زائر من لينكولينز إن
لا يستطيع المرء في سنِّ السادسة والعشرين أن يدَّعي بلوغه مكانة ذوي الخبرة. ورغم ذلك، كانت المعرفة بالطبيعة البشرية التي تراكمَت في تلك الفترة الوجيزة من عمري كافيةً لتجعلني واثقًا من أنني سأستقبل الآنسة أومان في وقتٍ ما أثناء المساء. والظروف أثبتت صحة توقُّعاتي؛ فما إن تجاوزَت عقارب الساعة السابعةَ مساءً بدقيقتين، حتى أعلنت دقَّة تحذيرية على باب العيادة قدومها.
أوضحَتْ، وأنا أمنع نفسي عن الضحك على الصدفة الغريبة، قائلة: «كنتُ أمرُّ بالصدفة وظننتُ أنه ربما يكون من المناسب أن أمرَّ وأسمع ما كنتَ تودُّ أن تسألني عنه.»
جلستْ على كرسي المَرضى ووضعتْ كومةً من الجرائد على المكتب، وهي تُحدق بي في ترقُّب.
قلت: «شكرًا لكِ، آنسة أومان. يَسرُّني جدًّا أن تهتمي بأمري. أشعر بالخجل لأنني تسببتُ في إزعاجك بخصوص مسألة تافهةٍ كهذه.»
نقرتْ بمفاصل أصابعها على المكتب بفارغ الصبر.
وقالت بنبرةٍ لاذعة:
«لا تكترث بإزعاجي. ما … الذي … تود … أن … تسألني … عنه؟»
عبَّرت عن الصعوبات التي تُواجهني بخصوص حفل العشاء، وبينما كنتُ أتابع حديثي، علا قسمات وجهها تعبيرٌ بالاشمئزاز وخيبة الأمل.
قالت باقتضاب: «لا أرى الداعي وراء تصرُّفك على نحوٍ غامض جدًّا بخصوص هذا الأمر.»
«لم أقصد أن أكون غامضًا؛ وإنما حرصتُ على عدم إفساد الأمر. من السهل جدًّا إظهار عدم الاهتمام بملذَّات المائدة، ولكن ثمة فضيلة عظيمة في تقديم مأدبة رائعة حقًّا، ولا سيما حين يكون النمط السائد للحياة اليومية هو مستوى المعيشة المُنخفض ومستوى التفكير الراقي.»
قالت الآنسة أومان: «كلام فظ ولكنه حقيقي جدًّا.»
«حسنًا. الآن، إذا تركتُ الإدارة للسيدة جامر، فإنها على الأرجح ستعدُّ يخنةً إيرلندية ذات رقائق مُتخثرة فوقها طبقات الدهن، وسجق مُشحم لدِن أو شيء من هذا القبيل، وستقلب المنزل رأسًا على عقب حتى تُجهز كل شيء. ولذا فكرتُ في إعداد مائدة أطعمةٍ باردة، وجلب كلِّ شيء من الخارج. ولكني لا أرغب في أن يبدو الأمر وكأني قمتُ بتحضيراتٍ هائلة.»
قالت الآنسة أومان: «لن يظنُّوا أنَّ الطعام هبط من السماء.»
«كلَّا، لا أفترض أنهم سيظنون ذلك. ولكنك تفهمين قصدي. حسنًا، ما المكان الذي تنصحينني بالذهاب إليه للحصول على المواد الخام للمناسبات الاجتماعية؟»
فكَّرت الآنسة أومان مليًّا وجاء قرارها النهائي: «من الأفضل أن تدعني أتسوَّق وأُدير الأمر برمَّته.»
كان هذا ما أردتُه بالضبط، ولذا قبلتُ بامتنان، دون اعتبارٍ لمشاعر السيدة جامر. أعطيتها جُنيهَين، وبعد بعض الاحتجاجات من جانبها على إسرافي، وضعَتْهما في حقيبتها. وهي عملية استغرقت وقتًا نظرًا لأن تلك الحاوية كانت مُحمَّلة بكومة من عينات الأقمشة وأطراف الأشرطة ومشط أزرار من الكتان وخطافات وعروات وكتلة من شمع عسل النحل، وقلم رصاص مقروض، وغيرها من الأغراض البسيطة الأخرى التي نسيتُها، بالإضافة إلى كونها أشبه بنموذجٍ مُصغر لأرشيف الفواتير المُهترئة التي عفا عليها الزمن. وبينما كانت تغلق الحقيبة مُعرِّضةً إيَّاها لخطر داهم مُتمثل في اقتلاع أحزمتها، نظرت إليَّ في صرامةٍ وزمَّت شفتيها.
وعلقَت قائلة: «أنت شاب تحظى بقبولٍ كبير.»
سألتها: «ما الذي يجعلكِ تقولين ذلك؟»
تابعَت قائلة: «التسكُّع في المتاحف مع شابةٍ جميلة تحت ذريعة أداء مُهمة عمل. عمل، بكل تأكيد! أوه، لقد سمعتُها تتحدَّث مع والدها عن ذلك. هي تظن أنك مُنبهر تمامًا بالمومياوات والقطط المُحنطة وكتل الأحجار وغيرها من النفايات. إنها لا تعرف مدى خداع الرجال.»
اندفعتُ قائلًا: «صدقًا، آنسة أومان.»
ردَّت بعنف قائلة: «أوه، لا تُخاطبني! يمكنني أن أرى كل شيء. لا يمكنك خداعي. يمكنني أن أراك تُحدِّق في تلك الصناديق الزجاجية، حاثًّا إيَّاها على الحديث والاستماع إليها مشدوهًا بفمٍ فاغر وعين جاحظة جالسًا عند قدمَيها. أليس كذلك؟»
قلت: «أنا لا أعرف شيئًا بخصوص الجلوس عند قدمَيها رغم أن هذا سهل الحدوث بسبب الأرضيات الزلِقة اللعينة؛ ولكني قضيتُ وقتًا رائعًا جدًّا، وأنوي أن أذهب مرةً أخرى إذا استطعت. الآنسة بيلينجهام هي أذكى وأبرع امرأة تحدثتُ إليها على الإطلاق.»
كان هذا لغزًا بالنسبة إلى الآنسة أومان، التي كانت تضاهيني بالدرجة نفسها من الإعجاب والولاء. كانت تودُّ أن تُعارضني، ولكن كان هذا أمرًا مُستحيلًا. ولكي تُغطي على هزيمتها سحبت كومةً من الصحف وبدأت تفتحها.
وباغتتني بالسؤال: «ما الذي تعنيه «الاستحالة»؟»
قلت مُتعجبًا: «استحالة!»
«أجل، لقد عثروا على قطعةٍ منها في عظام اكتُشفت في بحيرة سانت ماري كراي، وقطعة أُخرى مشابهة عُثر عليها في أماكن أخرى في إيسيكس. الآن، أود أن أعرف ماذا تعني «الاستحالة».»
قلتُ بعد تفكير عميق: «لا بدَّ أنك تقصدين «الاستعاجة».»
«الصحف تقول «استحالة»، وأظنُّ أنهم يعرفون ما الذي يتحدَّثون عنه. إذا كنت لا تعرف ما هذا، فلا تخجل أن تقول.»
«حسنًا، لا أعرف إذن.»
قالت بنبرةٍ غير منطقية: «في تلك الحالة، حريٌّ بك أن تقرأ الصحف وتكتشِف بنفسك.» ثم أعقبت قائلة: «هل أنت مُولَع بجرائم القتل؟ أنا مُولعة بها إلى أبعدِ حد.»
هتفتُ قائلًا: «لا بدَّ أنك شريرة صغيرة صادمة!»
حدجتْني بنظراتٍ حادة ثم قالت: «سأُكبِّدك العناء لتكون أكثرَ احترامًا في كلامك. ألا تُدرك أنني كبيرةٌ بما يكفي لأكون في مقام والدتك؟»
اعترضتُ بشدة: «مستحيل!»
قالت الآنسة أومان: «بلى، هي حقيقة.»
قلت: «حسنًا، على أي حال. السنُّ ليس المؤهل الوحيد لهذا. بالإضافة إلى أنه قد فات الأوان على قيامك بهذه الوظيفة. الوظيفة ليست شاغرة.»
قذفت الآنسة أومان الصحف على الطاولة ووقفت فجأة.
قالت بحدَّة وهي تهمُّ بالخروج: «حريٌّ بك أن تقرأ الصحف وترى ما إذا كان بإمكانك اكتساب قدرٍ قليل من الوعي. أوه، ولا تنسَ الإصبع!» ثم أضافت بحماس قائلة: «هذا مُثير حقًّا.»
كرَّرتُ كلمتها: «الإصبع؟»
«أجل، لقد عثروا على يدٍ مبتورة الإصبع. الشرطة تظنُّ أنه دليل مهم. لا أعرف ماذا يقصدون؛ ولكن اقرأ التقرير وقل لي ما رأيك.»
وبهذا التعليق انصرفت وخرجت مُسرعة من العيادة، تبعتُها لأودِّعها وداعًا احتفاليًّا على عتبة الباب. رأيتُ قوامها الضئيل يمشي بخُطًى سريعة كعصفورةٍ في اتجاه حارة فيتر، وكنتُ بصدد العودة إلى العيادة، حين جذب انتباهي تحركات رجل عجوز على الجانب المقابل من الشارع. كان رجلًا غريب المظهر، طويل القامة، نحيف القوام، وهزيلًا؛ والطريقة التي يحمل بها رأسه تُوحي للعقلية الطبية أنه يُعاني بوضوح من قِصر النظر ويرتدي نظارة طبية «سميكة». فجأة لمَحني وعبَر الطريق وهو يمدُّ ذقنه إلى الأمام ويوجِّه عينيه الزرقاوين نحوي عبر عدستَي نظارته الطبية.
قال بتحية مهذبة: «أتساءل عما إذا كان بإمكانك مساعدتي. أودُّ أن أزور أحد المعارف، ولكني نسيتُ عنوانه. هو في أحد الأزقة ولكن اسم ذلك الزقاق غاب عن ذهني لدقيقة. اسم صديقي هو بيلينجهام. أفترض أنك ربما تعرفه؟ القاعدة تقول إن الأطباء يعرفون الكثير من الناس.»
«هل تقصد السيد جودفري بيلينجهام؟»
«أها! إذن أنت تعرفه. لم أقصد عبثًا نصيحة الشخص العليم. لا شكَّ أنه أحد مرضاك؟»
«مريض وصديق شخصي. عنوانه ٤٩ نيفيلز كورت.»
«شكرًا لكَ، شكرًا لكَ. أوه، وبما أنك صديق، ربما يمكنك أن تُطلعني على عادات أهل البيت. مجيئي ليس متوقَّعًا ولا أرغب في القيام بزيارة مفاجئة. ما هي عادات السيد بيلينجهام بخصوص وجبة العشاء؟ هل هذا وقتٌ مناسب للزيارة؟»
«بوجهٍ عام، أقوم بزياراتي المسائية بعد ذلك بقليل؛ في حدود الساعة الثامنة والنصف مثلًا؛ سيكونون حينئذٍ قد فرغوا من وجبتهم.»
«أها! الساعة الثامنة والنصف إذن؟ حسنًا، أعتقد أنه من الأفضل أن أتمشَّى حتى ذلك الحين. لا أريد إزعاجهم.»
«هل تودُّ الدخول وتدخين سيجار حتى يأتي موعد زيارتك؟ إذا كنتَ تودُّ ذلك، يُمكنني أن أسير معك وأريك المنزل.»
قال رفيقي الجديد وهو يرمُقني بنظرةٍ فضولية عبر نظارته الطبية: «هذا كرم بالِغ من جانبك. أظنُّ أنني أودُّ الجلوس. التجوُّل في الشوارع هو نشاط مُمل لتمضية الوقت، وليس لديَّ مُتسع من الوقت للعودة إلى مسكني بمنطقة لينكولينز إن.»
قلت وأنا أقوده إلى الغرفة التي خرجت منها الآنسة أومان قبل قليل: «تُرى هل أنت السيد جيليكو؟»
التفت إليَّ بنظارته الطبية وهو يرمقني بنظرةٍ فاحصة ومُتشككة، وسألني قائلًا: «ما الذي جعلك تظن أنني السيد جيليكو؟»
«أوه، لأنك تعيش في لينكولينز إن وحسْب.»
«أها! فهمت. أنا أعيش في منطقة لينكولينز إن؛ والسيد جيليكو يعيش في لينكولينز إن؛ إذن أنا السيد جيليكو. ها! ها! منطق فاسد، ولكنْ استنتاج صحيح. أجل، أنا السيد جيليكو. ما الذي تعرفه عنِّي؟»
«القليل جدًّا، باستثناء أنك كنتَ وكيل أعمال الراحل جون بيلينجهام.»
««الراحل جون بيلينجهام» مرحى! كيف عرفتَ أنه الراحل جون بيلينجهام؟»
«في الواقع، لا أعرف، كل ما فهمته أن هذا هو اعتقادك الخاص.»
«فهمته! حسنًا، ممَّن فهمت ذلك؟ من جودفري بيلينجهام؟ ها! وكيف عرف ما أعتقده؟ لم أخبره بذلك قط؟ من الخطير جدًّا، يا سيدي العزيز، أن تُفشي معتقدات شخصٍ آخر.»
«إذن، أنت تعتقد أن جون بيلينجهام على قيد الحياة!»
«هل أعتقد ذلك فعلًا؟ من قال ذلك؟ لم أقل، كما تعرف.»
«لكن لا بدَّ أنه ميت أو حي.»
قال السيد جيليكو: «أنا أتفق معك هنا. لقد ذكرتَ حقيقة لا يمكن إنكارها.»
أجبته ضاحكًا: «رغم أنها ليست كاشفةً لشيء.»
ردَّ بحسم قائلًا: «الحقائق التي لا يمكن إنكارها عادةً لا تكون كاشفة. هي عُرضة لتكون حقائق عامة جدًّا. في الواقع، أؤكد لك أن حتمية الحقيقة الخاصة بافتراض مُعين تتناسب طرديًّا وبصفة مباشرة مع عموميتها.»
قلت: «أعتقد أن هذا هو الحال.»
«بالتأكيد. خُذ مهنتك مثالًا. افترض أن لدينا مليون شخصٍ طبيعي تحت سن العشرين، يمكنك أن تقول بثقةٍ إن أغلبيتهم سيموتون قبل بلوغ سنٍّ مُعينة، وسيموتون تحت ظروف معينة وبأمراض معينة. ثم خذ شخصًا واحدًا من المليون، ما الذي يمكنك أن تتوقعه بخصوصه؟ لا شيء. لعله يموت غدًّا، ولعله يعيش مائتي عام. لعله يموت بنزلة بردٍ تؤثر على دماغه أو بتر إصبع أو السقوط من فوق برج كاتدرائية سانت بول. على وجه التحديد، لا يمكنك توقُّع شيء.»
قلت: «هذا صحيح تمامًا.» ثم أدركتُ أنه تم تشتيت انتباهي عن موضوع جون بيلينجهام، وغامرت بالعودة إلى الموضوع مرة أخرى.
«إنها مسألة غامضة جدًّا؛ أقصد اختفاء جون بيلينجهام.»
سأل جيليكو: «لماذا الغموض؟ الرجال يختفون من وقتٍ إلى آخر، وحين يظهرون مرة أخرى، فإن التفسيرات التي يُقدمونها (ذلك إذا قدَّموها من الأساس) تبدو مقبولة لا أكثر ولا أقل.»
«لكن الظروف كانت غامضة بلا أدنى شك.»
تساءل جيليكو: «أي ظروف؟»
«أقصد الطريقة التي اختفى بها من منزل السيد هيرست.»
«وما الطريقة التي اختفى بها من منزله؟»
«حسنًا، بالطبع، لا أعرف.»
«ولا أنا على وجه التحديد. وبالتالي، لا يمكنني أن أُبين ما إذا كانت الطريقة غامضة أم لا.»
علقتُ بدون انتباه وقلت: «ليس من المؤكد حتى أنه غادر المنزل.»
قال جيليكو: «بالضبط، وإذا كان لم يُغادر، فإنه لا يزال هناك. وإذا كان لا يزال هناك، فإنه لم يختفِ بالمعنى المفهوم. وإذا كان لم يختفِ، فإنه ليس هناك لغز.»
ضحكت من كل قلبي، ولكن ظلَّ السيد جيليكو محافظًا على ملامح مُتبلدة ووقورة وواصَل فحصه إيَّاي عبر نظارته الطبية (التي عاينتها وقدرتُ مقاسها بحوالي سالب خمسة ديوبتر). ثمَّة شيء مُسلٍّ جدًّا بخصوص هذا المحامي الحادِّ الطباع، بشراسته الجافة وحذَرِه الساخر. تحفُّظه البالغ شجعني لأُمطره بوابلٍ من الأسئلة الجديدة، وكلما كانت حمقاء، كان ذلك أفضل.
قلت: «أفترض أنه في ظل هذه الظروف، لن تُساند عرض السيد هيرست لتقديم التماسٍ بافتراض حدوث الوفاة؟»
تساءل قائلًا: «تحت أي ظروف؟»
«كنتُ أشير إلى الشك الذي أعربتَ عنه بخصوص ما إذا كان جون بيلينجهام ميتًا على أي حال.»
قال: «سيدي العزيز، لا أستطيع أن أفهم وجهة نظرك. لو كان من المؤكد أن الرجل على قيد الحياة، لكان من المُستحيل افتراض أنه ميت، ولو كان من المؤكد أنه مَيت، فإن افتراض الوفاة يظل مُستحيلًا أيضًا. لا يمكنك افتراض حقيقةٍ يقينية؛ الشك هو جوهر العملية.»
قلتُ في إصرار: «ولكن، إذا كنتَ تعتقد فعلًا أنه ربما يكون على قيد الحياة، ما كان ينبغي لي أن أظن أنك ستتولَّى مسئولية افتراض وفاته وتوزيع مُمتلكاته.»
قال السيد جيليكو: «لم أتولَّ أي مسئولية. أنا أتصرف وفقًا لقرار المحكمة وليس لديَّ خيار في هذه المسألة.»
«ولكن ربما تُقرر المحكمة أنه ميت ومع ذلك لعلَّه على قيد الحياة.»
«كلَّا البتة. إذا قررت المحكمة أنه على الأرجح ميت، إذن فهو على الأرجح ميت. ولعلَّه على قيد الحياة، حقًّا، في ظل ظرفٍ مادي غير ذي صِلة بالموضوع. ولكن من الناحية القانونية، ولأغراضٍ متعلقة بالوصية، هو ميت. لا شكَّ أنك لا تستطيع إدراك الفارق، أليس كذلك؟»
قلتُ مُعترفًا: «يؤسفني أن أعترف بذلك.»
«أجل، عادة ما لا يُدرك أبناء مِهنتك ذلك الأمر. وهذا ما يجعلهم شهودًا سيِّئين أمام أي محكمة قانونية؛ فوجهة النظر العلمية مُختلفة عن وجهة النظر القانونية اختلافًا جذريًّا. تجد أن رجل العلم يعتمد على معرفته الخاصة وملاحظته وحُكمه على الأمور، ولا يلتفتُ إلى الشهادة. أنت مثلًا يأتيك رجل ويُخبرك بأنه يعاني من العمى في عينٍ واحدة. هل تقبل شهادته؟ لا تقبلها مُطلقًا؛ وإنما تبدأ في فحص بصره باستخدام جهازٍ ذي عدسات ملونة، وتكتشف أنه يستطيع أن يرى جيدًا بكلتا العينين. ومِن ثَم تُقرر أنه لا يعاني من العمى، هذا يعني أنك ترفض شهادته لصالح الحقائق التي تأكدتَ منها.»
«ولكن هذه بالتأكيد طريقة عقلانية للتوصُّل إلى نتيجة.»
«لا شك هي كذلك من وجهة نظر العلم؛ ولكنها ليست كذلك من وجهة نظر القانون. لا بدَّ أن تقرر المحكمة وفقًا للأدلة المعروضة عليها، وهذه الأدلة لها طبيعة الشهادة المشفوعة بقسَم. إذا كان الشاهد على استعدادٍ ليُقسِم على أن الأسوَد هو أبيض بدون تقديم أدلة على العكس، فإن الأدلة المعروضة أمام المحكمة تقول إن الأسود هو أبيض وتُقرر المحكمة وفقًا لذلك. القاضي وهيئة المُحلفين ربما يعتقدون العكس — بمعنى أنه ربما يكون لديهم معرفة خاصة بالعكس — ولكنهم لا بدَّ أن يُقرِّروا وفقًا للأدلة.»
«هل تقصد أن تقول إنه سيكون لدى القاضي ما يُبرر إصدار حُكم يعلم أنه مُنافٍ للحقائق؟ أو لعله يحكُم على رجل يعرف أنه بريء؟»
«قطعًا. هذا يحدُث. ثمة قضية حكم القاضي فيها بإعدام رجلٍ وسمح بتنفيذ الحُكم، رغم أن القاضي رأى رجلًا آخر نفَّذ الجريمة؛ وهذا هو الالتزام بتطبيق الإجراءات إلى حدِّ التحذلُق.»
قلتُ له موافقًا الرأي: «حدث هذا بهدف الثأر، ولكن بالعودة إلى قضية جون بيلينجهام. لنفترض أنه بعد أن تُقرر المحكمة وفاته، يعود إلى قيد الحياة. ماذا بعد؟»
«أها! سيحين دوره ليقدِّم التماس، وبناء على الدليل المعروض أمام المحكمة، ستحكُم بأنه على قيد الحياة على الأرجح.»
«وفي الوقت نفسه ستكون مُمتلكاته قد تم توزيعها؟»
«ستُوزَّع على الأرجح. ولكنك ستلاحظ أن قرينة الوفاة نشأت من إجراءاته الخاصة. فإذا تصرَّف المرء بطريقة مُعينة ليُوحي بأنه ميت، فلا بدَّ أن يتحمَّل العواقب.»
قلت: «أجل، هذا منطقي بالقدْر الكافي.» ثم سألته بعد توقُّفٍ قصير: «هل ثمَّة أي احتمالات مباشرة للشروع في أي إجراءات من هذا النوع؟»
«فهمتُ مما قلتَه توًّا أن السيد هيرست كان يفكر في أخذ إجراءٍ ما من هذا النوع. لا شك أن لديك معلومات من جهاتٍ موثوق فيها.» هذه هي الإجابة التي قدمها السيد جيليكو بملامح جامدة، رامِقًا إيَّاي في ثبات تمثالٍ يرتدي نظارة طبية.
ابتسمتُ ابتسامةً واهنة. كانت عملية استنطاق السيد جيليكو أشبهَ بلعب رياضة الملاكمة مع حيوان النيص، لكونه نموذجًا رائعًا على قوة المقاومة السلبية. ورغم ذلك، صممتُ على بذل المزيد من الجهد، في رأيي، من أجل متعة مشاهدة مناوراته الدفاعية أكثر من التوقع بالخروج منه بشيء. ومن ثم، «فتحت» موضوع «الرفات».
سألته قائلًا: «هل تابعتَ الاكتشافات الرائعة لعظامٍ بشرية، التي ظهرت على صفحات الجرائد؟»
نظر إليَّ نظرةً جامدة لبضع لحظات، ثم ردَّ قائلًا:
«العظام البشرية هي ضمن اختصاصك أكثر من كونها اختصاصي أنا، ولكن طالما أنت تذكُر الموضوع، أظن أنني أتذكَّر قراءة شيءٍ عن مثل هذه الاكتشافات. أعتقد أنها عظام مُتفرقة.»
«أجل، من الواضح أنها أجزاء من جسدٍ مُقطع إلى أشلاء.»
«افترضتُ هذا. كلَّا، لم أتابع الروايات. وكلما تتقدَّم بنا الحياة تنزِع اهتماماتنا إلى الروتين، وروتيني الخاص مُرتبط بقوانين نقل الملكية. وهذه الاكتشافات من شأنها أن تكون أكثر من اهتمامات المحامي الجنائي.»
«أظنُّ أنك ربما ربطتَ بين هذا وبين اختفاء موكلك؟»
«ولماذا ينبغي عليَّ أن أفعل؟ وماذا تكون طبيعة الرابط بينهما؟»
قلت: «حسنًا، إنها عظام رجل …»
«أجل، وموكلي رجل ذو عظم. بالتأكيد، هذا هو الرابط، رغم أنه ليس مُحددًا أو مميزًا جدًّا. ولكن ربما يخطر على بالك شيءٌ أكثر تحديدًا؟»
أجبتُ قائلًا: «خطر فعلًا؛ بدت لي حقيقة أن بعض العظام اكتُشفت في أرضٍ يمتلكها موكلك ذات أهمية بالغة.»
قال السيد جيليكو: «حقًّا؟» فكَّر مليًّا لبضع لحظات، وهو يُحدق بي في ثباتٍ لبعض الوقت، ثم تابع قائلًا: «لا أستطيع فهمك في هذا الصدد. بل يبدو الأمر بالنسبة إليَّ أن العثور على رفاتٍ بشَري في قطعة أرض مُعينة قد يُثير الشك المبدئي في مالك الأرض أو شاغلها باعتباره الشخص الذي قام بدفنها. ولكن الحالة التي تفترضها هي حالة من شأنها أن تكون مُستحيلة. لا يستطيع المرء أن يدفن أشلاءه المبتورة.»
«كلَّا، بالطبع لا. أنا لا أفترض أنه دفنها بنفسه، ولكن حقيقة أنها مدفونة في أرضه، تجعل ثمة رابط، بطريقةٍ ما، بينه وبين هذه الأشلاء.»
قال السيد جيليكو: «مرة أخرى، لا أستطيع فهمك، ما لم تكن تفترِض أنه من عادة القتَلة الذين يُشوهون الجثث أن يحرصوا على دفن الأشلاء المبتورة في أراضٍ يملكها ضحاياهم. وفي تلك الحالة، أشكُّ في حقائقك. أنا لا أُدرك وجود مثل هذه العادات. علاوة على ذلك، يبدو أن جزءًا من الجثة فقط دُفن في أرض السيد بيلينجهام، أما الأجزاء المُتبقية فقد نُثرت على مساحةٍ شاسعة. إلى أي مدًى يتَّفق هذا مع فرضيتك؟»
صرَّحت قائلًا: «قطعًا، لا تتَّفِق. ولكن ثمة حقيقة أُخرى أظن أنك ستعترف بكونها أكثر أهمية. الأشلاء الأولى التي تم اكتشافها وُجدت في سيدكوب. وسيدكوب قريبة من إلثام؛ وإلثام المكان الذي شُوهد فيه السيد بيلينجهام على قيد الحياة آخِر مرة.»
«وما أهمية ذلك؟ لماذا تربط الأشلاء بمكانٍ واحد بدلًا من الأماكن الأخرى المختلفة التي وُجدت فيها أجزاء أخرى من الجثة؟»
أجبتُ وأنا أشعر بالارتباك الشديد من هذا السؤال وثيق الصلة بالموضوع قائلًا: «حسنًا، المظاهر تُوحي بأن الشخص الذي دفن هذه الأشلاء بدأ من عند ضاحية إلثام، حيث شُوهد الرجل المفقود.»
هزَّ السيد جيليكو رأسه قائلًا: «يبدو أنك تخلط بين الترتيب الزمني للدفن والترتيب الزمني للاكتشاف. ما الدليل على أن الأشلاء التي عُثر عليها في سيدكوب دُفنت قبل تلك الأشلاء التي عُثر عليها في أماكن أخرى؟»
قلتُ مصرِّحًا: «لا أعرف أنَّ هناك أماكن أخرى.»
قال: «إذن، لا أرى كيف تدعم فرضيتك بأن الفاعل بدأ من ضاحية إلثام.»
وبعد تفكيرٍ في الأمر، كنتُ مضطرًّا للاعتراف بأنه ليس لديَّ ما يدعم نظريتي؛ وبما أني أطلقتُ سهمي الأخير في هذه المسابقة غير المتكافئة، فقد ظننتُ أنه حان الوقت لتغيير الموضوع.
قلت: «زرتُ المتحف البريطاني أمس، وألقيتُ نظرة على الهدية الأخيرة التي قدمها السيد بيلينجهام إلى الأمة. لقد عُرضت المُقتنيات على نحوٍ جيد جدًّا في نافذة عرض رئيسية.»
«أجل، سعدتُ جدًّا بالموقع الذي خصَّصوه للعرض، ولا بدَّ أن صديقي المسكين كان سيسعد بالشيء نفسه. تمنَّيت وأنا ألقي نظرةً على نافذة العرض أن يكون بإمكانه أن يراها. ولعلَّه يفعل على أي حال.»
قلتُ بنبرة مُخلصة، ربما أكثر ممَّا يشيد به المحامي لصالحي: «حتمًا آمُل أنه سيفعل؛ نظرًا لأن عودة جون بيلينجهام من شأنها أن تفرج كربات صديقي جودفري بفعاليةٍ كبيرة.» ثم أضفتُ قائلًا: «أنت مُهتم جدًّا بعلم الآثار المصرية، أليس كذلك؟»
أجاب السيد جيليكو بحيويةٍ أكثر مما كنتُ أظنها مُمكنةً لوجهه الخالي من التعبيرات قائلًا: «مُهتم للغاية؛ إنه موضوع مذهل، أقصد دراسة مثل هذه الحضارة المهيبة، والعودة إلى طور طفولة الجنس البشري، تحفظها الأبدية لكي ندرُس آثارها التي لا تتغير، وكأن الزمن عجز عن تغييرها وأبقاها حتى عصرنا الحالي. كل شيء مرتبط بمصر يزخَر بهيبةٍ مثيرة للإعجاب. ينتشر في ربوعها شعور بدوامٍ واستقرارٍ يتحدَّى الزمن والتغيير. المكان والأشخاص والآثار، على حدٍّ سواء، تبعث في النفس معاني الخلود.»
أدهشتني كثيرًا هذه البلاغة المنهمرة من جانب هذا المحامي المُتحفِّظ في كلامه والجاف في ردوده. ولكن أعجبتُ كثيرًا بهذا الحماس الذي جعله يُظهِر الجانب الإنساني منه، وعزمتُ على متابعة الحديث عن هوايته.
قلت: «أجل، لا بدَّ أن الناس تغيَّروا على مدى قرون.»
«أجل، حدث ذلك. الشعب الذي حاربَ ضدَّ قمبيز لم يكن الجنس نفسه الذي سار إلى مصر قبل خمسة آلاف سنة مضت؛ الأسرة الحاكمة التي نرى صورها على الآثار القديمة؛ ففي تلك القرون الخمسة، لا بدَّ أن دماء الهكسوس والسوريين والإثيوبيين والحيثيين، والله أعلم بعدد السلالات الأخرى، امتزجتْ مع دماء قدماء المصريين. ورغم ذلك، استمرت الحياة القومية دون انقطاع؛ الثقافة القديمة أضافت إلى الشعوب الجديدة، والغرباء المهاجرون صاروا في النهاية مصريين. إنها ظاهرة رائعة. وبالنظر إلى الأمر من منظور وقتنا الحالي، يبدو أنه أشبه بحقبةٍ جيولوجية أكثر من كونها تاريخ حياة أمةٍ واحدة. هل أنت مُهتم بالموضوع من الأساس؟»
«أجل، قطعًا، رغم أنني أجهله تمامًا. الحقيقة أن اهتمامي زاد مُؤخرًا جدًّا. لم أدرك بريق الآثار المصرية إلا مؤخرًا.»
«ربما منذ أن تعرَّفت على الآنسة بيلينجهام!» قال السيد جيليكو تلميحَه هذا بوجهٍ ثابت كتمثالٍ مصري قديم.
أظنُّ أن وجنتيَّ احمرَّتا خجلًا — بالتأكيد شعرتُ بالاستياء من الملاحظة — لأنه واصل حديثه بالنبرة الهادئة نفسها قائلًا: «ألمحتُ إلى هذا لأني أعرف أن لديها اهتمامًا بارعًا بهذا الموضوع. في الواقع هي على دراية واسعة بالموضوع.»
«أجل، يبدو أنها تعرف الكثير عن الآثار المصرية. ولعلِّي أعترف أيضًا بأن تخمينك كان في محله. إنها هي التي أرتني مجموعة مُقتنيات عمِّها.»
قال السيد جيليكو: «كما افترضت، ويا لها من مجموعةٍ مفيدة للغاية، بالمفهوم الدارج؛ مناسبة جدًّا للعرض في مُتحفٍ عام، رغم أنها لا شيء فيها يُثير الاهتمام الاستثنائي بالنسبة إلى الخبراء. أثاث المقبرة ذو نوعية ممتازة والصندوق الكرتوني للمومياء ذو تصميمٍ جيد ومُزخرف بدقة بالِغة.»
«أجل، أظنُّ أنه رائع جدًّا. ولكن هل يمكنك أن تشرح لي لماذا، بعد تكبُّد كل هذا العناء من أجل زخرفته، ينبغي عليهم أن يُشوِّهوه بكل هذه الطبقات من مادة القار؟»
قال السيد جيليكو: «أها! هذا سؤال مُثير للاهتمام حقًّا. ليس من المُستغرَب أن تجد صناديق المومياوات مُلطخة بمادة القار؛ ثمة مومياء لقسيسةٍ موجودة في قاعة العرض المجاورة مُغطاة بالكامل بمادة القار باستثناء قناع الوجه الذهبي. مادة القار هذه وُضعت لغرضٍ مُعين؛ بغرَض طمس النقوش، وبالتالي إخفاء هوية المُتوفَّى عن السارقين ونابشي القبور. وثمة شيء غريب في هذه المومياء الخاصة بسبك حتب. من الواضح، أنه كان هناك نية لمحو النقوش؛ الظهر بأكمله كان مُغطًّى بطبقةٍ سميكة من القار، وكذلك القدمان. بيد أن العاملين بدَوا كأنهم غيَّروا رأيهم وتركوا النقوش والزخارف كما هي. والسبب وراء أنهم عزموا على تغطيتها، والسبب وراء بدئهم ثم تركهم جزءًا فقط منها مُغطًّى، بمثابة لغز. عُثر على المومياء في مقبرتها الأصلية وبحالتها المثالية، بقدْر ما يهمُّ سارقي المقابر. كان بيلينجهام المسكين في حيرةٍ كبيرة حيال التفسير المُحتمل لهذا.»
قلت: «الحديث عن مادة القار ذكرني بسؤالٍ خطر على بالي. كما تعرف هذه المادة يستخدمها عددٌ كبير من الرسَّامين المعاصرين وهي ذات طبيعة خطيرة للغاية؛ أعني أنها تميل لأن تسيل، بدون أي سببٍ واضح، بعد فترة طويلة من جفافها.»
«أجل، أعرف ذلك. أليس هناك قصة عن صورةٍ رسمَها راينولدس باستخدام مادة القار؟ صورة بورتريه لسيدة، على ما أظن. تلدَّنت مادة القار، وسالت إحدى عيني السيدة على وجنتها، واضطرُّوا إلى تعليق الصورة بالمقلوب لتبقى دافئة حتى تعود العين إلى وضعها مرةً أخرى. ولكن ما هو سؤالك؟»
«كنت أتساءل ما إذا كان الفنانون المصريون عرفوا أن مادة القار تسيل بعد هذا الفاصل الزمني الكبير.»
«أجل، أظن أنَّ الأمر كذلك. لقد سمعتُ عن نماذج سالت فيها طبقات القار تحت ظروفٍ معينة وصارت لزجةً للغاية. ولكن، ليرحمني الرب! ها أنا أثرثر معك وأُهدر وقتك، وقد اقتربت الساعة من التاسعة إلا الربع!»
قام ضيفي بسرعة، وكذلك قمت، مُعتذرًا له كثيرًا عن احتجازه، وأقدمتُ على الوفاء بوعدي لإرشاده إلى وجهته. وبينما انطلقنا معًا إلى وجهتنا تلاشى بريق مصر بدرجات، وحين صافح يدي بصلابةٍ عند بوابة منزل آل بيلينجهام، اختفى مرَحُه وحماسه تمامًا، مُتقمِّصًا شخصية المحامي المتحفظ في كلامه، الجاف في ردوده، الصموت والمتشكك بدرجة كبيرة.