الخرافة الثانية عشرة
نستمتع جميعًا بالتكافؤ والتناظر والمصادفات المتكررة، وهي أمور استقيناها من متعتنا بألعاب الورق، ابتداءً بلعبة سناب ومرورًا بافتناننا بالتوائم المتماثلة، ووصولًا إلى متعة المصادفة أو البهجة التي نجدها في القافية. في مسرحية «يوليوس قيصر»، يموت كاسيوس يوم ميلاده («اليوم يوافق أول يوم تنفست فيه. دارت الدوائر / وحيثما بدأت سينتهي بي المطاف»؛ الفصل الخامس، المشهد الثالث، البيتان ٢٣-٢٤). وهكذا كان حال شكسبير؛ فقد عُمِّدَ في السادس والعشرين من أبريل، وربما أنه وُلد قبل ذاك اليوم بيومين أو ثلاثة أيام. ومات في الثالث والعشرين من أبريل. ويُصادف يوم ميلاد شاعر إنجلترا الوطني اليوم المخصص لقديس إنجلترا الوطني. وكان عمر شكسبير عند الوفاة ٥٢ عامًا هو نفسه العمر الذي تُوُفِّيَ عنه شاعر روما الأغسطي العظيم فيرجل.
لنلاحظ الحذف التفسيري والبيوجرافي — فهاملت يساوي شكسبير، وهامنت يساوي هاملت — والتأكيد الذي يتم به التعبير عنه: «يمكن بطبيعة الحال أن يكون عقل الشاعر هو الذي يواجهنا في هاملت … هامنت يطابق هاملت.»
إن الأسماء الإليزابيثية بلا شك مائعة، كما يتجلى لنا في اسم عائلة الكاتب المعاصر لشكسبير وغريمه مارلو الذي يُكْتَب بالإنجليزية بطرق مختلفة؛ مارلو، ومارلي، ومارلين ومالين، ومورلي، وميرلين. وكانت زوجة شكسبير تُدعى آن أو آجنس أو آنِّيس. ويختلف هذا عن تنويعات اسم مارلو لأن النطق هنا يكاد يكون متطابقًا؛ فالاسم «آجنس» يُمكن أن يُنْطَق «آنِّيس» (فهو في نهاية المطاف مشتق من الاسم الإغريقي «هاجنوس» (أي طاهرة أو عفيفة)، لكنه كان مرتبطًا أيضًا بالكلمة اللاتينية آجنوس (حمَل، رمز للمسيح))؛ ويمكن أن يُنْطَق الاسم بإدغام حرف «ﺟ» فيصبح «آنِّيس»؛ ومن ثم يُخْتَصر إلى «آنّ». ولا ينتمي هامنت وهاملت إلى أي من فئات التنويع هذه. حرفا اﻟ «نون» واﻟ «لام» تنويعة غير تقليدية. سيرًا على خطى فرويد، هامنت ليس (مرجحًا أن يكون) هاملت.
سُمِّي هامنت بن شكسبير، وأخته التوءم جوديث؛ تيمنًا بأبويهما الرُّوحيَّيْن وجارَيْهما في ستراتفورد، هامنت وجوديث سادلر. وُلِد التوءمان عام ١٥٨٥، وتُوُفِّيَ هامنت ولم يبلغ من العمر سوى أحد عشر عامًا، وتحديدًا عام ١٥٩٦ (عاشت جوديث حتى فبراير ١٦٦١). وعلة وفاة هامنت مجهولة (لكن أغسطس، الشهر الذي قضى فيه نحبه كان دومًا شهر بلاء ووباء بئيسًا). ويوضح كُتَّاب سير الحياة أن واحدًا من التوءمين دائمًا ما يكون أضعف من الآخر. وتوحي الفجوة الممتدة ٦٥ سنة ما بين تاريخي وفاة هامنت وأخته التوءم بأنه ربما كان الطرف الأضعف.
إن السبب الداعي للظن بأن هامنت هو هاملت هو أن التراجيديا التي يؤدي هاملت دور البطولة فيها تدور عن العلاقات بين الأب والابن. وهي أيضًا مسرحية تتناول الحزن؛ فمن الحِدَاد غير الطبيعي الممتد لهاملت (فهو يتجاوز مدة حداد البلاط الرسمية على أبيه الْمُتَوَفَّى)، إلى رفضه حكمة زوج أمه إثر وفاة أبيه («الموضوع الشائع [في الحياة] / هو وفاة الآباء» [الفصل الأول، المشهد الثاني، البيتان ١٠٣-١٠٤] هي ملاحظة كلاوديوس المواسية التي يطلب فيها من هاملت أن يُلَمْلِمَ شَتاتَ نفسه)، إلى الزائرَيْن في المسرحية اللذين جاءا من وراء القبر (الشبح في الفصلين الأول والثالث وجمجمة يوريك في الفصل الخامس [طالع الخرافة السابعة والعشرين])، إلى حزن الذاكرة الْمُعْجِز («السماء والأرض / أيجب أن أتذكر؟» الفصل الأول، المشهد الثاني، البيتان ١٤٢-١٤٣)، إلى حكايات موت يوليوس قيصر، إلى تفكير هاملت في الانتحار، إلى قَبوله للموت («ثمة تدبير خاص في سقوط عصفور»؛ الفصل الخامس، المشهد الثاني، البيتان ١٦٥-١٦٦)، المسرحية أسيرة التأملات في الموت. وكذلك كان عقل مؤلفها بحسب ظن البعض.
رغم أنه من الممكن رؤية أن مسرحيتَيِ «الليلة الثانية عشرة» و«هاملت» تَتَماسَّان شخصيًّا مع شكسبير، فمن المهم ألا ننسى أن الموت والأسى كانا ضمن نسيج حياة أي إنسان في إنجلترا الإليزابيثية؛ فقَدَ بِن جونسون ولده الأكبر بنجامين ولم يتخطَّ السابعة من عمره إثر الطاعون الذي ضرب البلاد عام ١٦٠٣. ومات ابنه الثاني جوزيف في العام نفسه، ربما بالسبب ذاته. وتُوُفِّيَت ابنته الأولى، ماري، قبل ذلك ببضعة أعوام، ولم يجاوز عمرها ستة أشهر. وكتب جونسون قصائد رثاء لبنجامين وماري. ولم يكن شكسبير فقد أيًّا من أبنائه عندما ألَّفَ الجزء الثالث من «هنري السادس» أو «الملك جون» لكنه استطاع أن يتخيل هذا الفقد. في الجزء الثالث من «هنري السادس» (التي تشتمل عليها نسخة أكسفورد من الأعمال الكاملة لشكسبير تحت عنوان «ريتشارد دوق يورك» كما في طبعتها الصادرة عام ١٥٩٥)، تقتل الملكة مارجريت «مُسْتَذْئِبَة فرنسا» الابن الأصغر لدوق يورك، ويُدعى راتلاند، وتستهزئ بيورك بجريمتها البشعة الأخيرة. ويدفع أسى يورك حتى أعداءه للإشفاق عليه، يقول نورثمبرلاند:
•••
تعيش مارجريت مشهدها المأساوي لاحقًا في الفصل الخامس؛ حينما تفقد، بدورها، ابنها الأمير إدوارد. ويصف الإرشاد المسرحيُّ الأشهر على الإطلاق الحداد ذا البنية المقلوبة في الفصل الثاني: «يدخل ابْنٌ قَتَلَ أباه من أحد الأبواب، وأَبٌ قَتَلَ ابنَه من باب آخر.» (المجلد، ١١٨٩–١١٩١ بحسب نظام ترقيم الأسطر).
في مسرحية «الملك جون»، تَأْسَى كونستانس لفقدانها ابنها الصغير الأمير آرثر. وفي الفقرة التالية، تدافع عن حقها في الحزن مفسرةً الوظيفة النفسانية لشعورها:
إذا لم يستمد هاملت اسمه من هامنت، أو حزنه من فقد شكسبير ابنه، فأنَّى له بهذا الاسم؟ عندما كتب شكسبير «هاملت»، شأنها شأن كل مسرحياته، استفاد شكسبير من مواد مرجعية (درامية، وشعرية، ونثرية، وكلاسيكية، ومعاصرة، ومكتوبة، وشفهية). وفي هذه الحالة، كما في حالات كثيرة أخرى، كانت مواد شكسبير المرجعية متعددة؛ فالحبكة مستوحاة من أسطورة دنماركية، يُدْعَى فيها البطل المنتقم أملوثي. وطُبِعَت هذه القصة التي خطَّها ساكسو جراماتيكاس باللاتينية في مخطوطة في القرن الثالث عشر (باللاتينية) عام ١٥١٤، وتُرْجِمَت إلى الفرنسية عام ١٥٧٦ ضمن مجموعة فرانسوا بلفورست «قصص تراجيدية». وفي غضون عقد من الزمان كانت هذه القصة قد تحولت إلى مسرحية على المسرح الإنجليزي. وبحلول عام ١٥٨٩، أمكن توماس ناش أن يتحدث عنها، معتبرًا إياها قصة مبتذلة قائلًا: «قصص كاملة عن هاملت، يجب أن أقول حفنة من الخطب التراجيدية.» (رسالة تعليقًا على رواية روبرت جرين «مينافون»). ويُعْتَقَد أن توماس كيد كتب مسرحية «هاملت» التي كانت سابقة لنسخة شكسبير. (مسرحية يأسى فيها ابنٌ على موت أبيه لا بد أن تكون رفيقة واضحة لمسرحيته «المأساة الإسبانية» التي يأسى فيها والد على موت ابنه). ولم يزل مدير المسرح آنذاك، فيليب هينسلو، يسجل عروض مسرحية «هاملت» في يونيو عام ١٥٩٤. وفي جميع هذه النسخ الإنجليزية كان اسم البطل هاملت.
اعتاد شكسبير أن يبدل بين الحين والآخر الأسماء التي عثر عليها في مصادره؛ (ففي مصدر مسرحية «الأمور بخواتمها»، وهو حكايات «ديكاميرون» لبوكاتشيو، تُسَمَّى البطلة جيليتا؛ أعاد شكسبير تسميتها إلى هيلين. ولعله غيَّرَ اسم روزيدر، بطل مصدر مسرحية «كما تشاء»، إلى أورلاندو، لكي يتجنب نوعًا ما الالتباس في المقطع الأول من اسمه واسم البطلة روزاليند عند اختصارهما). وفي «هاملت»، يحتفظ شكسبير باسم البطل، ولعله احتفظ به لقربه من ظروفه الشخصية. ولكنَّ افتراض أنه احتفظ بهذا الاسم يَزُجُّ بنا في غياهب الخرافة الثامنة عشرة، وما تنطوي عليه من دافع يشجعنا على قراءة السونيتات وكأنها تعبير تلقائي عن سيرة حياة مؤلفها. «هاملت» مسرحية مشحونة بالحزن، لكن لا حاجة لأن نفترض أن هذا الحزن مُسْتَوْحًى من غَمٍّ في حياة شكسبير (وإن صادفه). هناك تقارب الشعور هناك هو بالضبط مثل التقارب بين اسْمَيِ البطل وابن المؤلف. لكن التقارب ليس نفسه التطابق؛ لا يسعنا أن ندعى أن ثمة «تطابقًا»!
تستكشف المسرحية التي نناقشها هذه المعضلة ذاتها؛ فعندما يطلب مارسيلوس من هوراشيو أن يوافقه الرأي أن الشبح الذي رأوه يشبه بحق ملك الدنمارك الْمُتَوَفَّى، يُطمئنه هوراشيو بصورة مجازية ليست مباشرة كما تبدو:
لكن مارسيلوس يستحيل أن يكون «شبيهًا» بذاته لأنه «هو» ذاته. تُعْمِل التشبيهات أثرَها بإقامة صلة مؤقتة بين شيئين ليس بينهما شَبَهٌ في واقع الأمر. ومسرحية «هاملت» حافلة بالحيل اللغوية التي تقتضي منا دومًا الشك في المناورات الْمَازِجَة؛ فإذ يتزوج كلاوديوس من زوجة أخيه على سبيل المثال، فإنه يمزج ما بين العلاقات، فيجعل جيرترود أمًّا وخالة في آنٍ واحد، ويجعل من نفسه عمًّا ووالدًا في الوقت عينه، ويجعل هاملت ابن أخ وابنًا. يقاوم هاملت مثل هذه الإجراءات المازجة بالاستعانة بالتورية — إذ يقول: «إنني غارق في ضوء الشمس/دور الابن أكثر من اللازم.» (الفصل الأول، المشهد الثاني، البيت ٦٧)، وزوج أمه «أكثر من قريب وأقل من عطوف» (الفصل الأول، المشهد الثاني، البيت ٦٥) — التي تعمد إلى الفصل ما بين العلاقات الدلالية والعاطفية الجديدة. إن هذه لمسرحية يقاوم فيها البطل دومًا محاولات تحويل شيئين منفصلين إلى كيان واحد فرد، وهي مثال ربما ينبغي علينا الانتباه له.