»
ردَّت قائلة: «أعتقد أنه سيسعد برؤيتك؛ حيث إنه يقضي الليلة وحيدًا وفي حالةٍ سيئة للغاية — الآنسة بيلينجهام خرجت — ولكن يجِب أن أُذكِّرك بأنه رجل فقير ويُسدِّد مصاريف احتياجاته. لا بدَّ أن تعذُرني على ذِكري لذلك.»
كان ردِّي: «أنا مُمتن جدًّا على هذا التلميح، يا آنسة أومان. ليس من الضروري أن أراه، ولكن يروقني أن أزورَه وأُدردش معه.»
«أجل، سيُفيده ذلك. لديك نقاط قوة، رغم أن الالتزام بالمواعيد لا يبدو إحداها.» بهذه الملاحظة الأخيرة خرجت الآنسة أومان مُسرعة.
وجدت نفسي في الساعة الثامنة والنصف أصعَد درَج السلَّم الكبير والمُعتم للبيت الكائن في حارة نيفيلز كورت، تتقدَّمني الآنسة أومان التي قادتني إلى الغرفة. كان السيد بيلينجهام، الذي انتهى توًّا من وجبةٍ بسيطة، يجلس مُنحنيًا على كرسيه يُحدق في كآبةٍ إلى قضبان المدفأة الفارغة. ابتهج حين دخلتُ عليه؛ ولكن من الواضح أن حالته المعنوية كانت مُنخفضة جدًّا.
قال: «لم أقصد أن أشُقَّ عليك بعد انتهاء جولتك النهارية؛ رغم أنني سعيد جدًّا برؤيتك.»
«لم تشق عليَّ في شيء. سمعتُ أنك بمفردك، ولذلك مررتُ لقضاء بعض الوقت في الثرثرة معك.»
قال بحرارة: «هذا لُطف منك حقًّا. ولكن أخشى أن تجد صُحبتي مُملة. رجل مشحون بمشاكله المُزعجة جدًّا لا تُرجى صحبته على أي حال.»
قلتُ خشية شعورٍ مفاجئ بأنني أتطفَّل عليه: «لا تسمح لي أن أُزعجك إذا كنتَ تفضل البقاء بمفردك.»
رد: «أوه، أنت لا تُزعجني.» ثم أضاف ضاحكًا: «على الأرجح، الموقف معكوس. في الواقع، لو لم أخشَ أن أُشعِرك بالملل الشديد، لطلبتُ منك أن تُتيح لي الحديث معك عن مَتاعبي.»
قلتُ له: «لن تُشعرني بالملل. من المُثير بوجهٍ عام أن تشارك في تجارب الآخرين بدون إزعاجهم. «أنسب طريقةٍ لدراسة البشرية هي البشر أنفسهم.» بالنسبة إلى طبيبٍ على وجه الخصوص، كما تعلم.»
ضحك السيد بيلينجهام ضحكةً مكتومة وقال: «أنت تجعلني أشعُر وكأني ميكروب. ولكن إذا كنتَ مُهتمًّا بإلقاء نظرةٍ عليَّ من خلال ميكروسكوبك، فسأتقدَّم ببطء نحو الشريحة لأخضع لفحصك، رغم أن تصرُّفاتي لا تُقدِّم مادة من أجل الدراسات النفسية الخاصة بك. إنه أخي المسكين الذي قلبَ الأحداث رأسًا على عقِب، وأخشى أن أقول إنه من قبره المجهول يُحرِّك خيوط الدُّمى في هذا العرض المسرحي اللعين.»
توقَّفَ لبرهةٍ وحدق بتمعُّن لبعض الوقت في قضبان المدفأة كما لو أنه قد نسيَ وجودي. وفي النهاية، نظر لأعلى واستأنف حديثه:
«إنها قصة غريبة، يا دكتور؛ قصة غريبة جدًّا. أنت تعرف جزءًا منها؛ تعرف منتصف القصة. سأحكي لك من البداية، وحينئذٍ ستعرف بقدْر ما أعرفه أنا، أما بخصوص النهاية، فلا أحد يعرفها. بلا شك، إنها مُدونة في كتاب القدَر، ولكن لم تُقلب الصفحة بعد.
بدأت المتاعب بوفاة والدي. كان قسًّا في الأرياف ذا موارد معقولة جدًّا، أرمل لديه طفلان، أنا وأخي جون. استطاع أن يُرسلنا إلى أوكسفورد، وبعد ذلك التحق جون بوزارة الخارجية بينما تعين عليَّ الالتحاق بالكنيسة. ولكني اكتشفتُ فجأة أن آرائي بخصوص الدين خضعتْ لتغييرٍ جعل من المستحيل الاستمرار في ذلك، وفي تلك الفترة تقريبًا ورث والدي مُمتلكاتٍ كثيرة جدًّا. ونظرًا لأنه عبَّر عن نيته ترك الممتلكات مناصفة بيني أنا وأخي، لم أكن مُضطرًّا إلى اتخاذ أي مهنةٍ لكسب الرزق. كان علم الآثار يُمثل شغف حياتي، وقررتُ أن أُكرِّس نفسي منذ ذلك الحين فصاعدًا لدراستي المُفضلة، وبالمناسبة كنت أتبع تقليدًا عائليًّا؛ حيث إن والدي كان طالبًا مُتحمسًا للتاريخ الشرقي، وجون كما تعلم عالم آثار مصرية شغوف.
ثم مات والدي فجأة، ولم يترُك أي وصية. كان ينوي كتابة وصية؛ ولكنه أخذ يؤجِّل الأمر حتى فات الأوان. ونظرًا لأن جميع الممتلكات كانت على هيئة عقارات، ورثها أخي كلها تقريبًا. وخلافًا لأُمنيات أبي المعروفة، خصَّص لي مبلغًا سنويًّا مقداره خمسمائة جنيه، والذي يُعادل ربع الدخل السنوي. ألححتُ عليه أن يُخصِّص لي مبلغًا إجماليًّا؛ ولكنه رفض ذلك. وبدلًا من ذلك، أصدر تعليماته إلى مُحاميه ليدفع لي المبلغ المُخصَّص على هيئة أقساطٍ رُبع سنوية خلال ما تبقَّى من حياتي، وكان من المفهوم أنه عند وفاته ينبغي أن تنتقل العقارات بالكامل إليَّ، وإذا متُّ أنا أولًا، تنتقل إلى ابنتي، روث. ثم، كما تعرف، اختفى هو فجأةً، وكما تُوحي الظروف بأنه مات، ولا يُوجَد أي دليل على أنه حي، ووجد مُحاميه — ويُدعى السيد جيليكو — نفسه غير قادرٍ على الاستمرار في دفع المُخصَّصات. وعلى الجانب الآخر، ونظرًا لعدم وجود دليل يؤكد وفاة أخي، كان من المستحيل تنفيذ الوصية.»
«تقول إنَّ الظروف تُوحي بأن أخاك تُوفِّي. ما هي هذه الظروف؟»
«بالأساس، الاختفاء المفاجئ والكامل، ولعلك تتذكَّر أن حقيبة السفر خاصته ظلَّت في محطة القطار؛ وثمة ظرف آخَر يُوحي أكثر بوفاة أخي؛ إذ يتلقى أخي معاشًا من وزارة الخارجية، ويذهب لتسلُّمه بصفةٍ شخصية، وإذا كان خارج البلاد، يُقدِّم دليلًا على أنه لا يزال على قيد الحياة حتى تاريخ استحقاقه. وبخصوص هذا الأمر، كان أخي مُنتظمًا للغاية؛ في الواقع، كان معروفًا عنه عدم تخلفه مُطلقًا؛ فإما الذهاب بنفسه أو إرسال الوثائق الضرورية إلى وكيله، السيد جيليكو. ولكن منذ اللحظة التي اختفى فيها على نحوٍ غامض جدًّا وحتى اليوم، لم يسمع أحد عنه شيئًا مُطلقًا.»
قلت: «إنه موقف مُحرج للغاية بالنسبة إليك، ولكن أظن أنه ليس من الصعب كثيرًا الحصول على تصريحٍ من المحكمة لقرينة الوفاة والمُضي قدمًا لإثبات الوصية.»
امتعض وجه السيد بيلينجهام وهو يقول: «أعتقد أنك مُحق، ولكن هذا لا يساعدني كثيرًا؛ فكما ترى، اتخذ السيد جيليكو، بعد انتظاره لفترةٍ معقولة ليظهر أخي مرة أُخرى، خطوةً غريبة جدًّا؛ ولكني أظن أنها في ظل هذه الظروف الخاصة خطوة مناسبة جدًّا؛ استدعاني أنا والطرف الآخر المعني بالموضوع إلى مكتبه وأبلغَنا ببنود الوصية. وتبيَّن أنها بنود استثنائية جدًّا. صُعقتُ حين سمعتها. والشيء المُثير للسخط هو أنني متأكد أن أخي ظن أنه بهذا جعل كلَّ شيءٍ آمنًا وبسيطًا تمامًا.»
قلتُ بشيء من الغموض: «إنهم، بوجهٍ عام، يظنون ذلك.»
قال السيد بيلينجهام: «أعتقد ذلك؛ ولكن جون المسكين أساء التصرُّف بشدة بخصوص وصيته، وأنا على يقين بأن تصرفاته خالفت نواياه تمامًا. كما تلاحظ، نحن عائلة عريقة من لندن. وعلى مدى أجيالٍ وأجيال ما زلنا نشغل المنزل الموجود في ميدان كوين، الذي كان يعيش فيه أخي نظريًّا، ولكنه في الحقيقة كان يحتفظ فيه بمجموعته. ومعظم آل بيلينجهام مدفونون في مقبرة سانت جورج القريبة، رغم أن بعض أفراد العائلة مدفونون في مقابر أخرى بالحي. الآن، أخي — الذي كان أعزب بالمناسبة — كان يحترم بشدةٍ التقاليد العائلية، وذكر في وصيته، بطبيعة الحال، أنه ينبغي دفنه في مقبرة سانت جورج بين أجداده أو، على الأقل، في أحد أماكن الدفن الخاصة بمنطقته المحلية. ولكن بدلًا من التعبير عن الأمنية بكل سهولةٍ وتوجيه القائمين على الوصية نحو تنفيذها، وضع شرطًا يؤثر على تنفيذ الوصية.»
سألته: «يؤثر عليها من أي ناحية؟»
ردَّ بيلينجهام قائلًا: «من ناحيةٍ أساسية جدًّا؛ من ناحية الجزء الأكبر من الممتلكات التي أورثني إيَّاها، أو التي من شأنه أن يُورثها لابنتي روث، إن متُّ قبله. ولكن الوصية خاضعة للشرط الذي ذكرتُه — ألا وهو دفنُه في مكانٍ مُعين — وإذا لم يتحقق هذا الشرط، فإن الجزء الأكبر من المُمتلكات يذهب إلى ابن عمتي؛ جورج هيرست.»
علقتُ قائلًا: «لكن في تلك الحالة، ونظرًا لأنك لا تستطيع العثور على الجثة، لا يستطيع أي منكما الحصول على الممتلكات.»
ردَّ قائلًا: «لستُ واثقًا من هذا. إذا كان أخي قد تُوفِّي، فإنه بالتأكيد لم يُدفن في مقبرة سانت جورج أو في أي مكانٍ من الأماكن الأُخرى المذكورة، وبكل سهولةٍ يمكن إثبات هذه الحقيقة من خلال تقديم الوثائق الرسمية. وبالتالي، ستُسفِر قرينة الوفاة عن تسليم الممتلكات كلها تقريبًا إلى هيرست.»
سألته: «من القائم على تنفيذ الوصية؟»
صاح قائلًا: «أوه! ثمة مُعضلة أخرى؛ يُوجَد وصيَّان؛ الأول هو جيليكو، والثاني هو المستفيد الرئيسي، أنا أو هيرست، استنادًا إلى الظروف. ولكن، كما ترى، لا يستطيع أحد منَّا أن يقوم على تنفيذ الوصية حتى تُقرر المحكمة مَن منَّا هو المستفيد الرئيسي.»
«ولكن من الذي يتقدم بطلب إلى المحكمة؟ أظن أنها مهمة الأوصياء.»
«بالضبط، هذا مأزق يواجهه هيرست. كنَّا نناقش هذا الأمر حين زُرتَني في ذلك اليوم، كان نقاشًا مُحتدمًا للغاية.» ثم أضاف بابتسامةٍ متجهمة: «كما تلاحظ، جيليكو يرفض عمومًا تحريك المسألة وحدَه. يقول إنه لا بدَّ أن يحصل على دعمٍ من الوصي الآخر. ولكن في الوقت الراهن، هيرست ليس الوصي، ولا أنا كذلك. ولكن نحن الاثنان معًا نتشارك في تنفيذ الوصية، نظرًا لأنَّ المهمة مَنوطة بواحدٍ منَّا، على أي حال.»
قلت: «موقف مُعقَّد.»
«هو كذلك، ولقد أثار التعقيد عرْضًا غريبًا جدًّا من جانب هيرست؛ لقد أشار — وأخشى أن أقول على نحوٍ صحيح تمامًا — إلى أنه نظرًا لعدم تنفيذ شروط الدفن، يجب أن تئول إليه الممتلكات، ولذا يقترح ترتيبًا بسيطًا ودقيقًا للغاية، ألا وهو: يتعيَّن عليَّ دعمُه هو وجيليكو في طلبهما لإصدار قرينة الوفاة وتنفيذ الوصية، وفي المقابل يدفع لي مبلغ أربعمائة جنيه سنويًّا مدى الحياة؛ وهذا الترتيب قائم تحت «جميع الاحتمالات».»
«ما الذي يقصده بذلك؟»
قال بيلينجهام، وهو يُحدِّق بي وقد عبس وجهه في غضب: «إنه يعني إذا ظهرت الجثة في أي وقتٍ في المستقبل، بحيث يمكن تنفيذ الشروط الخاصة بالدفن، فإنه سيظلُّ مُحتفظًا بالممتلكات وسيدفع لي مبلغ الأربعمائة جنيه.»
قلت: «الملعون! يبدو أنه يعرف كيف يُبرم صفقةً رابحة.»
«موقفه كالآتي: يستطيع تحمُّل خسارة مبلغ أربعمائة جنيه سنويًّا مدى حياتي إذا لم يتم العثور على الجثة مُطلقًا، وفي حالة العثور عليها، يتعيَّن عليه تحمُّل الربح.»
«وأستنتج أنك رفضتَ هذا العرض!»
«أجل، على نحوٍ قاطع جدًّا، وابنتي توافقني الرأي؛ ولكني لستُ متأكدًا من أنني فعلتُ الصواب. لا بدَّ للمرء أن يفكر مرتين قبل أن يحرق كل سُفنه، حسبما أظن.»
«هل تحدَّثتَ مع السيد جيليكو بخصوص هذه المسألة؟»
«أجل، التقيتُ به اليوم. هو رجل حذِر، ولم يُسدِ لي نصيحةً أو أخرى. ولكني أعتقد أنه استنكر رفضي؛ في الواقع، علق قائلًا بأن عصفورًا في اليد أفضل من عشرةٍ على الشجرة، ولا سيما أن مكان الشجرة غير معروف.»
«هل تعتقد أنه سيُقدِّم الالتماس إلى المحكمة بدون موافقتك؟»
«هو لا يريد ذلك، ولكن أظنُّ أنه إذا ضغط عليه هيرست، فسيضطر إلى ذلك. بالإضافة إلى أن هيرست، باعتباره طرفًا مَعنيًّا، يُمكنه أن يقدم طلبًا مستقلًّا بذاته، وسيفعل ذلك على الأرجح بعد رفضي لعرضه؛ على الأقل هذا رأي جيليكو.»
قلت: «المسألة كلها من أغرب المُعضلات على الإطلاق، لا سيما حين يتذكَّر المرء أن أخاك لديه محامٍ يقدم له المشورة. ألم يُوضح له السيد جيليكو مدى سخافة البنود؟»
«بلى، فعل ذلك. قال لي إنه ألحَّ على أخي لكتابة وصية تصوغ المسألة في شكلٍ مقبول. ولكن جون لم يستمع إليه. المسكين! كان بإمكانه أن يكون عنيدًا جدًّا حين يُريد.»
«هل لا يزال عرض هيرست قائمًا؟»
«كلَّا، بفضل طبعي الحامي رفضتُ الأمر رفضًا باتًّا، وطردتُه مُوبِّخًا إيَّاه. تمنيتُ لو لم أتخذ هذه الخطوة الخاطئة؛ تفاجأت تمامًا حين قدم هيرست العرْض واستشطتُ غضبًا من ذلك. كما تتذكر، شُوهد أخي آخِر مرة على قيد الحياة في منزل هيرست، ولكن إلى هنا، لا يُفترَض بي أن أتحدَّث بهذه الطريقة، ولا يُفترَض بي أن أُزعجك بمشكلاتي اللعينة، بينما جئتَ لإجراء دردشةٍ وديَّة، رغم أنني حذَّرتُك تحذيرًا مُنصفًا، هل تذكُر؟»
«يا إلهي، ولكنَّ الحديث معك مُمتع جدًّا. أنت لا تُدرك مدى اهتمامي بقضيتك.»
ضحك السيد بيلينجهام في شيءٍ من التجهُّم وكرَّر قائلًا: «قضيتي! أنت تتحدَّث كما لو أنني نوع نادر وغريب من المُجرمين المجانين. ورغم ذلك، أنا سعيد بأنك تراني مُسليًا أكثر مما أرى نفسي.»
«لم أقل مُسليًا؛ بل قلتُ مُثيرًا للاهتمام. أنا أنظر إليك باحترامٍ شديد كشخصيةٍ محورية في عملٍ درامي مُثير. ولستُ الشخص الوحيد الذي يراك تحت دائرة هذا الضوء. هل تذكُر حديثي لك عن دكتور ثورندايك؟»
«أجل، بالطبع أذكره.»
«حسنًا، من الغريب أنني التقيتُ به بعد ظهيرة ذلك اليوم، لقد دار بيننا حديث طويل في مكتبه، وجازفتُ بالإشارة إلى أنني تعرفت عليك. هل أخطأت في ذلك؟»
«كلَّا، بالتأكيد. ولماذا لا تُخبره؟ هل تذكَّر قضيتي الملعونة، كما تُطلق عليها؟»
«تمامًا، بكل تفاصيلها. هو مُتحمِّس للغاية، كما تعرف، ومُهتم على نحوٍ استثنائي بسماع كيف تطوَّرت القضية.»
علق السيد بيلينجهام قائلًا: «وأنا كذلك، فعلًا.»
قلت: «وأتساءل عما إذا كنتَ تُمانع أن تُخبره بما أخبرتني به الليلة؛ فهذا من شأنه أن يُثير اهتمامه إلى حدٍّ كبير.»
فكر السيد بيلينجهام لبعض الوقت وعيناه مُثبَّتتان على قضبان المدفأة الفارغة، وعلى الفور، نظر لأعلى وقال ببطء:
«لا أعرف لماذا ينبغي عليَّ. هذا ليس سرًّا؛ ولو كان كذلك، فأنا لا أحتكِره. كلَّا، أخبره، إذا كنتَ تظن أنه مُهتم بالاستماع.»
قلت: «لا داعيَ للخوف من الحديث معه. هو كبئرٍ عميقة يكتم الأسرار؛ وقد تَعني الحقائق بالنسبة إليه أكثر مما تعني لنا. ولعلَّه يستطيع أن يُعطيك نصيحةً مفيدة أو نصيحتَين.»
قال السيد بيلينجهام بسرعةٍ وبغضب شديد: «أوه، لن أستغلَّه للحصول على نصيحة. أنا لستُ من هذا النوع من الرجال الذين يتحايلون من أجل الحصول على نصيحةٍ مهنية مجانية. افهم ذلك يا دكتور.»
قلتُ في عجالة: «أفهم تمامًا. لم يكن هذا ما قصدتُه على الإطلاق. هل عادت الآنسة بيلينجهام؟ لقد سمعتُ الباب الأمامي يُغلق.»
«أجل، لا بدَّ أن هذه ابنتي، على ما أعتقد، ولكن لا تهرُب. أنت لستَ خائفًا منها، أليس كذلك؟» قالها وأنا أُسرع بالتقاط قُبعتي.
أجبت: «لستُ متأكدًا من أنني لا أخافها. إنها شابة مهيبة جدًّا.»
ضحك السيد بيلينجهام ضحكةً خافتة وكتم تثاؤبه، وفي تلك اللحظة دخلت ابنته الغرفة، ورغم فستانها الأسود الرث وحقيبة رثة أكثر تحمِلها، أعتقد أن مظهرها وأسلوبها برَّرا وصفي لها.
قلتُ بينما كانت تصافح يدي بلُطف محسوب: «جئتِ يا آنسة بيلينجهام، لتجدي أباك يتثاءب وأنا أستعدُّ للرحيل. أحيانًا أكون مُفيدًا، كما ترَين. الحوار معي علاج ناجح للأرق.»
ابتسمت الآنسة بيلينجهام وقالت: «أعتقد أنني أجعلك ترحَل.»
أجبتُ بسرعة: «كلَّا، على الإطلاق. لقد أنجزتُ مهمتي، هذا كل ما في الأمر.»
ألحَّ عليَّ السيد بيلينجهام قائلًا: «اجلس لبضع دقائق يا دكتور. ودَعْ روث تُجرب العلاج. ستشعُر بالإهانة إذا غادرتَ بمجرد مجيئها.»
قلت: «حسنًا، لا تدَعْني أُبقيك مُستيقظًا طوال الليل.»
ردَّ بضحكة خافتة قائلًا: «أوه، سأُعلِمك حين أشعر بالنعاس.» وبعد هذا التوضيح جلستُ مرةً أخرى — ليس على غير رغبتي.
وفي هذه اللحظة، دخلَت الآنسة أومان بصينيةٍ صغيرة وعلى وجهها ابتسامة ما كنتُ أظنُّ أنها قادرة عليها.
قالت في تودُّد: «ستتناولين الخبز المحمص ومشروب الكوكا حين يسخنان، يا عزيزتي، أليس كذلك؟»
أجابت الآنسة بيلينجهام قائلة: «بلى، يا فيليس، شكرًا لك. سأذهب لأخلع قُبعتي.» وغادرت الغرفة، تتبعها السيدة العانس التي تُغيِّر أسلوبَها على نحوٍ مذهل.
وعادت على الفور تقريبًا بينما كان السيد بيلينجهام في خِضَم تثاؤبٍ عميق، وجلست لتتناول وجبتَها المُقتصدة، حين أربكني والدُها كثيرًا بملاحظته:
«تأخرتِ الليلة، يا جميلتي. هل تسبَّب الهكسوس في مشكلة؟»
أجابت قائلة: «كلَّا، ولكني ظننتُ أنني قد أنجز أمرهم؛ ولذا، مررتُ على المكتبة بشارع أرموند في طريقي إلى المنزل وأنجزتُ أمرهم.»
«إذن، هم جاهزون للحشو الآن!»
«أجل.» أجابت وقد لاحظتْ عينيَّ المُندهشتَين (لأن حشو الهكسوس ظاهرة مدهشة بلا شك) وضحكتْ بهدوء.
فسَّرت لي قائلة: «يجب ألَّا نتحدث بالألغاز هكذا أمام دكتور بيركلي، وإلا سُخِطنا إلى نصبَينِ من الملح. أبي يتحدث عن عملي.»
سألتها: «هل أنتِ خبيرة تحنيط؟»
بسرعةٍ وضعت الكأس التي رفعتها إلى شفتَيها ودخلت في نوبة ضحكٍ هادئ.
«آسَفُ إن كان والدي قد ضللكَ بمزاحه. سيُكفِّر عن هذا بالشرح.»
قال السيد بيلينجهام: «كما تلاحظ، يا دكتور، روث مُفتشة مكتبية …»
اعترضت الآنسة بيلينجهام قائلة: «أوه، لا تقُل عني مُفتشة! فهذا يوحي بأنني مُفتشة بقسم الشرطة، بل قُل باحثة.»
«حسنًا، أيتها الباحثة، كما يروق لكِ. إنها تصطاد المصادر والمراجع في المتحف لصالح الكُتَّاب الذين يؤلفون الكتب. إنها تبحث عن كل شيءٍ كُتِب عن موضوعٍ مُعين، وبعد أن تحشو رأسها بالحقائق حتى تصِل إلى حدِّ الانفجار، تذهب إلى عميلها وتتقيَّأ بكل شيءٍ وتحشو رأسه بالمعلومات، وفي النهاية يذهب هو إلى المطبعة ليتقيَّأ.»
قالت ابنته: «يا له من وصفٍ مُثير للغثيان! ورغم ذلك، هذا ما بلغ إليه الأمر. أنا موظفة روتينية بالمكتبة، أجمع الطعام لأُسُود الأدب. هل هذا واضح تمامًا؟»
«تمامًا. ولكن لا أظنُّ أنني فهمتُ موضوع حشو الهكسوس.»
«أوه، لم يقصد حشو الهكسوس بالمعنى الحرفي للكلمة. وإنما حشو رأس الكاتب! هذا كان مجرد غموض في الكلام من جانب أبي. الوضع كالآتي: رئيس شمامسة مُوقَّر يكتب مقالًا عن النبي يوسف …»
قاطعها السيد بيلينجهام قائلًا: «ولم يكن يعرف شيئًا عنه، وعثر على مُتخصصة بالصدفة، تعرِف كلَّ شيء، ثم تتضايق …»
قالت الآنسة بيلينجهام: «لا شيء من هذا القبيل. هو يعرف بقدْر ما يتعين على الشمامسة المُوقَّرين معرفته؛ ولكن المتخصص يعرف أكثر. ولذا، كلفني رئيس الشمامسة بجمع المواد المطبوعة التي كُتِبت عن الدولة المصرية في نهاية حُكم الأسرة السابعة عشرة، وهو ما فعلته؛ وغدًا سأذهب وأحشو رأسه، كما وصف والدي، ثم …»
قاطعها السيد بيلينجهام قائلًا: «ثم، سينطلق رئيس الشمامسة ويُمطر هذه المُتخصصة بوابلٍ من الهكسوس وسقنن رع ورعاع الأسرة السابعة عشرة. يا إلهي، سيكون هناك عراك، أستطيع أن أقول لكِ ذلك.»
عقبت الآنسة بيلينجهام قائلة: «أجل، أتوقع أن يكون هناك مناوشة.» وبالتالي، بعد أن أُغلق الموضوع قامت الآنسة بيلينجهام بهجومٍ حماسي على الخُبز المحمص بينما أنعش والدها نفسه بتثاؤبٍ هائل.
راقبتها بإعجابٍ شديد واهتمام عميق ومتزايد. ورغم شحوبها وعينيها المُرهقتَين ووجهها المُنهَك والمتعب، كانت فتاة جميلة بدرجةٍ بالغة؛ كان في أسلوبها ما يوحي بالعزيمة والقوة والشخصية التي تُميزها عن باقي النساء. كنتُ ألاحظ هذا حين أختلس نظرةً عابرة إليها أو حين أرد على ملاحظة موجهة إليَّ؛ كما لاحظت أيضًا أن حديثها، رغم ما به من نبرة الاكتئاب عمومًا، لم يختفِ منه حسُّ الدعابة والسخرية. كانت شابة يُحيط بها الغموض؛ ولكنها بلا شك مثيرة جدًّا للاهتمام.
وعندما انتهت من وجبتها وضعت الصينية جانبًا، وفتحت الحقيبة الرثة وهي تسألني:
«هل أنت مهتم بالتاريخ المصري؟ نحن مهتمون بالموضوع إلى حدِّ الجنون. يبدو أنه مرض وراثي في العائلة.»
أجبتها قائلًا: «لا أعرف عنه الكثير؛ الأبحاث الطبية تستحوذ على تفكيري بدرجةٍ كبيرة ولا تفسح المجال أمام القراءات العامة.»
قالت: «بالطبع، لا يمكنك أن تتخصص في كل شيء. ولكن إذا كنتَ مُهتمًّا بمعرفة كيف تسير وتيرة عمل موظفة روتينية بالمكتبة، فسأعرض عليك ملاحظاتي.»
قبلتُ العرض بحماس (وأخشى أن أقول إن هذا ليس بدافع التحمُّس الصرف للموضوع)، وأخرجَتْ من الحقيبة أربعة دفاتر ذات أغلفة زرقاء اللون من القطع المتوسط، كل دفتر منها يتناول أسرةً من أربع أُسَرٍ حاكمة؛ من الأسرة الرابعة عشرة إلى الأسرة السابعة عشرة. وبينما كنت أتصفح المُقتطفات المُنمقة والمنظمة التي ملأت هذه الدفاتر، ناقشنا التعقيدات الخاصة بالفترة العصيبة والمُربكة التي تغطيها، وأخذنا نخفض صوتينا تدريجيًّا حين أغلق السيد بيلينجهام عينيه وأمال رأسه على ظهر كرسيه. وكنا قد وصلنا إلى الفترة الحرجة لحكم أبي فيس الثاني حين اخترق شخير مدوٍّ الهدوء الجاد للغرفة، وجعلنا ننطلق في نوبة ضحك صامت.
«أتى الحوار معك بثماره.» قالتها هامسةً لي وأنا التقط قُبعتي خلسة، وسِرنا معًا على أطراف الأصابع إلى الباب وفتحتْه دون أن تُحدث صوتًا. وما إن خرجنا من الغرفة حتى تحرَّرت من أسلوبها المازح وقالت بجدية بالغة:
«كم كان لطيفًا منك أن تأتي وتزوره الليلة. لقد أسديتَ له معروفًا كبيرًا، وأنا مُمتنَّة لك جدًّا. طابت ليلتك!»
صافحتْني بحرارة بالغة، ونزلتُ السُّلم الذي يُصدر صريرًا تغمرني موجة من السعادة التي لا أعرف سببها.