كيف تعزِّز مشاعرُ الانتماءِ الأُسَري النموَّ؟
هلا تذكر على الفور أحد المسلسلات التليفزيونية، التي تتحدث عن الحياة الأسرية، استمر عرضه عشر سنوات متتالية. لا تقُلْ: «أسرة والتون» أو «عرض كوسبي». إذا فكرتَ في مسلسل «السماء السابعة»، الذي يُعد أطول مسلسل درامي أُسَري في تاريخ التليفزيون، فإنَّ تخمينك في محله. يقول الممثل ستيفن كولنز، الذي قام بأداء دور الكاهن كامدين الأب لسبعة أولاد، إن نجاح المسلسل يُعزى إلى فكرة بسيطة من نسج خيال مؤلِّفي المسلسل، وهي الإشادة بالحياة الأُسَرية؛ فقد تضمنت كلُّ حلقة نظرةً واقعيةً إلى حدٍّ ما للعلاقات بين الآباء والأبناء والأشقاء. اطَّلع المُشاهد بلمحة خاطفة على مَواطن القوة والضعف الكامنة لدى كل شخصية، وكيف أثرت هذه العلاقات في نمو كل فرد من أفراد هذه الأسرة. كان التعقيد واضحًا، ولم تَكُن الحلول يسيرة على الدوام، ولكنْ ظَلَّ الانتماءُ والترابطُ الأُسَري هو جوهرَ الحوارِ؛ فقد أَدْرَكَ كل فرد من أفراد الأسرة أهميةَ دوره لأفراد الأسرة الآخرين.
تذكَّرْ أننا تطرقنا في الفصلين الثاني والثالث إلى النمو المعرفي بداخل البيئة المنزلية وخارجها، بصفتهما المعيارَين الأساسيَّين اللذين يشيران إلى مستوى الصحة النفسية المرتقَب لدى الأطفال. ويتعلق المعيار الثالث المقترن بتحقيق نتائج إيجابية على صعيد الصحة النفسية بالأساس القوي الذي يمكن أن توفِّره الأسرة للأطفال من كافة الخلفيات الثقافية. يبدأ التطور الاجتماعي للأطفال بين جدران المنزل، وجوهر هذا الفصل هو الأبحاث المتعلقة بأساليب التربية الفعالة والعلاقات التبادلية بين الآباء وأبنائهم في إطار البيئة الأُسَرية وفي النُّظم الاجتماعية الأخرى. إن إرساء مبادئ الأخذ والعطاء في العلاقات الأُسَرية يُعد مؤشرًا للمسئولية الشخصية والعلاقات الإيجابية في الحياة لاحقًا؛ فالأطفال الذين يشاركون في نجاح الأسرة من خلال القيام بالمهام المنزلية أو من خلال المساعدة في التخطيط لنشاط ترفيهي يشعرون بأنهم جزء لا يتجزأ من الأسرة. ومن الوسائل البسيطة الأخرى التي تسهم في تعزيز شعور الطفل بالانتماء للأسرة التواصلُ بشكل فعَّال مع الأطفال، وتحديد التوقعات والمسئوليات المنتظرة منهم بشكل واضح، واستغلال دفء العلاقات في نقل هذه التوقعات إليهم. كما أن الأطفال الذين يشعرون أنهم ينتمون إلى أسرة ناجحة يتكون بداخلهم شعور بالذات، من شأنه مساعدتهم في البيئات المهمة الأخرى كالبيئة المدرسية؛ ومن ثَمَّ فإن الأساس الأُسَري المتين الذي يتضمن الدفء الأسري والحدود أمر يمكن تحقيقه. وهذا هو المفهوم الذي أطلق عليه «الانتماء».
يدرك علماء النفس أنه عند وصول الأطفال إلى مرحلة البلوغ أو سنوات المراهقة، يكون لديهم حسٌّ أُسري يمكن أن يحصِّنهم من اتخاذ بعض القرارات السيئة التي تتعلق على سبيل المثال بالتدخين وتعاطي المخدرات والممارسات الجنسية. تُعد السلوكيات المحفوفة بالمخاطر هذه أمرًا من الأمور التي على المراهقين التغلبُ عليها، ربما بصفة يومية؛ فالترابط الأسري يشبه التحصين الذي يؤدي إلى تعزيز الإيجابيات وتفادي السلوكيات التي قد تُعرِّض الأطفال لتداعيات سيئة؛ والهدف من كل هذا أن يتمتع الأطفال بصحة نفسية جيدة. فإذا ما شعر الأطفال برابطة أو انتماء شخصي لأُسَرهم، فمِن المؤكد أن شعورهم بالمسئولية نحو أنفسهم ونحو أُسَرهم سيتجسد في الارتقاء بسلوكياتهم وصحتهم النفسية.
يدرك علماء النفس أيضًا أن هذا الترابط يتطلب بعض التوجيه الهادف من جانب البالغين في مرحلة مبكرة من حياة هؤلاء الأطفال. إن تدعيمَ عملية بناء المهارات الارتباطية هذه أمرٌ ممكن، بل وفي متناوَل كل شخص، ولكن يجب أن نشير هنا إلى أن العلاقات الأسرية معقدة ولا تأتي من العدم. جدير بالذكر أن تطوير الأطفال للعلاقات يتأثر بأفراد وأحداث أخرى خارج نطاق الأسرة.
(١) الأسرة كمنظومة في السياق
يمكننا النظر إلى الأسرة باعتبارها منظومة علاقات معقدة؛ إذ يُعتقد أن السمات المميِّزة للطفل وتطوُّره ترتبط بالسمات المميزة لبقية أفراد الأسرة وتطوُّرهم. علاوة على ذلك، تقترن هذه المنظومة الأُسَرية المتطورة بإطار زمني، له أنماط تاريخية مصاحبة ذات صلة بالثقافة السائدة؛ فالمؤسسات العاملة في المجتمع لديها القدرة على إمداد الأُسَر بالمبادئ الثقافية الخاصة بالقِيَم والسلوكيات التي يُفترض أن تمثل النموذج السائد في المجتمع.
ينضم الطفل إلى الأسرة منذ لحظة ولادته أو تبنِّيه، ويتفاعل مع بقية أفراد الأسرة، وفي نهاية الأمر يلتحق الطفل بالمدرسة التي تمثِّل بالنسبة إليه بيئة جديدة تتضمن أناسًا جُدُدًا سيتعامل معهم، بما فيهم المعلمون والأقران. وتتميز هذه المدرسة بقواعد تحدد المؤهَّلِين للالتحاق بها والشركاء التربويين، إضافة إلى ما تقدمه من محتوًى تعليميٍّ، وغير ذلك من الأمور التي تحددها الأعراف الثقافية. فهناك في الولايات المتحدة على سبيل المثال عُرف ثقافي، أو اعتقاد عالي التقدير إن شئت تسميته، يقضي بأن من حق الأطفال كافة التمتع بتعليم حكومي، وأن أولياء الأمور شركاء في هذه العملية التعليمية. وقد نُقل هذا العرف الثقافي عن تعليم الأطفال إلى منظومة المدارس لتنفيذه، ويتضمن هذا العُرف الثقافي والأمل المنشود منه أن يَحدث نوع من التفاعل بين المعلمين وأولياء الأمور للارتقاء بتعليم الطفل. وفي الوقت نفسه، قد تؤدي بعض الظروف التاريخية، مثل الأزمات الاقتصادية التي يواجهها المجتمع، إلى تدنِّي الموارد المالية المخصصة للمدارس أو بطالة الآباء، ومن المتوقع أن يؤثر كلا الأمرين الناتجين عن الأزمات الاقتصادية في تعليم الأطفال أيضًا. وقد تُخفض المدارسُ التمويلَ أو تعيد ترتيب أولوياتها التمويلية؛ فقد لا يستطيع الآباء العاطلون عن العمل توفير وسائل للانتقال إلى المدرسة مثلًا، أو قد لا يستطيعون أداء أدوارهم كآباء نتيجة للبطالة. وترتبط هذه الأنماط المجتمعية التاريخية بالنتائج التي يحققها الأطفال لاحقًا.
يشير مفهوم العمليات التبادلية إلى أن الأطفال أنفسهم الذين نُخضعهم للدراسة ونأمل أن يتأثروا إيجابيًّا مسئولون عن نِصف تفاعلاتنا الثنائية معهم. عند انتقال الأطفال من مرحلة الطفولة المبكرة إلى مرحلة المراهقة تتغير احتياجاتهم؛ مما يقتضي تغيير أسلوب التربية أيضًا، وتتغير أنماط الرقابة الأبوية أيضًا مع تطوير الأطفال لمزيد من الاستقلالية. وبالنسبة للآباء، يمكن أن تُمثِّل الموازنةُ بين الرقابة واستقلالية الأبناء مهمةً شاقةً.
وفيما يتعلق بالمثال السابق الخاص بتأثير بطالة الآباء، عندما يصل الطفل إلى مرحلة المراهقة، قد يبدو له أن اهتمام الوالدَين بأدائه الدراسي يمثل تدخلًا في شئونه الخاصة. وقد يدفع الوالدَ العاطلَ عن العمل قلقُهُ على الأداء الدراسي للطفل إلى التفاعل كثيرًا مع المعلمين للتحقق من أدائه، وقد يتشاجر الطفل مع الوالد احتجاجًا على هذا التفاعل مع المعلمين. ومع ذلك، عندما يكون الأبناء في سن صغيرة أو مسئولين من الوالدين كأطفال صغار، يحتفظ الوالدان حينئذٍ بمسئولية اتخاذ القرار الخاص بحجم التأثير الذي يجب أن يطالهم في السياقات الخارجية — مثل سياق المدرسة — أثناء تطورهم؛ ولذلك، يجب مراجعةُ قرار الوالدين المتعلق بحجم الرقابة التي سيخضع الطفل لها، ومنحُه في الوقت نفسه قدرًا من الاستقلالية من منظور بيئي؛ بمعنى: إلى أي مدًى يمكن أن يتدخل الوالدان في البيئة المدرسية للمراهق؟
وقد يسفر مستوى النظام البيئي الذي يتضمن تفاعل الوالدين مع المعلمين في المدرسة عن تحقيق نتيجة إيجابية للأطفال، ويجب أن يراعي الآباء ممن لديهم أبناءٌ مراهقون احتياج أبنائهم للشعور بالاستقلالية؛ إذ يستطيع الآباء المحافظة على علاقة إيجابية مع المراهقين، وكذلك بوسعهم التحديد بفطنة المدى الذي يمكن أن يكون فيه الحوار مع المعلمين حول العوامل الدراسية في صالح تطور الطفل، حتى ولو كانت المشكلاتُ التي يعاني منها البالغون مثل البطالة جسيمةً. تقيم المنظومة الأُسَرية تفاعلات تبادلية مع كيانات مثل البيئة المدرسية ومع الاستقرار الاقتصادي، ويُوصَى بوجود تواصُل بين أولياء الأمور والمعلمين في كافة الظروف تقريبًا؛ إذ يتفاعل أفراد الأسرة وموظفو المدرسة لمساعدة الطفل في مراحل تطوره.
يتمتع الأطفال الذين يَنعمون بأسرة يعتمدون عليها في صغرهم بالروابط الأُسَرية نفسها عندما يَصِلون إلى مرحلة المراهقة، وعادةً ما تختلف الأسئلة أو المشكلات التي تحتاج إلى حلول مع نمو الأطفال، ولكن مفهوم الانتماء يظل كما هو؛ فالانتماء يمكن أن يُنظر إليه باعتباره حجر الزاوية للصحة النفسية الجيدة؛ نظرًا لطبيعة النمو المعرفي والاجتماعي في إطار البيئة الأُسَرية.
(٢) تطوُّر عملية الانتماء والاستقراء
بمقدور البالغين غرْسُ حالة الانتماء الصحية هذه وتعزيزها بدايةً مِن السنوات الأولى في عُمر الطفل، ومواصلةُ هذه العملية على مدار مراحل التطور. ويمكن تعليم الأطفال بعضَ المهارات الاجتماعية، مثل التفكير في اتخاذ القرارات والمساومة؛ بحيث يدركون مسئوليتهم الشخصية عن سلوكياتهم والتوقعات الأُسَرية الخاصة بكيفية تأثير سلوكياتهم في الآخرين. تساعد هذه المعرفةُ الأطفالَ في التفكير على نحو مستقل في غياب البالغين، كما تُقدِّم هذه الاستراتيجيات الفعالة نموذجًا للأطفال عن الصبر والاهتمام. إن الاشتراك مع الأطفال في التفكير في توقعات الأسرة وتوضيح عواقب تصرفاتهم والقرارات التأديبية سيساعدهم في السيطرة على سلوكياتهم لاحقًا، ويُطلَق على استراتيجية التفكير هذه «الاستقراء».
يشير مفهوم الاستقراء ببساطة إلى أن مقدِّمي الرعاية البالغين يستخدمون التفكير المنطقي في شئون التربية، وتتضمن عمليةُ التفكيرِ المنطقيِّ هذه تلقينَ الأطفال فكرةَ العواقب المترتبة على أفعالهم، آملين أن يبدأ الأطفال في إدراك هذا التفكير المنطقي واستخدامه بأنفسهم عند غياب البالغين.
(٣) تطور الوالد
كيف نبدأ؟ يحتاج الأفراد البالغون في الأسرة إلى معلومات حول رؤاهم الخاصة بتربية الأطفال، يمكن أن يبدأ الآباء هذه الرحلة بإجراء تقييم لمهاراتهم وأفكارهم عن عملية تربية الأبناء ومصدر هذه الأفكار. وإذا اشترك الآباء المنتظرون قدومَ مولود في مثل هذه الأحاديث أو عمليات التقييم الذاتي، فمن المؤكد أن الأمور ستكون أفضل بكثير. نَشرَت الباحثة دايانا باومريند المتخصصة في علم نفس الأطفال نتائجَ الأبحاث التي أجرتها على مدار سنوات في أوائل سبعينيات القرن العشرين؛ حيث أثبتت هذه الأبحاث أن استخدام كلٍّ من التفكير المنطقي في التوقعات السلوكية والدفء الأُسري يمثل الأساس القوي الذي يساعد الأطفال على التحلي بمستوى الاستقلالية المتناسب مع أعمارهم، وأن يصيروا أفرادًا بالغين ناجحين في نهاية المطاف (باومريند ١٩٧١). وبشكل عام، هناك بُعْدان ينبغي مراعاتهما في عملية تربية الأبناء: قبول سلوكيات معينة مقابل رفض سلوكيات أخرى، والسلوكيات المُلحَّة في مقابل السلوكيات غير المُلحَّة. ويشير البُعد الأول إلى الدفء الذي يقدِّمه الوالد في ثنائية الوالد والطفل، ويشير البعد الثاني إلى مستوى ومرونة المطالب التي يُلزِم الوالدان أبناءهم بها، كما يمكن اعتبار هذه المطالب توقعات أو معايير سلوكية.
يوصي الباحثون على غرار باومريند بأن يتبع الوالدان أسلوب التربية الذي يقوم على معاملة الأبناء كأشخاص ذوي قيمة يستحقون الاحترام والحب، وفي الوقت نفسه يفرض معايير سلوكية تتميز بقدر من المرونة. إن التوقعات الخاصة بنمط سلوكي محدد، والتي يجري توصيلها إلى الطفل بطريقة ودودة، علاوةً على إيضاح أسباب توافق هذه التوقعات مع قِيَم الأسرة للطفل؛ من شأنها أن تضع الطفل على الطريق الصحيح للتمتُّع بصحة نفسية جيدة. كما أن العبارات الإيجابية، التي ترجِّح قدرة الطفل على الوصول إلى معيارٍ سلوكيٍّ ما بمساعدة مقدِّمي الرعاية البالغين، تقدِّم رسائل عن الانتماء والكفاءة ستنفع الأطفال في كافة سياقات التطور؛ ولذلك، أعتقد أن المزج الدقيق بين المسئولية الشخصية والعلاقات يمكن إكسابه للأطفال مبكرًا، علاوةً على أهميته الشديدة للأُسَر الناجحة.
ولكننا ينبغي أن ندرك أنَّ إيجاد المزيج المناسب بين قبول الطفل وبين المستوى المناسب من التوقعات الخاصة بسلوكياته ليس مهمة يسيرة على البالغين دائمًا. على سبيل المثال، ينبغي الالتزام تمامًا بقواعد السلامة بشتى الأساليب لمساعدة الأطفال الصغار على النمو؛ الأمر الذي يتطلب في الغالب وضْع معايير عالية لا تهاوُنَ فيها للأطفال الصغار. مع ذلك، علينا أن ندرك أن قواعد السلامة الصارمة يمكن تحقيقها عند تطبيقها على نحو منطقي وودود.
مثال لقواعد السلامة
لا يجب السماح للأطفال باللعب في شوارع العديد من الأحياء السكنية المزدحمة، وخاصة في المناطق الحضرية التي تمثِّل فيها المركباتُ الخاصة وسيلةَ الانتقال الأساسية. تمثل عبارةُ «لا تلعبوا في الشارع» الأمرَ الذي يردده الآباء كثيرًا لأطفالهم الصغار، ولكن يمكن إصدار هذا الأمر الخاص بالسلامة للأطفال بِوُدٍّ وتعقُّل، على نحو يوحي بتقبُّل الطفل كإنسان مستقل ذي قيمة بصرف النظر عن سلوكياته. ولكن في حالة رفض الأطفال الصغار اتباع هذه القاعدة، لا بد أن يحرص الآباء على إعطاء رسائل لفظية وسلوكية قوية للأطفال. في هذا المثال، يجب أن تُعطَى الأولوية لمطالب الوالدين المتعلقة بالسلامة عن السماح للأطفال باكتشاف السلوكيات الآمنة بأنفسهم؛ فلَعِبُ الأطفال في الشارع قد يؤدي إلى إصابتهم بأذًى جسديٍّ؛ فقد لا يرى قائدو السيارات الأطفال نظرًا لضآلة أحجامهم، علاوةً على عدم قدرة هؤلاء الأطفال على التفكير جيدًا في سلوكيات الآخرين؛ بمعنى أن الأطفال الصغار عادةً لا يمكنهم إدراك كيفية التصرف في المواقف الخطيرة. ويُعد هذا أحد الأمثلة على القواعد التي يُوصَى بعدم التهاوُن فيها، ولكن يمكن تقديم الرسائل اللفظية الصارمة حول التزام اللعب داخل فناء المنزل على نحو ينُمُّ عن الاهتمام، حتى ولو جرى تطبيق أسلوب «العزل المؤقت» داخل المنزل.
(٤) العقاب البدني
قد يرى بعض الآباء أن عقاب الطفلِ غيرِ المطيع بصفعه عدة مرات على المؤخرة نظيرَ قيامه بسلوكيات خطرة أمرٌ ملائمٌ؛ لذلك من الضرورة بمكان مناقشة العقاب البدني هنا. يَستخدم الباحثون، في مختلف الدراسات بمجال علم النفس، تعريفاتٍ مختلفةً للعقاب البدني، ولكن من المتفق عليه بصفة عامة أن العقاب البدني يتضمن مجموعة من التصرفات، بداية من ضرب الطفل على أردافه براحة اليد وهي مفتوحة، إلى الاعتداء البدني الذي قد يفضي إلى إصابة الطفل بجرح؛ لذلك يصعب وضع تعريف للعقاب البدني يراعي الفصل بين أنواع الأذى — سواء كان نفسيًّا أو جسمانيًّا — علاوة على أنه يرتبط بعوامل اجتماعية تاريخية. وهنا تبرز النظرية البيئية للتطور لبرونفينبرينر (١٩٨٦) ثانيةً لتكون إطار العمل المناسب لدراسة هذه العوامل أو مستويات التأثير في الأسرة. وترتبط الظروف التاريخية والاجتماعية لأسلوب العقاب البدني في الولايات المتحدة، علاوة على القرارات التي يتخذها الأشخاص البالغون حول استخدام أسلوب العقاب البدني من عدمه، بالنتائج التي يحققها الأطفال وصحتهم النفسية.
أنماط تاريخية
من المنظور التاريخي، يمارِس العديد من الأمريكيين أسلوب العقاب البدني بصفته جزءًا من العادات الأنجلو أوروبية التي عززتها التعاليم الدينية؛ فقد سمح القانون العام الإنجليزي للرجال في بريطانيا باستخدام العقاب البدني للسيطرة على زوجاتهم وأولادهم، كما لو كانوا ممتلكات خاصة للرجال؛ وقد ساعدت هذه القوانين في تشكيل أسس النظام القانوني في الولايات المتحدة. في مستعمرات أمريكا الشمالية في القرن الثامن عشر، كان العقاب البدني هو الأسلوب السائد في محاولات الآباء للسيطرة على أبنائهم وتعليمهم، وكان هذا العقاب البدني يعني أيَّ نوع من التأديب البدني، ويتضمن مجموعةً مختلفةً من التصرفات التي تبدأ من الضرب والجَلد أمام العامة إلى إحداث عاهات مستديمة للأطفال.
ظل أسلوب العقاب البدني سائدًا بين الأُسَر في القرن التاسع عشر وفي حقبة كبيرة من القرن العشرين. ولكن، بفضل نشأة حركتين اجتماعيتين كبيرتين في الولايات المتحدة — حركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن العشرين والحركة النسائية في السبعينيات — توجَّهت الأنظار إلى الأسرة والاضطهاد أيًّا كان نوعه. وقد حظيت حقوق الأطفال بقدر أكبر من الانتباه وبأساليب لم يَجْرِ التطرُّق لها قبل ذلك. خضع العقاب البدني للفحص الدقيق من جانب الدولة، فسُنَّت تشريعات لحماية الأطفال من مقدِّمي الرعاية الذين قد يُلْحِقون بهم الأذى، سواء كانوا الوالدين أو أفرادًا من غير الأقرباء مثل المعلِّمين. وقد اقترن العقاب البدني منذ ذلك الحين بمفهوم إساءة معاملة الأطفال.
كانت حوادث العقاب البدني للأطفال في سبعينيات القرن العشرين مرتفعة للغاية، وفي إحدى الدراسات المرجعية التي نشرها كلٌّ من شتراوس وجيليس وشتاينميتز عام ١٩٨٠، وُجد أن ٧١ بالمائة من الآباء الذين شملتهم الدراسة ذَكروا أنهم يضربون أولادهم، بينما ذكر ٢٠ بالمائة منهم أنهم يفعلون ذلك باستخدام أشياء مادية. وقد أفادت ربع الأمهات المشتركات في الدراسة أنهن يضربْنَ أبناءهنَّ قبل أن يبلغوا الشهر السادس من عمرهم، وترتفع هذه النسبة لتشمل نصف الأمهات تقريبًا عندما يُتمُّ الأبناء ١٢ شهرًا.
العقاب البدني ومسئولية البالغين
لا تزال القوانين في الولايات المتحدة تسمح بممارسة العقاب البدني للأطفال، ولكن الخط الفاصل بين التعليم وإساءة المعاملة يصعُب تمييزه في أغلب الأحيان. قد يبدأ الآباء الذين يؤمنون بأن العقاب البدني وسيلة تأديبية فعَّالة في ضرب الأبناء بحجة التربية الصحيحة، ولكن الأمور تخرج عن السيطرة لدرجة إيذاء الطفل جسمانيًّا أو نفسيًّا وهم يتبعون نهجًا للسيطرة يقوم على الترهيب.
وقد يتعرض الآباء الذين يمارسون العقاب البدني لمساءلة من قِبل المسئولين عن تنفيذ القانون أو مِن أي مسئولين حكوميين آخرين لتفسير أساليبهم في التربية، وقد تُوجِّه الدولة إليهم التُّهم. وإذا ثبت وقوع إساءة معاملة للطفل، فمن الجائز أن يترتب على ذلك الكثير من العواقب، وقد يتخذ القائمون على دراسة مثل هذه الحالات ممن عيَّنَتهم الجهات الحكومية قراراتٍ بالعمل مع الأُسَر المتضررة من هذه التصرفات للارتقاء بمستوى مهارة تعامُل الآباء مع أبنائهم، وقد يصل الأمر لنقل الأطفال من المنزل إذا كان من المرجح تعرُّضهم للإصابة في المستقبل.
ومن الناحية القانونية، يتحتم على كل مواطن بالغ في الولايات المتحدة الإبلاغ عن أي حالات مشتبه بها لإساءة معاملة الأطفال. ولاحِظْ أن عبارة «حالات مشتبه بها» تعني أن هؤلاء المواطنين لا يُنتظَر منهم التأكد أو التحقق من هذه الحالات. وبالتأكيد، فإن مجرد الاتصال بالخط الساخن المخصص للإبلاغ عن حالات إساءة معاملة الأطفال سيؤدي إلى توجُّه أحد المختصين الخبراء في التعامل مع الحالات المشتبه بها إلى المنزل المبلَّغ عنه. وتعمل الجهات الحكومية على بقاء هوية مقدِّم البلاغ مجهولة وتؤكد على هذا الحق، ولكن لا يمكن ضمان هذا الأمر في جميع الحالات؛ فقد يسأل أحدُ الجيران الآخرين مثلًا عمَّن قام بالإبلاغ عن حالة إساءة المعاملة المشتبه بها. ولكن، على مستوى الأخلاقيات الشخصية، فإن الدفاع عن الأطفال أمر مهم للمجتمعات كافة.
في أواخر القرن العشرين، شكَّل العقاب البدني في المنزل ٦٠ بالمائة من حالات إساءة معاملة الأطفال المثبتة على مستوى الولايات المتحدة، وفي أحد استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة جالوب في عام ١٩٩٤، اتفقت نسبة ٤٦ بالمائة من البالغين على أن الأطفال في بعض الأحيان يحتاجون إلى «عقاب بالصفع القوي على الأرداف» (هول ١٩٩٨). ولكن، بحلول عام ٢٠٠٤م، تراجع عددُ المؤمنين بفاعلية العقاب البدني على مستوى الولايات المتحدة؛ فعلى سبيل المثال، اكتشف طبيب الأطفال مايكل ريجالادو وزملاؤه أن نسبة ٢٦ بالمائة من العينة التي أخضعوها للدراسة ذكروا أنهم عاقبوا أبناءهم البالغين ثلاثَ وأربعَ سنوات بالضرب على الأرداف، ولكنهم فعلوا ذلك باستمرار (ريجالادو وآخرون ٢٠٠٤). وبمقارنة هذه البيانات بمثيلاتها من ثلاثين عامًا، يمكننا أن نخلص إلى أن الاعتقاد بفاعلية العقاب البدني في الولايات المتحدة آخذٌ في التضاؤل، ويبدو أيضًا أنَّ توجهًا ثقافيًّا للتأديب يعتمد على التفكير المنطقي والدفء الأسري آخذٌ في الصعود، ولكن نظرًا لأن القواعد القياسية البحثية نادرًا ما تُتبع في مختلف الدراسات، فقد يكون هذا التوجهُ الظاهرُ نتيجةً غيرَ دقيقةٍ لمناهج بحثية مختلفة. وإذا كانت هذه البيانات تشير إلى توجه شائع، فإنَّ تغيُّر المواقف الاجتماعية تجاه العقاب البدني يدل على أن الآباء الذين اعتقدوا في السابق أن حقوقهم التأديبية تشتمل على حق ضرب أبنائهم أو صفعهم أو معاقبتهم، سيتعين عليهم أن يتحولوا إلى وسائل أخرى للتأديب بهدف تعليم الأطفال وعقابهم. ونظرًا لأن العقاب البدني له إرث طويل من الدعم الاجتماعي في الولايات المتحدة، فقد يصعب على الآباء اتباع أساليب تربوية أخرى. وقد يحاول جيلُ الآباء الذين دأبوا على استخدام العقاب البدني تقويضَ جهود الآباء الجدد الرامية إلى تطبيق أساليب تأديبية جديدة. على الرغم من ذلك، يمكن للآباء الذين لا يعرفون أساليب تأديبية أخرى بخلاف العقاب البدني أن يكتسبوا مهارات جديدة.
مؤشرات استخدام العقاب البدني
كيف يتطور استخدام العقاب البدني؟ قد ينذر الاضطراب في العلاقات الأُسَرية القائمة عند ولادة الأطفال بعواقب سلبية بالنسبة للأطفال؛ إذ إن وجود صراعات بين أفراد الأسرة الواحدة يرجح استخدام العقاب البدني مع أبنائهم. على سبيل المثال، كشفت دراسة لكوريل كانوي وزميلاتها في مجلة «جورنال أوف فاميلي سيكولوجي» عن أن الصراعات الزوجية والعداء بين الأزواج قبل ولادة الطفل يرتبطان باستخدام هؤلاء الأزواج للعقاب البدني بعد ولادة الطفل. كما يرتبط ارتفاع مستوى العداء بين الأزواج بالاستخدام المفرط للعقاب البدني لأطفالهم (كانوي وأخريات ٢٠٠٣).
على الرغم من أن القِيَم الاجتماعية للثقافة المعاصرة قد ترفض إيذاء الأطفال وتؤكد على ضرورة عدم استخدام معظم أشكال العقاب البدني، لا يزال العديد من الأشخاص البالغين يرَوْن أن من حقهم كآباء استخدام وسيلة العقاب البدني، ولا يعتبرون أن هذه الممارسات تعكس إساءةً لمعاملة الأطفال بأي صورة. على سبيل المثال، تبيح بعض الطوائف الدينية العقاب البدني للأطفال، بل وتشجع الأفراد البالغين على اتباع ذلك في المنزل، وتستغل تأويلها لبعض النصوص الدينية لدعم هذا السلوك. في الولايات المتحدة، ثمة اعتقاد بأن بعض الأفراد البالغين الذين يمكن تصنيفهم في فئة محددة على غرار الطبقة الاجتماعية أو الأصول العرقية؛ يستخدمون العقاب البدني أكثر من غيرهم؛ على سبيل المثال، اكتشفت فوني مكلويد، الخبيرة في دراسة الأطفال المعرضين لمخاطر تحقيق نتائج سلبية، أن بعض الأُسَر التي تضطر إلى تربية أبنائها في بيئات فقيرة قد تلجأ إلى العقاب البدني فيما يخص الأمور التي تتعلق بالسلامة؛ نظرًا للطبيعة الخطيرة المتأصلة للحي الذي يعيشون فيه؛ من ثَمَّ قد يُستخدم العقاب البدني للتكيُّف مع البيئات القاسية (انظر هاريسون-هايل وآخرين ٢٠٠٤).
تسهم عوامل اجتماعية أخرى خارج المنزل في إدراكنا لمفهوم العقاب البدني؛ فمَشاهد العنف في وسائل الإعلام، سواء أكانت خيالية أم واقعية، يشاهدها بصفةٍ يوميةٍ البالغون والأطفال على حدٍّ سواء. وتُقدِّم هذه الرسائل، جنبًا إلى جنب مع العقاب البدني الممارَس في المنزل، نموذجًا واحدًا للتفاعل الاجتماعي للأطفال، وهو ما قد يؤثر في تطورهم.
إن القوانين الخاصة بكل دولة يمكن أن تمنع العقاب البدني أو تشجِّعه، وإذا ما نظرنا إلى الثقافات المختلفة، فسنَجِد مجموعات تتفاوت وجهات نظرها حول العقاب البدني عن القوانين المعمول بها في الولايات المتحدة. على سبيل المثال، تعاملت الدول الاسكندنافية مع العقاب البدني كفعل محظور قانونًا لعدة عقود، والأسباب المنطقية التي تستند إليها في ذلك أنه نظرًا لأن الاعتداء البدني على أحد الجيران محظور قانونًا، فإن سلوكيات البالغين نحو أطفالهم يجب أن تخضع لنفس المستوى من المساءلة. وعلى الرغم من تفاوت وجهات النظر في موضوع العقاب البدني، ثمة أبحاث تشير إلى ارتباط العقاب البدني سلبيًّا بالنتائج التي يحققها الأطفال أو بصحتهم النفسية.
تداعيات العقاب البدني
تشير البيانات الخاصة بتطور الأطفال إلى تأثُّر الأطفال سلبًا بالعقاب البدني؛ فالأطفال يقلِّدون مقدِّمي الرعاية؛ إذ إنهم يلاحظون سلوكيات الكبار، ومن المُرجح كثيرًا أن يحذوا حذوهم في هذه السلوكيات. وقد أثبت باحثون، أمثال ألبرت باندورا (١٩٦٥)، أن اتباع مثل هذه السلوكيات العدوانية يُظهر للأطفال الصلات المنطقية المختلفة بالعواقب الوخيمة؛ إذ إن اتباع أسلوب العدوان البدني يحمل للأطفال رسائل مفادها أنهم في حالة شعورهم بالغضب يجوز أن يضربوا الآخرين؛ وعندما يكونون أكبر سنًّا، يجوز أن يضربوا الآخرين ويفلتوا من العقاب؛ وأن العدوان البدني هو نمط سلوكي يمكن تكراره لتحقيق نتيجة مرغوبة؛ مثل تنفيذ رغباته وفرض سيطرته على الآخرين وما إلى ذلك. وبهذا، يصبح العدوان البدني أحد وسائل التواصل مع الآخرين.
يؤكد كثير من الباحثين (مثل كازدين وبينجيت ٢٠٠٣) أن الأطفال الذين يمارِس آباؤهم أسلوب العقاب البدني معهم يصبحون الأكثر عدوانية مع أقرانهم. يُعد تقليد السلوكيات إحدى وسائل التعليم الأكثر فعالية التي يملكها البالغون، ويرتبط تقليد سلوك العقاب البدني بتطور السلوك العدواني لدى الأطفال. يمكن أن يُظهر الأطفالُ الذين نَشَئوا في هذه المنازل تفاعلاتٍ سلبيةً في المدرسة، علاوة على افتقادهم للأساليب التعاونية في تفاعلهم في السياقات الاجتماعية الأخرى. وقد يترتب على ذلك رفض الأقران والمعلمين لهم، وهو ما قد يعرِّض هؤلاء الأطفال لمخاطر تَفاقُم هذه المشكلات؛ ولذلك من المتوقع أن يفشل الأطفال الذين تعرضوا للصفع والضرب من آبائهم في البيئة المدرسية. رَبَطَ العديدُ من الأبحاث بين الفشل المدرسي والاضطرابات المعادية للمجتمع؛ مثل انحراف الأطفال الأحداث والتسرب من التعليم، والإجرام فيما بعدُ وهم أفراد بالغون؛ لهذه الأسباب، يتفق غالبية علماء النفس على أنه من الأهمية بمكان للآباء الجدد والأزواج الذين يفكرون في الإنجاب فَحْص تجارب الطفولة الخاصة بهم ومناقشة أنماط التأديب التي لا تتضمن العقاب البدني. ولكن يجدر الانتباه إلى أمر يتعلق بهذه البيانات؛ ألا وهو طبيعة الأبحاث ذات الارتباط المتبادل؛ حيث إن الارتباط المتبادل بين عاملَين يدل ببساطة على أنهما متصلَين بطريقة أو بأخرى.
ينبِّه عالِمَا النفس آلان كازدين وكورينا بينجيت إلى أن التأثيرات السببية للعقاب البدني غير معلومة، بل ما جرى إثباته هو العلاقات بين عوامل مثل العقاب البدني والسلوك العدواني بين الأقران. رغم أننا قد نفترض أن العقاب البدني في المنزل يبدأ قبل السلوكيات العدوانية التي تنشأ بين الأقران في المدرسة، فمِن المحتمل أيضًا أن يؤدي العدوان بين الأقران في المدرسة إلى تلقِّي الطفل عقابًا بدنيًّا في المنزل نظير هذه السلوكيات. يتضح من ذلك أن هذين العاملين يتفاوتان معًا؛ فعندما يزيد سلوكٌ منهما، يزيد السلوك الآخر أيضًا. ولكن عند النظر إلى هذه البيانات نظرة شاملة، ينبغي أن يدور التساؤل التالي عن سبل دعم الآباء بحيث يتجنبون استخدام العقاب البدني.
(٥) أساليب التأديب البديلة
تتضمن أهدافُ الكثير من الآباء المحافظةَ على صحة أُسَرهم وسعادتها، ويعزِّز حسُّ الانتماء من العلاقات الاجتماعية داخل إطار الأسرة وخارجها. يتوفر أمام الآباء، الذين يأملون تعزيز حسِّ الانتماء هذا، العديدُ من أساليب التأديب التي لا تشمل ضرب الطفل. وتؤيد أبحاثُ علمِ النفسِ هذه الأساليبَ غيرَ البدنية تأييدًا واسعًا؛ نظرًا لفاعليتها. من بين الأساليب البديلة إظهار الثناء على السلوكيات الحميدة بصورة مسبقة حتى قبل إتيان الطفل بسلوك يستحق العقاب عليه، كما أن التحدث مع الطفل بصورة عقلانية عن تأثير السلوكيات الطيبة عليه وعلى الآخرين على نحو إيجابي يوضح له الارتباط بين السلوكيات الشخصية والعلاقات مع الآخرين. ومن بين البدائل الأخرى للعقاب البدني التحدثُ مع الطفل بعقلانية عن آثار السلوكيات السيئة عند عدم امتثاله للأوامر.
كما يمكن استخدام استراتيجية إبعاد الطفل عن البيئة التي تعزِّز هذه السلوكيات ومناقشة ذلك مع الطفل؛ على سبيل المثال، قد يؤدي منع الطفل من اللعب مع أقرانه، نتيجةً للعنف الذي يمارسه، إلى إتاحة الفرصة للطفل للتفكير والهدوء. (انظر الفصل الثاني حول الملاحظات الخاصة باستخدام أسلوب العزل المؤقت.) كما يمكن استخدام جداول متابعة السلوك التي تتضمن عقوبات مختلفة للطفل أو تقييد حرية الطفل؛ على سبيل المثال، قد يتيح أيضًا منعُ الطفل مثلًا من الخروج من المنزل لفترة من الوقت، نظرًا لعدم طاعة الأوامر، فرصةً لتدبُّر سلوكه، ومن المرجح أنه سيرغب في العودة للعب مع أقرانه واضعًا في اعتباره مراقبة سلوكياته العدوانية والتحكم بها في المستقبل. إجمالًا، تتميز هذه الاستراتيجيات الخاصة بالتعامل مع سلوكيات الأطفال بفاعليتها الكبيرة، دون القلق من إحداث أي إصابة بدنية أو نفسية للطفل.
(٦) أساليب التربية الفعَّالة
نعود إلى صورة الوالد الماهر الذي بمقدوره تعزيز مشاعر الانتماء، ولْنتذكَّرْ أن هذا الوالد يتعامل مع الطفل كفرد جدير بالحب والتقدير، ولكنه في الوقت نفسه ينتظر من هذا الطفل الالتزام بالقواعد المناسبة لعمره. تعتقد باومريند وأمثالها من الباحثين أن الآباء الذين يتعاملون مع الطفل بمودة ويطبقون معيارًا سلوكيًّا يمارسون أيضًا سلوكيات تربوية إيجابية أخرى؛ فالآباء يعزِّزون مشاعر الانتماء لدى أطفالهم من خلال الاستراتيجيات التالية. الإرشادات التالية تدعمها بيانات من علم النفس.
إرشادات تعزيز حس الانتماء
-
(١)
تحقيق التوازن بين الرقابة الأبوية واستقلالية الطفل؛ إذ ينبغي أن تُتاح الفرص للأطفال لاتخاذ القرارات المتعلقة بالسلوك، ولكنَّ مَنْحَ الطفل هذا الاستقلال يجب أن يكون ملائمًا لعمر الطفل، وأنْ يخضع للرقابة في الوقت نفسه.
-
(٢)
وضوح المعايير السلوكية، ووجوب تقديم النصح الذي يساعد الأطفال على إدراك تلك المعايير.
-
(٣)
السماح بإجراء مناقشات حول القرارات، حتى التأديبية منها. تساعد هذه المناقشات في تقديم نموذج للعلاقات الاجتماعية الأخرى.
-
(٤)
تَوَافُق عواقب سوء السلوك مع السلوك نفسه. يُعد شرح العلاقة بين الفعل وعواقبه إحدى وسائل التفكير المنطقي الأخرى التي سيستخدمها الأطفال لاحقًا.
-
(٥)
حنان الوالدين في عملية تعليم الأبناء الحدود السلوكية يعزِّز استجابة الطفل للتعلم، كذلك يجب توضيح الالتزامات المتبادلة.
-
(٦)
يعزِّز توجيهُ الطفل لحل المشكلات — من خلال الاستفادة من قرار خاطئ أخذه في السابق — من مهارة التفكير المنطقي هذه (كأنْ تسأل الطفل: «ما الذي يمكن أن تحاول فعله في المرة القادمة عند حدوث خلاف بينك وبين صديقك؟») عليك تقديم اقتراحات تتناسب مع عمر الطفل.
-
(٧)
الثناء والدعم الصريح للسلوكيات الطيبة التي يبديها الأطفال.
-
(٨)
يلاحِظُ الأطفالُ صراع الوالد مع الآخرين، ويجب ألا يُلقي هذا الأمرُ بظلاله على الطفل (مثل الصراعات الزوجية).
-
(٩)
ينطوي دور الوالد كقدوة للطفل على ضرورة مراعاة مقدِّم الرعاية البالغ لسلوكياته والتصرف بنزاهة. وينبغي عليه أيضًا إظهار الاتساق بين المعايير التي يذكرها والسلوكيات التي يمارسها.
-
(١٠)
يجب أن يكون توجيهُ الآباء لأبنائهم استباقيًّا؛ بحيث يتم تفادي المشكلات المرتقبة ومناقشتها.
وبالرغم من أن القائمة السابقة لا تشتمل على كافة الأمور المتعلقة بسمات الوالد الكفء، تعكس هذه الإرشاداتُ العديدَ من نماذج مشكلات وأحداث الحياة اليومية السائدة بين الأُسَر. من المتوقع أن يعمل استعداد الوالدين لممارسة هذه السلوكيات على مساعدة الأبناء في أن يكونوا أفرادًا بالغين أَكْفاء، وانطلاقًا من هذا الأساس القوي، سيتمكن الأطفال من نقل مشاعر الانتماء هذه إلى أولادهم في المستقبل. أما الأفراد البالغون الذين يرغبون في اتباع هذه الإرشادات، فيجب أن يتذكروا أن محاكاة السلوكيات الإيجابية في العلاقات إحدى الوسائل الرائعة.
مع ذلك ربما حظي القراء الذين كانوا يجهلون في السابق هذه الإرشادات ببداية طيبة مع أبنائهم، ومن شأن هذه الإرشادات تعزيز ذلك، وقد تساعد الأمثلة التالية على التطبيق العملي لهذه الإرشادات.
(٧) الممارسة في الحياة اليومية
تحمل الأُسَر على عاتقها مسئوليات يومية لا بد لها من الوفاء بها، وفي الوقت الذي يحتاج فيه الأطفال إلى وقت فراغ يتضمن فرصًا للَّعب والابتكار، يحتاجون أيضًا إلى التدرُّب على أداء دور فعَّال في أُسَرهم، ولا يمثِّل ذلك ضوءًا أخضر لإرهاق الأطفال بالمهام المتعددة الخاصة بالبالغين، ولكنَّ جهودهم قد تصنع الفارق في إطار تيسير أداء الأُسَر للمهام المنوطة بها. على الرغم من ذلك، قد تُحمِّل بعضُ الأُسَر أطفالَها العديدَ من المهام الأخرى نظرًا للظروف الاقتصادية، ولا يملك العديدُ من الأُسَر ترفَ إكساب أبنائها المسئوليات الأُسَرية برَوِيَّة، ولكن التوقعات التي يجري التعبير عنها بطريقة ودودة تجعل عملية بناء العلاقات ذات أهمية بالغة لنجاح الأُسَر كافة؛ وفي ظل الود والنصح، يستطيع الأطفال المثقلون بالمهام تحقيقَ النجاح أيضًا.
وإذا تمكَّنت إحدى الأُسَر من تكليف الأطفال بالمهام باعتدال، ينبغي أن تبدأ تلك العملية بالمهام البسيطة ثم تزداد صعوبة المهام مع تطور الأطفال؛ حيث يُطلَق أيضًا على هذه المهام مصطلح «الأعمال الروتينية» أو «الأعمال المنزلية»، ويمكننا الشروع في هذه العملية من خلال بيان أهمية جداول العمل للأطفال وكيف يمكن لهم المساعدة في المنزل. كما أنَّ مَنْحَهم بعضَ اختيارات المهام المنزلية يُعد ممارسةً تعزِّز مستوى كفاءتهم وعملية بناء الثقة. ابدأ هذه الدروس عندما يكون الطفل قادرًا على التحرك، وعليك التعاون مع الطفل ومحاكاة السلوك المرغوب أمامه. يَسْهل تعليمُ الأطفالِ الدارجين وَضْعَ الدمى في المكان المخصص لها ووَضْعَ الأكواب الخاصة بهم في المطبخ ومثل هذه الأعمال المنزلية الروتينية. وقد يقاوم الأطفال في البداية اتباع هذه السلوكيات، لكنِ اشرح له في هدوء أنه كي تسير الأمور في سلاسة يجب أن يتعاون جميع أفراد الأسرة. يمكنك مثلًا مخاطبة الطفل قائلًا: «أنت جزء من هذه الأسرة، ونحن بحاجة إلى مشاركة الجميع، سأساعدك في أداء مهامك اليوم.» ومن خلال تعليم الطفل أن هناك العديد من المهام التي يمكن أداؤها على مدار اليوم، والتي لا تستغرق وقتًا هائلًا ولكنها تسهم في تسهيل الأمور قليلًا على الجميع؛ يمنح الأفراد البالغون لذلك الطفل فرصة للمشاركة في حياة الأسرة بشكل ملموس.
عندما يبلغ الطفل أربعة أو خمسة أعوام، يكون بمقدوره إدراك الواجبات الأسبوعية، وقد يرتفع مستوى هذا الإدراك عندما يكون الأشخاص البالغون يتبعون السلوكيات نفسها. ويستطيع الطفل في هذه المرحلة العمرية وضع الأشياء في مكانها الصحيح وتنظيف الغبار وما إلى ذلك. وتتوقف هذه المهام على قرارات الوالدين، ولكن تَذكَّرْ أنه إذا أُتيحت للأطفال بدائل للاختيار من بينها، فسيتعزز لديهم أيضًا شعورهم بالقدرة على التحكم والانتماء. ونظرًا لصغر سن الطفل، فقد لا تُنفَّذ المهمة على الوجه الأكمل، وقد تَستغرق عمليةُ مساعدة الأطفال في اكتساب مهارات جديدة لأداء الأعمال المنزلية من الآباء وقتًا أطول منه إذا قاموا بجميع المهام بأنفسهم ببساطة، ورغم ذلك، يرتبط تعليم هذه المهام بتعزيز العلاقة بين الوالد والطفل أيضًا.
إن ملاحظة مَواطن القوة والضعف لدى الأطفال من شأنها مساعدة الأشخاص البالغين في إدراك أنواع المهام التي ينبغي تكليف الأطفال بها أو طرحها كاختيارات أمامهم؛ على سبيل المثال، الطفل الذي يعاني صعوبة في القيام بالحركات الصغيرة باليد والأصابع (المهارات الحركية الدقيقة) قد يستفيد من طي أشياء بسيطة مثل مناشف الوجه. إن التشجيع والصبر أمران مهمَّان في مساعدة الأطفال في إتقان هذه المهارات الجديدة؛ ولذلك ينبغي إتاحة اختيارات أمام الطفل وفرصة لتحسين أدائه، كما يجب توجيه الشكر للأطفال على المساعدة التي يقدمونها، فجميعنا يسعد بالثناء على مهمة أحسنَ أداءها، والأطفال لا يختلفون عنَّا.
يدرك علماء النفس أن دعوة الأطفال لأداء مهام منزلية تتناسب مع أعمارهم من شأنها تعزيز حسِّ الارتباط بالأسرة؛ فاللعب والعمل في المنزل ضروريان لنجاح أية أسرة. ومع تطور الأطفال، تصبح مشاركة الأطفال في المشكلات التي تواجهها الأسرة أداة تعليمية أخرى في متناول الأفراد البالغين.
(٨) ممارسة حل المشكلات
إنَّ حلَّ المشكلات وإيجاد حلول وسط وإظهار الارتباط في نطاق الأسرة أجزاءٌ لا تتجزأ من الانتماء إلى الأسرة. يحتاج أفراد الأسرة الواحدة بعضهم بعضًا لإنجاز المهام الأُسَرية، وللاستمتاع بالأنشطة الترفيهية معًا أيضًا، ولا يعني مفهومُ حل المشكلات الأُسَرية بالضرورة وجودَ مشكلة سلبية، بل يشير ببساطة إلى أنه بتكاتف أفراد الأسرة معًا، ستعمل الأسرة نحو إدراك هدف متفَق عليه. وكالعادة، ينبغي الشروع في هذه الممارسة في مرحلة مبكرة قدر المستطاع؛ حيث يجب إشراك الأبناء في مرحلة عمرية مبكرة في حل المشكلات الأُسَرية، سواء أكانت متعلقة بأنشطة العمل أو الأنشطة الترفيهية. وفي الوقت الذي قد تركز فيه الأسرة على تلبية احتياجات أحد الأطفال، ينبغي مراعاة احتياجات الوالدين والأطفال الآخرين أيضًا، فضلًا عن أفراد الأسرة المقربين أو الأصدقاء؛ فمنظومة كل أسرة يمكن أن تكون ضخمة ومعقدة.
يمثل حلُّ المشكلات أحدَ الجوانب الجوهرية للعديد من القرارات التي تتخذها الأسرة، وعلى الرغم من أن الطفل في عمر المرحلة الإعدادية يتميز بقَدْرٍ من المهارة إزاء كيفية التفكير في الخيارات التي تبدو الأنسبَ له، فإن توجيهَه نحو التفكير في ارتباط الأسرة بتلك الخيارات أمرٌ بالغ الضرورة على مدار تطوره في مرحلتَي الطفولة والمراهقة أيضًا. قد يشترك العديد من أفراد الأسرة في عملية اتخاذ القرار، وهذا يتوقف على عدد الأطفال والآباء والأجداد الذين يعيشون معًا في الأسرة الواحدة، وهذا يمثل جوهرَ أن تكون جزءًا من أسرة؛ أن تهتم بمراعاة احتياجات جميع أفراد الأسرة، وتسعى لإيجاد الحلول الأصلح للأسرة كلها، وتقبل الحلول الوسط صراحة. ومن آن لآخر، تُدعَّم احتياجات كل فرد من أفراد الأسرة أو يُلبَّى جزء منها. وبإتاحة فرصة المشاركة أمام جميع أفراد الأسرة، يقوى حسُّ الانتماء.
(٩) الممارسة في وقت اللعب
عندما يتحدث الأفراد البالغون مع الأبناء وهم لا يزالون أطفالًا رُضَّعًا، يدرك الأبناء تدريجيًّا أن هناك أشخاصًا آخرين مهمين يهتمون برفاهيتهم؛ إذ إن الاستجابة لاحتياجاتهم في هدوءٍ مع تقديم شرح للأمور توضِّح لهم رسالةً مفادُها أن هؤلاء الكبار يرغبون أيضًا في توفير سبل الراحة لهم، وفي مساعدتهم في مراحل نموهم. إن رعاية الأطفال الرضَّع في جوٍّ مِن الدفء والاهتمام تمثل نموذجًا لأول علاقة تنشأ في حياتهم. يمكن أن يبدأ البالغون في عرض الاختيارات أمام الأطفال عندما يقتربون من إتمام عامهم الأول، ويجب أن تكون هذه الاختيارات بسيطة ولكن متاحة. وعندما يبلغ الطفل ١٨ شهرًا، تمثل إتاحة الفرصة له للاختيار بين قصتين للاستماع إلى إحداهما أسلوبًا رائعًا يوضِّح للطفل أنه صاحب قرار في الأمور المتعلقة برفاهيته. يَذكر علماء النفس أن هذا النمط من إتاحة الاختيارات أمام الطفل يعلِّم الطفل أن له تأثيرًا، أو نفوذًا، في البيئة التي يعيش بها. لا شك أن احتياجات الطفل لها أهمية، لكن يجب تلبية رغباته ودعمها في حدود المعقول. وبالنسبة للطفل الذي يبلغ عامين أو ثلاثة، قد تتسم الخيارات التي يقدمها له الأشخاص البالغون بقدر أكبر من التعقيد؛ على سبيل المثال، يمكن أن يقترح البالغون على الطفل خيارين من الأنشطة الترفيهية بما يتلاءم مع عمر الطفل. وبالطبع، عند وضع اختيارات أمام الطفل، يجب أن يلتزم الأفراد البالغون بتنفيذ النشاط الذي اقُترح على الطفل. يمثل نمط الاختيار هذا سبيلًا رائعًا لتعزيز الشعور بالانتماء لدى الطفل، كما أنه يزود الطفل برؤية مبكرة عن جوهر الانتماء للأسرة.
مثال على الأنشطة الفوضوية
إذا كان الوالد يرى أن اللهو مع الطفل على نحو فوضوي أمرٌ مُسلٍّ، يمكنه أن يسأل الطفل عما يفضله أكثر: الرسم بالأصابع أم صنع أشكال بالطين. نؤكد ثانية على ضرورة أن يكون الخياران المطروحان متاحين للفرد البالغ بحيث يستطيع الالتزام بهما. وبمجرد أن يتخذ الطفل قراره حول النشاط الذي يستمتع به، ينبغي الشروع فيه في أسرع وقت، ويُفضل أن تكون مهيَّأً بشكل مسبق للبدء في التحضير للنشاط المسلي مع الطفل حالما يتخذ الطفل قراره. استمتع بممارسة النشاط مع الطفل؛ فالتفاعلات التي تحدث أثناء اللعب تمثل غالبًا فرصة للآباء للتعرف على مصادر البهجة والخوف التي لم يعبِّر عنها الطفل من قبل. أَثْنِ على مجهودات الطفل، ووَجِّهْهُ في أمور وأمور؛ على سبيل المثال، قد يكون من الضروري ترك الأشياء مبعثرة على الطاولة، كذلك يمكن السماح للطفل بتكوين الأشكال وهدمها، وبناءً على عمر الطفل، فقد يسأم من اللهو سريعًا ويطلب ممارسة نشاط آخر. كما أن حث الطفل على التركيز درسٌ مفيد آخر؛ فعلى الوالد أن يحاول توجيه اهتمام الطفل إلى جوانب أخرى في النشاط الذي يمارسه؛ على سبيل المثال، عادة ما يؤدي رسم صورة واحدة بالإصبع إلى رسم ثلاث أو أربع صور أخرى، وقد تظهر الصور متطابقة أو مختلفة بعضها عن بعض، وإذا استحوذ النشاط على اهتمام الطفل، فعلى الأرجح أنه يجده ممتعًا.
بالنسبة للفئة العمرية الخاصة بمرحلة الطفولة المبكرة، يعتبر النشاط الذي يستمر الطفل في ممارسته لعشرين دقيقة أو أكثر نشاطًا ناجحًا، وإذا ما أصرَّ الطفل على الانتقال لممارسة نشاط آخر، وكان وقت اللعب مع الطفل محدودًا، فهذه فرصة جيدة للأفراد البالغين لتعليم الطفل نتائج اختياراته (عواقب السلوك) والاعتدال في الأمور. قد ينتهي الوقت المخصص للنشاط، ولكن بمقدور البالغين تنظيم الجداول اليومية بحيث تشتمل على وقتٍ للَّعبِ الفوضويِّ. وفي المرة التالية، ينبغي أن يوجِّه البالغون سؤالًا للطفل به قدر من النصح: «هل تريد اللعب بالطين هذه المرة؟ في المرة السابقة كنا نرسم بالأصابع وذكرتَ أنكَ ترغب في اللعب بالطين.» وبناءً على مدى نضوج تفكير الطفل، قد يطلب ممارسة لعبة الرسم بالأصابع ثانية؛ إذ إن التكرار جزء من تعامل الطفل مع العالم، والدرس المستخلص من هذا الأمر أن الطفل يحظى ببعض السيطرة على الأمور، ويستطيع اختيار نشاط ليمارسه، ويتفاعل مع الشخص البالغ علاوة على أنه يستمتع بنتيجة اختياره.
وفي حالة اشتراك أكثر من طفل واحد في عملية اتخاذ القرار واختيار النشاط الترفيهي، ربما يجب التوصل إلى حل وسطي من البداية، فإذا جرى تلبية رغبات طفل في المرة الأولى عند ممارسة النشاط الفوضوي، يجب تلبية الاختيار الأول للطفل الآخر في المرة التالية، وبهذا يدرك الأطفال فاعلية الحلول الوسطية وأن احتياجاتهم لها أهميتها. عليك توضيح هذه الروابط للطفل؛ اذكر الاتفاق الذي توصلتم إليه بوضوح، وذَكِّر الأطفال به، وامْضِ في تنفيذه. أَخبِر الأطفال أن الحلول الوسطية هي جزء لا يتجزأ من العلاقات مع الآخرين، وأن رغبات كل شخص لها أهميتها. يَضرب التزامُ الأشخاص البالغين بتنفيذ هذه الاتفاقيات مثالًا على سلوك يحتاج الأطفال إلى ترسيخه كجزء من سلوكياتهم.
(١٠) تطوُّر المهارات الاجتماعية لمرحلة النضج
ينطوي الانتماء الأُسَري على مراعاة أهمية رغبات جميع أفراد الأسرة؛ إذ تُعزِّز هذه العمليةُ المسئوليةَ الفرديةَ والعلاقات الشخصية؛ مما يعمل على تعزيز الصحة النفسية الجيدة. وعندما يهتم الأشخاص البالغون باحتياجات الأطفال على نحو يوازن بين التنظيم والحرية، يدرك الأطفال أن الكبار يهتمون لأمرهم، وأن عملية حل المشكلات وعرض الاختيارات يمكن أن تكون مسلية، وأنهم يتمتعون بقدر من النفوذ في بيئاتهم. ويدل هذا النمط من اتخاذ القرارات، والذي يخلو من المجازفة، على أن دروسَ القرارات المستقبلية، بمعزل عن الأفراد البالغين، ستعتمد على الدروس الأولى. وبوصول الأطفال إلى مرحلة المراهقة، ستكون مناقشة الخيارات والتفكير في البدائل والنتائج جزأين لا يتجزآن من سلوكياتهم. ولْننظرْ إلى هذا المثال الخاص بطفل صغير أُتيحت له الفرصة لاتخاذ قرار يتعلق بمعسكر صيفي.
اختيار سيئ!
سمحت إحدى الأمهات لابنها البالغ من العمر خمسة أعوام أن يختار النشاط الصباحي بمعسكر صيفي لمدة أسبوع واحد. ناقشَت الأم مع طفلها الاختيار بين برنامج المكتبة المحلية وبرنامج الشاطئ، وذكرت الأم لطفلها أنه ذهب إلى معسكر المكتبة في الصيف الماضي، وسيكون التعرف على الكائنات الشاطئية نشاطًا جديدًا له. اختار الطفلُ في سرورٍ المعسكرَ الشاطئيَّ الصيفيَّ وقضى أسبوعًا رائعًا. تضمنت الجولات الشاطئية أنشطة متنوعة مثل جمع الأصداف والتعامل مع الأسماك الصغيرة والكبيرة، وفي اليوم الأخير من المعسكر، ذهبت الأم لاصطحاب طفلها الذي كانت ملابسه كلها مغطاةً بالوحل وسألته عن حاله، أجابها الفتى الغاضب قائلًا: «كنت أتمنى لو ذهبت إلى معسكر المكتبة!» يبدو أن البيئة الاستكشافية لذلك الصباح كانت المستنقع ولم يراعِ مسئولو المعسكر الإشراف على تنظيف الأطفال للوحل الذي تراكم على أجسادهم على مدار عدة ساعات. كتمت الأم ضحكها وقالت له برفق: «ستغتسل قريبًا وربما ستشعر بتحسن.» وفي وقت لاحق من اليوم، قال الطفل لأمه: «لقد أحببت المعسكر الشاطئي!»
اختار الولد في هذا المثال نشاطًا، ولكنه تَعرَّضَ لتجربة مزعجة دفعته لإعادة التفكير في خياراته، وهذا الأمر مفهوم بالطبع؛ حيث يمكن أن يتعرض كلٌّ منَّا لمثل هذه المواقف. ورغم ذلك، بالنسبة لطفل يبلغ من العمر خمس سنوات، فقد أدى الاغتسال ببساطة لراحته البدنية؛ مما دفعه لإجراء تقييم آخر لاختياره في وقت لاحق من اليوم نفسه. كان بمقدور الأم استغلال الفرصة لمناقشة طبيعة الخيارات التي تنطوي في أغلب الأحيان على جوانب إيجابية وأخرى سلبية، ولكن في مثال هذا الطفل ذي السنوات الخمس، فإن إتاحة الفرصة له لإعادة تقييم الأمور بنفسه مهمَّةٌ أيضًا.
إن إتاحة الفرصة للأبناء للاختيار من بين عدة بدائل تساعدهم أيضًا في فهم الاختيارات السيئة أو تلك التي لم تُسفر عن نتائج جيدة. ويتيح هذا الدرس المهم للأطفال إدراك عواقب اختياراتهم وسلوكياتهم، وفي حالة اختيار الطفل لنشاط لم يُسْفر عن نتيجة طيبة، أَخبِر الطفلَ أن هناك مجالًا لفرص أخرى، وأنه ليس مضمونًا انتقاء الخيار الأفضل في كل مرة. ينبغي تذكير الطفل أننا كبشر لا نستطيع معرفة نتائج كل اختيار قبل ممارسة نشاطٍ ما بوقت طويل؛ فنحن نفهم العالم من حولنا من خلال تجربة أشياء جديدة. ولا ينبغي أن يُثقل الكبار أطفالهم بعبارات مكررة حول ما قد يعتبرونه «خيارًا سيئًا»، ولكنَّ إحجام الكبار عن هذا السلوك السلبي يحمل رسالةً مفادُها أنَّ تعلُّم الأمور الجديدة ينطوي على قدرٍ من المخاطرة.
استخدم أسلوب حل المشكلات في مساعي التعامل مع وقت اللعب أو النشاط التالي على نحو أفضل. ناقِشْ مع الطفل سُبُل دراسة البدائل المتاحة. إن إتاحة الفرصة للأطفال لتحمُّل نتائج القرارات التي اتخذوها ستلقِّنهم العديد من الدروس القيِّمة، وتساعدهم ممارسة هذا الأمر في إدراك عواقب اختياراتهم. يتعلم الأطفال من خلال هذه العملية أنَّ الانتقاء من بين مجموعة من الخيارات قد يكون صعبًا ولكنه مُجزٍ، فهو يجعل الآخرين ينظرون إلى الطفل كفرد كفء آخذ في التطور يتمتع بمهارات التعلم. يتضمن هذا النوع من التفويض بالاختيار تأكيدًا صريحًا للغاية بأنهم جزء من الأسرة؛ فالجانب الأكثر إيجابية للانتماء على الأرجح يتمثل في تقبُّل الآخرين لأخطائنا ونقاط ضعفنا جنبًا إلى جنب مع نجاحاتنا.
ومثلما ذكرنا في المثال الخاص بوقت اللعب الفوضوي، فإن التوصل إلى حلول وسطية بين أفراد الأسرة الواحدة يُعد إحدى الاستراتيجيات الأخرى التي تطبقها الأُسَر المتماسكة لتعزيز حس الانتماء. نؤكد مجددًا على إمكانية تعليم الأطفال كيفية استخدام هذه الوسيلة القيِّمة منذ نعومة أظفارهم لمساعدتهم في تكوين علاقات إيجابية مع الآخرين والمحافظة عليها. وإذا ما نظرنا للأمثلة المذكورة سابقًا، فقد يطلب الطفل الصغير ممارسة نشاطَي اللعب بالطين والرسم بالأصابع في يوم واحد. إن مراعاة الأفراد البالغين لاحتياجات الآخرين في الأسرة قد تفرض عليهم تقسيم وقتهم بين العديد من أفراد الأسرة؛ فقد يقول الأب: «لِنتَّفقْ على حل وسط ونمارس نشاطًا واحدًا الآن، وأَعِدُكَ أننا سنحظى بفرصة أخرى للَّعب هكذا في القريب العاجل.» إن استخدام عبارات طويلة مثل «حل وسط» مع طفل دارج قد يبدو غريبًا، ولكن استخدام مثل هذه الكلمات المهمة في مرحلة مبكرة يساعد الأطفال في إدراك الأمور المهمة من وجهة نظر الكبار في الأسرة. ومع تطور الأطفال، يتحول البحث عن حلول وسطية إلى إحدى سمات التفاعل مع الآخرين، ويتوقعون فيما بعد أن العلاقات تقوم على الأخذ والعطاء بما يحقق مصالح جميع الأطراف. ويؤدي عنصر التبادلية في هذه العلاقات إلى تعزيز حس الانتماء في الأُسَر؛ الأمر الذي يساعد أيضًا في تيسير عملية التطور الاجتماعي لدى الأطفال.
عندما يصل الأطفال إلى مرحلة المراهقة، قد تتخذ عمليةُ التوصلِ إلى حلول وسطية والمفاوضات الأُسَرية منحًى جديدًا من التعقيد لجميع أفراد الأسرة، ورغم ذلك، تبقى مقوماتُ الانتماء الأساسية هذه حاضرةً، ويدرك الأطفال التزام الأسرة نحوهم.
(١١) الممارسة في مرحلة المراهقة
على مدار سنوات المراهقة، ربما يتطلب الالتزام بالانتماء إلى الأسرة قدرًا أكبر من المرونة مع توقع المراهق لدرجة أكبر من الاستقلالية، وفضلًا عن توقعات المراهق نفسه، يتوقع الآباء تزايدَ اتخاذ القرارات المسئولة، وزيادةَ الالتزام بالذات وبالآخرين كأولويات للمراهقين. إن استخدام أسلوب حل المشكلات عند الاختيار من بين عدة بدائل للمساعدة في التوصل إلى قرارٍ، ربما يتطلب مساهمة أكبر من المراهق؛ وذلك بهدف أن يشعر بأنه شخص كفء ويحظى بتقدير الآخرين. ويُعد مفهوم «العصف الذهني» إحدى الوسائل الفعالة مع المراهقين التي تُستخدم أثناء الاختيار من بين عدة خيارات للوصول إلى قرار مهم. ويمكن استخدام أسلوب العصف الذهني للتعامل أيضًا مع الأطفال في المرحلة الابتدائية، ولكن المراهقين يستطيعون استخدامه بمهارة أعلى؛ فالمراهقون يتميزون بقدر أعلى كثيرًا من الكفاءة عن الأطفال الأصغر سنًّا من ناحية القدرة على التفكير في عدة اختيارات في الوقت نفسه وفي النتائج المتوقعة لكلٍّ منها. ويُعد هذا أحد عناصر مهارات التفكير الأكثر تقدمًا لدى المراهقين.
- (١)
مشاركة الأسرة جزءٌ لا يتجزأ من هذه العملية، ويجب تقييم كلٍّ من المشكلات ومستويات نضوج الأطفال ورصدها؛ لكي يتسنى للبالغين تحديد المشاركين.
- (٢)
الحرص على التزام كافة المشاركين بهذه العملية قبل بدايتها.
- (٣)
توضيح كافة قواعد عملية «العصف الذهني» التي تتمثل في: الاتفاق على المشكلة المطروحة، واقتراح كلِّ فردٍ الحلَّ الذي يراه مناسبًا للتعامل مع المشكلة، وتجنُّب المقاطعات والردود السلبية. وقد يرغب البالغون في الاحتفاظ بقائمة مكتوبة، وخاصة إذا كان الأطفال الصغار بحاجة إلى مواد مساعدة.
- (٤)
يقول أحد البالغين حينئذٍ: «لديكم الآن قائمة بالتدابير التي يمكن اتخاذها، فلْنناقشْ إيجابيات وسلبيات كلٍّ منها.» ويجب أن تسير المناقشة على نحو نظامي بناءً على أعمار كافة الأفراد المشاركين بها.
- (٥)
يقول أحد البالغين: «في ظل وجود هذه الخيارات، أيها ستختار؟» وإذا لم يتمكن الطفل من الاستقرار على اختيار محدد، يمكن أن يقول الشخص البالغ: «فلْتفكِّرْ في هذه الاختيارات واتَّخِذْ قرارك في [وقت يُتفق عليه]، وبحلول هذا الوقت، يمكننا مناقشة الخيار الذي توصلتَ إليه وكيف ستنفذه.»
- (٦)
وَضِّحْ للطفل أن الاتفاق على اختيار محدد يستوجب الالتزام بتنفيذه.
- (٧)
يحق للآباء الإعرابُ عن اعتقادهم بأن الحل الذي اختاره الطفل خاطئ، ويُفضَّل ذِكر ذلك بوضوح شديد وعلى نحو ودود.
- (٨)
أَتِحِ الفرصة للطفل لتجربة الخيار الذي حدده ما دامت عوامل السلامة والاعتبارات المهمة الأخرى تمت مراعاتها أو لم تكن جزءًا من المشكلة.
- (٩)
تَحدَّثْ مع الطفل عن النتائج وناقِشْه في ذلك، وتَجنَّبْ تكرار عبارة «قرار خاطئ.» بدلًا من ذلك، ذكِّر الطفل بقيمة التجربة والتعلم.
- (١٠)
في حالة اشتراك أكثر من فرد واحد من أفراد الأسرة في تحديد اختيار بعينه ولم يُنفَّذ الإجراء أو جرت إعاقته، يُفضل عقد لقاء آخر لمناقشة الالتزام السابق.
(١٢) تطوُّر الأسرة
تساعدنا الدروس المهمة المستفادة من الاستخدام المبكر لأساليب صنع القرار والبحث عن حلول وسطية في الأسرة في التطور بعدة طرق. عندما يمر الأشخاص بالتجارب المعرفية والاجتماعية والعاطفية والسلوكية، التي تُترجَم إلى قدرةٍ على التحكم في البيئة المحيطة بهم والحفاظ على التواصل مع الآخرين، تتعزَّز صحتهم النفسية. وتمثل الصحة النفسية الجيدة للأطفال والمراهقين عادة انعكاسًا للصحة النفسية التي يتمتع بها الأشخاص البالغون في الأسرة أيضًا.
يستطيع جميع الأشخاص البالغين تعزيز مهارات التربية؛ فالأُسَر تُبنى وترتقي من خلال أساليب التربية الفعَّالة والتركيز على تنمية العلاقات. وعندما يشعر الأطفال بالانتماء إلى الأسرة، سيكون لديهم قدرة أكبر على اتخاذ قرارات في حالة غياب الأشخاص البالغين، ولعل المواقف الأكثر خطورة لن تواجههم حتى يبلغوا مرحلة المراهقة. تقترن فترة المراهقة هذه بهامش حرية أكبر يمنحه البالغون للأبناء، بل قد يمثل اعتيادُهم تدبُّر الخيارات باستقلالية طوقَ النجاة فعليًّا لبعض المراهقين؛ إذ تحمل مواقفُ من قبيل الأنشطة الجنسية وتناول المشروبات الكحولية دون السن القانونية والسلامة أثناء قيادة السيارات فُرَصًا تتيح للأطفال الذين يتمتعون بالاستقلالية والكفاءة استغلالَ قدراتهم — التي اكتسبوها من الكبار — في حل المشكلات، ولا ينبغي التقليل من شأن هذه القدرات؛ إذ إنها تمثل قاعدة إيجابية أخرى يمكن الاستفادة منها في كافة جوانب التطور، كما سيُسْهِم الطفل في الارتقاء بالرفاهية العامة للأسرة بصفته أحد العناصر الفاعلة والعاقلة في الأسرة.
إن اللهو والعمل في المنزل أمران مهمان لنجاح الأسرة، والانتماء يعني المشاركة الكاملة في الأنشطة الأُسَرية، بدءًا من الأطفال الرضع والدارجين. كما أن تعليم الأطفال كيف أن المسئوليات والعلاقات تعملان بالتوافق معًا يمنحهم أساسًا قويًّا لتَطَوُّرهم لاحقًا. إن توقعات الآباء بشأن المعاييرِ السلوكيةِ ومهاراتِ حل المشكلات والبحثِ عن حلول وسطية والالتزامِ، والتي يجري تعريفهم بها بطريقة ودودة ومشجِّعة، تساعد الأطفال في إدراك إمكانياتهم وعلاقاتهم بالآخرين. خلاصة القول أن تمتُّع الأطفال بصحة نفسية جيدة يرتبط بشعورهم بالانتماء.
قد تختلف الأُسَر لأسباب تتعلق بالمستوى الاقتصادي أو الخلفية الدينية أو العرقية، ولكن يبقى الشعورُ بالانتماء إلى الأسرة أمرًا بالغَ الأهمية للجميع. يتعين على الأفراد البالغين تحقيق التوازن بين الرقابة والاستقلالية في عملية تنشئة الأبناء، ويرى علماء النفس أنَّ مَنْح الأبناء قدرًا من الاستقلالية إلى جانب التوجيه المبكر وتقديم النماذج السلوكية يمثل استراتيجيات جيدة لتعزيز الكفاءة لدى الأطفال، والتي ستنعكس على مجالات خارج نطاق الأسرة. إن الصحة النفسية الجيدة التي تبدأ في المنزل ترتبط بعلاقة تبادلية مع التطور الاجتماعي الصحي للأطفال مع أقرانهم.