التسامح والنشاط الاجتماعي
يتجول المعلمون في مطعم المدرسة وبصحبتهم رؤساءُ الطلبةِ المنتخبون من أقرانهم، لإقناع الأطفال الآخرين بتجربة الجلوس إلى طاولة جديدة، بعيدًا عن مجموعة الأصدقاء المألوفين لهم. يُطلق على هذا اليوم «يوم الاختلاط بالآخر وقت استراحة الغداء»، ويُنظَّم بهدف أن يتعامل الأطفال مع أشخاص جدد من أقرانهم. يتيح هذا الحدث الفرصة أمام الأطفال الأكثر انفتاحًا لإلقاء التحية على غيرهم الذين يمكنهم الاستفادةُ من هذه الفرصة لتقليل الشعور بالعزلة والارتباطُ أكثر بأقرانهم. وعلى الرغم من أن إلقاء التحية ليس سوى قول عبارة صغيرة، فإن هذا الحدث يهدف أيضًا إلى تشجيع الأطفال على تناول غدائهم مع أطفال آخرين لا يعرفونهم. وتتمثل الغاية في أن يتناول الأطفال المنتمون إلى فئات اجتماعية مختلفة غداءهم معًا كأقران، وأن يتعرفوا بعضهم على بعضٍ؛ بحيث يمكن إقامة علاقات جديدة أو على الأقل اكتساب فهم جديد عن «الآخر»، وقد جرى إعداد رؤساء الطلبة في المدرسة للقيام بدورهم كنماذج يَقتدي بها الأطفال الآخرون. وفي نهاية فترة الغداء، يتحرَّك رؤساء الطلبة الذين تُحددهم إدارة المدرسة من طاولاتهم المعتادة، ويُلاحظ أنهم يتجهون بمودة نحو الأطفال الذين لم يسبق لهم التعرف عليهم، ومن هنا تأتي البداية!
يتمثل المقياس السابع للصحة النفسية الجيدة في تنمية سمة التسامح مع الآخرين الذين يعتبرهم الأطفال مختلفين عنهم، وإدراك أن كل شخص يستحق فرصة متكافئة للاستمتاع بمباهج الحياة، بما في ذلك العمل والمدرسة، وهذا يمثل جوهر مفهوم «العدالة الاجتماعية». يمكننا العثور على هذه العبارة ضمن القواعد الأخلاقية الخاصة بالمهن المساعدة، مثل علم النفس والعمل الاجتماعي، والتي تتطلب من العاملين بها التزامًا بالعمل يُعرف ﺑ «النشاط الاجتماعي». هناك حاجة ماسة للقيام بأمور تؤدي إلى الارتقاء برفاهية كافة أفراد المجتمع الذي تسود فيه سمات الطبقية واللامساواة. ويشير مصطلح «السلوكيات الاجتماعية الإيجابية» إلى تلك السلوكيات التي تعود بالنفع على كل الأطراف المعنية، والتي يمكن تعليمها للأطفال وتطويرها لديهم بتوجيه الأشخاص البالغين المسئولين عن رعايتهم. ومع توالي الأحداث في القرن الحادي والعشرين، يبدو أننا في حاجة ماسة لهذه الروابط الإيجابية أكثر من القرن الماضي.
يمكن أن يشجع الأشخاصُ البالغون المسئولون عن رعاية الأطفال السلوكياتِ الاجتماعيةَ الإيجابيةَ والتسامح والنشاط الاجتماعي ويعلِّموها للأطفال؛ بحيث يتمكنون من قضاء تجربة مثل «يوم الاختلاط بالآخر وقت استراحة الغداء» بسلاسة وانفتاح والتزام نحو الآخرين. ويجب أن يبدأ مبكرًا اكتسابُ الدروس الخاصة بالتسامح الذي يساعد في توجيه معتقدات الناس وتصرفاتهم، والخاصة بالنشاط الاجتماعي والتي تساعد في إثراء حياة الناس على المستوى الشخصي وعلى مستوى المجتمع ككلٍّ؛ فالأطفال المنفتحون على الآخرين والملتزمون بأهداف خارج إطارهم الشخصي يتمتعون بمستوًى أفضل من الصحة النفسية، وسيساعدون في تحويل العالم إلى مكان أفضل للجميع. ويتركز موضوع هذا الفصل في كيفية تحقيق هذه الأهداف الكبرى للارتقاء بمستوى الصحة النفسية الجيدة لدى الأطفال ولدى الآخرين. إنها أهداف كبرى بلا شك، ولكنها ستكون سهلة المنال بمساعدة مقدِّمي الرعاية البالغين.
هناك بحوث قليلة للغاية في مجال علم النفس حول الارتقاء بالتسامح والنشاط الاجتماعي لدى الأطفال، سنتناول بعض الدراسات التي ترجع إلى الكتابات الأولى عن السلوكيات الاجتماعية الإيجابية، علاوةً على بعض البيانات الحديثة المحددة عن تعزيز التسامح والنشاط الاجتماعي لدى الأطفال في هذه الآونة، وسأعتمد في هذا الإطار على الكثير من الأعمال التي وردت بالفعل في هذا الكتاب؛ وذلك بهدف وضع خارطة يتسنى للأفراد البالغين بواسطتها توجيه الأطفال، وسأعتمد أيضًا على التوجُّه النظري الخاص بي عن النظم البيئية والنظرية المعرفية الاجتماعية؛ لإظهار الارتباط بين ما هو معروف وبين الارتقاء بالصحة النفسية الجيدة لدى الأطفال الذين يؤمنون بمبادئ التسامح ويعملون لصالح الآخرين.
لنبدأ بدراسة المثال الخاص بمطعم المدرسة الوارد أعلاه. استخدمتُ في الفصول السابقة أمثلة سعيدة وإيجابية لتهيئة الأجواء للمعايير التي تعزِّز تطوُّر الصحة النفسية لدى الأطفال. يُعد المثال المذكور أعلاه أقل إيجابية من حيث أن هناك صعوبة ظاهرة يواجهها الأطفال في تكوين علاقات مع أشخاص ذوي مستويات مختلفة؛ إذ إن مقابلة أشخاص جدد أو التحاور مع أشخاص لا يعرفهم الأطفال جيدًا قد بدا أنها مهمة مستحيلة بالنسبة إليهم، وقد شعر هؤلاء الأطفال مع ذلك بالانزعاج وعدم الاستعداد للاستجابة إلى مناشدات المعلمين وزملائهم رؤساء الطلبة، فما الأحداث والتطورات التي وقعت في السابق وأفرزت أطفالًا واجمين وغير مطيعين بهذا القدر؟ هناك بعض البحوث في مجال علم النفس تساعدنا في استيعاب تردُّد الأطفال تجاه مخالطة زملائهم أثناء الغداء.
بدايةً يُعد هذا اليوم الاستثنائي يومًا واحدًا من بين أكثر من مائتي يوم في العام الدراسي، ومن المحتمل ألا يكون الأطفال قد مارسوا الكثير من الأنشطة في هذا اليوم، أو لم يُتَحْ لهم العديد من الفرص لملاحظة أشخاص بالغين يقومون بإرساء نموذج لهذا السلوك؛ فالأشخاص البالغون نادرًا ما يقدمون هذه الفرص المنظمة للأطفال. وعادة ما يقسِّم الناس أنفسهم إلى فئات من خلال عناصر مثل السمات البدنية أو الاهتمامات؛ فالدوافعُ غير الأنانية لمقابلة أشخاص جدد والتعاملُ مع مَن لا تعرفهم باهتمامٍ ولباقةٍ يمثِّلان أحد المطالب الشديدة الصعوبة بالنسبة للبالغين، فضلًا عن الأطفال.
يدور جزء كبير من هذا الكتاب حول مراعاة البالغين لسلوكياتهم كي تتعزَّز قدرتهم على الارتقاء بالنمو الإيجابي للأطفال، ولا يختلف هذا الفصل عمَّا سبقه؛ فالأشخاص البالغون الذين يشجِّعون الأطفال على ممارسة سلوكيات اجتماعية إيجابية، وذلك في أماكن مثل مطاعم المدارس، أو على نطاق مجتمعي كامل، أو حتى على مستوًى عالميٍّ؛ يحتاجون عادة إلى تطوير هذه المهارة أيضًا، فكَمْ عدد الأشخاص البالغين الذين يمكنهم أن يقولوا إنهم يحاولون مقابلة شخص جديد يبدو «مختلفًا» عنهم بصفة منتظمة، أو حتى مرة واحدة سنويًّا؟ فالاختلاف من حيث القدرة البدنية أو المعرفية أو لون البشرة أو خصائص الوجه أو الطبقة الاجتماعية أو التوجه الجنسي أو حتى الاهتمامات؛ قد يؤدي إلى تردد الأشخاص البالغين في تعامل بعضهم مع بعض على المستوى الاجتماعي؛ فالعديد من الأشخاص البالغين لا يبحثون عن تجارب من شأنها أن تساعدهم في فهْم الآخرين؛ ولهذا فنحن بحاجة إلى أن يكون مقدمو الرعاية البالغون أنفسهم نماذج في الانفتاح والتفاعلات الاجتماعية مع أشخاص آخرين مختلفين.
إن انتقاء بضعة أطفال ليكونوا رؤساء للطلبة يعني أن هؤلاء الأطفال فقط هم من يستطيع تحمُّل هذا النوع من المسئولية الخاصة، ولْنتأمَّلْ هذه الدراسة التي أجراها جيفري ماروياما (ماروياما وفرايزر وميلر ١٩٨٢)، تظل هذه الدراسة أحد أفضل الأمثلة عن الحاجة إلى التكليف بالمسئولية من أجل أن يأتي الأطفال للسلوكيات الاجتماعية الإيجابية. أجرى علماءُ النفس الاجتماعي هؤلاء تجربتَهم في الغرفة الأمامية بأحد المنازل في عشية عيد القديسين، طلب الباحثون من مجموعات من الأطفال الذين يَطْرقون أبواب المنازل للحصول على الحلوى في عيد القديسين أن يتبرعوا بما لديهم من حلوى للأطفال المرضى في المستشفيات، وعندما قال الباحثون لأحد الأطفال: «أنت قائد المجموعة»، وضع هذا الطفل الحلوى في صندوق التبرعات بالمستشفى، وتَبِعه عدد قليل من الأطفال، ولكن عندما أشار الباحثون إلى كل طفل بوضوح وقالوا: «إننا نعتمد عليك أنت وأنت وأنت وأنت.» تبرَّع جميع الأطفال تقريبًا ببعضٍ من الحلوى التي لديهم. يتضح لنا أنه عندما لم تُسند مسئولية التبرع لأي طفل، تبرَّع عدد قليل من الأطفال بما لديهم من حلوى، ولكن عندما وُكِّلت المسئولية الشخصية إليهم، استجابوا بطُرق اجتماعية إيجابية.
وإذا ما تأملنا المثال الخاص بمطعم المدرسة، يتضح لنا أن للأشخاص البالغين دورًا هائلًا في عملية الارتقاء بقِيَم التسامح والعدالة الاجتماعية. إن تقديم نماذجَ سلوكية للأطفال وفرصٍ للممارسة، وإكسابَهم المسئولية الشخصية للتصرف بإيجابية، يُعزِّزان السلوكيات الإيجابية لدى الأطفال. تَذكَّرْ أن الفصل السابع بدأ بمشهد الطفلتين اللتين تتناولان وجبتَي العشاء معًا بعد أن بذلتا جهدًا شاقًّا على مدار اليوم في مأوى النساء. كان المكان يعج أيضًا بالأشخاص البالغين الذين كانوا مسئولين عن تطورهما؛ حيث كانوا يعملون بأنفسهم ويشرفون عليهما ليجسدوا قِيَمهم الخاصة بخدمة المجتمع في صورة جلية أمام أعين الطفلتين. وكانت وجهة النظر التي خلصت إليها الطفلتان للتعبير عن الوقت الذي قضتاه في هذه المناسبة أنه كان وقتًا لتعزيز مشاعر المرح أكثر منه لجمع التبرعات، وكان واضحًا للغاية مدى شعورهما بالسعادة لخدمة المجتمع؛ فقد كَلَّف الأشخاصُ البالغون القائمون بالرعاية هؤلاء الأطفالَ بالمسئولية الشخصية، وجسَّدوا النماذج السلوكية بأنفسهم في سياقٍ مجتمعيٍّ، علاوة على إتاحة الفرصة بوضوح لمشاركة الأطفال. وكانت النتيجة التي تحقَّقت إيجابيةً لجميع الأطراف المعنية.
- (١)
استخدام التحفيز، وتوضيح الحاجة للتسامح والنشاط الاجتماعي وفوائدهما.
- (٢)
تقبُّل أسئلة الأطفال عن الاختلاف والترحيب بها.
- (٣)
تكليف الأطفال بمسئولية بناء العلاقات مع الآخرين.
- (٤)
توفير فرص للأطفال للمشاركة في النشاط الاجتماعي.
- (٥)
تقديم نماذج للسلوكيات الإيجابية في التعامل مع الآخرين.
- (٦)
إيضاح قِيَمهم حول التسامح والعدالة الاجتماعية صراحةً.
لا تقتصر فائدة القِيَم في أنها تحصِّن الأطفال من التأثيرات السلبية فحسب، بل إنها تعمل أيضًا على الارتقاء بالسلوكيات الإيجابية لدى الأطفال. إن الأفراد «الآخرين» ذوي الأهمية في حياة الأطفال، مثل الآباء والمعلمين وقادة المجتمع والمؤسسات الدينية، يمكنهم أن يدعموا هذه المعتقدات والأنشطة، وسنتناول أولًا دور الآباء في تعليم الأطفال قيمتَي التسامح والنشاط الاجتماعي.
(١) أقوال الآباء وأفعالهم
هناك دراستان بارزتان في مجال علم النفس أُجريَتا منذ وقت طويل حول الكيفية التي يمكن أن ترتقي بها معتقداتُ الآباء وتصرفاتُهم برفاهية الآخرين. أجرى بيري لندن في عام ١٩٧٠م دراسةً حول المسيحيين الذين قاموا بمساعدة اليهود في الهروب من ويلات النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية، كما دَرَسَ ديفيد روزنهان في عام ١٩٧٠م الحقوقَ المدنية للعمال البيض في الولايات المتحدة، في الوقت الذي بدأت فيه حركة الحقوق المدنية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين في تحقيق المكاسب، وقد أراد هذان الباحثان أن يتعرفا على العوامل التي دفعت الناس إلى المخاطرة بحياتهم من أجل «الآخر الاجتماعي»، أو أولئك المختلفين عنهم سواء على صعيد الأصول العرقية أو المكانة المجتمعية. اكتشف بيري لندن ثلاثَ سمات رئيسية محفِّزة لدى الأشخاص الذين قام بدراستهم. كان لدى هؤلاء الأفراد المسيحيين حسُّ المغامرة، وإحساس بالتواجد على هامش مجتمعهم، علاوة على أنهم ترعرعوا في كنف والد شجاع رفيع الخلق، علَّم أبناءه وتصرَّف بأساليب داعمة للمجتمع لتعزيز رفاهية الآخرين. وذَكَرَ لندن في بحثه: «ما عبَّر عنه المشاركون في الدراسة مرارًا وتكرارًا، وعلى نحو صريح، هو الإعجاب بأحد الوالدين أو الالتزام بالمبادئ الأخلاقية الراقية التي كان الوالدان يؤمنان بها» (لندن ١٩٧٠: ٢٤٩).
كان غاندي هو النموذج الذي وضعه المدافعون عن الحقوق المدنية نُصب أعينهم، وكان المبدأ الأساسي لحملتهم يتمثل في الابتعاد تمامًا عن العنف … وتمثلت الأهداف الجوهرية في الحقوق المتساوية والاندماج في المجتمع، وكانت المساواة في التعليم أيضًا من ضمن الأهداف [الجوهرية]، ثم جاء بعدها حق الاقتراع ومحاربة الفقر وحقوق العمل والحقوق الخاصة بحُرية التنقل. كانت ساحة المعركة الأساسية لا تزال في الجنوب، وكان من الصعب حينها توقُّع أن تمتد إلى الشمال؛ بحيث تشمل كل المدن والأحياء العشوائية والجامعات (روزنهان ١٩٧٠: ٢٥٦).
تشابهت النتائج التي توصَّل إليها كلٌّ من لندن وروزنهان، اتضح أن النشطاء الذين قضوا أطول وقت وبذلوا أقصى جهد لدعم حركة الحقوق المدنية كانوا يتمتعون بعلاقات إيجابية مع الآباء، وكانوا ينتمون إلى أُسَر تتميز بصحة نفسية جيدة. علاوة على ذلك، ذَكَرَ هؤلاء الشباب الصغار أنهم حَظُوا بعلاقات ودية وظروف أُسَرية جيدة، كما ذكروا أن أحد الوالدين على الأقل كان ناشطًا في المجال نفسه أيضًا. ومثلما ذَكَرَ روزنهان، فإن هؤلاء الآباء، الذين «كانوا هم أنفسهم ملتزمين تمامًا بقضية إيثارية على مدار فترة طويلة من السنوات التي شهدت تشكيل وجدان أبنائهم المشتركين في الدراسة» (ص٢٦٢)؛ قد عززوا فاعليات النشاط الاجتماعي. وقد وصف روزنهان هؤلاء الآباء بأنهم لم يكتفوا بتعليم أبنائهم السلوكيات الاجتماعية الإيجابية أو إكسابهم قيمة حب الغير، بل عايشوا القِيَم الخاصة بهم أيضًا. كان لدى هؤلاء الشباب الصغار نماذج أبوية تدعم السلوكيات الاجتماعية الإيجابية، علاوة على رسائل لفظية عن مراعاة الآخرين وأهمية التصرف وفقًا للمعتقدات الشخصية، وقد جسَّد هؤلاء الآباء القِيَم التي يؤمنون بها بشكل صريح أمام أطفالهم.
تَذكَّرْ أنني أشرت في الفصول السابقة إلى أهمية التعليم بأسلوب يعتمد على الحث والمودَّة، إضافة إلى أهمية إرساء نماذج للسلوكيات الإيجابية التي نرجو أن يطبقها الأطفال الخاضعون لرعايتنا. تُقدِّم النظريةُ المعرفية الاجتماعية التي صاغها ألبرت باندورا (٢٠٠١) للأشخاص البالغين إطارَ عملٍ جيدًا لتربية أطفال يتحملون مسئولية شخصية تجاه تصرفاتهم الخاصة وتجاه رفاهية الآخرين. ينبغي أن يُلقَّن الأطفال دروسًا عن السلوك الاجتماعي الإيجابي، والتسامح والمشاركة الاجتماعية؛ بحيث تتاح لهم فرصةُ وضْعِها في الاعتبار، كذلك يجب أن يشاهدوا الأفراد البالغين في عالمهم ينخرطون في هذه الممارسات الدالة على حب الغير؛ بحيث تتجلى النماذج أمامهم. يحتاج الأطفال إلى فرص لتطبيق هذه الدروس؛ بحيث يمكنهم إدراك أهميتها في التطور الإيجابي للجميع. ويحتاج الأطفال إلى هذه الرسائل على مدار مراحل طفولتهم؛ بحيث يَظهر التزامهم نحو النشاط الاجتماعي عندما يَصِلون إلى مرحلة المراهقة.
(٢) التأثيرات الأبوية الأخرى
عندما يتعرف الأطفال في البداية على بيئاتهم في المنزل، ينشأ التعاطف مع الغير لديهم بالتوازي مع التعبيرات اللفظية والسلوكيات الودِّية الصادرة عن آبائهم. تبدأ العناية والاهتمام بالآخرين من خلال الآباء؛ فمع نمو الأطفال والتعامل مع الأفراد الآخرين في المجتمع في مواقف مختلفة، ترتبط هذه الاستجابات التعاطفية نفسها بالسلوك الاجتماعي الإيجابي للأطفال تجاه الآخر. وفي دراسةٍ أجراها عالِما النفس جانيت ستراير وويليام روبرتس (٢٠٠٤)، سُئل الآباء عن تعاطفهم مع مشاعر أطفالهم، وفي الوقت نفسه سُئل الأطفال، ممن تتراوح أعمارهم بين خمسة أعوام وثلاثة عشر عامًا، عن أسلوب تنشئتهم، وقد بدا أن الأطفال الذين ذكروا أن آباءهم كانوا أصحاء على المستوى العاطفي أظهروا تعاطفًا مع الآخر، وسلوكًا اجتماعيًّا إيجابيًّا أيضًا. تشير عبارة «أصحاء على المستوى العاطفي» إلى أن الآباء قد وطَّدوا روابط تعاطفية مع أبنائهم، الذين حاكَوْا بدورهم السلوكَ الاجتماعيَّ الإيجابيَّ تجاه الآخر. ترجِّح هذه الدراسةُ الحاجةَ إلى وجود مهاراتِ تنشئة مبكرة تقوم على تفهُّم المشاعر لدى الآباء، سترتبط لاحقًا بسلوكيات الأطفال على مدار تطوُّرهم، وقد ثبت أيضًا ارتباط بضعة متغيرات ديموغرافية خاصة بالآباء بالسلوك الاجتماعي الإيجابي الأشمل لدى الأطفال، كما سيتجلى في الدراسات التالية.
كونستانس فلاناجان خبيرةٌ نفسيةٌ في مجال تعزيز المشاركة المدنية للأطفال، نشرت هي وزميلها سي جيه تاكر دراسةً في عام ١٩٩٩م، خَلَصَا من خلالها إلى أنه كلما ارتفع المستوى التعليمي للأم ودخل الأسرة في إحدى المناطق التعليمية، زادت احتمالية تمتُّع المراهقين بمسئولية مجتمعية لمكافحة الفقر والتشرد في الولايات المتحدة. وقد ذكر المراهقون أنفسهم أنهم كانوا ينتمون إلى أُسَر مهتمة بالتعاطف مع الآخر، وأنهم كانوا يعتقدون أن المجتمع لا يزال بحاجة إلى المزيد من الأهداف التي تعمل على تعزيز القِيَم المجتمعية. يدرك العديد من الشباب المسئوليات المجتمعية المنوطة بهم. تَذكَّرْ أننا قمنا في الفصل السادس بتناول الدراسة التي جاءت تحت عنوان «الطلاب الأمريكيون في السنة الأولى»، وأصدرها معهد بحوث التعليم العالي في عام ٢٠٠٥م، حول طلاب السنة الأولى في الكليات كل عام على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي اكتشفنا من خلالها أن طلاب السنة الأولى بالتعليم الجامعي في عام ٢٠٠٥م قد أعربوا عن تقديرهم لقيمة العمل في مجتمعاتهم لصالح الآخرين بمعدل أعلى من الدفعة السابقة. وأعرب هؤلاء الطلبة الجدد بالتعليم الجامعي عن استعدادهم لتلبية حاجة المجتمع بالصور التي تُعزِّز قِيَمه؛ خلاصة القول أن نزعة النشاط الاجتماعي لديهم كانت واضحة.
تعكس هذه البيانات أملًا بأن القِيَم والمعتقدات والممارسات الداعمة للمجتمع، والخاصة بالبالغين ذوي الأهمية في حياة الأطفال، تحرز تقدمًا في هذه الآونة على مستوى الولايات المتحدة؛ فكيف نستفيد من النتائج التي توصلت إليها فلاناجان وتاكر. ربما يتيح لنا التمتُّعُ بقدر أكبر من التعليم مراجعةَ معتقداتنا ومعتقدات الآخرين جيدًا، مثلما يتيح الدخل الأكبر الفرصة لإدراك المزايا التي يتمتع بها البعض عن غيرهم. وفي الواقع، فإن علماء النفس الذين يدعمون السلام بشدة يؤكدون أن قِيَم التسامح وحقوق الإنسان تُعزَّز عندما يكتسب الناس معلومات عن الثقافات وأنماط الحياة المتنوعة في العالم (انظر بيشيزنسكي وجرينبيرج وسولمن ٢٠٠٣).
افعل ما تَقدر عليه من خيرٍ بكافة الوسائل والطرق الممكنة، وفي كل الأماكن، وفي جميع الأوقات، ومن أجل جميع الأشخاص، وذلك طالما كان بمقدورك فعل ذلك (ويزلي ١٩١٥: ٤٢٣).
وتتردد كلمات ويزلي حتى يومنا هذا بين الكثير من الأُسَر.
أجرت جوديث سميتانا، عالمة النفس الخبيرة في دراسة العلاقات لدى الشباب الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية، دراسةً حول المشاركة المدنية للمراهقين، واكتشفت أن التعاليم المبكرة للأم والتصرفات المرتبطة بالأنشطة الدينية قد أثَّرت في درجة التعلُّق بالقِيَم الروحانية لدى المراهقين (انظر سميتانا وميتزجر ٢٠٠٥). ارتبط هذا التعلُّق بالقِيَم الروحانية أيضًا بالمشاركة اللاحقة للمراهقين في الأنشطة المدنية، وذلك حسب قولهم؛ فالمراهقون الذين ينتمون إلى أُسَر تسود بها القِيَم الروحانية يُرجَّح أن يشاركوا في مساعدة المجتمع الأكبر بأنفسهم. إن جميع الأديان الكبرى في العالم تُشجِّع أتباعها على التواصل مع الآخرين وتقديم المساعدة لمن هم أقل حظًّا، فضلًا عن تعزيز السلام. إن التعليم والتعاليم الدينية ما هما إلا مساران يؤديان إلى النشاط الاجتماعي.
إذا لخَّصنا هذه البيانات، بدا أن المنظور الثقافي في الولايات المتحدة الذي يشدد على النجاح والاستقلالية الفردية ربما يكون آخذًا في التغيُّر، ومقارنةً بالقرن العشرين، ربما أخذ في الوقت الحاضر عددٌ أكبر من الأفراد البالغين على عاتقهم مسئوليةَ نقلِ الحاجة إلى تطوير حس المسئولية الشخصية نحو الآخر للأطفال. ويحدونا الأمل أن تزداد الرسائل المتعلقة بالتواصل مع الآخرين، مثل الأشخاص الذين يواجهون ظروفًا حياتية عصيبة للغاية، وكذلك المتعلقة بالحاجة إلى دعم الآخرين الأوفر حظًّا في الحياة وتفاعلهم. وربما تكون الروح الجماعية، التي يكتب عنها عالم النفس هاري تريانديس (١٩٩٤) بشكل بليغ، قد رسخت جذورها الآن في الولايات المتحدة. تبدأ هذه الرؤية الشاملة عند الأطفال الذين يدركون أن تواصلهم مع الآخرين يرتقي بمستوى الفهم والعدالة الاجتماعية في هذا العالم.
(٣) المعلمون والتسامح
مثلما حدث في الفصول السابقة، يحدوني الأمل في تشجيع كل الأشخاص البالغين المسئولين عن أطفالهم على المشاركة في تيسير اكتساب الأطفال للصحة النفسية؛ فالصحة النفسية للطفل تعتمد على جميع الأشخاص البالغين الموجودين في حياته، ويمثل المعلمون أحدَ الأركان الجوهرية في عملية الارتقاء بقِيَم التسامح والنشاط الاجتماعي.
تَذكَّرْ أننا ناقشنا في الفصل الرابع أهمية الأسرة كبيئة للانتماء؛ فالعلاقات التي تسودها الثقة والاحترام تساعد في الارتقاء بالعلاقات المستقبلية. وبالمثل، فالمعلمون الذين يعزِّزون المسئولية الاجتماعية في فصولهم الدراسية يعزِّزون أيضًا السلوك الاجتماعي الإيجابي. إن حسَّ الانتماء إلى مجموعة اجتماعية أكبر يقترن بأفكار المسئولية الفردية والاستعداد لمراعاة رفاهية الآخرين إلى جانب الرفاهية الشخصية؛ فالبيئة المدرسية توفر فرصة أخرى للانتماء والتواصل مع الآخرين.
وبحلول مرحلة المراهقة المتأخرة، أو عمر الأربعة عشر أو الخمسة عشر عامًا، قد تطغى مشاعر الأطفال بالانتماء إلى مجموعات الأقران في المدرسة على حس الانتماء في البيت. وعلى أقل تقدير، فإن لدينا بعض البيانات التي توضح الارتباط بين مشاعر الانتماء في المدرسة، أيِ الشعور بأن المدرسة تمثل مجتمعًا في حد ذاته، وبين الصحة النفسية الجيدة لدى الأطفال. وقد ذكرت عالمة النفس هيذر إم إم شيبير، في الدراسة التي أجرتها في عام ٢٠٠١م، أن شعور الأطفال بالانتماء إلى مدارسهم كان فعالًا في مساعدتهم في تجنب الوحدة والانفتاح أكثر على الآخرين. وذكرت شيبير أن الأداء الاجتماعي للأطفال كان سليمًا من منظور الصحة النفسية في حالة شعورهم بالارتباط بالمجتمعات المدرسية، وأن هذا الارتباط قد يمهد الطريق أمام السلوك الاجتماعي الإيجابي على مستوًى أوسع نطاقًا في المستقبل، وكان للمعلمين دور مؤثر في هذا الصدد. كيف يتسنى للمدارس الاستفادة من هذه النتيجة لتعزيز المزيد من المشاعر الإيجابية والارتقاء بالنشاط الاجتماعي بوجه عام؟
شرعت عدة مدارس على مستوى الولايات المتحدة في طلب مشروعات «التعلُّم الخدمي» من طلابها في المرحلة الثانوية. يتضمن التعلُّم الخدمي جزءًا منهجيًّا وجزءًا مرتبطًا بخدمة المجتمع للارتقاء بفهم الطلاب للمادة؛ على سبيل المثال، قد يَدْرس طلابُ المدارس الثانوية ممن يأملون في العمل كمعلمين تطوُّرَ الطفل في الفصل الدراسي، ويُطلب منهم التطوع في مدرسة ابتدائية خلال الأسبوع. ويُعد التعلُّم الخدمي الإلزامي على الطلبة جديدًا نسبيًّا في الولايات المتحدة، ولكننا لدينا بالفعل بعض البيانات التي توضح أنه يمثل إضافة إيجابية للغاية إلى مناهج المدارس. وقد ظهرت نتائج له مثل الإسهامات الإيجابية في المجتمع والصحة النفسية للطلاب، وحتى تعزيز تعلُّم المنهج المحدد الذي ينطوي عليه عنصر الخدمة. (يُعد مقال عالمة النفس آمي ستراج الذي نُشر في ٢٠٠٤م ملخصًا جيدًا لهذه النتائج.)
وبحلول عام ٢٠٠٠م، وضعت ثلث المدارس تقريبًا في الولايات المتحدة عناصر التعلُّم الخدمي في مناهجها (بيليج ٢٠٠٠)، وقد تضمَّنت الفوائد الاجتماعية الإيجابية التي حصدها هؤلاء الصغار مزيدًا من الرؤى غير الأنانية، وزيادةً في التسامح والالتزام بالتعددية الثقافية، علاوة على طغيان روح انطوت على خدمة الآخرين كهدف مهم. ويبدو أن دمج التعلُّم الخدمي في جميع المدارس مهمة هائلة، ولكنها ملحة للغاية، بناءً على هذه النتائج الخاصة بالصحة النفسية للأطفال والمجتمع بوجه عام.
كتب ريد إيه لارسن، عالم النفس الشهير والخبير في مجال تطور المراهقين، في عام ٢٠٠٠م أن المعلمين يجب أن يبحثوا عن سبل لتعزيز التحفيز المتأصل داخل الطلاب، الذي يتضمن التركيز على مدار فترة زمنية طويلة، ويعتقد لارسن أن «التطور الإيجابي» للأطفال يمكن أن يُعزَّز بالتركيز على التحفيز المتأصل. ويعبر لارسن عن حزنه لأن قدرًا هائلًا من مناهج المدارس الثانوية لا يراعي هذا الأمر، وأن التحدي أمام المعلمين والآباء، على حدٍّ سواء، يتمثل في إتاحة حرية اختيار أكبر للمراهقين في تعلُّمهم. وعندما يقوم البالغون وحدهم بتخطيط مسار التعلم الخاص بالمراهقين، يعتمد المراهقون على التحفيز الصادر عن «الآخر»، وغالبًا ما يؤدون للحصول على الجوائز التي وضعها البالغون دون التزام أصيل بتحقيق الإجادة. ويشير لارسن إلى الردود التي قام بتجميعها من بحوثه مع المراهقين عن يومهم المدرسي قائلًا: «كانت ردودهم تفتقد إلى الحماسة تمامًا على غرار شخصية بارت سيمبسون الكارتونية» (لارسن ٢٠٠٠: ١٧٠). كذلك تحدث المراهقون عن مشاعر الضجر وافتقاد الارتباط بعملهم المدرسي، كما لو كانوا ينتظرون شخصًا ما يُظهر لهم متع التعلُّم.
يستطرد لارسن قائلًا إن جون ديوي كان على صواب عندما كتب في عام ١٩٣٨م أن البالغين يجب أن «يسمحوا» للأطفال بتطبيق ما تعلموه حديثًا، وأن إتقان المهارات والمشاركة الحقيقية يمكن تحقيقه فقط بالممارسة. ويؤكد لارسن أن الأنشطة التطوعية المُنظمة تُعد إحدى الوسائل الهادفة لتيسير التحفيز المتأصل العالي مع التركيز على مدار فترة زمنية. وأسوةً بمفهوم التعلم الخدمي، قد يوفر هذا النشاطُ التطوعيُّ غيرُ المنهجي، بما في ذلك الأنشطة الخدمية المجتمعية والدينية، مثلَ هذه البيئات لتعزيز الدافعية المتأصلة للتسامح والنشاط الاجتماعي. ويعتقد لارسن أن الأشخاص البالغين المهتمين بالتطور الكلي للأطفال يجب عليهم توفير المزيد من الأنشطة التطوعية التي تحقق لهم السعادة والتحفيز المتأصل.
(٤) البيئات الاجتماعية الأكبر
ناقشنا في الفصل الثالث أهمية الأنشطة اللامنهجية كأحد عوامل التنشئة الاجتماعية للأطفال، ويَذكر ريد لارسن أن طبيعة هذه المجموعات تعني أن التحفيز المتأصل لدى الأطفال يحظى بالدعم؛ نظرًا لأن كثيرًا من الأمور اليومية لهذه المجموعات ينبع من الأطفال أنفسهم، وسواء كانوا في فرق المناظرة أو يقومون بتنظيم أنشطة دينية لخدمة مجتمعاتهم، فإنهم يشتركون في تخطيط قدر كبير من مسارهم مع الأشخاص البالغين الذين يساعدون في هذا التطور. ويَظهر دعم الأشخاص البالغين، ويتسم التعلُّم بالنزعة التعاونية، وقد اقترنت نتائج مثل ارتفاع معدل الدرجات أثناء مرحلة المراهقة، وزيادة الأنشطة التطوعية في مراحل عمرية لاحقة، بالأطفال الذين شاركوا بفاعلية في مجتمعاتهم الكبرى طلابَ المدرسة الثانوية. تُلقي هذه البيانات نظرة على أهمية تعزيز القدرة على التأثير داخل الأطفال، بينما يحاول البالغون تيسير وتدعيم الأنشطة الاجتماعية الإيجابية التي قد يشترك بها الأطفال. ويقول لارسن إن فهم أهمية التحفيز المتأصل لدى الأطفال للتصرف بكفاءة يمكن أن يكون جزءًا من تطورهم الإيجابي الكلي.
نعود إلى عمل كونستانس فلاناجان؛ ذكرت كونستانس في الفصل الخاص بها في «كُتيِّب علم النفس للمراهقين» (٢٠٠٤) أن الطبيعةَ التبادليةَ للأشخاص البالغين، الذين يتطوعون بوقتهم للمشاركة في الأنشطة غير المنهجية مع الأطفال، وانشغالَ وقت الأطفال بالأنشطة المدنية لاحقًا «حلقةٌ مثمرة»؛ فالأشخاص البالغون الذين يُعلِّمون الأطفال الانخراط في الأنشطة الاجتماعية الإيجابية يعززونها مع الأطفال الذين يثقون بهم. وفي الوقت نفسه، يكتسب هؤلاء الأطفال المزيد من وجهات النظر الإيجابية عن الآخرين بشكل عام مقارنةً بالزملاء غير المشاركين. وتعني الأهداف الجماعية التي يحددها الأطفال لمجموعاتهم بمساعدة الأشخاص البالغين القائمين برعايتهم أن تطور الأطفال يتحسن؛ فالأطفال يتعلمون كيفية تحديد الأهداف وتحقيقها لصالح المجتمع. وكذلك تتعزز صحتهم النفسية الجيدة وتستفيد الجماعة والمجتمع الأكبر من عملهم.
تعود بنا مناقشة فلاناجان إلى أهمية الآباء، تَذْكُر فلاناجان أن المراهقين المشاركين بفاعلية في مجتمعاتهم لديهم آباء مشاركون في المجتمع أيضًا، ورغم أن الطبقة الاجتماعية تُعد أحد العوامل التي تنبئ بالمشاركة المدنية — إذ يرتبط دخل الآباء الأعلى بزيادة المشاركة المدنية — يسود النشاط الاجتماعي في جميع الطبقات عند وضع الانتماءات الدينية في الاعتبار؛ وأعني بذلك أن الأُسَر ذات الأحوال الاقتصادية السيئة غالبًا ما تشارك في النشاط الاجتماعي عندما يتعلق بالعمل الاجتماعي الخاص بمؤسساتهم الدينية، وإذا ما أُتيحت لهم الفرص، يمكن أن يطوِّر جميع الأطفال المشاركة المدنية. ويدعم عمل سميتانا وميتزجر (٢٠٠٥) هذه البيانات.
يجري تعزيز التسامح والالتزام بالنشاط الاجتماعي عندما يكون الأطفال قادرين على مساعدة الآخرين المحتاجين، أو عندما ينتهزون الفرص للتعرف على الآخرين الاجتماعيين الذين لم يصادفوهم من قَبل، وينطوي مثل هذا التصرف أيضًا على فرص للتناقش مع الأشخاص البالغين القائمين بالرعاية حول معنى النشاط الاجتماعي. ويجب أن يكون الأشخاص البالغون متاحين عندما يبدأ الأطفال طرح أسئلة عن أنفسهم ومجتمعهم؛ فالمراهق المذكور في الفصل السادس الذي اشترى القميص ذا الأكمام القصيرة، الذي صوَّر كبار الزعماء من السكان الأمريكيين الأصليين بعبارة تقول كلماتُها: «مكافحة الإرهاب منذ عام ١٤٩٢»؛ قد مُنح فرصة لإبداء بُغضه لمعاملة حكومة الولايات المتحدة لسكان أمريكا الأصليين، وقد كانت المناقشة بين الأب والابن ضرورية لمساعدته في مراجعة قِيَمِه وتحديد موقفه من قضية العدالة الاجتماعية هذه. أعلن الأب موافقته الصريحة على توجيه الطفل للأسئلة وسَمح للطفل بالتصرف وفقًا لمعتقداته. ويجب أن يتعلم الأشخاصُ البالغون، الذين يريدون تعزيز التسامح والعدالة الاجتماعية بين الأطفال، تدبُّرَ تحيزاتهم الشخصية والتصرفات الخاصة بالعدالة الاجتماعية أيضًا، وهذا هو الموضوع الذي سنتناوله في الجزء التالي.
(٥) تعليم التسامح والنشاط الاجتماعي
عندما يحاول الأشخاص البالغون القائمون بالرعاية أن يُعلِّموا الأطفال القِيَم الخاصة بهم — بما في ذلك التسامح مع الآخرين وكيفية التصرف وفقًا لمعتقداتهم — فقد يمثل الأمر صراعًا لهم؛ فالأشخاص البالغون في حياة الأطفال يحتاجون غالبًا بعض المساعدة عند مجابهة دورهم في المجتمع وتحيزاتهم الشخصية؛ إذ إن هذه التحيزات الشخصية يمكن أن تجعل تعليم التسامح للأطفال أكثر صعوبة. ويُعد العمل الخاص باثنين من المدافعين عن أهمية توجيه المعلمين نحو العمل في إطار عمل خاص بالعدالة الاجتماعية نقطةً جيدةً للبدء. في عام ١٩٩٢م، قدَّم جيرالد وينشتاين وكاثي أوبير للمعلمين استراتيجيات ليصبحوا أكثر كفاءة في تعليم مفاهيم العدالة الاجتماعية، طلب هذان الأستاذان الجامعيان من المعلمين أن يفكروا كيف أسهم تطورهم (أي المُعلِّمين) في تعليمهم التسامح، ونورد فيما يلي ملخصًا باستراتيجياتهما.
يجب على المعلمين
-
(١)
أن يكون لديهم وعي بهوياتهم الاجتماعية، بما في ذلك الأصل العرقي والديانة والطبقة الاجتماعية والتمييز بناءً على القدرات الجسمانية، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
-
(٢)
أن يتصدَّوْا لتحيُّزاتهم، وأن يتساءلوا عن مدى تأثر ظروفهم بمفاهيمَ مثل «امتياز البيض» أو «التمييز على أساس الجنس» وما إلى ذلك.
-
(٣)
أن يراجعوا استجاباتهم تجاه التحيز الذي يعبر عنه الأفراد البارزون في جماعةٍ ما عن مجموعات مُستهدفة؛ على سبيل المثال، التفكير فيما ينبغي قوله عن استخدام الأطفال لكلمات «مُعاق» أو «مثليِّ الجنس» أو «أعرج» كصفات تحطُّ من قَدْر الآخرين.
-
(٤)
أن يتذكروا أن جميع الأفراد البالغين لا يزالون يتعلمون كيفية التصدي لتحيُّزاتهم والاستجابة للآخرين.
-
(٥)
أن يتذكروا أن تأييد الطلاب (الأطفال) أمر شديد الأهمية، ولكن يجب أن يوازَن مع أهمية الموضوعات الخاصة بالعدالة الاجتماعية، ويمكن التعامل مع ذلك بأسلوب ودِّي.
-
(٦)
أن يتعلموا التعامل مع الحدَّة الانفعالية المحيطة بهذه الموضوعات التي يُظهرها في بعض الأحيان الأطفالُ، إلى جانب الحدة الانفعالية الخاصة بهم. وعندما يخشى الأشخاص البالغون من فقدان السيطرة على الفصل الدراسي أو يخشون من فقدان صلة المودة مع أطفالهم، يمكن أن تُعطَى ردود غير مؤكدة. انتبه عندما يحدث هذا وتَعَاملْ معه أيضًا. خُذ استراحة، واستأنِف ثانية.
فلْنراجِعْ ما طلب وينشتاين وأوبير (١٩٩٢) من المعلمين أن يفعلوه. يمكن أن تكون هذه النقاط صالحة للتطبيق أيضًا مع الآباء أو أي أشخاص بالغين آخرين لديهم أطفال خاضعون لرعايتهم. بدايةً ينبغي أن يراجِع الأشخاص البالغون الفئات الاجتماعية التي ساعدت في تطورهم الإيجابي أو أعاقته، ويجب أن يضع الأشخاص البالغون في اعتبارهم خلفياتهم الأُسَرية وأصولهم العرقية ومعتقداتهم الدينية وقدراتهم البدنية أو حيويتهم الجسدية والتصنيفات الأخرى التي لا تتجزأ من هويتهم؛ على سبيل المثال، بصفتِي مُعلمة، لديَّ عادةً طلابٌ أمريكيون ذوو أصول أوروبية ممن يقولون إنه ليس لديهم أصل عرقي عندما أطلب منهم أن يشتركوا في هذه المناقشة في الفصل. ويعتقد هؤلاء الطلاب البيض الذين يلتحقون بكليات جامعية في الولايات المتحدة بفضل أوضاعهم كأغلبية، من ناحيتَي العدد والنفوذ، أن مجموعتهم العرقية ذات نفوذ وليست في حاجة إلى تخطيط أو مراجعة، إنهم يَختبرون ما يُطلق عليه «امتياز البيض»، وأنا أطلب من هؤلاء الطلاب التصدِّي لهذا التحيُّز من خلال توجيه القول لهم بشكل لَبِقٍ ولكنه مباشر: «أعتقد أنكم تتحدثون من منظور امتياز البيض.» والطلبة الذين لا يألفون هذه العبارة — وهم كُثُر — يعملون معي بهدف التخلص من هذا التحيز، الذي لم يكونوا يعرفونه سابقًا. إن مواجهة التحيزات تساعد في جعل الأشخاص البالغين أكثر انفتاحًا على تلقي الأسئلة من الطلبة عندما نرغب في تعليم التسامح. إن الصحة النفسية للأشخاص البالغين تساعد في الارتقاء بالأمر نفسه لدى الأطفال.
إن كيفية استجابة الأشخاص البالغين للأقوال أو الأفعال التي تنمُّ عن تحيزٍ تمثِّل أهمية لتعليم الأطفال، تَذكَّرِ «الأب الذي كان يصطحب ابنته وزميلاتها لاعبات الكرة»، الذي تصدى لتنميط الشعب التركي من قِبل الفتيات اللاتي كنَّ يستقلِلْنَ سيارته، وقد واصل تشجعيهنَّ بطريقة لبقة لإعادة النظر في مواقفهنَّ، وأضفى بعض المرح على الدرس من خلال ارتياحه الشخصي للموقف. أظهر الأب للفتيات اللاتي في رعايته أنه بالفعل يهتم بهنَّ من خلال تصدِّيه لوجهات نظرهنَّ التنميطية للآخرين، ويُعد هذا مثالًا لمواجهة ناجحة للغاية، ولكن لا يتميز كلٌّ منَّا بهذه المهارة الفائقة مع كل حالة مواجهة محتملة؛ إذ ينبغي أن يتذكر البالغون أنهم يتعلمون عن التسامح والنشاط المجتمعي كل يوم، تمامًا مثل الأطفال. يصعب على الأشخاص البالغين المخاطرةُ بِسِمةِ حُسن النية لدى الأطفال الخاضعين لرعايتهم، وذلك بإيقاف النقاش وإشراكهم في حوار عن التحيز، ولكن سواء كانوا طلابًا في فصل دراسي أو مجموعة من لاعبات كرة القدم في سيارة، يتحمل الأشخاص البالغون مسئولية المساعدة في تشكيل أفكار الأطفال والطلبة عن الآخر الاجتماعي، وإضفاء مزيد من التسامح على العالم.
وأخيرًا، يقترن موضوعا التسامح والعدالة الاجتماعية عادةً بدرجة عالية من الحدَّة الانفعالية؛ فعندما يشعر الناس بأن مواقفهم يُستخفُّ بها، أو أنهم في موقف دفاعي، قد يبدو أن قدراتهم المعرفية تنحسر وتحل محلها المشاعر الانفعالية. يواجه غالبية الناس صعوبة في التفكير على نحوٍ سديدٍ عندما يعتقدون أنهم يُهاجَمون، ويحتاج الأطفال للأشخاص البالغين كي يساعدوهم في رؤية هذه المواجهة مع التحيزات على أنها نابعة من منطلق الاهتمام بهم، وأن الكلمات التي تُقال أو الإجراءات التي تُتخذ تَصبُّ في صالحهم، والأشخاص البالغون لا يختلفون عن الأطفال في هذا الأمر كثيرًا. إن النضج الذي يأتي مع التقدم في العمر لا يضمن إصدار رد فعل مدروس ومكتمل الجوانب إزاء عدم التسامح أو افتقاد العدالة الاجتماعية؛ فكلٌّ منَّا قد يواجه صعوبة مع المحتوى الانفعالي المتأصل غالبًا في دعوات الآخرين للتغيير. وعندما يجد الأشخاص البالغون أن فصولهم الدراسية أو منازلهم يسودها التوتر الناجم عن عدم التسامح، يمكن أن يطلب الأشخاص البالغون من الجميع أن يأخذوا استراحة ويلتقطوا أنفاسهم، ويفكروا بهدوء فيما أفرزه عدم التسامح، وربما يمكننا أن نطلب من الأطفال أن يكتبوا أو يرسموا عن تجربتهم كطريقة لإعادتهم إلى حالة معرفية أوضح ذات محتوًى انفعالي أقل، وقد يحتاج الأشخاص البالغون القيام بالأمر نفسه، وهذا لا يعني أن المحتوى الانفعالي بلا قيمة، بل العكس تمامًا! إن الأمر يتلخص فقط في أن التفكير العقلي في مواقف الآخرين عن التسامح قد يتطلب قدرًا هائلًا من الفكر والتركيز.
وكأشخاص بالغين، نحن نسأل أنفسنا بشأن المعارك التي نختار خوضها مع الأطفال الخاضعين لرعايتنا. وتُعد القضايا التي تثير مخاوف للأشخاص البالغين في غالب الأمر هي تلك القضايا نفسها التي تثير مخاوف الأطفال أيضًا. لقد استمع الأب، الذي يصطحب لاعبات الكرة في سيارته، إلى الفتيات وهنَّ يتحدثْنَ بشكل سلبي عن الأتراك، واختار أن يوقف مثل هذا التنميط من خلال تسمية التصرف، طالبًا منهنَّ أن يحدِّثْنَه أكثر عن الأمر. أدرك الأب أنه كان بحاجة إلى بضع ثوانٍ لتهدئة نفسه، وقد منحه هذا الطلبُ أيضًا المزيدَ من المعلومات عمَّا أثار هذا الحديث السلبي، كما منحه وقتًا لترتيب حديثه عن التحذير والتسامح الذي عرف أنه يجب أن يَصِل إلى الفتيات الصغيرات بأسلوب ودود. استخدم الأب حس الفكاهة لمساعدته في التعبير عن فكرته، وتمكنت الفتيات الصغيرات من الربط بين توجيهه وبين وجهات نظرهنَّ السابقة. وقد جرى تعزيز التسامح والعدالة الاجتماعية من خلال الإيجابية الاجتماعية للأب والتزامه بالحديث عندما استمع إلى حوار ينطوي على ازدراء للآخر.
(٦) تطوُّر الطفل والصحة النفسية الجيدة والتسامح والعدالة الاجتماعية
تطرقنا في هذا الكتاب إلى الأدوار العديدة المنوطة بالأشخاص البالغين في حياة الأطفال. إن السياقات المتعددة للمنزل والمدرسة والمجتمعات هي أماكن يحدث بها تطور الأطفال، وفي داخل بيئات التعليم هذه، يتضح أن هوياتِ الأطفال المعرفية والاجتماعية والسياسية الأكبر مهمةٌ للصحة النفسية الجيدة للأطفال. إن الصحة النفسية الجيدة للأطفال تعطينا الأمل في بناء مجتمعات أفضل للجميع في المستقبل. ومثلما تَذكُر كونستانس فلاناجان (٢٠٠٤)، سيكون لكل جيل من الأطفال أحداث ونماذج تاريخية مختلفة للتعامل معها، وسيتغير بالضرورة تطويرهم للمسئولية والمشاركة المدنية من جيل إلى جيل نظرًا لهذه التحديات المختلفة.
ومثلما تفترض النظرية البيئية للتطور لِيوري برونفينبرينر (١٩٨٦)، يجب أن يتعامل كل جيل مع السياق التاريخي الذي ترعرع في إطاره؛ فتطوُّر الأطفال يعتمد على التفاعلات مع الأشخاص البالغين والأطفال الآخرين؛ وهو ما يعزز الصحة النفسية الجيدة. إن الإشكاليات العالمية تؤثر على هذا التطور، ونحن في حاجة إلى أفراد بالغين يحرصون على التسامح في وقتنا الحاضر أكثر من أي وقت مضى. إن القرن الحادي والعشرين حافل بالنزاعات وثمة افتقاد واضح لقيمة التسامح بين الناس المتحاربين في كافة أنحاء العالم، وهذا يفرض على الأشخاص البالغين في المجتمع الحر، بل وربما حول العالم في المجتمعات الأقل حرية، أن يعملوا على الارتقاء بتطور الأطفال في جميع هذه المجالات المهمة.
يحدث التطور المعرفي والاجتماعي عندما يشترك الأطفال بفاعلية في عوالمهم بمساعدة الأشخاص البالغين القائمين بالرعاية. وتعتمد الصحة النفسية الجيدة للأطفال على الأشخاص البالغين الذين يبحثون عن التسامح والعدالة للجميع، ويعتمد التسامح العالمي والعدالة الاجتماعية على الجيل التالي. علينا ألا نلقيَ بهذا العبء على أطفالنا دون أن نزوِّدهم بوسائل تعمل ﮐ «منارات ودروع للقِيَم» التي ناقشناها في الفصل السادس؛ فالنشاط الاجتماعي هو جائزة لأطفالنا.
إن الصلات المبكرة مع الآباء والأشخاص الآخرين القائمين بالرعاية تضع الأطفال على مسار تطور العلاقة التي ستخدمهم جيدًا على مدار حياتهم. كذلك الالتزامات الاجتماعية والتعاطف مع الآخرين والبيئة التي تحتاج إلى تدخل أو إصلاح من قِبل الإنسان تُعزَّز على أيدي أشخاص بالغين مهتمين بالتطور المبكر للأطفال. وتُعد هذه الصلات المبكرة، بما في ذلك الصلات مع الأطفال الآخرين، هي لَبِنات البناء للصحة النفسية الجيدة التي تساعد الأطفال في النظر خارج نطاق أنفسهم؛ ومن ثَمَّ المشاركة في المسئولية المدنية وخدمة الآخرين. وعندما يتحمل الأشخاص البالغون المهمُّون في حياة الأطفال مسئولية تربية الجيل التالي بشكل جدِّي وبأساليب تنمُّ عن حسن الاطلاع، مثل تلك الأساليب التي يمكن أن توفرها البحوث النفسية؛ ستتحسن حينئذٍ قدرتنا على مساعدة جميع الأطفال في أن يكونوا نشطاء المستقبل. كما توفر التطبيقات العملية للبحوث النفسية التي نوقشت في هذا الكتاب العديد من الفرص للأشخاص البالغين لمساعدة الأطفال في بناء صحتهم النفسية الجيدة.
بينما أنت عاكف على اكتساب المزيد من المعلومات لمؤازرة نموك ونمو الأطفال الخاضعين لرعايتك، أمضِ مزيدًا من الوقت في البحث عن موارد أخرى ستجعلك والدًا أفضل ومعلمًا أفضل. وتعتمد معظم قائمة القراءة الخاصة بتطوير التسامح لدى الأطفال والبالغين على مؤلفات أستاذة علم النفس الاجتماعي التي تشتهر بعملها في تعزيز التسامح؛ وهي الدكتورة كيم كايس. صمَّمت كايس وأجرت أبحاثًا على مجموعات نقاش أُطلق عليها: «نساء بِيضٌ ضد العنصرية» طوال سنوات عديدة، وتمثل نموذجًا لكيفية استطاعة الأشخاص ذوي الامتيازات مراجعةَ تحيزاتهم الشخصية والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية. وتحتفظ كايس وزوجها كينت كايس أيضًا بمكتبة رائعة من كتب الأطفال الخاصة بتعزيز التسامح (انظر الملحق).
يمكننا كأفراد أن نصنع فارقًا لأنفسنا وفارقًا في حياة أطفالنا. انظر إلى هذه الكلمات المؤججة للمشاعر من مارجريت ميد: «لا يعتريك أدنى شكٍّ في أن مجموعة صغيرة من الناس يمكنها أن تُحدِث تغييرًا. في الواقع، إنها الطريقة الوحيدة التي تُثبت نجاحها دائمًا.» كما أنني أَجْريت مقابلة مع أحد الناشطين في مجال الحقوق المدنية للإعداد لهذا الكتاب، ولفتت نظري ثلاث ملاحظات منه. أخبرني الدكتور بروس بالمر، وهو مؤرخ ذائع الصيت (لقاء شخصي، ١ مارس ٢٠٠٧م) عن تجربته في ستينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة. لقد بدأ كأحد الناشطين في مجال الحقوق المدنية؛ نظرًا لأنه كان في علاقة ذات أهمية بالنسبة له وكانت شريكته ناشطة في الحركة. كان لدى والديه ضمير اجتماعي، وعندما اقترح عليهما أنه سينضم للحركة، دعمته والدته تمامًا، بل وقالت له إنها تحسده على هذا الأمر. وفي نهاية الأمر، ذكَّرني أن حركة الحقوق المدنية أُطلقت من خلال عدد محدود للغاية من الأشخاص. كان نبوغهم جليًّا لبالمر، ولكن أعدادهم كانت صغيرة؛ فالولايات المتحدة تغيرت بفضل مجموعة صغيرة من أشخاصٍ نابغين كانوا ناشطين اجتماعيين. وللأشخاص البالغين تأثير في حياة الأطفال وتحتاج مجتمعاتهم الحالية من مختلف الأجيال أن يعملوا من أجل التسامح والعدالة الاجتماعية، وتبدأ هذه الأمور مع علاقاتنا الأولى.
في هذا الكتاب، ركزتُ على العلاقات بصفتها سبيل بناء مستقبل الأطفال، ويمكن تعزيز صحتهم النفسية الجيدة من خلال المقاييس السبعة التي ناقشناها. والأشخاص البالغون الذين يعزِّزون تطور الأطفال باهتمام وودٍّ يؤدون أدوارهم بفعالية في شتى مجالات المهارة؛ بمعنى أن الآباء والمعلمين والأشخاص البالغين الآخرين ذوي الأهمية في حياة الطفل يساعدون في الارتقاء بالنمو الشامل للأطفال. والأشخاص البالغون الذين يحفزون التطور المعرفي والاجتماعي والبدني للأطفال، مع وضع صحتهم النفسية الجيدة كهدف، إنما يعززون نمو جميع الأفراد.
إن هذه الأهداف يمكن تحقيقها. احرصْ على بناء علاقات في إطار بيئتَي الأسرة والمدرسة من شأنها أن تعزِّز مشاعر الانتماء والثقة في الآخرين. ساعِد الأطفال في تطوير علاقات صداقة دائمة ستساعدهم على مدار حياتهم. علِّم الأطفال القِيَم الخاصة بك والتزمْ بها. راقِب التأثيرات الأخرى في حياتهم. استمتعْ بالوقت! تفحَّصْ صحتك النفسية وراجع تحيزاتك أيضًا. ساعِد الأطفال في رؤية مكانتهم في العالم كعوامل تغيير لتحقيق المصلحة للجميع؛ فالتسامح والعدالة الاجتماعية لهما بداياتٌ مبكرة عند أطفالنا.
سأستعين بتعبير كونستانس فلاناجان وأقول إن «الحلقة المثمرة» تبدأ عندما يتولى الكبار تربية أطفال أصحاء نفسيًّا، وهؤلاء يردُّون بدورهم الجميل لمجتمعاتهم. تبدأ الحلقة المثمرة وتنتهي عند الأفراد البالغين المهتمين والمستعدين لأداء هذا العمل الهام؛ فأطفال القرن الحادي والعشرين بحاجة إلينا، وتربيتُهم على أن يتمتعوا بصحة نفسية جيدة أمرٌ في الإمكان، وسيعود ذلك بالنفع عليهم وعلى الآخرين. كذلك ستساعدهم الصحة النفسية الجيدة في الاستمتاع بحياة سعيدة وناجحة، وتباعًا سيعملون في صالح هذا العالم.