الخرافة الحادية والعشرون
كلنا نعلم أن الإبداع اللفظي لشكسبير يمثل جزءًا كبيرًا من سمعته وجاذبيته الممتدة؛ فقد بدأ العمل على جمع مقتطفات من أعماله — ولا سيما القصيدتين الروائيتين الشعبيتين «فينوس وأدونيس» و«اغتصاب لوكريس» — خلال حياته. ويتضمن كتاب الاقتباسات «إنجلاندز برناسوس» (١٦٠٠) لمؤلفه روبرت ألوت مقتطفات من مسرحيات «الحب مجهود ضائع» و«ريتشارد الثاني» و«ريتشارد الثالث» و«هنري الرابع – الجزء الأول»، مع التركيز على مسرحية «روميو وجولييت». واستمر مشروع جمع مقتطفات من أعمال شكسبير منذ ذلك الحين إلى الآن. ولقد أَسْدَتْ طبعة ألكسندر بوب عام ١٧٢٥ لأعمال شكسبير خدمة نافعة لقرائها: «بعض ألمع الفقرات مميزة بفواصل في الهوامش، وبينما لا يكمن الجمال في التفاصيل ولكن في المجمل، وُضعت نجمة قبل المشهد.» وتضمنت الفقرات المميزة على هذا النحو حديث بورشيا عن الرحمة في قاعة المحكمة بمسرحية «تاجر البندقية» (الفصل الرابع، المشهد الأول، الأبيات ١٨١–٢٠٢)، وشطحة خيال ميركوتيو بالجنيَّة كوين ماب في مسرحية «روميو وجولييت» (الفصل الأول، المشهد الرابع، الأبيات ٥٥–٩٦). لقد تنبأ شكسبير — أو ناشروه (طالع الخرافة الرابعة) — بالفعل بهذا الضرب من الإبراز؛ فالنصوص الأولى المطبوعة تستعين أيضًا بعلامات الاقتباس في الهامش الأيسر لتمييز الفقرات التي يمكن اقتباسها. ونجد أن نصيحة بولونيوس للايرتس في مسرحية «هاملت» في نصوص الطبعتين الصادرتين عامي ١٦٠٣ (حيث لُقِّب بولونيوس بكورامبيس) و١٦٠٤ مميزة بهذه الطريقة (الفصل الأول، المشهد الثالث، الأبيات ٥٨–٨١). وكانت أبياته الشعرية التي تتناول المقترضين والمُقرضين بالطبع معبرة عن الأمثال؛ فعادة ما يصور الإخراج المسرحي الحديث لهذا المشهد الصبيين الراشدَيْن وهما يتفحصان قائمة أبيهما للمناشير القديمة. ويسهل العثور على قوائم لعبارات ندين بها لشكسبير على الإنترنت وفي الكتب المطبوعة أيضًا، وكثير من تلك العبارات مألوف جدًّا حتى إنه فقد علاقته المبدئية بسياقه في مسرحيات شكسبير: مظلوم أكثر من آثم، ومعقود اللسان، ولحم ودم، وبدون إيقاع أو سبب، ومحل سخرية، ومحزون أكثر من غاضب، ووقت قصير بين الإدانة والعقاب، وغريب عليَّ، والعالم ملك يمينك، ومواساة لا تنفع ولا تشفع، وأنفاس لاهثة، والرأي قبل شجاعة الشجعان (أو قبل «فاليري» كما كتب الشاعر روجر ميجاو على نحو بارز في مؤلفه «شعارات» (١٩٦٩)). وبناءً على ما تقدم، فلا بد أن شكسبير الذي ربما يُعَدُّ أعظم صائغي الألفاظ في العالم كان لديه مخزون هائل من المفردات، أليس كذلك؟
ويمكن وضع هذا النقاش في سياق تاريخيٍّ على نحو مفيد؛ فهناك ارتفاع حاد في عدد الكلمات المستحدثة خلال القرن الممتد من عام ١٥٥٠ حتى عام ١٦٥٠. والحافز على استخدام العامية الذي خلقته ترجمات الإنجيل في عصر الإصلاح، والتوسع السريع لثقافة الطباعة، وتدفق الأشياء الجديدة وما يتعلق بها من ألفاظ من ثقافات أخرى نتيجة للاستشكاف والتجارة، وتطور لغات متخصصة للاكتشافات العلمية — كل هذه العوامل يسرت نموًّا لغويًّا مطردًا. انبعثت المفردات اللاتينية الجديدة — كلمات مثل «درجة الحرارة» أو «الغلاف الجوي» أو «خبيث» — مقابل كلمات من الإيطالية (غالبًا ما ارتبطت بالثقافة: «حفل موسيقي» و«سونيتا» و«مقطع شعري») أو الإسبانية أو البرتغالية (عادةً ما ارتبطت باستكشاف العالم الجديد: «إعصار» و«تبغ» و«أرجوحة شبكية»)، ومن لغات أخرى عادةً ما تُدلل على استيراد منتجات غريبة («قهوة» من التركية أو «بازار» من الفارسية) أو طرق جديدة للنظر إلى الأشياء («منظر طبيعي» من الهولندية). ولقد منحت المفردات المستعارة الإنجليزية في بداية العصر الحديث بنيةً من التوائم الثنائية أو الثلاثية؛ مفردات شبه مترادفة دخلت اللغة بالاستعارة من لغات أخرى. ولذا، فالإنجليزية تمتلك عددًا كبيرًا من الكلمات المتصلة باشتقاقات إنجليزية قديمة/فرنسية/لاتينية: يرتفع/يرتقي/يصعد – ينتهي/يختتم/ينجز – اثنان/ثانٍ/ثنائي – خوف/رعب/رهبة – ملكي/سُلطاني/ملوكي. واستعمال أشباه المترادفات، في الشكل البلاغي المعروف باسم «النسخ»، أسلوب شكسبيريٌّ يسرته هذه الكثافة اللغوية: «نُفِيَ روميو / لا نهاية ولا حد ولا مقدار ولا منتهى / لموات هذه الكلمة» («روميو وجولييت» الفصل الثالث، المشهد الثاني، الأبيات ١٢٤–١٢٦)؛ «روابط السماء انسلت وتحللت وتفككت» («ترويلوس وكريسيدا» الفصل الخامس، المشهد الثاني، البيت ١٥٩).
ثمة جدول ألفبائي يحوي ويُلقن القارئ كتابة الكلمات الإنجليزية التقليدية الصعبة المستعارة من العبرية أو اليونانية أو اللاتينية أو الفرنسية … إلخ، وفهمها بالطريقة الصحيحة، مع تفسير هذه الألفاظ بكلمات إنجليزية عادية جُمِعَت لنفع السيدات أو النبيلات أو غيرهن من عديمي المهارة والبراعة ومساعدتهم. وبهذه الطريقة يستطيعون بسهولة أكبر وعلى نحو أفضل فهم العديد من الكلمات الإنجليزية الصعبة التي سيقرءونها في الكتاب المقدس أو المواعظ أو في مواطن أخرى، وسيتمكنون من استخدام الكلمات نفسها بطريقة مناسبة بأنفسهم.
لم يكن الأمر ليبدو مناسبًا؛ نظرًا لجمهوره المستهدف الراقي، لو اقترحه كاودري، لكن المسرحيات كانت أيضًا مصدرًا للكلمات الجديدة ووسيلة لفهم المفردات فهمًا أفضل في الوقت ذاته. ويتجلى ذلك في أعمال شكسبير عادةً إذ تُذيِّل كلمة غير مألوفة أو كلمة جديدة، كما في القاموس، «كلمة إنجليزية عادية»: تُذيِّل مسرحية «تيمون الأثيني» كلمة «التعشير» بكلمتَيْ «قَدَّم العُشْر» و«العُشْر المقرر» (الفصل الخامس، المشهد الخامس، الأبيات ٣١–٣٣). ويطيب لشخصيات شكسبير استعمال كلمات جديدة بوتيرة متكررة؛ فنرى السير أندرو أوجوتشيك المتودد المنحوس بمسرحية «الليلة الثانية عشرة» يتمتع بحاسة سمع حادة تلتقط الكلمات الأنيقة، وعليه أن يستظهر كلمات «روائح، ومثقل، ومُسْتَحِق» (الفصل الثالث، المشهد الأول، البيتان ٨٩-٩٠) ليستخدمها مستقبلًا. ويقتبس الجندي المفوَّه بيستول في مسرحية «هنري الرابع – الجزء الثاني» أبيات مارلو القوية (الفصل الثاني، المشهد الرابع، الأبيات ١٦٠–١٦٥) ونيم في مسرحية «هنري الخامس» يستخدم كلمة «فكاهة» كنوع من الاختلاج اللغوي العصري (الفصل الثاني، المشهد الأول، البيت ٥٧). وينشغل بولونيوس بكلمة هاملت «مُجَمَّل» في رسالته التي أرسلها إلى أوفيليا: «تلك عبارة معيبة، عبارة خبيثة.» (الفصل الثاني، المشهد الثاني، البيت ١١١). إن كل هذه الشخصيات — ربما شأنها شأن شكسبير نفسه وهو يُطالع ترجمة مونتين لفلوريو (طالع الخرافة الثانية) — تتجاهل الحبكة والمحتوى للحظة في مسرحياتها، كي تركز على التفاصيل اللفظية. وهناك شخصيات أخرى مثل دوجبري في مسرحية «جعجعة بلا طِحْن» أو إلبو في مسرحية «العين بالعين» تسيء استخدام المفردات اللاتينية بما يتمخض عن أثر ساخر مضحك، وهي الظاهرة التي عُرِفَت فيما بعد؛ تيمنًا بإحدى شخصيات مسرحية شيريدان «المتنافسون» (١٧٥٥)، باسم إساءة استعمال الألفاظ المتشابهة.
لكن شكسبير، على العكس من غيره من معاصريه، لم يكن تحت المجهر خلال فترة غرابته اللغوية. يوحي وصف تعبير «معسول اللسان» الذي يقترحه شكسبير بسلاسة اللغة. (وهذه الصفة مثال لافت لمشكلة «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية»؛ فأول استخدامات مسجلة لها جاءت في عام ١٥٩٨ نفسه، وتحديدًا في مسرحية «الحب مجهود ضائع» (الفصل الخامس، المشهد الثاني، البيت ٣٣٤)، وكذلك في توصيف فرانسيس ميريس لشكسبير في مؤلفه «خزانة القرائح». أيستخدم ميريس واحدة من عبارات شكسبير المُنسابة برقة وعذوبة — وهو المرادف اللاتيني ﻟ «معسولة» — واصفًا إياه بها، أم أن الكاتبيْن يسجلان كلمة شائعة الاستخدام؟) يجوز أن نقارن بين ما سبق وحالة الكاتب المسرحي المعاصر جون مارستون الذي مَثَّلَه بِن جونسون بشخصية كريسبينوس في مسرحيته «الشاعر الهاوي» (١٦٠١): يُمْنَح كريسبينوس مطهرًا ويُجْبَر على تقيؤ كل مفرداته الغريبة على خشبة المسرح: هل هي الكلمات تخرج من جوفي «رجوعي – تبادلي – كابوس» و«زلق – أملس السطح – منقرض» في مشهد من التقيؤ اللغوي الذي يتضمن كلمات نسلم بها حاليًّا — مثل «تبادلي» و«منقرض» — بالإضافة إلى كلمات قابلة للنسيان مثل «رجوعي» و«أملس السطح». تثبت سخرية جونسون أن الثقافة المعاصرة كانت واعية للمسكوكات المُفرِطة؛ فاللازمة الازدرائية للاصطلاحات «المتحذلقة» سمة مشتركة للكثير من النصوص في بدايات العصر الحديث، حيث اشتعل النقاش حول ما سماه جون شيك الإنجليزية «النقية الخالصة غير المختلطة وغير المشوهة بالاستعارة من لغات أخرى.» رغم أننا اعتبرنا شكسبير أنشط الذين سَكُّوا كلمات جديدة خلال عصره؛ فمن المذهل أنه، في بيئة كانت فيها الخيارات اللغوية أيديولوجية على نحو حاد، ما من أحد من معاصريه يختاره ليثني عليه أو يلقي عليه باللائمة في هذا الصدد.
يمكننا أن نرى مدى استمتاع شكسبير بما سماه دي إتش لورانس «مثل هذه اللغة الجميلة» في مسرحية تبدو وكأنها تكاد تكون منشغلة باللغة نفسها: ألا وهي مسرحية «الحب مجهود ضائع». تُفْتَتَح المسرحية بإعلان الملك نافار بأنه ولورداته الثلاثة سيعيشون في «أكاديمية صغيرة» (الفصل الأول، المشهد الأول، البيت ١٣)؛ حيث سيكرسون أنفسهم للدراسة وينبذون صحبة النساء لثلاث سنوات. تدخل على الفور أميرة فرنسا التي كانت بصدد زيارة البلاط بصحبة رفيقاتها الثلاث. وعلاوة على التناظر العددي لهؤلاء النُّبلاء، نجد أن المسرحية تعج بشخصيات متنوعة لغويًّا. وأولهم دون أرمادو «رجل تجري على لسانه كلمات جديدة كليًّا» (الفصل الأول، المشهد الأول، البيت ١٧٦)، وإسباني مهووس بالبلاغة، ورسالته التي أرسلها للملك مُتعالية بلا معنًى في مزجها للألفاظ العتيقة المهجورة والوفرة الأسلوبية: «والآن إلى الأرض التي؛ التي أعني أنني مشيت عليها. وهي تُدْعَى مُنتزهك. وبعدها إلى المكان حيث؛ أعني حيث شهدتُ أكثر الأحداث فُحشًا ومنافاة للمنطق، والذي يسحب من قلمي الأبيض بياض الثلج، الحبر الأبانوسي اللون الذي تراه أو تنظر إليه أو تفحصه أو تقع عيناك عليه هنا.» (الفصل الأول، المشهد الأول، الأبيات ٢٣٤–٢٣٩). ويأتي بعده كوستارد الفلاح الفصيح الذي يسطر بيتًا بتورية جنسية يجلب عليه التقريع والتعنيف: «كلما تكلمت بكلام دَبِق، زادت رائحة شفتيك قذارة.» (الفصل الرابع، المشهد الأول، البيت ١٣٦). وُصِف هولوفرنيس ﺑ «المتحذلق» في نص مجموعة الأعمال الكاملة الأولى؛ فلغته هي تلك اللغة الموسعة على نحو متصنع للمدارس: «أعرف الرجل كما أعرفك تمامًا؛ فكاهته متعالية، وخطابه باتٌّ حاسم، ولسانه طَلْق متجاوز، وعيناه طموحتان، ومشيته ساحرة، وسلوكه العام مختال وسخيف ومَزْهُوٌّ. وهو مختال ومتأنق ومتكلف وغريب جدًّا إذا جاز التعبير، ويسعني القول إنه أجنبي.» (الفصل الخامس، المشهد الأول، الأبيات ٩–١٤). ويستفزه القسيس الفاضح ناثانيال، مُثْنِيًا على تلك الصفة الأخيرة الساذجة باعتبارها «نعتًا متفردًا جدًّا ومختارًا بعناية» (الفصل الخامس، المشهد الأول، البيت ١٥). إن التنوع اللغوي والوعي الذاتي الساخر بالموضة اللغوية يمثلان واحدًا من أبرز الموضوعات في مسرحية «الحب مجهود ضائع»، حيث يستعرض شكسبير براعته اللغوية ويحقر من شأنها في آنٍ واحد.