الفصل السابع

تعزيز المرح

تجلس طفلتان على دَرَج مدخل المبنى، الذي جرى تجديده حديثًا ليكون مأوًى للنساء بالمنطقة، لتناوُل وجبة العشاء، وتقضمان الأكل بصوتٍ عالٍ. لقد بذلت الطفلتان جهدًا تطوعيًّا هائلًا طوال اليوم للمساعدة في تحضيرات حفل جمع التبرعات ذلك المساء، وبإشرافٍ من الأفراد البالغين المهتمين، قامت الطفلتان بتنظيف الفناء وجمع النُّفايات التي خلَّفتها بعض أعمال الإنشاء الجديدة، وبشكل عام، كان يوم هاتين الطفلتين اللتين تبلغان عشرة أعوام حافلًا. تبدو الطفلتان في حالة مزاجية رائعة، حتى مع شعورهما بالإرهاق والجوع. وفي لحظة تأمُّل، تقول إحدى الطفلتين لصديقتها: «كان يجب أن يطلقوا على هذا حفل «جمع المرح»!»

حقًّا إنه حفل جمع المرح! فقد استمتعت الطفلة بصحبة صديقتها علاوة على شعورها بالفخر للعمل الذي قامت به، بل وتدرك أنها قدمت إسهامًا في ذلك اليوم. ويبدو أن والديها والأشخاص البالغين الآخرين ذوي الأهمية في حياتها قد علَّموها السعادة الكامنة في خدمة الآخرين والصحبة والمرح. لقد اكتسبت الطفلة حسَّ فكاهةٍ رائعًا، وفي إحدى اللحظات الإيجابية، صرَّحت بعبارةٍ تعكس شخصيتها؛ فهي شخص يهتم بالآخرين ويتحلى بحسِّ الفكاهة.

يتعلق المقياس السادس الخاص بالصحة النفسية الجيدة بكيفية مساعدةِ عواملَ مثل المرح وروح الفكاهة والضحك جميعَ الأفراد في اجتياز يوم حافل أو حتى يوم مرهق. إن روح الدعابة الجيدة أو الاستعداد لأخذ الأمور ببساطة أكثر، من آنٍ لآخر، تساعد الأشخاص في التطور بشكل عام وإقامة علاقات ذات أهمية شديدة للصحة النفسية والمحافظة عليها. إن الأفراد البالغين في حياة الأطفال ممن يُظهرون الاهتمام يساعدونهم في تعزيز هذه المهارة بحيث يتسنى لهم التعويل على مشاعر أكثر إيجابية في مواقف التطور العادية أو عندما يجابهون ظروفًا عسيرة؛ فالصحة النفسية الجيدة تقترن بالفكاهة في حياة الأطفال.

وقد حظِيَت بحوث علم النفس المتعلقة بالفكاهة بقدْر من الزخم في سبعينيات القرن العشرين مع ظهور الاهتمام بعلم النفس الإيجابي. تَذكَّرْ أننا ناقشنا في الفصل الأول علمَ النفس الإيجابي بصفته حركة حديثة نسبيًّا تتضمن باحثين وأطباء سريريين يسعون لإدراك كيفية تطوير الأشخاص للكفاءة والمحافظة عليها في الظروف العسيرة. وعلى مستوى الموضوعات البحثية، لا يمثِّل موضوع الفكاهة سوى نسبة ضئيلة من الأبحاث في الوقت الحاضر. لدينا بعض البيانات مثلًا في البحوث الخاصة بالبالغين عن كيفية ارتباط الضحك بقدرة الجسد على إفراز الإندورفين أو المواد الكيماوية المسئولة عن «الشعور بالسعادة». وهناك عدد محدود من الدراسات التي تثبت، على سبيل المثال، أن استخدام الدعابة قد يخفِّف من أعراض الاكتئاب لدى الأشخاص البالغين. وعند إجراء دراسات على الأطفال، لم تتوفر بيانات بالقدر نفسه الذي توفرت به عند إجراء الدراسات الخاصة بالبالغين. ولا توجد تقريبًا أيُّ بحوث تساعد في إدراك الدور الذي يقوم به البالغون في تعليم الأطفال قيمة الفكاهة في الارتقاء بالصحة. وقد أهمل علماء النفس تقريبًا موضوع تعزيز المرح، ولكنَّ جذورَ الفوائد التي تتحقق من خلال علاقات المودة ومحاكاة سلوك المرح موجودةٌ بالفعل في تلك الدراسات، بل وتعطي الأُسَر والمعلمين أفكارًا عن كيفية تعزيز المرح أثناء مساعدة الأطفال في التطور. وسنُلقي نظرة أيضًا على البحوث التي تناولت الارتباط بين المرح والفكاهة لدى الأشخاص البالغين وبين تطور الأطفال أيضًا.

سيُستخدم مصطلح «المرح» في هذا الفصل بمعناه المألوف لنا جميعًا: بأنه تجربة تثير فينا الشعور بالسعادة أو التسلية، وعلى الرغم من الارتباط المؤكد بين الضحك والفكاهة، فإنهما يمثلان مجالين مختلفين للدراسة في العلوم؛ فالضحك تعبير عن الشعور العميق الذي ينبع من الأعماق وينبهنا نحن والآخرين إلى حدوث شيء يبعث على التسلية. وفي أثناء الضحك، يَخرج هواء من الفم ويُصدر الجسم حركةً أو صوتًا أو كليهما. يُعرِّف علماء النفس الضحك بأنه: «تمثيل عاطفي»؛ وهذا يعني ببساطة أن المشاعر الإيجابية تنعكس على وجوهنا، بل وأحيانًا على أجسادنا بالكامل. وعلى الرغم من اختلاف القواعد الخاصة بكل ثقافة بشأن المقدار المسموح به من الضحك في البيئات العامة والخاصة، فإننا ندرك أن جميع مجموعات البشر على سطح الأرض تُمارس الضحك.

يمكن وصف «الفكاهة»، بصفتها أحد المجالات المرتبطة بالضحك، بأنها تجربة تحفِّز مشاعر الإثارة أو التوتر بشيء من التناقض يستوقفنا لإعادة النظر في الأمور. تساعدنا إعادة النظر أو الوقفة في محاولة حل ذلك التناقض والاستمتاع بلحظة التسلية؛ ولذلك يتعين على الإنسان الاستمتاع بفرصة المشاركة في هذا النوع من «الرياضة الذهنية»؛ لأنه عندما يَظهر ذلك التباين بين ما هو متوقَّع وبين الواقع الفعلي في مناخ غير تهديدي، نَنْعَم بلحظة من الاستمتاع! فالطفلة التي تظهر في المشهد الافتتاحي لهذا الفصل أدركتْ أنها أدَّت ما عليها من الْتزامات بالعمل الشاق، وقد شعرت بالرضا عن نفسها واستمتعت بمساعدة الكبار في جمع التبرعات من أجل الأشخاص الأقل حظًّا في الحياة منها. وقد ساعدتها تلك العبارة، التي تنطوي على تلاعب بالألفاظ، في وصف ذلك التناقض الذي كانت تشعر به حتمًا؛ فالمجهود الشاق الذي بَذَلَته في حفل جمع التبرعات بدا مسليًا لها، استمتعت الفتاة بهذه المفارقة التهكمية. نوقش استخدام التهكم على مدار خمسين عامًا في مجال علم النفس باعتباره وسيلة للتعبير عن الطرافة أو العبثية التي تعكس التناقض بين حدثين أو كيانين (انظر ليفكورت ٢٠٠١؛ مارتن وليفكورت ١٩٨٣). يستمتع الأفراد بالدعابة التهكمية إذا جرى التعبير عنها بأسلوب ودود وفي مواقف تسودها الثقة المتبادلة، مثلما رأينا في حالة الطفلة الصغيرة التي بذلت مجهودًا شاقًّا ولكنها استمتعت به. ولْنتناوَلْ فيما يلي بعض البحوث التي أُجريت في هذا المجال، وعلاقتها بالصحة النفسية لكلٍّ من الأشخاص البالغين والأطفال.

(١) الأبحاث الخاصة بحس الفكاهة

يشتهر عالم النفس هيربرت إم ليفكورت بأبحاثه التي أجراها حول حس الفكاهة والصحة النفسية؛ فقد أجرى العديد من الدراسات على مدار ثلاثين عامًا حول الفكاهة والضحك، وكانت لديه بعض الرؤى حول كيفية اختياره لمجال الدراسة هذا؛ وهو يقول:

لقد قمتُ بوصف ما بدا لي أنه ابتعادٌ عن هيبة الموقف في جنازة والدي؛ فقد اتضح أنَّ لمَّ شَمْل أفراد الأسرة من كل حدَب وصوب يمثل فرصة للتآلف والمرح معًا. ولم يكن ذلك يعكس بأي حالٍ عدمَ احترامٍ للمتوفَّى، بل كان لتكريمه إلى حدٍّ بعيد؛ فقد كان والدي دائمًا يتميز بالقدرة على الاستهانة بأحلك المواقف من خلال إلقاء دعابة أو طُرفة في أغلب الأحيان تتناسب — إلى حدٍّ ما — مع الموقف، تجعل الآخرين يتعاملون مع الأمر بشكل أقل حدة؛ فقد كانت روح الفكاهة التي سادت هذه الجنازة تتناسب تمامًا مع شخصية المتوفى الذي كان سيتصرف بالطريقة نفسها لو كان مشاركًا بها. الأهم من هذا وذاك، أَنِ استمتع الأقارب بروح الفكاهة تلك؛ الأمر الذي جعل الجميع يغادرون مراسم الجنازة وهم يحملون مشاعر طيبة بعضُهم تجاه بعضٍ. (ليفكورت ٢٠٠١: ٥-٦).

يواصل ليفكورت حديثه ليعطيَنا مثالًا عن جملة تهكمية قيلت في ذلك اليوم؛ فقد قال أحدهم إن جسد إيرف — والد ليفكورت الذي كان يعشق الاعتناء بالحدائق — ستتكالب عليه الآن ديدان الأرض! لاحظ أن ليفكورت قد ذَكَرَ أن والده كان يتمتع بحسِّ دعابةٍ رائعٍ، واستفادت الأسرة من هذه السمة كثيرًا؛ فقد تعززت العلاقات بين أفراد هذه الأسرة بفضل أجواء الدعابة والمرح التي كانت سائدة في جنازة والده. وذكر ليفكورت أيضًا أن الجوانب الإيجابية المقترنة باستخدام الناس للفكاهة من أجل الشعور بالمرح والتأقلم قد أثارت اهتمامه في مرحلة مبكرة من حياته المهنية؛ ففي أثناء عمله السريري في ستينيات القرن العشرين، حاول ليفكورت أن يدرك الجوانب الإنسانية المقترنة بسهولة التكيُّف أو القدرة على اجتياز المواقف العسيرة. وبعد دراسة المفاهيم المتعلقة بقدرة الناس على التأقلم مع المواقف العسيرة لأكثر من عَقد، قرر ليفكورت تغيير موضوع تركيزه بناءً على إلحاح من أحد الطلاب، وهو كارل سوردوني؛ فقد طلب منه سوردوني دراسة الفكاهة باعتبارها استراتيجيةً للتأقلم، وشرع كلاهما في إجراءِ بحثٍ حول روح الفكاهة ونشرِهِ معًا. ومنذ ذلك الحين، انصبَّ تركيز ليفكورت البحثي على الفكاهة وتأثيرها الإيجابي على الإنسان.

وقد أُجريت معظم البحوث المتعلقة بالفكاهة على أشخاص بالغين؛ فقد دَرَسَ ليفكورت وزملاؤه الفكاهة، واكتشفوا العديد من الجوانب المقترنة بقيمتها كآليَّة للتأقلم ودلالة على القدرة على التكيُّف، واكتشف ليفكورت أن الأشخاص الذين يتمتعون بقدرٍ جيدٍ من روح الفكاهة ينعمون بالرضا عن النفس؛ فهُم لديهم قدرة على التأثير أو مشاعر إيجابية فيما يتعلق بقدرتهم على توجيه حياتهم وترسيخ أقدامهم في العالم، كما أنه ليس من السهل أن يغضبوا، حتى وإن كانت الدعابة موجَّهةً إليهم؛ فمِن سمات الشخص الذي يتمتع بالصحة النفسية قدرتُهُ على الضحك رغم إدراكه أنه وَقَعَ فريسةً لمفارقةٍ تهكميةٍ ما. وهذا الضحك إنما هو إشارة للأفراد الآخرين على أن هذا النمط من التواصل مقبول، كما أنه ردُّ فعلٍّ اجتماعي مشجع يُظهر الاهتمام بالعلاقات. مع ذلك يحذِّر ليفكورت من أنه ثمة طُرُق يمكن أن تُستخدم بها الفكاهةُ بطريقة سلبية تمامًا ضد الآخرين، فإذا استُخدِمت الفكاهة للسخرية من الآخرين ولإيذائهم، يُطلق عليها «الفكاهة العدائية». وعلى الرغم من وجود بحوث تتعلق بالاستخدام السلبي للفكاهة، فإن التركيز الأساسي لهذا الفصل يبقى منصبًّا على الاستخدامات الإيجابية للفكاهة، والتي قد يعتبرها الأشخاص البالغون والأطفال وسيلةً لتعزيز المرح. ويعتمد قَدْرٌ من إقامة العلاقات على استخدام الفكاهة.

بشكل عام، يَعتبر العديدُ من هذه البحوث الفكاهةَ قوًى إيجابيةً في حياة الإنسان؛ ففي البحث الذي أجراه كلٌّ مِن رود إيه مارتن وهيربرت إم ليفكورت في عام ١٩٨٣م حول الفكاهة كوسيلة للارتقاء بالصحة النفسية، وجدا أن الأشخاص البالغين الذين يتمتعون بقدرٍ جيدٍ من روح الفكاهة كانوا أقدر على التعامل مع الأحداث السلبية والتحكم في حالاتهم المزاجية بشكل إيجابي، ويعتقد الباحثان أن هذه النتائج توضِّح أن الفكاهة تمثل مَصَدًّا أمام الشدائد؛ إذ تتحسن الصحة النفسية للأشخاص البالغين بفضل الفكاهة السائدة في حياتهم. ويمثل استخدامُ الفكاهة دلالةً للآخرين على أن العلاقات الاجتماعية قائمة، ومن المهم المحافظة عليها، وهي مرتبطة بالصحة النفسية للأفراد. وتوضح بعض الدراسات البحثية كيف يمكن أن تكون روح الفكاهة أحد العوامل المرتبطة بالصحة البدنية أيضًا؛ ففي العديد من الدراسات المتعلقة بالعلاقة بين التوتر وضعف الاستجابة المناعية مثلًا، اكتشف الباحثون أن الفكاهة تمثل أحد أفضل المؤشرات على النتائج الإيجابية، حتى في ظل ظروف عصيبة مثل تلقي علاج السرطان. ولْتتأمَّلْ هذا المثال الخاص بليفكورت.

نشر ليفكورت وزملاؤه دراسة قاموا فيها بأخذ عينات من الجهاز المناعي من خلال أخذ عينات من دم المشاركين، وذلك قبل الاستماع لحوار فكاهي وبعده. اتضح أن المشاركين الذين استمعوا إلى الحوار الفكاهي كانت لديهم في دمائهم نسبة أعلى من المواد الكيميائية الخاصة بالجهاز المناعي القوي عن المشاركين الآخرين في الدراسة ممن لم يستمعوا إلى الحوار الفكاهي (انظر ليفكورت وديفيدسون-كاتز وكوينيمان ١٩٩٠). وقد دفعت هذه النتائج وغيرها علماء النفس للاعتقاد بأن الأشخاص عندما يكونون متفائلين ويتمتعون بروح الفكاهة، تزداد قدرتهم على المحافظة على أجهزتهم المناعية؛ الأمر الذي يؤدي من ثَمَّ إلى تعزيز صحتهم البدنية. كم هي نتيجة رائعة حول التفاعل بين الروح والجسد!

(٢) الأبحاث الخاصة بالضحك

هناك علاقة أيضًا بين الضحك والنتائج البدنية الإيجابية، وثمة تقارير تاريخية تثبت أن الفلاسفة كانوا يُشِيدون بالفوائد البدنية للضحك، وذلك منذ القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، ويشير ليفكورت (٢٠٠١) في هذا الشأن إلى العمل الذي قام به طبيب أمريكي كان يعمل في جامعة فوردهام في عام ١٩٢٨م: وضع الدكتور جيه جيه والش نظريةً مفادها أن الحالة النفسية هي المؤشر الأمثل لصحة المريض، وأن الضحك والصحة يرتبطان أحدهما بالآخر؛ فإذا ضحك المرء واستغرق في الضحك لوقت من الزمن، فإن ذلك ينبئ بأنه يتمتع بصحة أفضل من وجهة نظر الدكتور والش. ولكن لم تُجْرَ أبحاثٌ كافية عن الضحك ﻛ «علاج» على مدار عدة عقود في الولايات المتحدة حتى ظهرت حركة علم النفس الإيجابي. وصاحَبَ زيادةَ أبحاث علم النفس الإيجابي تزايدُ الاهتمام بالضحك كأحد المؤشرات الدالة على الصحة.

بحلول ثمانينيات القرن العشرين، بدأ الارتباط بين الصحة البدنية للإنسان والضحك يتجلَّى أمام الباحثين. كان لديهم بيانات تدعم هذه المزاعم بفضل الدراسات الخاصة بمعدل ضربات القلب والمعالجات البحثية الأخرى في العلوم. على سبيل المثال، يتسبب الضحك في زيادة معدل ضربات القلب والتنفس، وهما أمران يُعتقد أنهما يمثلان مؤشرًا للصحة البدنية. وبحلول تسعينيات القرن العشرين ومع ظهور التصوير بالرنين المغناطيسي، تَمكَّن الباحثون من رؤية النشاط الطبيعي للمخ بسهولة أكبر، ودون الاضطرار إلى فتح الجمجمة أو إجراء أي معاينات تدخلية أخرى. وقد أتاح التصوير بالرنين المغناطيسي إمكانية مشاهدة نشاط المخ أثناء الضحك فعليًّا، وهو ما يشكل تطورًا كبيرًا مقارنة بالدراسات السابقة. ومثلما هي الحال مع سائر الاستجابات الفسيولوجية الأخرى لدى الإنسان، اتضح ارتباط الضحك بردود الأفعال العصبية والكيميائية الأخرى في المخ، وذلك بواسطة التصوير بالرنين المغناطيسي.

اكتشف ويليام إف فراي، الطبيب النفسي والباحث في مجال الضحك وكيمياء المخ، في دراساته أدلةً تَدْعم النظريات المبكرة التي ترجِّح أن الضحك يعزِّز العديد من أجهزة الجسم (انظر فراي ٢٠٠٢)؛ فعندما يضحك الإنسان تزداد معدلات ضربات القلب والتنفس والوظيفة المناعية، علاوة على إفراز الإندورفينات، وهي المواد الكيميائية المسئولة عن «الشعور بالسعادة» في جسم الإنسان. تخيل أن المخ يمثل محطة التشغيل الأساسية لجميع هذه الأنشطة. ويرى فراي أن المخ يساعد الأشخاص في ملاحظة وإدراك موطن الغموض أو التناقض الذي سيجري استيعابه وترجمته على أنه دعابة، كما أن المخ يُصدر الإشارة بردِّ الفعل الفسيولوجي الذي يتمثل في الضحك. ويستطرد فراي قائلًا إن الباحثين لا يزالون في طَوْر استكشاف كيفية ارتباط الضحك بالاستجابات الفسيولوجية الأخرى. ينبهنا فراي مثلًا أن الباحثين، بصفتهم مجتمعًا علميًّا، لا يدركون حتى الآن ما إذا كان الأشخاص الذين لا يضحكون إلا نادرًا لا يتمتعون بالقدْر نفسه من الصحة التي ينعم بها من يضحكون كثيرًا. وهناك عدد محدود من الدراسات التي قامت بإجراء مقارنات بين هذه المجموعات وكان بها أوجُه خلل في التصميم، مثل قياس المشاركين في وقت واحد وليس على مدار فترة زمنية طويلة. ولا توجد بيانات طولية تدعم هذه النتائج، ويكفينا أن نقول في هذا الشأن إننا ندرك أن فسيولوجيا الضحك يمكن أن تظهر من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي، وأن المخ يحفِّز استجابات أخرى في الجسم يُعتقد أنها إيجابية ومعززة للصحة.

يتميز الضحك بفوائد نفسية أيضًا؛ فعلاوة على فوائد المساعدة في إقامة علاقات وتوطيدها، يمكن للضحك أن يساعد الناس في اجتياز المواقف العصيبة في الحياة والتخفيف من أعراض الاكتئاب بعد تكبُّد خسارة. وقد أجرى عالما النفس داشر كيلتنر وجورج إيه بونانو، الخبيران في دراسة التأقلم مع الخسارة، دراسةً على الأقارب المكلومين بعد فقدان شخص عزيز، وخلص العالمان إلى أن مَن تمكَّنوا من الضحك في موقف فكاهي في غضون ستة أشهر من وفاة القريب كانوا أقدر على التأقلم مع خسارتهم عن غيرهم ممن كانوا أكثر كمدًا في تلك الأشهر الأولى (كيلتنر وبونانو ١٩٩٧). يَعتقد هذان الباحثان أن استعداد الأشخاص المفجوعين على فقدان شخص عزيز للتواصل مع الآخرين على نحو إيجابي يشير إلى استعدادهم للمضي قُدُمًا، والانخراط في شئون حياتهم، بدلًا من التركيز على خسارة الشخص العزيز. وعندما أفاد المشتركون في دراستهما أنهم انخرطوا في الضحك الذي انطوي على تحريك الفم وعضلات العين، أيْ ضحكة صادقة ونابعة من الأعماق، فإن هذا الضحك اقترن بانخفاض معدلات التوتر، مقارنة بمن لم ينخرطوا في الضحك بالقدر نفسه، وفي خضمِّ هذه الضحكات كانت الانفعالات الإيجابية والمتعة الكلية عاليتين. اكتشف كيلتنر وبونانو أيضًا أن مَن ضحكوا أكثر تمتعوا بروابط اجتماعية أفضل مع الآخرين، ويعتقد الباحثان أن الأشخاص الذين يمكنهم الضحك هم أقدر على المحافظة على العلاقات الاجتماعية. وتدعم هذه البيانات وجود علاقات بين الفكاهة والضحك والأداء السليم لدى الأشخاص البالغين.

نتطرق في القسم التالي من هذا الفصل إلى كيفية نقل هذه النزعة لرؤية الجوانب الإيجابية للمواقف والاستمتاع بلحظات البهجة من الأشخاص البالغين إلى الأطفال، وكيفية تطوير الأطفال لهذه المَلَكة.

(٣) تطوير الأطفال لِحِسِّ الفكاهة

آن إس ماستن عالمةُ نفسٍ متخصصةٌ في مجال القدرة على التكيُّف مع الصِّعاب لدى الأطفال، الذي ناقشناه في الفصل الأول. أَجْرت ماستن دراسات على تطور حس الفكاهة لدى الأطفال كمؤشر على قدرتهم على التكيُّف مع الصعاب. ودوَّنت ماستن في عام ١٩٨٦ ملخصًا بالأشياء المعروفة آنذاك فيما يتعلق بتطوير الأطفال لِحِسِّ الفكاهة وعلاقته بالسلوكيات الإيجابية الأخرى. بالنسبة للأطفال الصغار أو الرُّضَّع، فإن حسَّ الفكاهة يساعد في تعزيز العلاقة بين الأم والطفل الرضيع؛ أي إن العلاقة الاجتماعية الأولى تَتعزَّز من خلال حسِّ الفكاهة؛ فالأطفال الرُّضَّع من عمر ستة أشهر يستمتعون بمداعبة الأمهات لأقدامهم أو عند ممارسة أفعال اللهو الأخرى؛ حيث تظهر ابتساماتهم وضحكاتهم العالية أمام الجميع. وكما هي الحال مع كافة سلوكيات البالغين، تمثِّل الدعوة لممارسة اللعب نموذجًا يَحتذي به الأطفال، حتى الصغار للغاية. ومع التحاق الأطفال بمرحلة رياض الأطفال، ينظر الباحثون إلى الفكاهة باعتبارها أحد الأساليب الاجتماعية للتكيف مع الآخرين، كما اكتشفوا أيضًا أن الأطفال يستخدمون الدعابة للتأقلم؛ فقد يتعثَّر الطفل على الأرض ثم يقفز مُسرعًا لاستعادة وضعه الصحيح ويبتسم قائلًا: «من فعل ذلك؟!» تمثِّل مشاركة الدعابات والابتسامات تشجيعًا متبادلًا؛ حيث إنها تضفي المتعة على التفاعل الاجتماعي وتبقى مرغوبةً في المستقبل، ويدرك الأطفال في وقت مبكر للغاية كيفية استخدام الفكاهة لمساعدتهم في علاقاتهم الاجتماعية.

أَجْرت ماستن عام ١٩٨٦م دراسة حول مدى ارتباط السلوكيات الإيجابية الأخرى، أو الكفاءة، بالفكاهة لدى الأطفال بين العاشرة والرابعة عشرة من عمرهم. اكتشفت ماستن ارتباط كلٍّ من الكفاءة الاجتماعية والمعرفية باستخدام الأطفال لِحِسِّ الفكاهة. يَسعد الأطفال برفاقهم الذين يتمتعون بِحسِّ فكاهة جيد؛ إذ يُنظر إليهم كأشخاص أَكْفاء بشكل عام ويسعى الجميع لمصادقتهم. وقبل أن يتمكن الأطفال من استخدام حسِّ الفكاهة مع الآخر، يجب أن يكونوا قادرين على الوصول إلى معلومات معينة والتعامل معها بطريقة رمزية، وإصدار تجسيد لفظي للمزاح (كدعابة أو تعليق ساخر) أو إطلاق ضحكة تدل على إدراك الدعابة التي ذكرها شخص آخر. ولْنتناوَلِ الآن مثالًا من مجموعة من الفتيات في مرحلةِ ما قبل المراهقة.

يقود الأب سيارته وبصحبته ست فتيات يَبْلُغْنَ اثنَي عشر عامًا يصطحبهن لإحدى مباريات كرة القدم، ويلاحِظ أن هناك مناقشة دائرة بينهن عن الأشخاص الأتراك. كان حديثهنَّ يميل نحو تنميط الأتراك كما لو كانوا جميعًا مؤيدين للعنف، وكما لو أن الفتيات عَرَفْنَ العديد من مُواطني الدولة. يقاطع الأب الفتيات ليوجِّهَ إليهنَّ سؤالًا: «مهلًا مهلًا، أنتنَّ تخاطرْنَ الآن بتنميط جميع المواطنين الأتراك؛ فهل تعرف أيٌّ منكن أيَّ شخص من تركيا؟» فتردُّ الفتيات: «كلا.» ولكنهنَّ يفسِّرْنَ الأمر بأنهنَّ كنَّ يدرسْنَ تاريخ الحروب التركية في المدرسة. وفي محاولة لتجميع أفكار أخرى يقولها للفتيات، استدرجهُنَّ الأب للحديث أكثر حول الحروب التركية. استطاعت الفتيات بالفعل وَصْف العديد من الحروب والمعارك التي بدا أنها اندلعت من تركيا وصراعاتها مع الدول الأخرى، وحينئذٍ خطرت للأب فكرة؛ نظرًا لأن هذه الواقعة حدثت في عام ٢٠٠٣م، الذي شهد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق، وبعد بضع سنوات من دخول الولايات المتحدة وحلفائها إلى أفغانستان، يقول الأب: «حسنًا، إنكنَّ مطَّلعاتٌ بالفعل على العديد من الحروب التي خاضتها الحكومات التركية، فهي على النقيض من الولايات المتحدة التي لم تشترك في أي صراعات دولية!» وهنا تنفجر كل الفتيات في السيارة في ضحكات مدوِّية، وتعلق بضع فتيات على «الحقيقة» التي وردت في ثنايا المفارقة واستخدام الأب للتهكم للتخفيف من أسلوبهنَّ في التنميط.

هناك العديد من الدروس المستفادة في هذا الحوار الذي جرى بين الأب وابنته وصديقاتها؛ بدايةً أراد الأب مَحْقَ نزعتهنَّ لتنميط الأتراك، وبعد أن أفسح أمامهنَّ المجال للحديث أكثر عن أسباب تكوُّن هذه الأفكار لديهنَّ، طرأت له فكرة؛ فبالنسبة لمواطني الولايات المتحدة، شهدت السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين صراعًا دوليًّا؛ فهؤلاء الفتيات أثناء توجُّههن لمباراة كرة القدم أظهرْنَ العديد من السمات الداخلية والخارجية بِبِيئاتهنَّ، والتي تُعد ضرورية للاشتراك في الدعابة على هذا المستوى.

بداية، قرر أحد الأشخاص البالغين المهتمين أن يساعد الفتيات في مراجعةِ وجهات نظرهنَّ، ثم دفْعِهن برفق نحو اكتشاف تنميطهنَّ للآخر بقدرٍ من الدعابة. وكان استخدام التهكُّم لمساعدة الفتيات في إدراك مدى سخافة التنميط الذي يَنتهجْنَه قد أثبت فاعليته في نهاية الأمر، وعلى المستوى التطوري للفتيات، فهنَّ يدركْنَ الحقائق. كانت هؤلاء الفتيات اللائي يَبْلغْنَ اثني عشر عامًا يُدركْنَ أن كلًّا من تركيا والولايات المتحدة خاضتا صراعات، وعلى الصعيد المعرفي فقد جرى تحفيزهنَّ بمناقشتهنَّ للتاريخ التركي قبل أن يعبِّرْنَ لفظيًّا عن التصوير النمطي للأشخاص. كانت الفتيات مستمتعاتٍ بجوِّ الأُلفة وتبادُل المعلومات معًا، وأدركْنَ أيضًا أن استخدام الأب لمصطلح «التنميط» يشير إلى أنهنَّ يصنِّفْنَ الغير بصورة غير عادلة؛ مما يشكِّل غَبنًا لهم. كانت الفتيات مستعداتٍ للإنصات إلى الأب، وهو ما يعكس قدرًا من الثقة وقدرًا من الالتزام الاجتماعي نحوه في أثناء حديثه؛ أيِ استعدادًا لتوطيد علاقة اجتماعية. كما كان مستوى اهتمامهنَّ المعرفي والاجتماعي مرتفعًا عندما تدخَّل الأب في الحديث.

وعندما عقد الأب مقارنة بين الشعبين التركي والأمريكي، أدركت الفتيات المفارقة، والتنافر الكامن في حديثه عن الولايات المتحدة؛ ومن ثَمَّ تمكنت الفتيات من التعامل مع الموضوع بأسلوب مجرد إلى حدٍّ ما؛ فقد أثار الأمر فضولهنَّ وأدركْنَ أن تصنيف جميع الأشخاص الأتراك معًا أمرٌ سخيفٌ؛ لأن الشيء نفسه ينطبق عليهنَّ أيضًا. وقد حفز التعليق الساخر للأب «على النقيض من الولايات المتحدة» عقولهنَّ للتفكير لجزءٍ من الثانية؛ مما أدى إلى انفجارهنَّ في ضحكات مُدوِّية عندما أدركْنَ تناقُض الحديث. تَمتَّعَت الفتيات بمستوًى عالٍ، إلى حدٍّ ما، من إدراك المعلومات الواقعية، أتاحَ لهنَّ استيعاب تناقُض الحديث بالشكل المناسب، وسَخِرْنَ من أنفسهنَّ بالضحك وأدركْنَ نزعة التنميط التي أظهرْنَها؛ ومن ثَمَّ كُسرت حدة التوتر التي سادت المناقشة. تَحقَّقَ كل هذا بفضل استخدام قدر يسير من الدعابة التي غلَّفت الدرس الذي لقَّنه الأب للفتيات.

ومثلما رجحت ماستن في عام ١٩٨٦م، فالأطفال الذين يدركون الحقائق ويمكنهم استخدام المعلومات بصورة مجردة، من المحتمل أنهم سيتمكنون من استخدام الفكاهة بأساليب معقدة لإقامة علاقات والمحافظة عليها. وعندما ناقشت ماستن نتائج بحثها، ذكرت بعض التنبيهات التي ينبغي الانتباه إليها؛ فالبيانات لا تسمح لنا بالتأكيد على أن الأطفال الذين يستخدمون حِسَّ الفكاهة سيكونون أكثر ذكاءً أو سعادةً من الأطفال الآخرين. وبشكل عام، ترتبط الكفاءة المعرفية والاجتماعية بحسِّ الفكاهة لدى الأطفال، وبرغم ذلك، لم يتمكن الباحثون من تحديد أيهما يؤثر في الآخر.

تعتقد ماستن وزملاؤها بوجود صلة بين العلاقات الإيجابية مع الأقران والنجاح الدراسي، وأن حس الفكاهة له دور في هذه العلاقات أيضًا. وفي الدراسة التي أَجْرتها في عام ١٩٨٦م، اكتشفت ماستن أن معلمِي الأطفال الذين كانوا يتمتعون بحسِّ فكاهة عالٍ ذكروا أنهم يتمتعون بالكفاءة في الصف الدراسي. وعلى الرغم من عدم تحديد كيفية تطوير الأطفال لِحِسِّ الفكاهة ومدى تبايُن هذه البيانات تمامًا، يبقى حسُّ الفكاهة أحدَ العوامل المهمة في تطور الأطفال. يشير حِسُّ الفكاهة إلى أن الأطفال يتمتعون بقدر من الوعي المعرفي والاجتماعي، وهذا ما نعرفه، وكلاهما مؤشران للصحة النفسية الجيدة. ولدينا بعض البيانات أيضًا حول استخدام الآباء لِحِسِّ الفكاهة في قيامهم بدورهم في تيسير نمو أطفالهم.

(٤) نقل الوالدين لِحِسِّ الفكاهة

كما هي الحال مع المقاييس الأخرى الواردة في هذا الكتاب للارتقاء بتطور الصحة النفسية لدى الأطفال، يعتمد الأطفال، إلى حدٍّ كبير، على مقدِّمي الرعاية البالغين في حياتهم لاستخدام الدعابة والمرح بأسلوب إيجابي؛ فالصحة النفسية الجيدة يمكن أن تتَعزَّز من خلال حسِّ الفكاهة والمرح؛ فالأب الذي وَرَدَ في الرواية السابقة يُعد مثالًا جيدًا لنموذج الشخص البالغ الذي يمكن أن يلاحظه الأطفال ويقتدوا به. وقد اكتشف باحثون بعض الروابط بين سلوكيات الآباء مع أطفالهم وبين تطور حسِّ الفكاهة لدى الأطفال.

اكتشف عالما النفس البارزان جاك بلوك وناثان كوجان (لقاء شخصي، يناير ٢٠٠٧) أن نزعة المزاح لدى الآباء أنبأت بالاستقلالية لدى الأولاد واستخدامهم لِحِسِّ الفكاهة. أجرى بلوك وكوجان دراسة طولية على الأطفال بدايةً من عمر ثلاث سنوات أثناء تفاعلهم مع آبائهم، وقاموا بمتابعة هؤلاء الأطفال حتى بلغوا ثمانية عشر عامًا. كان عالما النفس هذان مهتمَّيْن بدراسة احتمالية الارتباط بين سلوكيات الوالدين في مرحلة الطفولة المبكرة وبين تطور أطفالهم في مرحلة أوائل البلوغ، وخلصت الدراسة إلى أن الأمهات والآباء الذين استخدموا كثيرًا المزاح والمرح مع الأولاد في عمر الثلاث سنوات كان لديهم أولاد يتميزون بالاستقلالية وروح الدعابة في سن الثامنة عشرة؛ فالأولاد الذين يتميز آباؤهم وأمهاتهم بحب المرح حققوا نتائج نفسية طيبة عند بلوغهم ثمانية عشر عامًا.

وبعد إجراء الباحثين لدراساتٍ على هؤلاء الأولاد ذوي الثمانية عشر عامًا على مدار عدة سنوات، بدا أنهم استفادوا بشدةٍ من تلك السمة الرائعة للآباء. تَذكَّرْ أننا قمنا في الفصل السادس بدراسة الاختلافات الثقافية فيما يتعلق بالأعراف السلوكية التي تتضمن مقارنة النزعة الفردية بالنزعة الجماعية. اكتشف بلوك وكوجان أن هؤلاء الأولاد قد اكتسبوا بالفعل العُرفَ الثقافي السائد للغاية في الولايات المتحدة؛ حيث بدا إعلاؤهم لقيمتَي الفردية والاستقلالية؛ فقد كان هؤلاء الأولاد البيض المنتمون إلى الطبقة المتوسطة غالبًا يتمتعون بالاستقلالية؛ مما يدل على أن الآباء قد نجحوا في تنشئة أولادهم وفقًا للعُرف الثقافي. إضافة إلى ذلك، حظي هؤلاء الأولاد الذين نشئوا بين آباء يتمتعون بِحِسِّ الفكاهة بمستوًى أعلى من المرح في حياتهم مقارنة بالأولاد الذين تَولَّى تربيتَهم آباءٌ يتسمون بقدر أقل من حسِّ الفكاهة. وتدعم هذه البيانات الفرضية التي تُرجِّح أن يكون استخدام الآباء لِحِسِّ الفكاهة مع أطفالهم نموذجًا يَحتذي به الأطفال. إن تجسيد النموذج السلوكي يُعد أداة تعليمية شديدة الفعالية لتطوير الصحة النفسية الجيدة، وهناك بيانات توضح كيفية استخدام الآباء لِحِسِّ الفكاهة جنبًا إلى جنب مع أساليب التأديب أيضًا.

تَذكَّرْ أننا قمنا في الفصل الرابع بدراسة أساليب التأديب الخاصة بالآباء، فالجهود التي يبذلها الآباء لوضع قواعد واضحة عن المعايير السلوكية تساعد أطفالهم في فهم توقعاتهم. علاوة على ذلك، تَذكَّرْ أن البالغين الذين يأملون في اتباع الأطفال معاييرَهم السلوكية ينبغي أن يستخدموا أسلوب الحث لتوجيههم؛ بمعنى أنه عند تشجيع الأطفال لمناقشة المعايير السلوكية التي يضعها الوالدان معهم، يُرجح أن يقوم الأطفال بتبنِّي هذه المعايير بصفتها المعايير الخاصة بهم. ويرتبط هذا النوع من مرونة الآباء بالمحافظة على المودة في العلاقات بين الآباء والأطفال، ومن المرجح أن يستوعب الأطفال الرسائل الواردة من البالغين. فلْنستعرِضْ إحدى الدراسات القليلة التي تناولت استخدام الآباء لِحِسِّ الفكاهة في أساليبهم التأديبية التي تساعد في المحافظة على المودة مع الأطفال.

في عام ٢٠٠٤م، نشرت أليسيا ريجر دراسة عن استخدام الآباء لِحِسِّ الفكاهة في الأُسَر التي لديها أطفال ذوو إعاقات (ريجر ورينداك ٢٠٠٤). قامت أليسيا ريجر بدراسة الأُسَر التي انطوت ظروفها الحياتية على ضرورة أن تتضمن أساليب التربية المستخدمة مراعاةً لطفل واحد يعاني حالة إعاقة. اكتشفت ريجر أن هذه الأُسَر استخدمت حِسَّ الفكاهة لأسباب متنوعة، من بينها استخدامه كاستراتيجية للاستجابة إلى السلوكيات السلبية أو العدوانية من الأطفال. وقد وَصَفَت ريجر هذه الأُسَر على أنها أُسَر «متمكنة»، وقصدت بهذا أن الوالدين اللذين لديهما منظور خاص بمراعاة نقاط القوة عند التعامل مع جميع أبنائهما لا تقتصر قدراتهما على التأقلم مع حالة الإعاقة فقط، بل يمكنهما مساعدة الأسرة في الحفاظ على تماسكها وإيجابية علاقاتها. كان حِسُّ الفكاهة أحدَ مواطن القوة الإيجابية للغاية في ذلك الإطار لهذه الأُسَر؛ فقد اعتبر هؤلاء الآباءُ الفكاهةَ أحدَ أساليب تعليم أطفالهم، بما في ذلك الحد من السلوكيات السلبية، وأنها أداة لحل المشكلات إلى جانب أنها وسيلة للمحافظة على استقرار العلاقات الأُسَرية.

في عام ١٩٩٤، ابتكرت عالمتا النفس المتخصصتان في مجال التطور، جوان إي جروزيك وجاكلين جيه جودناو، نموذجًا لأساليب التربية الفعالة باستخدام العديد من العوامل البارزة في نظريتهما، وقد لَخَّصَتا العديد من سنوات البحث فيما يتعلق بأساليب التأديب التي يطبقها الوالدان، والتي تساعد الأطفال في اعتناق القِيَم التي يؤمن بها الوالدان. تؤيد هاتان الباحثتان استخدام الحث والمودة في الأساليب التأديبية التي يستخدمها الوالدان، وأشارتا في عام ١٩٩٤م إلى ضرورة إجراء أبحاث عن العلاقة بين حِسِّ الفكاهة والوسائل التأديبية التي يتبعها الآباء، ولكن تم تجاهل هذا الجانب في مجال النفس تقريبًا. وقد ذكرت جروزيك في لقاء شخصي جرى في يونيو من عام ٢٠٠٧م أن علماء النفس لم يَدْرسوا استخدام الآباء لِحِسِّ الفكاهة مع أطفالهم جيدًا، وأن مثل هذه الدراسات مطلوبة بصورة ملحَّة. وفي ظل تزايد الاهتمام بعلم النفس الإيجابي، ربما يُجرى المزيد من البحوث المتعلقة باستخدام حِسِّ الفكاهة لاحقًا؛ فعملٌ كالذي قامت به أليسيا ريجر يحمل في طياته وعدًا بإجراء المزيد من البحوث، كما أنه يمثل دعمًا لعمل رود إيه مارتن، الذي نوقش سابقًا بصفته أحد علماء النفس الخبراء في مجال دراسة حِسِّ الفكاهة والتأقلم لدى الأشخاص البالغين.

(٥) حِسُّ الفكاهة وتأقلم الأطفال

أفرد مارتن أيضًا فصلًا كاملًا للحديث عن فوائد الفكاهة في حياة الأطفال (مارتن ١٩٨٩). يَصِف مارتن استخدام الأطفال لِحِسِّ الفكاهة كوسيلة للتأقلم أثناء النمو، ويذكر أن الطفلة التي يمكنها مواجهة المواقف العسيرة بِحِسٍّ فكاهيٍّ وضحكٍ تتميز بمهارة رائعة في منهجية التأقلم الخاصة بها. إن النزاع والاكتئاب والتوترات الأُسَرية وضغوط الأقران في محيط الحي أو المدرسة قد تشجع الأطفال على الإقدام على سلوكياتٍ غير مقبولة لدى الأشخاص البالغين، ورغم أن ذلك يتوقف على تطوير الأطفال للمهارات المعرفية والاجتماعية، يَذكر مارتن أن استخدام الدعابة للتخفيف من حدة النزاع أو المساعدة في حل المشكلات يعطي الطفلة فرصة للتأمل في المشكلة من «منظور مختلف». وهنا ندرك ثانية أهمية استخدام التهكم أو الحديث المتناقض.

تَذكَّرْ أن تعريف حِسِّ الفكاهة ينطوي على وجود تناقُض ممتع؛ فقد وصفتُ في بداية هذا الفصل قدرة لاعبات كرة القدم اللاتي يَبلغْنَ اثني عشر عامًا على ملاحظة وإدراك الحقائق والتناقض الكامن في تعليقاتهنَّ التنميطية للشعب التركي، وقد ساعدهنَّ إدراك هذا التناقض، الذي اتضح في المقارنة بين الأشخاص المختلفين من تركيا والولايات المتحدة، في تغيير وجهات نظرهنَّ، كما أتاح هذا «المنظورُ المختلف»، أو تغير الإطار المرجعي لهنَّ، الفرصةَ للتأملِ وإدراك سخافة ما كُنَّ يؤمنَّ به، والتخلصِ من حالة التوتر بينهنَّ. وفي مثل هذه الظروف، يتمكن الأطفال من ملاحظة حِسِّ الفكاهة واستيعاب قدرته على حسم النزاع من خلال الحد من أي تهديد لهم أو للآخرين؛ فَحِسُّ الفكاهة يساعد الأطفال في التأقلم مع الآخرين.

ويستطرد مارتن قائلًا إن مثل هؤلاء الأطفال ممن يتمتعون بِحِسٍّ فكاهيٍّ جيدٍ، أيِ القدرة على تغيير إطارهم المرجعي، يُنظر إليهم بصورة إيجابية من قِبل أقرانهم ومن قِبل الأشخاص البالغين، كما يُرجح أن يتمتعوا بصحة نفسية أفضل كبالغين. كما يرى مارتن أن الاستخدام الصحيح لِحِسِّ الفكاهة يساعد الأشخاص في المحافظة على أواصر العلاقات القائمة بينهم. وبشكل عام، فالطفلة التي تتمتع بصحة نفسية جيدة بمقدورها استخدام حِسِّ الفكاهة على نحو ملائم، كما يمثل حِسُّ الفكاهة الجيد إشارة للآخرين بأن التفاعلات مع الطفلة ستكون مصدرًا للسعادة؛ وستتجلى علامات الصحة النفسية الجيدة للطفلة أمام الجميع.

وَضَعَ عالم النفس بول إيه ماجي مؤلَّفًا حول تطور حِسِّ الفكاهة لدى الأطفال (ماجي ١٩٨٩). ذَكَر ماجي الجهود المبكرة آنذاك لمجموعة من علماء النفس وأخصائيِّي التربية الهادفة إلى فَهْم تطور حِسِّ الفكاهة لدى الأطفال والتطبيقات العملية المحتملة لهذه المهارة على مناحي التطور الأخرى، وذكر ماجي أن تطوُّر حِسِّ الفكاهة يرتبط بعملية اكتساب المهارات الأخرى، وهو ما يتطابق تمامًا مع طرح كلٍّ من ماستن ومارتن. هذه المهارات تتضمن مهارات معرفية واجتماعية، ولكن لم يتوصل أحد حتى الآن لمعرفة كيف يترجم حس الفكاهة إلى عملية اكتساب مهارات أخرى. وذكر ماجي أن حس الفكاهة يُعزِّز تطور الأطفال من خلال تشجيعهم على التعلُّم وتحفيز الانفعالات الإيجابية لديهم، ويُعزز العلاقات الاجتماعية بالطريقة نفسها. ومن المرجح أن يساعد حس الفكاهة لدى المعلمين في تعزيز قدرة الأطفال على التعلم، ولكن لا يتوفر لدينا في الوقت نفسه الكثير من البيانات التي تدعم هذه المزاعم، وربما يصعب توفير بيانات إحصائية لهذه النظرية، ولكنها رغم ذلك تُمثِّل إحدى الأطروحات البحثية الجيدة. وقد أفرزتْ دراساتٌ أُجريت مؤخرًا بياناتٍ تَدعم استخدام حس الفكاهة في الصف الدراسي، ولْنَستعرضْ بعضًا منها فيما يلي.

(٦) حس الفكاهة والمعلمون

أجرت عالمة النفس هيلين باتريك وزملاؤها دراسةً على الأيام الأولى في المدرسة لمجموعة من الأطفال الذين تبلغ أعمارهم اثنَي عشر عامًا (باتريك وآخرون ٢٠٠٣). اكتشف الباحثون أن المعلمين الذين استخدموا حس الفكاهة كانوا أكثر قدرة على توفير بيئات داعمة في فصولهم الدراسية، وأشار الأطفال في هذه الفصول إلى أنهم أكثر التزامًا بالمنهج الدراسي في نهاية العام الدراسي؛ فقد نُقلت الرؤى والتوقعات الإيجابية لهؤلاء المعلمين نحو طلابهم إلى الطلاب جنبًا إلى جنب مع جرعات من الفكاهة الملائمة؛ مما ساعد هؤلاء الأطفال في النجاح.

واكتشف العالمان في مجال الصحة العامة، كاتي باستن ودانييل وايت، من واقع دراساتهما في المملكة المتحدة أن الأطفال يشاركون بصورة أكثر فاعلية في الحجرات الدراسية عندما يكون معلموهم يتمتعون بحس فكاهي واضح، واكتشف هذان الباحثان أن الأطفال وجَّهوا إلى المعلمين أسئلة أكثر وقلَّت ممارستهم للسلوكيات المزعجة عندما كان لديهم معلمون يتميزون بحس فكاهة أكثر من زملائهم ممن يكون لديهم معلمون أكثر جدية. كانت الحماسة أيضًا أحد العوامل المرتبطة بنجاح الأطفال، ولكنهما لخَّصا نتائجهما بقولهما: إنه وبشكل عام يحظى المعلمون المتميزون بحس فكاهي كبير بصفوف دراسية أكثر نجاحًا (باستن ووايت ٢٠٠٤).

ظهرت في تايوان أيضًا بيانات توضح ارتباط حس الفكاهة لدى المعلمين بالتعليم الإبداعي؛ فقد خلصت جيو شيان هورنج وزملاؤها إلى نتائج مفادها أن المعلمين الذين كانت لديهم أفكار إبداعية واستعداد لاستكشاف وسائل تعليم جديدة وثقة في قدراتهم التعليمية تميزوا بحس فكاهي قوي أيضًا. ويعتقد هؤلاء الباحثون أن التوجيه الناجح والإبداعي يتوقف على العديد من العوامل، ولكن حس الفكاهة يمثل أحد أهم العوامل المرتبطة بهذا التوجيه (هورنج وزملاؤها ٢٠٠٥). وهناك العديد من البحوث التي تشير إلى العلاقات التطورية المتبادلة الأخرى بين مرح الأطفال واستخدام حس الفكاهة.

(٧) العلاقة بين حس الفكاهة وأوجُه التطور المتبادلة الأخرى

أجرت إفثيميوس تريفلاس وزميلتاها، الخبيرات في مجال التربية البدنية (تريفلاس وماتسوكا وزاكوبولولو ٢٠٠٣)، دراسةً في اليونان حول مرح الأطفال في مرحلةِ ما قبل المدرسة وتطور النشاط الحركي لديهم. لم تتطرق هذه الدراسة لاستخدام المعلمين لِحِسِّ الفكاهة، ولكن طلبت الباحثات اليونانيات من المعلمين أن يتحدثوا إليهنَّ عن مرح الأطفال والتطور العام لديهم. وخلصت الباحثات إلى صلة بين التلقائية البدنية والاجتماعية والمعرفية لدى الأطفال وبين المرح عندهم؛ فالأطفال الذين اتسموا بالمرح الشديد، كان التفكير الإبداعي والنقدي لديهم عاليًا أيضًا. كما ذكرت الباحثات أن الأطفال الذين يتميزون بهذه القدرات كانوا يتمتعون بالصحة النفسية؛ من حيث أن سمات حس الفكاهة وحب الاستطلاع والتسامح والابتكار لدى هؤلاء الأطفال كانت قوية أيضًا. وتكشف هذه البيانات أن الأطفال في مرحلةِ ما قبل المدرسة يستخدمون النشاط الحركي للتعرف على العالم من حولهم، وهؤلاء الذين يجدون متعة في الحركة تتطور لديهم مهارات أخرى في الوقت نفسه؛ وهو ما يشكل دعمًا هائلًا لأهمية تطوير الأطفال لاستخدام المرح.

ذكرت ريبيكا بوتشيه نافارو الباحثة الكولومبية في مجال التطور المعرفي لدى الأطفال دراساتها التي أثبتت من خلالها وجود علاقة بين القدرة العامة للأطفال على التفكير وبين حس الفكاهة؛ إذ اكتشفت بوتشيه نافارو أن الأطفال بين عامين وأربعة أعوام يتميزون بنقلة ملحوظة في «التفكير التمثيلي» لديهم؛ وهذا يعني ببساطة أن الأطفال عندما يبلغون أربع سنوات يتسنَّى لهم في غالب الأمر استخدام عملية معرفية تساعدهم إما في عمل موقف فكاهي أو استيعابه؛ بمعنى أنهم يستطيعون استخدام أمرٍ ما لتجسيد أمرٍ آخر، ولْنذكُرْ مثالًا يساعدنا في تفسير هذه النقطة. تلاحظ طفلة تبلغ من العمر أربعة أعوام لا تفضل عادة تناول الخضراوات أن أمها تتحدث إليها في قلق عن عدم تناولها للخضراوات. تُخرج الطفلة موزة من إناء فاكهة وتقشرها وتقول لأمها مبتسمة: «انظري، إنني أتناول جزرة يا أمي!» إن هذا النوع من الاستبدال أو صنع المفارقة هو أحد أشكال التفكير التمثيلي، ويستدل من خلاله باحثون أمثال بوتشيه نافارو أن تطوُّر حسِّ الفكاهة يمثل طريقة رائعة لدراسةِ كيفية تفكير الأطفال. ومن خلال دراسة تطور حس الفكاهة لدى الأطفال، يتمكن الباحثون من استنتاج جوانب أخرى تتعلق بتطورهم المعرفي. ذكرت بوتشيه نافارو في عام ٢٠٠٤م أيضًا أن هذا المجال البحثي جديد تمامًا في علم النفس، ولكنه من المرجح أن يُثرِيَه العديد من الدراسات في المستقبل.

من المُجدي هنا إعداد قائمة ملخصة بالجوانب الإيجابية في عملية النمو النفسي لدى الأطفال وعلاقتها بحس الفكاهة. بصفة عامة، يتميز الأطفال الذين ترعرعوا بين آباء ومعلمين في مناخ مرح بالنشاط على المستوى البدني والاجتماعي والمعرفي. ويُعتقد أن الأطفال الذين يطوِّرون حسًّا فكاهيًّا جيدًا وكذلك يقدِّرونه ويُظهرونه يتمتعون بصحة نفسية جيدة. ويعتقد الباحثون أن حس الفكاهة والمرح لدى الأطفال يرتبط بما يلي:
  • (١)

    الانفعال الإيجابي.

  • (٢)

    إقامة العلاقات وتوطيدها.

  • (٣)

    النجاح الدراسي.

  • (٤)

    الاستقلالية.

  • (٥)

    التأقلم.

  • (٦)

    المهارة البدنية/الحركية.

  • (٧)

    التفكير التمثيلي.

ويسهم الأفراد البالغون في حياة الأطفال والمهتمون بهم في هذا النجاح من خلال التشجيع على استخدام حس الفكاهة بطرق إيجابية؛ ومن ثَمَّ يقدِّمون للأطفال وسيلة لتعزيز الصحة النفسية الجيدة يمكن أن تبقى معهم على مدار حياتهم.

(٨) التنبيهات والمقترحات العملية

ينبِّه باحثون، أمثال فراي ومارتن، إلى أن إدراك الفكاهة في حياة الكبار والأطفال من منظور نفسي لا يزال مجالًا ناشئًا، بدأ يحظى بالاهتمام مؤخرًا، ولا يزال أمامنا كثير من العمل فيه. وعندما يناقش علماء النفس «العلاقات» بين المتغيرات، تَذكَّرْ أن ذلك يخبر القارئ بعدم إمكانية تحديد رابط سببي. ويذكِّرنا هؤلاء الباحثون أن تطورَ حس الفكاهة وعلاقتَه بالصحة البدنية والنفسية أمرٌ معقَّد؛ فنحن لا نستطيع الجزم بأن حس الفكاهة يتسبب في الارتقاء بالصحة البدنية أو الذكاء أو السعادة لدى الأشخاص المرحين أكثر من الأشخاص الذين لا يتميزون بحس الفكاهة؛ حيث لا تتوفر على الأقل بيانات تدعم هذه الادعاءات، ولكننا يجب أن نعتمد على ما لدينا من بيانات ونواصل البحث، مع ذلك يمكننا مناقشة الاستخدامات الفلسفية والموحية لِحِسِّ الفكاهة وتقييمها ﻛ «قيمة اسمية»؛ فمَن منَّا لا يمكنه القول بأن حياتنا قد أُثريت بفضل استخدام الآخرين لِحِسِّ الفكاهة أو لِحِسِّ الفكاهة الناضج بداخلنا؟ عدد قليل على الأرجح. وقد ألقينا نظرة على البيانات المتعلقة بحس الفكاهة في حياة الكبار والصغار وعلاقتها بالصحة البدنية والنفسية، ولكننا ليس لدينا إلا بيانات ضئيلة حول طرق نقل مقدِّمي الرعاية البالغين للمرح والفكاهة إلى الأطفال.

تطرقنا في موضع سابق من هذا الفصل إلى وجهة نظر عالِمتَي النفس جوان جروزيك وجاكلين جودناو عن حس الفكاهة والتربية، وقد أعربت كلٌّ من جروزيك وجودناو عن حزنهما لعدم وجود بيانات كافية عن حس الفكاهة ومكانته في نموذجيهما. ومثلما هي الحال غالبًا عند إجراء أبحاث حول تعقيدات السلوك البشري، فنحن ما زلنا بحاجة إلى مزيد من البحث. إن المنظور العلمي في هذا الفصل منظور سليم، ولكنَّ تذكُّر طبيعة الأبحاث ذات العلاقات المتبادلة تعود بالقارئ إلى السؤال المتعلق بالارتباط بين المرح والصحة النفسية الجيدة للأطفال.

وعلى الرغم من أن علم النفس كفرع من فروع العلم لا يوجد به سوى قدر ضئيل من البيانات التي تدعم جدوى حس الفكاهة في حياة الأطفال، فمن المرجح أن يتفق غالبية الأشخاص البالغين على أن مثل سبل تعزيز المرح في حياة الأطفال جديرة بالاهتمام؛ إذ يمكن أن تؤدي إلى إضفاء السعادة على الجميع وتساعد الناس في توطيد علاقاتهم. يرتبط التطور المعرفي والاجتماعي والبدني للأطفال بتعزيز المرح، كما يمكن أن يساعد استخدام الأشخاص البالغين للتحفيز والمودَّة والمرح على الارتقاء بنمو جميع أفراد الأسرة. تَذكَّرْ أننا ناقشنا في الفصل الرابع كيف أنَّ وقت اللعب، الذي يتضمن قدرًا من الفوضى ونشاطًا غير تقليدي، على غرار اللعب في الطين والرسم بالأصابع؛ يمكنه أن يضفي المرح والسعادة على الصغار والكبار؛ إذ إن مثل هذه الأنشطة تتيح فرصًا استكشافية جديدة للأطفال.

وفي إطار التفكير في أهمية تعزيز المرح في حياة الأطفال، ذكرنا العديد من النماذج التي يمكنها أن تضفي سعادة على حياة الأسرة. سأتحدث فيما يلي أيضًا عن الإجازة الأُسَرية، ينبغي أن يكون تعزيز المرح سببًا في سعادة جميع أفراد الأسرة، ولكن حتى هذا الأمر يمكن أن يمثل هدفًا عسيرًا للآباء؛ فعندما يخرج الأفراد عن وتيرة الأعمال الروتينية، ربما لا يقتصر الأمر على كونهم عرضة لاستكشاف آفاق جديدة فحسب، بل قد يتعرضون أيضًا لمسبِّبات ضغط لم يفكروا فيها مسبقًا، لكن الآباء الذين يمكنهم التعامل مع حدث جديد بحس فكاهي جيد، واضعين نُصب أعينهم هدفَ تعزيز المرح، باستطاعتهم إضفاء المتعة على أي يوم، وتوفير فرص للتعلم والضحك الصادق لجميع أفراد الأسرة. ونورد فيما يلي بعض النصائح التي من شأنها تيسير إجازات الأسرة لقضاء الوقت معًا بحيث تتحول إلى تجربة إيجابية وممتعة.

(٩) الإجازة الأُسَرية: فرصة مثالية لتعزيز المرح

عندما يرغب الأشخاص البالغون في الأسرة في إضفاء قليل من المرح على حياتهم وحياة أطفالهم، عادة ما يَلجئون إلى تنظيم إجازة قصيرة تخرج بهم عن إطار الحياة الروتينية، كسبيل لكسر الملل، ولكنْ تأملوا عدد الأفلام الكوميدية التي دارت عن الإجازات الأُسَرية التي تحولت إلى كوارث. أدرَك القائمون على صناعة الأفلام بهوليوود ما يتكبده الآباء من مشقة، وأضفوا عليها الطابع الفكاهي الخاص في التأويلات المختلفة للإجازة الأُسَرية؛ فالسفر مع الأطفال قد يكون صعبًا، ولكن فوائد الإجازة المخططة جيدًا والملائمة للأطفال يمكن أن تكون هائلة لكلٍّ من الكبار والصغار. وعلاوة على بُعد المسافات والتكاليف، هناك عوامل أخرى يمكن وضعها في الاعتبار لمساعدة الأشخاص البالغين في التخطيط لإجازاتهم. والقواعد الثماني التالية يمكنها أن تكفل مشاركة جميع أفراد الأسرة في تعزيز المرح.

  • (١)

    ناقش الخطط الخاصة بنشاطٍ ما مع كل فرد في الأسرة يتناسب عمره مع هذا الأمر، وهذا يمثل دلالة للأطفال على أنهم ينتمون للأسرة وأن آراءهم يُعتد بها. أما الأطفال الصغار للغاية فيمكنهم فقط المساعدة في اتخاذ القرار الخاص بأيٍّ من المتنزهات التي ستتوجه إليها الأسرة في يومٍ ما في الرحلة، ولكن الأطفال الذين يبلغون سبعَ أو ثمانيَ سنوات فأكثر يمكن أن يكونوا مساعدين جيِّدين في التخطيط. ولا تقتصر فوائد الأخذ بأفكار الأطفال على الارتقاء بحس الانتماء الذي طُرح في الفصل الرابع، ولكنه يساعد أيضًا في ضمان استمتاع الأطفال بوقت الإجازة. إن التخطيط المشترك يبعث برسالة إلى الأطفال مفادها أن التفاوض والتوصل إلى حلول وسط أمران مهمَّان، ويمثلان نموذجًا جيدًا في الأمور الأخرى التي قد تنشأ في حياة الأطفال وترتبط بمجموعات الأفراد.

  • (٢)

    ضع في اعتبارك عُمْر كل طفل عند وضع خطط للأنشطة وفترات الراحة، فإذا كانت الأسرة لديها أكثر من طفل واحد، ينبغي توفير خيارات لقضاء الإجازة حسب جميع الأعمار. وإذا كان بالأسرة أكثر من والد واحد، يمكن تقسيم أفراد الأسرة حسب العمر والاهتمامات في أثناء الإجازة، ولكن قضاء الوقت معًا مهم أيضًا. وفي حالة قيام الآباء بتقسيم الأنشطة، احرص على تناوب الأدوار في مرافقة الأبناء المختلفين. ويتمثل أحد أسباب قيام الأُسَر بالرحلات في إعادة التفاعل بين أفرادها دون تأثير من المهام اليومية الشاقة، وننصح الأمهات بعدم تفويت فرصة مشاهدة مباراة لكرة القدم ليس من المعتاد أن يخترْنَ مشاهدتها. وما رأي الآباء في التوجه إلى أحد متاحف الفنون؟ إذا لم يكن الأبوان متمسكَيْن في تعصب بأدوارهما التقليدية، فهذا أمرٌ رائعٌ! كل ما عليهما تبديل الأدوار للخروج عن المألوف. وإذا كان بمقدور الجميع المشاركة معًا في كل نشاط ترفيهي، فهذا أمر رائع، وإذا أراد أي شخص أن يمضي الوقت بعيدًا عن أحد أفراد الأسرة، يجدر بك تدبُّر ذلك الأمر أيضًا.

  • (٣)

    حاوِلْ أن تعثر على شيء مسلٍّ لكل شخص يوميًّا، بالنسبة للأطفال قد يكون هذا الأمر بسيطًا في صورة مطعم يرتدي العاملون فيه أزياءً بأشكال الحيوانات، فالأطفال بحاجة إلى أنشطة تتناسب مع أعمارهم لمساعدتهم في المحافظة على حالة مزاجية إيجابية. ومن المؤكد أن الأنشطة التي تتضمن حركةً ستكون مصدرَ سعادةٍ للأطفال في عمرِ ما قبل المدرسة والأطفال في بداية المرحلة الابتدائية. ويمكن أن يشترك مَن هم في مراحلِ ما قبل المراهقة والمراهقة والبلوغ دائمًا في نشاط بدني أيضًا.

  • (٤)

    إذا بدأ الأفراد البالغون يشعرون بالتوتر، يجب الإشارة إلى ذلك، وبإمكان الآباء إرساء نماذج لِحِسِّ الفكاهة والتفاؤل كوسيلة لحل المنازعات أو المشكلات. قل بصوتٍ عالٍ: «إننا في إجازة، ويمكننا حل الأمر»؛ إذ يمكن التغلب على فقدان حقيبةٍ ما أو عندما يضل مستقلو السيارة طريقهم بشيء من المزاح؛ فالبالغون الذين يتميزون بالقدرة على التأقلم يساعدون الأطفال في اكتساب مهارة غاية في الأهمية.

  • (٥)

    إذا لوحظ أن البالغين أو الأطفال بدءوا يشعرون بالحنين للعودة إلى الوطن، فربما يكون هذا هو الوقت الأمثل للعودة للمنزل. فإذا كان قرار العودة مرهونًا بعوامل غير قابلة للنقاش مثل حجز تذاكر الطيران أو غيرها، يمكن أن يبحث البالغون عن وسائل تزيل الشعور بالملل؛ يمكنك العودة إلى المطعم الذي يرتدي العاملون فيه أزياء الحيوانات، ابحث عن مزار جميل أو مكان جديد للاستمتاع به، شجع الأطفال على التحدث عن الأمور التي أعجبتهم في الرحلة، اسمح لهم بإجراء مكالمة هاتفية مع أحد الأصدقاء أو الأقارب. ويتمثل أحد عناصر متعة السفر في اكتساب رؤية جديدة وتقدير للوطن.

  • (٦)

    ينبغي عدم الإسراف في الرحلات سواء من الناحية المادية أو ناحية الوقت؛ إذ يمكن الاستمتاع بمجرد إقامة «مخيَّم» في الفناء الخلفي للمنزل، أو زيارة أحد الأماكن الجديدة التي لا تبعد عن المنزل سوى بضعة أميال، أو قضاء ليلة واحدة خارج المنزل يقضي من خلالها أفراد الأسرة وقتًا طيبًا معًا؛ فتعزيز المرح يمكن أن يتحقق من خلال وسائل بسيطة أو معقدة.

  • (٧)

    تضعُ قدرةُ الأفراد البالغين على استخدام حس الفكاهة والضحك، كوسيلة لتواصل بعضهم مع بعض في الأيام الطيبة والعصيبة، على حد السواء؛ نموذجًا رائعًا يقتدي به الأطفال. يُقدِّر الأطفال جميع أشكال المرح والمشاعر الإيجابية والودودة، ويمكن أن يقوم الأشخاص البالغون الذين يدركون هذا بالارتقاء بسبل تعزيز المرح والصحة النفسية الجيدة في الوقت نفسه.

  • (٨)

    استمتعوا بأوقاتكم!

(١٠) ملخص الفصل وتأملات

في بداية الفيلم الوثائقي «الحقيقة المزعجة»، يُعرِّف آل جور نفسه قائلًا: «اعتدتُ أن أُلقَّب بمرشح الرئاسة الأمريكية السابق!» بدأ جور بهذه العبارة التهكمية كي يسرِّب إلى جمهوره شعورًا بالارتياح. يا له من أسلوب رائع لبدء الحديث عن موضوع غاية في الخطورة كظاهرة الاحتباس الحراري! لا يستحضر جور ماضيَهُ مرة أخرى في الفيلم الوثائقي إلا في الجزء المتعلق بمنزله في مرحلة الطفولة، الذي كان يعتبره جنة ريفية مُعرَّضة للكثير من المخاطر البيئية في الوقت الحالي. ويبدو أن جور قد وجد وسيلة أخرى لخدمة مجتمعه ويخبر المشاهدين سريعًا أنه قَلِق حيال المستقبل. ويمثل استخدامُه في الواقع لشيء من حس الفكاهة في العبارة التي يقدِّم نفسه من خلالها إشارةً للمشاهدين إلى أنه كان يعاني من أزمةٍ ما ولكنه عازم على تجاوزها، تمامًا مثلما جاء في الوصف الذي استخدمه كلٌّ من كيلتنر وبونانو في عام ١٩٩٧م في دراستهما للأشخاص الذين فقدوا عزيزًا لديهم.

يَشْرع علماء النفس في الوقت الحالي في تكوين حُزْمة أفضل من البيانات حول فوائد حس الفكاهة لصحة البالغين. نحن بحاجة ماسَّة إلى مناقشة مختلف أشكال تعزيز المرح في علم النفس، ولكن لا تزال قاعدةُ البيانات الداعمة بشدة لأهمية حس الفكاهة والضحك في حياة الأطفال صغيرةً. وتشير نقطة التأمل غير الفكاهية تمامًا إلى أن علماء النفس لا بد أن يجمعوا بين الجدية والقدرة على استخدام قدرٍ خاصٍّ من سبل تعزيز المرح!

في علم النفس، ستجدون بحوثًا دقيقة وذات صلة عن المودَّة والرعاية في عملية تنشئة الأطفال، وبفضل قاعدة المؤلفات الخاصة بالبالغين، لدينا في الوقت الحالي الكثير من المعلومات حول الضحك والتصوير بالرنين المغناطيسي والعلاقة بين الصحة البدنية وحس الفكاهة وما إلى ذلك، مقارنة بالوضع منذ عشرين عامًا، ولكننا لا نستطيع قول الأمر نفسه على دور حس الفكاهة في إطار مسئولية الأشخاص البالغين عن الأطفال. ويبدو أن العديد من علماء النفس يؤكدون على أهمية مسئولية الأشخاص البالغين تجاه الأطفال، ولكن دون تركيز كبير على موضوع تعزيز المرح، فلْنحاوِلْ تغيير هذه النظرة.

ذكر العديد من الفلاسفة أن الأشخاص يجب أن يركِّزوا على الاستمتاع بالحياة وتحقيق الاستفادة القصوى من كل يوم، ويجب أن تشمل هذه الحياة الناضجة والمتكاملة الفكاهة والضحك والمرح. يتميز تعزيز المرح في حياة الأطفال بالعديد من الفوائد من عدة جوانب. إن عناصر الارتباط المتبادل بين الفكاهة والضحك تحمل إسهامات إيجابية في العلاقات بين الأشخاص ولأَوجُه التطور الأخرى أيضًا، وعندما تذكر عالمتا نفس شهيرتان مثل جوان إي جروزيك وجاكلين جيه جودناو أن العلاقات بين حس الفكاهة وتربية الأبناء تحتاج إلى مزيد من البحوث، يجب علينا أن نُوليَ الأمر اهتمامًا. ويذكر علماء النفس المتخصصون في فوائد الفكاهة كوسيلة لتخفيف التوتر، مثل رود إيه مارتن وهيربرت إم ليفكورت، أن هذه البيانات معروفة لدى الأشخاص البالغين، ولكن يمكننا تعميم النتائج نفسها على الأطفال.

هذه الأمور تنبهنا إلى العمل الشاق الذي ينتظرنا، قد تكون البياناتُ التي تؤكد على الحاجة إلى تعزيز المرح قليلةً إلى حدٍّ ما في هذه الآونة، ولكنْ هناك قدر كافٍ من البيانات التي تشجع البالغين على تعزيز المرح في حياة الأطفال وصحتهم النفسية الجيدة. يمثل تعزيزُ المرح المقياسَ السادس للصحة النفسية الجيدة؛ فالأشخاص البالغون في حياة الأطفال يمكنهم إضفاء المتعة على حياتهم، وضرْب نماذج عن فوائد الفكاهة، فضلًا عن تدعيم هذا الجانب من التطور عند الأطفال. يتضح لنا أن تعزيز المرح قد يكون أحد الجوانب الشديدة الأهمية في حياة الأطفال، علاوة على قدرته على إثراء حياة الأشخاص البالغين في حياة الأطفال. هناك ارتباط متبادل بين التطور الكلي والعلاقات الاجتماعية والمرح يتطلب من علماء النفس إجراءَ مزيدٍ من البحوث حول هذا الأمر؛ ومن ثَمَّ نخلص إلى أن استخدام الأشخاص البالغين للمرح في علاقاتهم بالأطفال يعزِّز النتائج الإيجابية والصحة النفسية الجيدة.

والأسس الراسخة في العلاقات المهمة التي تدل على الاهتمام بالآخرين على نطاق أوسع هي موضوع الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤