الجوع والمجاعات
كثيرًا ما قلتَ يا سيدي، وقد أبطأ غداؤك، أو تأخر عشاؤك: «أكاد أموت جوعًا!»
بل كثيرًا ما قلتِ يا سيدتي، وقد عدتِ من زيارة لصديقتك، أو رجعتِ من نزهة شحذ هواؤها معدتك: «أموت جوعًا!»
وقاكم الله ذلك!
قلتم وتقولون مثل هذا القول يا سادة، وإنْ هو إلا من قبيل المجاز؛ فإن «موتنا جوعًا» في مثل الأحوال التي ذكرتُ ليس إلا كناية عن توافر الشهية للطعام والشراب، وزيادة قابلية المعدة للتلذذ بشهي المأكولات وطيب الألوان.
الجوع في الحقيقة وفي المجاز
مرَّت مركبة إحدى السيدات الموسرات بكوخٍ حقير فيه امرأة ناحلة شاحبة، وحولها أطفالها، بأسمالهم البالية، يتضورون جوعًا، ويرتعشون بردًا، فأسرعت السيدة إلى قصرها، وأصدرت أمرها إلى أحد أتباعها، أن يجمع ما يلزم من الزاد والملابس، فيحمله إلى ذلك الكوخ. ثم دخلت مخدعها، وقد أُشعل فيه الموقد وأُحضر الشاي وأطباق الحلواء، فأكلت هنيئًا، وسرى الدفء في جسمها، فقرعت الجرس، وقالت للخادم: «لا حاجة إلى حمل الزاد والملابس إلى حيث أشرتُ؛ فقد دفئ الجو وسكن الجوع.»
دفئتْ فظنت المقرورين قد دفئوا، وشبعت فتوهمت الجياع قد شبعوا.
وكان أحد الأغنياء عائدًا في موعد العشاء إلى منزله؛ حيث كانت تنتظره المآكل الطيبة، ولم يكن على شيء من الشهية بعد ما أصاب في الغداء من المأكل والمشرب، فاعترضه فقير متكفف، وطلب إليه الإحسان قائلًا: «أنا جائع، يا سيدي!» فهز الغني كتفيه، وقال في نفسه: «قاتله الله، هو يشعر بالجوع ويشكو.»
هكذا أكثرُنا يفهم الجوع — أعني الجوع في طوره الأول حين لا يتعدى الحاجة التي نشعر بها لتناول الطعام، أو عندما تطول هذه الحالة ولا نلبي شهيتنا، فنشعر ببعض انزعاج، فيقول الواحد منا على سبيل المزاح: «غنت عصافير بطني.»
أما في الواقع، فمن منكم يدري ما هو الجوع في معناه الحقيقي لا المجازي؟ من منكم يعرف الجوع الذي يمزق الأمعاء تمزيقًا، فلا تغني عصافير البطن، بل تنهش أنياب السغب الأحشاء نهشًا؟
كلكم يجهله، وعسى أن لا تعرفوه إلا اسمًا.
أما في سوريا ولبنان، فقد عرف الأهلون اليوم الجوع بأنَمِّ معانيه، عرفوا الجوع الذي يتحول إلى آلام مبرحة وعذاب لا يطاق.
عرفوا الجوع الذي ينتهي بالموت، فيقضي الإنسان وأمامه امرأته وأولاده، يتقدمونه، أو يلحقونه في مثل هذه الميتة الفظيعة.
هذا هو الجوع الذي تألفت اللجان لتلافيه أو لتخفيف وطأته.
هذا هو الجوع الذي نهض رجال المروءة والإنسانية لإنقاذ الضحايا الكثيرة من مخالبه، وقد امتدت تلك المخالب الحادة إلى جميع طبقات الشعب، فمددتم يدكم بالنجدة لتكسروا شِرَّتها وتثلموا حِدَّتها، ولأنتم كاسرون!
هذا هو الجوع الناشئ عن المجاعات، والذي أنا محدثكم عنه في هذا المساء بعد أن درسته من جميع وجوهه.
أسباب المجاعات الطبيعية والمفتعلة
لا شك في أن المجاعة بحد نفسها هي من أشد الآفات التي تنتاب بني الإنسان؛ لأنها لا تقتصر على بعض أفراد، بل هي إذا ضربت أطنابها في قطر من الأقطار، تناولت أضرارها ذلك القطر بأكمله، فكانت عليه شديدة الضغط ثقيلة الوطء. يضاف إلى ذلك أنها غير محددة المدة ولا محصورة الأجل، فقد تطول شهورًا، وقد تطول سنوات، إذا لم تستأصل أسبابها وعللها الفاعلية أو الغائية. بل هي تجمع إلى لوعة الحاضر فجعة القلق بشأن المستقبل، وقد غَرُبَ عن أُفُقِه نجمُ العز، واحتجبت من سمائه شمس الأمل والرجاء.
وقد عرف الآدميون في تاريخهم الطويل هول تلك الآفة، وذهب مئات الألوف منهم ضحية المجاعات. على أننا اليوم إذا طرق آذاننا ذكر الجوع والمجاعة، يتبادر إلى ذهننا شيء بعيد العهد، يكاد يرجع إلى عصر الطوفان أو إلى الأزمنة المتناهية بالقِدَم، فلا يخطر لنا ببالٍ أن المجاعة ممكنة الوقوع في عصر البخار والكهرباء، وفي عهد ازدهار التضامن وعلم الاقتصاد.
والحقيقة أنه أصبح في وسع الإنسان اليوم مقاومة هذه الآفة أكثر من سواها من الآفات؛ لأنه كلما ازدادت أسباب المواصلات اتساعًا، واشتدت أواصر التضامن البشري إحكامًا، قلَّ خطر وقوع المجاعات في أنحاء العالم، وإن كانت هذه الأنحاء تختلف في خصب التربة وزكاء المنابت، ووفور العمران، وإذا كان بعض الأقطار قد أصيب في الأزمنة الحديثة بالمجاعة، كما حلَّ في بلاد المجر وغيرها من أمصار أوروبا أو أفريقيا أو آسيا أو أمريكا؛ فإن ذلك كان في الغالب معلولَ مقدماتٍ مدبَّرة، ونتيجةَ تدابيرَ موضوعة.
أما في الأحوال العادية فقد أصبح من الصعب تفشي المجاعة في بلد من البلدان — قلنا: إلا إذا كان الأمر مدَّبرًا — وذلك بفضل اتساع سبل المواصلات من خطوط حديدية تطوي القِفَار، وسفن بخارية تجتاز البحار، فتقرب هذه وتلك المسافات الشاسعة، وتربط بين أطراف البلاد القاصية. زد على ذلك روح المزاحمة التي دبت في التجارة، وسقوط الحواجز الجمركية في كثير من البلاد لتسهيل حركة التداول والتبادل في الواردات والصادرات، وضَعْ فوق كل ما تقدم التضامن الأدبي الذي تزداد رُبُطُه إحكامًا وتوثُّقًا مع ما قد ينتابها من التراخي في بعض الفترات، كما نرى ذلك إبان هذه الحرب الهائلة.
نتبين حقيقة ما قدمنا إذا ما عرفنا أسباب المجاعات:
وإذا كانت البلاد المصابة ضعيفةَ مواردِ الرزق من طبيعتها، سيئة النظام الحكومي، قليلة المواصلات مع جيرانها — أو مقطوعة المواصلات لأسباب طارئة — زاد ويلها، وتفاقم خَطْبها.
وإذا جاءت فوق ذلك الحرب الخارجية — أو الفتن الأهلية — عم البلاء والدمار، والحرب كما لا يخفى من أكبر أسباب الغلاء، ومن ثَمَّ من أكبر أسباب المجاعات؛ لأن الأيدي تنقبض عن الفَلْح، وتنصرف عن المحراث وآلات الزراعة والتعمير إلى السلاح وآلات التخريب والتدمير، فتعبث بالحاصل، وتعوق حركة الإنتاج، فيُضطر الأهلون إلى استنفاد المدَّخَر لديهم للبذر — وهو أمل المستقبل — فتظهر المجاعة، قهارة فتاكة، بأهول مظاهرها، وتُفضي إلى إهلاك الزرع والضرع.
وعلى هذه الكيفية تحولت أقطار زاهية زاهرة في الأزمنة الغابرة إلى صحاري مقفرة.
على أنه من الصعب أن تحل هذه الآفات دفعة واحدة في جميع أنحاء المعمور، فَتَعُمَّه من قطبه إلى قطبه، أو تشمل مسافات شاسعة من العالم لا يمكن الوصول إليها لإنجادها، فإن المواسم إذا أمحلت في بقعة من بقاع الأرض، أقبلت عادةً في سواها، فيكون هنا إعاضةٌ مما هناك.
تاريخ المجاعات في الشرق والغرب قديمًا وحديثًا
وكثيرًا ما توافرت هذه الأسباب، كلها أو بعضها، في أعصر التاريخ الماضية — كما توافرت اليوم في سوريا ولبنان — فأحدثت مجاعات هائلة، وألَّفت للجوع تاريخًا حافلًا بالمصائب والرزايا.
تاريخ المجاعات — وللمجاعات تاريخ كسائر الآفات — سلسلة طويلة، دامية الحلقات، وآخر حلقاتها مجاعة سوريا.
وإذا كنا اليوم نحاول أن نلقي معًا نظرة على هذا التاريخ المفجع، فلكي نزداد تفهمًا لأحوال العمران والاجتماع، وإدراكًا لأصول التضامن الإنساني، فنستخلص من العلل والمعلولات عبرًا وعظات، والتاريخ أبو العبر.
أيها السادة!
إن النظر إلى بعيد، والتهيؤ لحوادث المستقبل، من أفضل فضائل الاجتماع في نظامه الحديث، فقد عاش الإنسان الأول في حالته الفطرية مهتمًّا ليومه غافلًا عن غده، فكانت المجاعات في قبائل البشر الأولين تتفشى لأصغر الأسباب، بل كان وجودها بينهم يكاد يكون مستمرًّا على رحب الأرض بسكانها القليلين، وعلى قلة مطالب السكان في ذلك الزمان. والتوراة — أقدم التواريخ — حافلة بالشواهد على ذلك. بل هذه أمريكا، التي تقري اليوم مئات الملايين من السكان عن بحبوحةٍ وَسَعَةٍ، كانت منذ قرنين فقط محطًّا للمجاعات، مع أن عدد أهلها يومئذ لم يكن يتجاوز الثلاثة ملايين.
وكان من نتيجة المجاعات قديمًا في الأقطار الهندية أن السكان الذين كانوا على عهد هيرودتس — في القرن الخامس قبل المسيح — يبلغون الخمسين مليونًا، أصبحوا بعد قرن واحد، على عهد حروب الإسكندر، ربع هذا العدد فقط.
أما في الصين فطالما فتكت المجاعات بالأهلين فتكًا ذريعًا، حتى قال عنها أحد المؤرخين القدماء: إنها «كانت متعهدة بكسح الفقراء.»
ونزلت المجاعات مرارًا بمصر، على عهد الكهنة والأسر الفرعونية الأولى، فإن أعمال الري وتوزيع مياه النيل التي عادت على البلاد بالخصب، لا يرجع عهدها إلى قبل الأسرة الفرعونية الرابعة — أي إلى عهد بناء أهرام الجيزة — وقد عبثت الأيام بجسور النيل فهدمتها، وأعاد بناءها رعمسيس الكبير، وجددها بعده البطالسة، فَوَقَوْا مصر وما يجاورها شر المجاعات.
أما معاصرو قدماء المصريين فكانوا يعيشون حسب ما يتفق لهم:
فالفينيقيون — الذين خاضوا البحر يوم كان عصيًّا فأصبحوا حينذاك أسياد البحار كما هم الإنكليز اليوم — كانوا يجلبون حاجتهم من الغلال من بلاد أفريقيا.
وأما سائر الشعوب البرِّية، فيقدر علماء التاريخ أن المجاعة كانت تنتابهم بمعدل مرة كل ثلاث سنين، حتى إن المجاعة كانت تعد عند الإسرائيليين من الآفات الأهلية.
وإذا انتقلنا إلى الرومانيين نجدهم في بداية أمرهم رجال حرب وزراعة، لا يتركون سيف الغزو إلا ليقبضوا على محراث الزرع، فلم يكن للمجاعة من أجل ذلك مأخذ ببلادهم، ولكنهم لما أَثْرَوْا، استرسلوا في القصف والتهتك وعكفوا على اللذات، فحلَّ الترف عندهم محل شظف العيش، وقامت قصور الأغنياء والأشراف وحدائقها الغناء مقام الحقول في سهل «روما»، فتناقصت حاصلات البلاد، وأهملت الشئون الزراعية، وبات اعتماد «روما» في الامتيار على مستعمراتها الغنية، وأصبحت جزيرة «صقلية» أهراء روما، كما كانت من قبل أهراء اليونان وقرطاجة، ولما اتسعت حاجتهم وزاد خمولهم، أخذوا يستوردون الحنطة من مصر وشمالي أفريقيا بعدما استنزفت موارد «صقلية».
وكانت نفقات النقل باهظة بطبيعة الحال، لصعوبة المواصلات في تلك الأعصر، فارتفعت الأسعار ارتفاعًا أجهد الفقراء ومتوسطي الحال، فجاع الشعب، ومن المعروف أن الجوع مَفْسَدَة للناس، وأنه يولد العبودية، ولكن العبودية لا تُنقذ من الجوع، فصار أحرار الرومان عبيدًا لمن يطعمهم، على حد المثل القائل: «أَجِعْ كلبك يتبعك.» وهكذا وقعوا في رق الاستعباد دون أن يأمنوا شر المجاعات، ففتكت بهم المرة تلو المرة مما يطول شرحه.
وعلى عهد حصار «طيطوس» لبيت المقدس؛ حيث كان قد اعتقل شعب اليهودية، حدثت مجاعة بلغ من شدتها أن المهاجمين الذين كانوا يقعون عند الأسوار كانوا طعامًا للأحياء، وآل الجوع بالقوم إلى نبش القبور وعجن رفات الموتى والعظام البالية للتقوت بها.
ويذكر المؤرخون من الأسباب التي آلت إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية، استبداد الحكام، وعسف العمال في الولايات، وانحلال الرابطة القومية والعاطفة الوطنية، على أثر ما تطرق من الفساد إلى الأخلاق والآداب، ولكن معظمهم قد أهمل الجوع الذي قذف من غابات «سيتيا» و«جرمانيا» بتلك الشعوب التي انقضَّت برجالها ونسائها وعيالها على الأملاك الرومانية — والجوع يطرد الذئب من الغاب على حد المثل المأثور عند الفرنجة.
أجل، هو الجوع الذي دفع عصابات «أتيلا» البربرية من تخوم الصين إلى سواحل البحر الأسود، ومن سواحل البحر الأسود إلى شواطئ نهر الرين.
زحفت تلك الأمم كالسيل الجارف — والفاقة تسوقها والجوع يحدوها — من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، ولم يقف هذا التيار إلا في القرن الخامس عشر مدة من الزمن، ثم عاد بعد ذلك فاجتاز الأطلنطيك.
وقد زادت ويلات الفتن الأهلية والحروب الخارجية هول المجاعات التي تفشت وراء هذه العصابات؛ لأنه إذا كان ينسب إلى «أتيلا» قوله: «إن الحشيش لا ينبت حيث يمر جوادي.» فيمكننا أن نقول: «إن سنابل القمح لم تنبت في الأرض التي وطئتها حوافر خيله.»
وهكذا توالت المجاعات حقبة تزيد على سبعة قرون، وزاد الحالة ضِغْثًا على إِبَّالة نظام الإقطاعيات في العصور الوسطى، فأُهملت شئون الزراعة؛ لأن العبد كان يزرع ويحصد غلةً تذهب إلى سيده، وكان الأسياد منصرفين إلى التقاتل. أما عندما كانت الأسباب الطبيعية تجيء معززة لهذه الأسباب الاجتماعية فإن الحالة كانت لا تطاق.
يروي لنا التاريخ أن المجاعة اشتدت في سنة ٥٤١ اشتدادًا زائدًا، ودامت ثلاث سنين. فكانت مراكب جمهوريات إيطاليا الجنوبية تأتي بالغلال اللازمة لسد الرمق في أوروبا من مصر وشواطئ أفريقيا.
وعلى عهد كلوفيس الثاني ملك الفرنجة اشتد الجوع حتى اضطر الملك إلى نزع سبائك الفضة عن ضريح «القديس دنيس» شفيع المملكة، فبيعت تلك السبائك، ووزعت قيمتها على المحتاجين. وظلت المجاعات تتوالى، وتختلف هولًا وشدة بسبب نظام البلاد، حتى بلغ منها في حوالي سنة ٨٥٠ أن الأمهات فتكن بأولادهن واقتتن بلحومهم، وتجددت هذه الفظائع أكثر من مرة على ما يؤخذ من روايات الذين دونوا حوادث تلك الأيام.
وكان من آفات المجاعة في النصف الأخير من القرن التاسع أن الناس كانوا يقتتلون، ويتغذى القاتل من لحم المقتول، وكثيرًا ما تركت جثث الموتى على قارعة الطريق لعدم وجود من يواريها في التراب.
ومن سنة ١٠١٠ إلى ١٠١٤، ومن ١٠٢١ إلى ١٠٢٩، بلغ الجوع من سكان أوروبا أنهم كانوا يأكلون لحم الكلاب والفئران وجثث الموتى، وكان قطاع الطرق يكمنون للناس فيقتلونهم ويقتسمون أعضاءهم للتغذي بها قبل اقتسام الغنيمة، على خلاف ما قال فارس بني عبس:
وكان هناك عصابات تستدرج الأطفال الجياع إلى خارج المنازل، حتى إذا ما تمكنوا منهم، ذبحوهم وأكلوهم. قال أحد الرواة: «إن العيشة في الصحراء بين الكواسر الضارية أصبحت في ذلك العهد أكثر أمنًا وطمأنينة منها بين الآدميين الجائعين.» وقد بيع لحم البشر علانية في الأسواق.
وخلاصة تاريخ الإقطاعيات في أوروبا من هذا القبيل: حروب وفتن، وثورات ومنازعات، يليها إحراق المزروعات وإتلاف الحاصلات وإضراب عن حرث الأرض، فيلي ذلك ضيق ومجاعات، ولا بِدْعَ؛ فقد رأينا أن الحروب وانتقاض الرعايا من أكبر أسباب المجاعات.
•••
أما العرب فكثيرًا ما نزلت بهم السنون وأخذتهم المجاعات، فنالت منهم، يدلنا على ذلك ما في لسانهم من المترادفات الجمة عن القحط والجدب، وعن الجوع وأنواعه وأطواره وطبقاته: من الجوع، إلى الغَرَث، إلى السَّغَب، إلى اللَّغَب، إلى الخَرَص، إلى الخَمَص، إلى الطَّوَى، إلى الخَوَى … إلى غير ما هنالك من المفردات والجمل التي تدل على اعتياد أهل البادية مثل هذه الحال، حتى إنه كثيرًا ما حق لجائعهم أن يقول مع عاشقهم:
أو أن يردد مع مُتَيَّمهم:
ولدينا في هذا الباب أمثلة ونوادر كثيرة، نذكر منها قول ذلك العبد لسيده وقد باعه لسد حاجته:
وحكاية «كلبة حومل» التي أكلت ذَنَبَها من شدة الجوع، فضرب بها المثل: «أجوع من كلبة حومل.»
وحكاية ناقة ذلك الأعرابي التي جاعت:
على أن ما كان عليه العرب في بداية أمرهم من شظف العيش، والتجافي عن الملاذِّ، والضرب في البر الأفيح، وعلى الأخص سكان البادية وأهل الوبر منهم، كان مما يقيهم شر المجاعات؛ لأن الهالكين بالجوع على ما قال ابن خلدون في مقدمته: «إنما يقتلهم الشبع المعتاد السابق، لا الجوع الحادث اللاحق.»
وجاء في «العقد الفريد»: «لأمر ما طالت أعمار الرهبان، وصحت أبدان العربان، وما لذلك علة إلا التخفف من الزاد.»
وكل يعرف قول تلك الأعرابية الدال على منتهى القناعة:
وزد على ذلك أن العربي من فطرته مِضْيَاف مِعْطَاء، بَذُولٌ وَهُوبٌ، قال حسان بن ثابت:
وقد اشتهر منهم من ضُرب المثل بسخائه وعطائه، كحاتم طيئ، وكعب بن مامة، ومعن بن زائدة، وكثيرين غيرهم ممن لا متسع لذكرهم، فإن من زعم أن فلانًا أكرمُهم فقد ظلمهم جميعًا.
ناهيك بما شغف به العربي من السعي وراء حسن الذكر وطيب الأحدوثة، حتى قال الشاعر: «ويبقى من المال الأحاديث والذكر.»
ولم يكن من سبيل لكسب هذا الذكر إلا البذل والسخاء، حتى إن الوصف بالبخل وحبس اليد كان من أشد الهجو إيلامًا في النفوس. قال الأصمعي: أهجى بيت للعرب قول الأعشى:
لذلك طالما تغنى شعراؤهم بالكرم وبسط اليد، ومدحوا الكرماء الأسخياء بما يملأ الصفحات الطوال.
وإننا لذاكرون نادرة من نوادر أحد أجوادهم الأعلام في الجاهلية، فقد جمعت وصف المجاعة وسماحة العرب:
كان مهنَّا بن علوان بن علي بن حبيب بن نائل جوادًا كريمًا، وقد طرقته ضيوف في شتاء وليس عنده حطب يوقد لطعام يصنعه لهم، فأوقد أحمال بز كانت عنده، وقام بواجب الضيافة.
وكان ظريف بن بكتوت الملقب بزين الدولة من أكرم العرب، واتفق له أن وقع غلاء وقحط، فكان في ضيافته اثنا عشر ألف إنسان يأكلون عنده كل يوم، وكان يهشم الثريد في المراكب بدلًا من الجفان لكفاية اللاجئين إليه، فما أحراه بأن يسمى «هاشمًا الثاني» وإن كان من «بني هلبا».
•••
أيها السادة، لو عدنا إلى أوروبا ولاحقنا السلسلة التي يتألف منها تاريخ المجاعات، وصلنا بعد حلقات كثيرة، إلى المجاعة التي تفشت أثناء حرب الثلاثين سنة ١٦١٨–١٦٤٨، فإنها قرضت خمسي سكان ألمانيا، ولم تُبْقِ من سكان مقاطعة «اللورين» البالغين ١٢٠٠٠٠٠ نسمة إلا ٥٠٠٠٠، وذهب الباقون ضحية الجوع وفظائع المتقاتلين. ومما يروى عن هول تلك المجاعة أن امرأة قتلت طفلًا وقددت لحمه مؤنة لطعامها، وأن طبيبًا دُعي لبتر ذراع أحد الجرحى، فطلب أجرة عن عمله الذراع المبتورة، وأكلها!
وإلى ذلك العهد ترجع الكلمة المشهورة التي قالتها «ماري أنطوانت» ابنة فرنسيس الأول إمبراطور النمسا وزوجة لويس السادس عشر، فإنها سمعت يومًا صراخ الشعب وصخبه، فسألت عن السبب؟ فقيل لها: «إن الشعب يطلب خبزًا، فليس عنده خبز.» فأجابت: «فليأكل كعكًا.»
وقد فاتها — سامحها الله — أن الشعب إذا لم يجد خبزًا لا يأكل كعكًا، بل يشرب دمًا فينفجر كالبركان، فيقوِّض العروش ويطيح بالرءوس، ولو كانت تحمل التيجان!
وقد حدث بعض مجاعات في القرن الغابر، أهمها مجاعة الجزائر سنة ١٨٦٨، التي أودت بثلاثمائة ألف نفس، ومجاعة الهند ١٨٩٩-١٩٠٠ التي تركت ما ينيف على الخمسين مليونًا من الأهلين عرضة للجوع، ولم تستطع الحكومة أن تُنجد منهم في اليوم أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون.
وآخر حلقة من هذه السلسلة الدامية هي المجاعة التي نهضنا لتخفيف وطأتها، فنحن اليوم كاتبون صفحة جديدة نضمها إلى صفحات تاريخ بني البشر المدوِّن لويلاتهم ونكباتهم: هي مجاعة سوريا ولبنان التي نحن ذاكرون فيما بعد!
ما هو الجوع؟
أيها السادة!
من هذه النبذة التاريخية التي اختصرناها جهد المستطاع رأيتم اشتداد هول المجاعات وما تجره من الويلات.
فما هو إذن الجوع الذي يفضي إلى تأكل الآدميين؟ والذي قال عنه هوميرس: «إن لا شيء أغلب منه ولا أقهر»؟ والذي قال عنه المثل العربي: «إنه كافر»؟
وقال عنه الفرنجة في أمثالهم: «إنه يطرد الذئب من الغاب»؟ …
الجوع في الميثولوجية
الأقدمون ألَّهوا كل شيء، فنصبوا لكل شيء إلهًا أو إلاهة، حتى للشر والخير ولسائر النعم والآفات. لذلك لم تخلُ «الميثولوجية» عندهم من إلاهة للمجاعة.
وكانت هذه الإلاهة في عرفهم ابنة الليالي السود، ولَّدتها الليالي من نفسها، وكانوا يمثلونها بشكل امرأة هزيلة الجسم، نحيلة البدن، قد ذهب لحمها وذاب شحمها وشحب لونها، فبدت عجفاء جرداء، مقوسة الظهر، بارزة العظام، مسترخية المفاصل، لاصبة الجلد، مجوَّرة الصدغين، غائرة العينين، ممسوحة الثديين، ضامرة البطن، ناسلة الفخذين … وكأن هذا الشبح المخيف لم يكفِ في نظرهم لتمثيل حقيقة المجاعة، فصوروها مغلولة اليدين، رامزين بذلك إلى عجزها عن إصلاح ما بها.
الجوع في الشعر والأدب
… في فناء الجحيم تسكن الهموم والحسرات المُرَّة، وإلى جانبها الأسقام المضنية والشيخوخة الكئيبة، وتنتصب بقربها الفاقة بأسمالها البالية، والموت الظلوم، وأخوه النوم، مع إله الحرب، والعمل المتأوه، والرعب المذعور، ويسكن هناك أيضًا «الجوع» وفرائصه ترتعد من هول الأفكار الفظيعة التي يوحيها إلى البشر …
مشيرًا بذلك إلى أن الجوع يقود الناس إلى أفظع الجرائم، وذلك ما رأيناه في تاريخ المجاعات، وما عبر عنه فيكتور هوجو؛ إذ قال: «الجوع يفتح في صدر الشعب ثغرة يملؤها حقدًا وبغضًا.»
جلب إرزيختون على نفسه غضب المعبودة «سرس» إلاهة الحصاد بتدنيسه الغاب المقدس، فلم ترَ هذه عقابًا يعدل فظاعة جرم الجاني إلا تسليمه إلى براثن إلاهة الجوع، ولكن الجوع وسرس إلاهة الحصاد لا يوجدان معًا، فاستقدمت سرس إحدى العذارى، وعهدت إليها في ما يأتي: في أقاصي «سيتيا» في الأرض التي صلَّبها الثلج فلا ينبت فيها الزرع، في ذلك القفر البلقع الذي لا ثمر فيه ولا ظل ولا خضرة، تجدين واديًا اتخذته الحمى والبرد والقشعريرة والفاقة مسكنًا لها مع «الجوع» الطاوي الحشا، فمُرِي الجوعَ يَحُلَّ في صدر الكافر الجاني، ويتغلب فيه على مواهبي، ويعبث بقواي المغذية، فلا تزيده إلا ألمًا …
صدعت العذراء بأمر سيدتها، وشخصت إلى جبل «القوقاز» تبحث عن «الجوع»، فوجدته يزحف على صخور في لحف الجبل، يقضم بعض أعشاب ضئيلة في شق الحجر، وهو بادي العظام، حتى إنها لتعد عظمة عظمة من خلال جلده الشفاف، وقد ستر شعره الأشعث عينيه المطفأتين.
تلقت «إلاهة الجوع» أمر سرس، فهرولت تحت جنح الظلام إلى منزل الجاني، فانطرحت على سريره، وتسربت في فراشه تقبله نافثة في فيه سمها، وتطوقه بذراعيها، وتضمه إلى صدرها، موقدة في أحشائه نار السغب … فعلت وقفلت راجعة إلى بلادها المقفرة، هاجرة الربوع المخصبة التي لا تستطيع العيش فيها.
الجوع في الفنون الجميلة
وقد طالما جارت ريشة المصورين قلم الشعراء في وصف الجوع وويلاته، فتناول المصورون والنحاتون حادثة «أوجولان» المارِّ ذكرها فمثلوها أبدع تمثيل بالحجر والألوان.
في كوخ حقير متداعي الأركان، امرأة جاثمة على الحضيض، في يدها اليمنى مدية تقطر دمًا، ويدها اليسرى تسند رأسها وقد عصبته خرقة بالية. عينان جاحظتان حرقت مآقيها ما ذرفتا من الدموع. أما الآن فلا دمع يَسُحُّ منهما، ولكنهما ملتهبتان كجذوة نار. ترى على ثغرها الجاف ضحكة البله والجنون تُقَلِّص شفتيها اليابستين. إذا تفرست فيها ميزت كتلة مخضبة بالدم في حجرها: هي جثة مشوهة، جثة طفل صغير، جثة طفلها … آه! إن هذه الشقية وقد أفقدها الجوع الرشد، قطَّعت منذ هنيهة الطفل الذي كان متعلقًا بثديها الناضب … بقرب المجنونة قِدْر تحتها قطعةُ كرسيٍّ وأطمارٌ باليةٌ تشتعل، ومن القِدْر برزت رِجْل طفل، رجل طفلها … إن هذا المشهد يزيد هولًا وفظاعة على كل ما خطر ببال دانتي أو شكسبير: مشهد أم جُنَّت من الجوع، فجلست تطبخ أعضاء ثمرة أحشائها وفلذة كبدها، لتسد جوعها الذي لا يطاق، وكأن راسم هذه الصورة قد شاء أن يهزأ بالهيئة الاجتماعية الظالمة، فصور عند قدمي هذه المسكينة ورقة ملقاة على الحضيض يعلوها طابع الحكومة وقد كتب عليها «الضرائب الأميرية».
رأيتم مما ذكرت كيف تبارت قرائح الشعراء وأرباب الفنون الجميلة في وصف الجوع، ولا يتبادرن إلى ذهن أحد أن ذلك إنما هو نتيجة قرائح متهيجة ولَّدت مثل هذه الصور والأوصاف. نعم، إن أصحاب الخيال كثيرًا ما يغالون في تصوير الحقيقة ترسيخًا لها في الأذهان لإدراك غاية نبيلة، ولكنهم في الموضوع الذي نحن فيه ظلوا دون تلك الحقيقة مع كل ما أوحته المخيلة إلى قلمهم وريشتهم، كما سترون من وصف تلك الحقيقة مجردًا عن كل تنميق. لذلك ها أنا أترك وصف الجوع كما تصوره الأقدمون في ميثولوجيتهم، أو كما تمثله الشعراء والمصورون، فنحن في عصر العلم، عصر الحقائق الراهنة التي لا تدع مجالًا للخيال، فهيا بنا نرى ما هو الجوع في الكتب الطبية والموسوعات العلمية.
وهذا هو بحثنا في الجوع من وجهته الفسيولوجية.
تعريف الجوع فسيولوجيًّا
الجوع شعور يصعب تعريفه تمامًا، وهو ليس بالمزعج في أول أمره، بل هو إحساس بالحاجة إلى غذاء يعتاض به الإنسان مما خسر من القوى، وهو ناشئ عن فراغ المعدة من الأطعمة التي تمكنها من القيام بوظيفتها الطبيعية، فهو من هذه الوجهة دافع غريزي أكثر منه شعور حقيقي.
يشعر الإنسان بالجوع في مواعيد منتظمة، وهناك ظروف جمة لها تأثير كبير في هذا الشعور، كالسن والنوع والعادات؛ فالأحداث مثلًا لا يحتاجون فقط إلى تجديد قواهم، وتعويض ما يفقدونه بالحركة، بل هم أيضًا بحاجة إلى تنمية أعضائهم، فيشعرون، والحالة هذه، بالجوع — أي بالحاجة إلى الطعام — أكثر من البالغين، ولا يصبرون صبر أولئك على الامتناع عن الغذاء، ويقال مثل ذلك عن الناقهين الذين لا بد لهم من تعويض ما فقدوه بالمرض والحِمْيَة.
ولعادة تناول الطعام في مواعيد مقررة تأثير أيضًا في الشعور بهذه الحاجة إلى التغذية، كما أن للحالة الجوية مثل هذا التأثير: ففي أيام الحر لا يحتاج جسمنا إلى توليد مقدار الحرارة الذي يحتاج إلى توليده إبان البرد؛ لأن ما نحرقه من «الكربون» المأخوذ من الأغذية وأنسجة الجسم يكون أقل، فتتجدد الأنسجة ببطء، وتكون الحاجة إلى تعويضها أقل، فيكون الشعور بالجوع صيفًا دونه شتاء.
كذلك الرياضة البدنية تساعد على تنشيط الحركة الغذائية فتزداد الشهية، كما أن هذه الحركة تتباطأ وتتوانى في ساعات الراحة، فيتباطأ العمل العضوي، فيقل الاحتياج إلى تحليل ذرات العناصر الجسمية، وتنقص الحاجة من ثم إلى تعويضها بالغذاء.
وعليه يصح القول بوجه عام: إن الجوع يكون عادة بنسبة نشاط الحركة الغذائية وتباطؤها، فنشعر به عندما تكون المعدة فارغة، ويكون الجسم قد امتص الحاصل من هضم آخر طعام تناولناه.
مركز الجوع
وإذا كان من الصعب، كما رأينا، تحديد الجوع تمامًا، فمن الصعب أيضًا تحديد مركز هذا الشعور من الجسم، خلافًا لما يظهر لأول نظرة من أن مركزه في المعدة، وقد تضاربت آراء الفسيولوجيين في هذا الموضوع: فذهب بعضهم إلى أن مركز الإحساس بالجوع في الفم والبلعوم، حتى كثيرًا ما شوهد الجائع يلوك حصاة يفيض معها لعابه فيسد جوعه مؤقتًا، ولكن، إنْ ذلك إلا عُلالة يتعلل بها مدة قصيرة، وذهب آخرون — وهو الفريق الأكبر — إلى أن مركز الجوع في المعدة، بدليل أن إدخال الطعام إليها يزيل عادة هذا الشعور. غير أنه ليس من سداد الرأي على ما يظهر، الاستناد إلى هذا البرهان فقط للجزم بأن الجوع مركزه المعدة؛ لأنه كثيرًا ما يزول الجوع بإدخال مادة مغذية إلى الدم، ولو كان عن غير طريق المعدة، كالحقن تحت الجلد مثلًا؛ لأن المرجح الذي يدل عليه الاستقراء أن هذا الشعور ناجم عن نقص المواد المغذية في الدم، فيزول إذن بسد هذا النقص، سواء أكان عن طريق المعدة أو عن غير طريقها، وللجهاز العصبي خواص تعلل هذه الظاهرة، فإن إحساس الأعصاب المحيطية قد يسكن ويزيل إحساسًا ناشئًا عن الأعصاب المركزية: فالأفيون والتبغ مثلًا يؤثران في الجهاز العصبي، فيزيلان الشعور بالجوع.
وعليه، فالأصح أن يقال: إن الشعور بالجوع ناشئ عن مجموع طبيعة الجسم، وللمعدة مشاركة عظيمة فيه؛ لأن النقص في تجديد المواد المغذية في الدم يؤثر في أعصاب المعدة أكثر من تأثيره في أعصاب سائر الأعضاء، فيظهر هذا الشعور فيها أكثر منه في باقي الجسم.
كيف يموت الإنسان جوعًا؟
ولكن ماذا يهم هذا الاختلاف في تحديد ماهية الجوع وتعيين مركز الشعور به ما دامت هذه الحالة، إذا طالت، تؤدي إلى الموت، وقد مات الملايين بها، كما رأينا في التاريخ، ويموت بها اليوم في سوريا ولبنان عشرات الألوف.
وقد وصفت كتب الفسيولوجيا درجات الجوع المفضية إلى الموت، قالت ما مؤداه:«إن هذا الشعور لذيذ في بداية الحال، وهو ما أطلقوا عليه اسم «شهية» أو «قابلية»، فإذا طال يصبح مزعجًا، ثم يخيل أن الجوع قد هدأ بعد فوات الوقت المعتاد لتناول الطعام، ولكنه لا يلبث أن يعود ثانية أشد قوة وتأثيرًا وتضورًا، فيصبح مؤلمًا، فيجف اللسان، وتبرد الأطراف، وتبطؤ حركة القلب، ويضعف النبض، ويتمدد الصدر بعناء، وتهبط حرارة الجلد، فيسرع إلى المِعَى الانكماش واليبس، ويتطرق إلى الجسم الوهن والضعف، وإذا استمرت هذه الحال، يصيب الإنسان نوع من الهذيان التهيجي، فيفقد الإدراك، وتئول به الحال إلى أعمال ترتجف منها الطبيعة البشرية، كما أنها تدل على وهن تلك الطبيعة، فيلتهم المصاب ما ينفر منه عادة كالحشرات والورق، بل إنه يسف التراب سفًّا، بل يأكل الإنسان أخاه الإنسان.
ويحدث في الوقت نفسه تغير عميم في نظام الجسم: فيعرو الجائع أو المجوع غشيان واضطرابات عصبية، ويتحول الهذيان إلى ضعف في القوى العقلية ينتهي بالجنون. أما الجسم فيصبح من جراء الهزال أشبه شيء بقفص عظام، ويبات عرضة لجميع الأمراض، إلى أن تنتهي هذه الحالة بتلاشي جميع القوى؛ أي بالموت.
وقال فريق من العلماء: إن الموت في هذه الحالة ينشأ عن فقد الحرارة الحيوية، لا عن الجوع نفسه، فإن الحرارة تنخفض بسرعة في أول الأمر، ثم تتباطأ في انخفاضها، ثم تعود إلى الهبوط تدريجًا، حتى تنخفض بغتة قبيل الموت.
وقد تبين بعض الباحثين أن الذين يموتون جوعًا يكونون قد فقدوا ٩٧ في المائة من الشحم، و٣٠ في المائة من الجهاز العضلي، و٥٠ في المائة من الكبد والطحال. أما القلب والجهاز العصبي فيكادان لا يفقدان شيئًا، وسلامتهما هي التي تحفظ حياة الجائع، ومتى بدأ النقص يتطرق إليهما، فالموت حالٌّ لا محالة. أما هذا الفرق في ما تفقده الأعضاء أثناء الصيام الطويل، فيرجع إلى التباين في قوة مقاومة العناصر التي يتألف منها كل عضو، أو إلى حدوث نزاع حقيقي بين خلايا الأنسجة المختلفة في الجسم، فيلتهم بعضها المواد الاحتياطية من الغذاء الموجود في الجسم بسرعة تزيد على البعض الآخر، حتى إن هذه الخلايا، متى فرغ الغذاء الاحتياطي، تتغذى من الخلايا التي تكون أضعف منها، وهذا ما هو معروف بالنزاع الحيوي.
•••
قال الشاعر:
قول صحيحٌ أيها السادة، بمعنى أن حكم الموت عامٌّ شاملٌ لكلِّ كائنٍ حيٍّ، صحيحٌ بمعنى أن الموت في جميع الأحوال واحد، وهو انفصال نسمة الحياة عن مادة الجسد، ولكنه غير صحيح بمعنى أن جميع الميتات واحدة.
فهل — بعد ما وصفت — أفظع وأشنع من الموت جوعًا، لا أعتقد ذلك؛ فالموت شنقًا، والموت غرقًا، والموت رميًا بالرصاص، كله موجع مؤلم؛ إذ لا شيء أمرُّ من الموت، ولكن — إن هي إلا بضع دقائق تنقضي مهما اشتد ألمها وعَظُمَ هولها. أما الموت جوعًا فهو موت طويل، بطيء، مستمر، يموت الإنسان به عضوًا عضوًا، ويتلاشى ذرة ذرة في كل دقيقة، فهو نزع طويل، وألم مبرح، واحتضار بطيء الأجل.
قال عروة الصعاليك: «وكل منايا النفس خير من الهزل» — أي من الجوع.
وقد قضت «الملايين» في هذه الحرب الطاحنة، فلم تستثر منيتهم من اللوعة والانقباض ما استثار موت «الآلاف» فقط يقضون تجويعًا؛ لأن الموت في ميادين القتال يحلو للمرء، وهو يذود عن حريته ووطنه وذويه، فيموت وهو منتش بخمرة المجد والفخار، وأين ذلك من الذي يتلاشى في عقر داره أو على قارعة الطريق، ويزيده ألمًا مرأى امرأته وأولاده، وقد تقدمت حالتهم حالته، فيعرف ما ينتظره في الغد من الأوجاع، ومعروف أن توقع البلية كثيرًا ما يكون شرًّا من وقوعها.
مجاعة سوريا ولبنان
أيها السادة!
آن لي أن أنتقل من هذه الجولة في عالم التاريخ والأدب والعلم، إلى ذكر مجاعة سوريا ولبنان، وهي المجاعة التي تشغلنا الآن، وتصدعنا أنباؤها في كل يوم.
لا أطيل عليكم وصف ما آلت إليه الحال في تلك الربوع العزيزة، فقد عرفتموها إجمالًا وتفصيلًا، بل هي مدار حديثكم نهارًا وسمركم ليلًا، وشغلكم الشاغل في غُدُوِّكم ورواحكم.
إن سوريا ولبنان لم يتحولا إلى ميدان قتال تجتاحه الجيوش ويتطاحن فيه الجنود، فيخدده الحديد وتتأكله النار، ولكن جميع المنافذ قد سُدَّت بوجه هاتيك البلاد، فباتت كالعصفور المكتوف في القفص الخالي من الحب، وقد زاد هول حالتها أن حلت فيها أرجال الجراد الفتاك ردحًا من الزمن، فهلك الزرع والضرع، واستحكمت حلقات الضيق في جميع أنحاء البلاد، ونزلت الفاقة ضيفًا ثقيلًا على العباد، فباتوا لا يجدون ما يسد الخلَّة، أو يمسك الرمق، حتى حنا الجوع قناة ظهرهم، وبات الهلاك إليهم أقرب من طرفة عين، وها هم اليوم شعب قد أدركه النزع، وهو ينتظر نجدة أهل المروءة.
هذه هي حالة سوريا ولبنان، وهي على ما عرفتم لا تنقص هولًا عن حالة الأقطار التي تصطدم فيها الجحافل، وتمزق أديمها القنابل.
هذه هي حالة بلاد الشام التي قال عنها البحتري:
هذي هي حال لبنان الآن، وهو ذلك الجبل الأمين الذي طالما طوَّب الناس وغبطوا من كان له فيه مرقد عنزة — ذلك الجبل الأشم — جبل الأرز — الذي عاش على ممر الدهور بمأمن من الكوارث والخطوب، فتغنى بعظمته أنبياء التوراة، وشذا بذكره شعراء العرب من عهد الجاهلية حتى اليوم.
فيا أيتها الجبال الشامخة، جميلة كنت في جميع مظاهرك، حين تعصب الشمس جبينك بإكليل ساطع، أو يضفر القمر حول قممك هالة من نور، أو تكسو السحب معاطفك وشاحها القشيب.
كانت جبهتك المتوجة بالثلج طاهرة نقية لا يستطيع إلى تقبيلها سبيلًا إلا زرقة الفضاء وكواكب الجوزاء، كما أن جبابرة أرزك لم يدانها إلا نسور السماء.
أما الآن فقد امتدت يد الفاقة إليك، فانتهكت حرمتك، وبسط الجوع جناحه عليك، فدنس طهارتك، ونشر الموت رواقه على بنيك، فألبسك الحداد.
في مغاورك كانت تزمجر رياح الشتاء، فتقصي عنك كاسرات الوحش، ومن جوفك المملوء خيرات كانت تتدفق الينابيع العذبة على الصخور البيضاء، فتروي تلك الأزاهير التي تحوك على قدميك بساطًا سندسيًّا يفترشه الرعاة والفلاحون.
أما الآن فإن أنهارك وغدرانك تحولت عيونًا تسح على بنيك، وحفيف نسيمك صار نواحًا على رجالك، ووديانك ملئت عويلًا ونحيبًا.
من خشب أرزك بنى سليمان هيكله العظيم، ومن حجارتك نحت الفينيقيون هياكل الشمس وشادوا معابد عشتروت. من حريرك نُسجت أستار البِيَع وسُجُف الهياكل، ومن عريش كرومك وغابات زيتونك عُصِر الرحيق وتقطر زيت التقديس.
أما الآن فصخورك البيضاء كلحت وتفتتت حقدًا، وأغصان غاباتك تلطم جذوعها جزعًا قبل أن تُقطع فتصير نعشًا أو وَقَدًا، والغزل ينزع من أيدي بناتك العذارى لتشد منها حبال المشانق وقيود الأحرار.
فأين أبطالك يفاخرون بمنعتهم في وهادك، يا جبال؟ وأين الشعراء يتغزلون بما فيك من عظمة وجلال؟
ولكن عفوًا، يا سادة! إن ابنة صهيون — إن سوريا — إن جبال لبنان لن تبكي طويلًا؛ فهي واجدة من محبيها من يعزيها، ويضمد جروحها، ويرقأ دموعها.
وكثيرون ما هم محبوها.
هم جميع الشعوب التي تناضل في سبيل نصرة الحق وإغاثة الملهوف.
هم أنتم يا كرام المصريين، يا من عُرفتم بالعطف على كل منكوب، فكيف بكم ومنكوب اليوم تربطكم به روابط الجوار والقرابة والتقاليد.
هم أنتم، يا أبناءها النازلين في كل مصر، الضاربين في كل قطر، من مشارق الدنيا ومغاربها، وكل منكم ذاكر، حيثما كان، بلادًا رواه ماؤها، وأظلته سماؤها، وجبل جسمه من عناصرها «فحنينه أبدًا لأول منزل».
أيها السادة!
أنتم في خفض رزقٍ وكفافٍ من العيش، فلا تستسلموا إلى طيبات الحياة وملاذِّها، فيمسي طعامكم مَتْخَمَةً، ويصبح شرابكم مَأْلَمَة. بل جودوا بشيء من فضلاتكم، يهنأ طعامكم ويمرأ شرابكم!
جودوا، ولو باليسير، يكن معروفكم مشكورًا، وبركم مقبولًا، فالخبز الناشف — على ما قال «ميرابوا» — يعد في نظر الجائع من سعة العيش.
احذروا الشعب إذا ما الشعب جاع، فالجوع يفتح في صدر الشعب ثغرة يملأها حقدًا وبغضًا. وليذكر أغنياؤنا — أتم الله عليهم نعمته! — أن مقابل كل فقير يشحب لونه جوعًا، يوجد غني يمتقع لونه خوفًا وذعرًا.
لا تقل يا سيدي الغني ما قاله ذلك المُثْرِي الذي أشرت إليه: «قاتل الله هذا الفقير، هو يشعر بالجوع ويشكو!»
بل قل ما قاله المُثْرِي الصالح: «أنا أتألم وأبكي إذا ما شبعت ورويت، حين يجوع غيري ويظمأ:
ولا تقولي يا سيدتي: «دفئ الطقس، فلا حاجة إلى إرسال الإعانة!»
بل قولي: يؤلمني أن أدفأ وأشبع، وغيري على سعار من الجوع.
لا تبخلوا بالمال في سبيل إنقاذ إخوانكم، فكل دينار تجودون به ينقذ والدًا ووالدة وأطفالًا.
ولا تُسوفوا في العطاء، فالجائع لا يشبعه الوعد، فخير البر عاجله، وألف كلمة: «تَفَضَّلْ» لا تساوي «حطة طبق» على ما يقول مثلنا العامي.
أيها السادة!
إن أشد الروابط بين الآدميين: الدين، واللغة، والجوار، فأنا أناشدكم جميع ذلك، فكل ذلك متوافر بين المنكوبين والمدعوين لإعانة نكبتهم.
أناشدكم الدين: فسوريا مهبط الأديان؛ هي منبت اليهودية وأنبيائها، ومهد النصرانية ورسلها، ومجلى الإسلام في أيام عزه، وفيها إحدى عواصمه الكبيرة.
أناشدكم اللغة: فإذا ما تفاخرت الأقطار، فمصر وسوريا
أناشدكم حق الجوار والقرابة: فسوريا ومصر تتصافحان من فوق صحراء سينا، وتجمع بين أهليهما أشد صلات الرحم.
وإذا ما استحلفتكم بجميع ذلك، فإنه يلذ لي أيضًا أن أستحلفكم باسم العاطفة الإنسانية والرابطة الإخائية بين البشر، وما هي إلا تضامن متبادل بين الآدميين لمقاومة آفات الطبيعة.
ولكن علام أستفز همتكم، وقد نهضتم من تلقاء أنفسكم لما دعتكم إليه مروءتكم؟ وعلام أستثير عواطفكم، وقد قمتم طواعيةً بما أوحته لكم أريحيتكم؟ فما استصراخي لكم إلا على حد قول الشاعر: