الخرافة الرابعة والعشرون
ما من أحد من نُقَّاد شكسبير تقريبًا يوافق الآن على هذه الرؤية، وحقيقة الأمر أن هناك أدلة كثيرة تدعم العكس. لننظر إلى بعض هذه الأدلة قبل أن نبحث لماذا بدت غير مستساغة لجيل سابق من الدارسين.
يمكن رسم مراجعة أعمال شكسبير على طيف يبدأ بإعادة النظر المباشرة من قِبَل شكسبير، وصولًا إلى المعالجة اللاحقة من قِبَل شخص آخر (طالع الخرافة السابعة عشرة). ورغم أننا لا نملك أي مخطوطات كاملة لشكسبير، فإن مسرحية «روميو وجولييت» تمنحنا مثاليْن لتصحيحَيْن مباشرَيْن (يمكننا أن نستنبط ما كان في مخطوط شكسبير لأن مُنَضِّد الحروف الطباعية أَعَدَّ للطباعة الأفكار الأولى والثانية على حد سواء). يدخل روميو مقبرة آل كابوليت، حيث يرقد جسد جولييت. وإذ يخاطب جثمانها (كما يعتقد)، يستغرق في جمال زوجته قائلًا:
(قد تبدو إعادة الصياغة لهذه الأبيات على النحو الآتي: كيف لك أن تظلي على جمالك هذا؟ أيُفْتَرَض أن أظن أن شبح الموت واقع في حبك وأنه يحبسك في هذا القبو خليلة له؟)
إليكم الشكل الذي كانت عليه هذه الفقرة في نسخة قطع الرُّبع الصادرة عام ١٥٩٩، المطبوعة بناءً على مخطوطة شكسبير (حدَّثنا الشكل الهجائي للأحرف لتيسير المقارنة، لكننا لم نُجرِ أية تعديلات أخرى):
يمكنك ملاحظة مشكلتيْن على الفور؛ الأولى: التردد في مقولته «سأؤمن» / «هل عليَّ أن أؤمن.» ما بين أيدينا انطلاقة خاطئة. كتب شكسبير في البداية عبارة في الزمن المستقبل، ثم قرر أنه من الأفضل كتابتها بصيغة سؤال بلاغي (ويُفترض أنه نسي أن يحذف العبارة الأولى). ورغم أننا قد ننساق وراء الاحتجاج بأن هذا التكرار متعمد — أي إنَّه فعَّال بلاغيًّا، حيث يُسجل تصاعد ارتياب روميو — فالمشكلة الثانية تدحض هذا. وتلك المشكلة هي: أن البيت التالي متعدد التفعيلات: «هل عليَّ أن أؤمن بأن هذا الموت الواهي عاشق»، يحوي هذا البيت ١٢ تفعيلة بدلًا من ١٠ (طالع الخرافة الحادية عشرة). من الواضح أن عبارة «سأؤمن» زائدة عن الحاجة.
وثمة أمر مماثل يحدث في جزء أسبق من المسرحية نفسها، لكنه ممتد هذه المرة على مدار أربعة أبيات؛ ففي نسخة قطع الربع الصادرة عام ١٥٩٩، يغادر روميو حديقة آل كابوليت بعد الحفل، وينطلق في طريقه لزيارة الراهب لورانس؛ فيخرج منشدًا أربعة أبيات غنائية عن الفجر. ويستهل الراهب لورانس المشهد التالي بالكلمة نفسها. ولقد وضعنا الكلمتيْن في عمودين متوازييْن. ومرة أخرى، اقتبسنا الكلمتيْن من نسخة قطع الربع الصادرة عام ١٥٩٩ كما هي، ولم نعمد إلا لتغيير الشكل الهجائي لبعض الكلمات.
روميو | الراهب |
الصبح الرمادي المحيا يتبسم لليل المتجهم، | الصبح الرمادي المحيا يتبسم لليل المتجهم، |
صابغًا السُّحُب الشرقية بخطوط من الضوء، | مخضبًا السُّحُب الشرقية بخطوط من الضوء، |
وتنتحي الظلمة عن مسار عجلات تايتان | والظلمة تنتحي عن مسار عجلات تايتان الحارقة |
كإنسان لعبت الخمر برأسه. | كإنسان لعبت الخمر برأسه. |
من المفترض أن شكسبير كتب هذه الكلمة لروميو ثم قرر أن يعطيها للراهب. وعندما أعاد تخصيصها للراهب لورانس، أطال فيها؛ فالراهب يستكمل كلمته قائلًا إنه لا بد أن يجمع أعشابًا طبية من حديقته قبل أن تعلو الشمس. وعليه فمن الواضح أن الكلمة «تنتمي» بقدر أكبر للراهب، فلديه داعٍ للحديث عن الوقت. (وحقيقة أن الكلام قابل للنقل ربما ينبغي وضعها في الاعتبار في نقاشنا للشخصية في الخرافة التاسعة والعشرين: هل يفكر شكسبير في الكلام أولًا والشخصية ثانيًا؟)
ومرة أخرى، نرى الأمر نفسه في مسرحية كوميدية كتبها قرابة الفترة نفسها، ألا وهي «الحب مجهود ضائع» (١٥٩٥) التي تحوي طبعتها الأولى الصادرة عام ١٥٩٩ نسختيْن متعاقبتيْن من حوار تفرض فيه روزاليند مهام على بيرون. ومن الواضح أن الحوار الثاني كان من المفترض أن يحل محل الأول، وبدلًا من ذلك فقد طُبِعَا متعاقبَيْن، والنتيجة هي ازدواجية ولكن بصياغة مختلفة. لكن تردد شكسبير لا يقتصر في مسرحية «الحب مجهود ضائع» على التعبير، ويمتد إلى الحبكة أيضًا؛ فقد كانت نية شكسبير في بادئ الأمر أن يتودد بيرون إلى كاثرين لا إلى روزالين: يجري حوار بيرون الخلافي الأول، في المشهد الأول من الفصل الثاني، مع الشخصية التي تُدعى «كاثرين» (سبع خُطَب)، وفيما بعد في المشهد ذاته يسأل بويت عن «كاثرين». وفي بقية المسرحية، تربطه الحبكة بروزالين، وبحلول الوقت الذي أُعِيدَت فيه طباعة النص عام ١٦٢٣، مُحِيَت العناصر المشتتة للانتباه في المشهد الأول من الفصل الثاني؛ فقد اسْتُبْدِلَت مقدمات الكلام والإشارات الحوارية إلى «كاثرين» ﺑ «روزالين».
من الواضح أن هناك تنقيحات جرت بينما كان شكسبير يؤلف المسرحية بالفعل؛ وهي تُعْنَى بوحدات صغيرة من النص، وكلتا النسختين تتعايشان معًا في نص واحد. عندما نجد فروقات في مشاهد كبيرة عبر النصوص (كأن يوجد مشهد ما في نسخة نصية مطبوعة ويختفي في نسخة أخرى)، تُطْرَح أسئلة حول ما إذا كان شكسبير هو الذي قام بهذا الحذف، أو متى قام به (على الفور أم لاحقًا) أم أن أحدًا آخر هو الذي قام به (لاحقًا). في نص مسرحية «هاملت» الصادر خلال عاميْ ١٦٠٤ و١٦٠٥ على سبيل المثال، ألقى هوراشيو كلمة مطولة في المشهد الأول من الفصل الأول، قبل ظهور الشبح مباشرة، وفيها يصف النُّذُر في روما القديمة قبل وفاة القيصر، ولاحقًا في المسرحية، يستثير عبور فورتنبراس الرشيق والسريع لخشبة المسرح لاحتلال بولندا مناجاة من هاملت، يؤنب فيها نفسه لتأخره. وما من هاتيْن اللحظتيْن يظهر في الأعمال الكاملة. ويمكن أن نفهم أن أسباب هذين الحذفين مسرحية بحتة؛ فمن المهم أن يبدو الشبح خارقًا للطبيعة على نحو مرعب؛ فإذا شاهده المشاهدون وهو يمشي صامتًا (كما يفعلون إذا ما تشتت ذهنهم أثناء كلمة مُطولة) فسيضعف الأثر الشبحي لظهوره المفاجئ. وقد يَكْمُن أيضًا الحُئول دون تراجع انتباه الجمهور وراء إزالة مناجاة هاملت في الفصل الرابع. (ومن المثير للاهتمام أنه عندما تتواجد نصوص شكسبير في نسخ متعددة، نجد أن هناك تركيزًا كبيرًا على الحذف في الفصل الرابع حيث يمكن أن يضعف حماس المشاهد، أم أن حماس الممثل هو الذي يمكن أن يصاب بالوهن؟)
إننا بحاجة إلى أن نتذكر أن شكسبير كاتب درامي وشاعر أيضًا، وفي بعض الأحيان تقتضي الحاجة التضحية بالشعر لصالح الدراما. ولعل الحاجة إلى مثل هذه الحذوفات لم تتضح حتى أداء المسرحية على خشبة المسرح. مَن الذي أجرى هذه الحذوفات؟ لعلها اتضحت لشكسبير بعد أداء تمهيدي للمسرحية، أو بعد الأداء الأول لها. لكن إذا كان الممثلون هم الذين اقترحوها، فمن المفترض أنهم حصلوا على موافقة شكسبير (فقد كان شريكًا مساهمًا في فرقته المسرحية). فالمسرح فن تآزري (طالع الخرافة السابعة عشرة).
إننا نرى تنقيحات لأسباب مسرحية مرارًا وتكرارًا في أعمال شكسبير؛ فالمشهد السادس من الفصل الثالث لمسرحية «الملك لير» طويل جدًّا حيث يعقد فيه لير المجنون محاكمة مزيفة لابنتيه الجاحدتيْن. وفي الأعمال الكاملة الصادرة عام ١٦٢٣، نجد أن هذا المشهد اخْتُصِرَ بمقدار ١٦٠ بيتًا. لكن الأمر لا يقتصر على الحذف؛ فرغم أن النسخة الأولى المطبوعة لمسرحية «الملك لير» عام ١٦٠٨ تحوي العديد من الأبيات التي لا تحويها الأعمال الكاملة، فإن الأعمال الكاملة تحوي العديد من الأبيات غير الموجودة في نسخة قطع الربع. وعليه، فبينما كان شكسبير الكاتب الدرامي يجري حذوفات ضخمة أو يجيزها لأغراض مسرحية، لم يستطع الشاعر بداخله أن يكف عن العبث بلحظات بسيطة وكلمات مفردة.
تحظى المسرحيات بالتنقيح أيضًا لاستيعاب التغييرات في ظروف المسرح. على سبيل المثل، فالمشهد الذي يُصاب فيه جلوستر بالعمى يُخْتَتَم في نسخة قطع الرُّبع من مسرحية «الملك لير» الصادرة عام ١٦٠٨ بحوار عاطفي بين خادمَيْن مجهوليْ الاسم يخططان لمساعدة الإيرل المُصاب. وليس لهذا الحوار وجود في الأعمال الكاملة. ومن ثم فهو جزء من نمط من الحذوفات في الأعمال الكاملة التي تمثل نسختها عالمًا أكثر كآبة وعنفًا. ولكن، ربما كانت علة الوجود الأصلية للحوار عملية، لا موضوعية. بعد أن أصيب بالعمى وأُلْقِيَ به على قارعة الطريق كي «يتشمم / طريقه إلى دوفر» («تاريخ الملك لير»، المجلد الرابع عشر، ص ٩١-٩٢؛ الحوار محذوف في «المأساة»)، يخرج جلوستر، ليدخل مجددًا بعد تسعة أبيات من المشهد التالي، وحينئذ نراه بحاجة إلى تنظيف عينيْه الملطختين بالدماء، وعصابة ملفوفة حول رأسه. ولولا حوار الخادمَيْن الممتد لثمانية أبيات، لكان هذا التحول حرجًا نوعًا ما. بحلول عام ١٦٠٨، كانت فرقة «رجال الملك» قد اشترت مسرح «بلاك فرايرز» المغلق، واكتسبت المسرحيات بالتبعية فواصل ما بين الفصول (كانت الحاجة تقتضي وجود فترات استراحة ما بين الفصول لتغيير الشموع التي تضيء المسرح المغلق). ويتيح الفاصل المسرحي في مسرحية «الملك لير» بالأعمال الكاملة إمكانية التغير الذي كان يتطلب في السابق حوارًا.
ويطرح ذلك معضلة خطيرة: عندما ننظر إلى تلك النصوص المسرحية الموجودة في نسخ متعددة، كيف يمكننا استبيان الفارق بين السبب والأثر؟ إن «أثر» التنقيح (تقليص العاطفة في عالم «الملك لير» على سبيل المثال بحذف مشهد الخادمَيْن) و«سبب» التنقيح (حيث جعلت الظروف الجديدة للمسرح الأبيات الثمانية للخادمين زائدة عن الحاجة) قد لا يكونان أمرًا واحدًا أو الأمر نفسه؛ فالمسرح شكل مَرِن من أشكال الفن يُكيِّف نفسه دومًا مع الظروف الآنية/العملية/السياسية.
إن لمز هاوسمان زملاءه يتنبأ بطريقة ساخرة برياح التغيير النَّصِّي والنظري التي هبَّت في نهاية القرن. وأثبت هذا التغير في التوجه أننا لسنا بحاجة إلى الاختيار ما بين النصوص، ولكن بإمكاننا معاملة كل نص وفقًا لما يمتاز به من مميزات، والتحقق من الظروف المحيطة بإنتاجه؛ فبينما أنتجت الطبعات الأولى لمسرحية «الملك لير» على سبيل المثال نصًّا مفردًا من مزيج من عناصر النسختيْن المتمايزتيْن (وهي الممارسة التحريرية المعروفة باسم «الدمج النصيِّ»)، هناك الآن عدد من الأعمال الكاملة (الصادرة عن أكسفورد مثلًا) تحوي نصَّيْ نسخة قطع الربع ونسخة الأعمال الكاملة بوصفهما مسرحيتيْن منفصلتيْن. كما تحوي نسخة أردن لمسرحية «هاملت» التي حررتها آن طومسون ونيل تايلور عام ٢٠٠٦ مجلدَيْن يحويان بدورهما ثلاث نسخ من المسرحية (نسختَيْ قطع الربع الصادرتان عام ١٦٠٣ وخلال عاميْ ١٦٠٤ و١٦٠٥ ونسخة الأعمال الكاملة الصادرة عام ١٦٢٣).