الخرافة السابعة والعشرون
في الفصل الخامس من مسرحية «هاملت»، يقابل الأمير حفَّار قبور يجهز قبرًا جديدًا. كان القبر مسكونًا من قبل: وبينما كان يحفر، أخرج الحفَّار جماجم مَن كانوا مدفونين مِن قبل. ليس هذا بالحدث الغريب؛ فمقابر العوام لم تكن مميزة (وهي الممارسة التي ظلت على حالها حتى أوائل القرن السابع عشر)، ومن ثم، كانت فرص إعادة استخدام المقابر عالية، ودُفِنَت الجثامين مكفنة بأقمشة، لا في توابيت، وعليه، إذا أُعِيدَ نَبْشُ القبر كان فأس خادم الكنيسة ينبش عظام الجثامين بدلًا من الخشب. أُزيلت الرفات المخرجة من قبورها، ونُقِلَت إلى قبو رفات الموتى، وهو بيت عظام، أو مَعْظَمَة، داخل حدود الكنيسة، وثم فهي مكان مقدس. (بعد الوفاة، يُعَد المكان المقدس أهم من المكان الشخصي.)
يُعرِّف حفَّار قبور شكسبير واحدة من الجماجم، قائلًا إنها لمهرج من مهرجي البلاط يُدعى يوريك: «رجل مجنون؛ فقد سكب كأس خمر على رأسي ذات مرة!» (الفصل الخامس، المشهد الأول، البيتان ١٧٤-١٧٥). ويذكره هاملت بأنه «رجل يتمتع بدعابة لا تنتهي وخيال ممتاز»، ويسترجع عبث الطفولة مع المهرج، قائلًا: «حملني على ظهره ألف مرة» (الفصل الخامس، المشهد الأول، البيتان ١٨١-١٨٢). (يصوِّر الفنان الفكتوري، فيليب كولديرون، حَمْل المهرج هاملت على ظهره في لوحته المعنونة «اللورد هاملت الصغير» (١٨٦٨)، ويُقحم فيلم كينيث براناه في عام ١٩٩٦ لقطات من الماضي ليورك [الذي يلعب دوره الممثل الكوميدي كين دود] وهو يُسرِّي عن البلاط). ورغم أن شكسبير لا يقدم لنا إرشادًا مسرحيًّا يُملي فيه على هاملت أن يلتقط الجمجمة، فجميع النسخ الحديثة من المسرحية تُقحم ذاك الإرشاد: «يلتقط الجمجمة.» وبما أن هاملت يخاطب الجمجمة على مدار عشرة أبيات، فمن المنطقي أن يفعل ذلك وهي بيده؛ إذ يقول لحفَّار القبور: «دعني أرى» (الفصل الخامس، المشهد الأول، البيت ١٧٩)، وهو إرشاد واضح بتمرير الجمجمة إليه. ولقد أمست هذه واحدة من أبرز اللحظات في أعمال شكسبير، حيث ظهرت في إعلانات أفلامه وإنتاجاته المسرحية، وفي أعمال الرسوم المتحركة ذات الصلة، والمحاكاة الساخرة (المتعلقة عادةً ببيانات أسنان يوريك أو قلمه الرصاص)، وظهرت حديثًا في طابع بريد ملكي عام ٢٠١١: صورة شخصية هاملت التي مثلها ديفيد تينانت، وهو يحمل جمجمة يوريك، نراها مركَّبة فوق البيت الأول من مناجاة الأمير «أكون أو لا أكون»، وهي اللحظة الحاسمة الأخرى للمسرحية.
كانت الصورة أيقونية بالفعل قبل أن يقدمها شكسبير على خشبة المسرح؛ فقد كانت الجماجم جزءًا من تقليد تذكُّر الموت. ولقد كان لهذه التذكرة بالموت المستقبلي للمرء غرض مواعظي: لا تقترف الذنوب كي لا يأخذك الموت على حين غرة كالملك هاملت العجوز «الذي انقطعت حياته حتى في خضم اقتراﻓ(ﻪ) للذنوب» و«كل ذنوﺑ(ﻪ) تثقل كاهله» (الفصل الأول، المشهد الخامس، البيتان ٧٦ و٧٩). في مسرحية «هنري الرابع – الجزء الثاني»، تسأل العاهرة دول تيرشيت صديقها (الذي يُفْتَرَض أنه زبونها أيضًا)، الفارس العجوز الكسول البدين، السير جون فالستاف: «متى ستكف عن الشجار طوال اليوم، والمجون طوال الليل، وتؤهب جسدك العجوز هذا لمرقده الأخير؟» ويدرأ فالستاف هذا الاقتراح بتغيير نمط حياته قائلًا: «لا تتكلمي وكأنك رأس الموت، ولا تذكريني بنهايتي.» (الفصل الثاني، المشهد الرابع، الأبيات ٢٣٣–٢٣٧). و«رأس الموت» صيغة بديلة لكلمة «جمجمة»، أو تذكُّر الموت. في مسرحية تيرنور «مأساة الملحد» (نُشرت عام ١٦١١)، نجد ذكرًا لهذا الاصطلاح نفسه في ثلاثة إرشادات مسرحية على الأقل: «لكي يدخل إلى قبو رفات الموتى، عليه أن يمسك برأس موت؛ يستلقيان ومع كل منهما رأس موت يتوسدانها؛ يبدأ في مشهد رأس موت.»
كثيرًا ما حَوَت لوحات الأشخاص التي تحتفي بنجاح صاحبها جماجم؛ لتذكيره بالموت؛ كي لا ينسى الشخص المرسوم أن إنجازاته دنيوية، وأن الموت سيقوضها يومًا ما. تُصَوِّر لوحة «السفيران» (١٥٥٣) لهانز هولباين الأصغر، المعروضة حاليًّا بالمعرض الوطني بلندن، سفيريْن في بلاط الملك هنري الثامن، تحيط بهما زخارف حياتهما الثقافية المتحضرة، علاوة على رموز مشفرة للاضطراب السياسي الناجم عن طلاق هنري الذي جلبهما إلى إنجلترا: أدوات علمية (كرات، وساعة شمسية، وربع دائرة) وآلة موسيقية (عود) ومنسوجات (سجاد شرقي) وكتب مفتوحة (رموز للمعرفة والتعليم والعقيدة). وعند النظر إلى اللوحة بمَيَلان، يمكن أن ينتظم شكل مُشَوَّش في طليعة الصورة على هيئة جمجمة. وبالمثل، فإن لوحات الشباب أو الشابات عادةً ما تصورهم وهم يمسكون بجمجمة أو يتأملونها لتذكيرهم (وتذكيرنا)، كما قالت جيرترود، بأن «كل ما هو حي لا بد أن يموت / فيمر عبر الطبيعة إلى الخلود.» (الفصل الأول، المشهد الثاني، البيتان ٧٢-٧٣).
هاملت شاب يمسك بجمجمة في مسرحية تتناول الموت. تستهل المسرحية بهاملت وهو في حالة عجز من فرط الأسى على موت أبيه. ويستمر في ارتداء ملابس الحداد بعد انتهاء فترة الحداد الرسمية للبلاط. (والصورة المسرحية صارخة: شخص يقف بمنأًى عن الآخرين ويمتاز عنهم من حيث الملبس ﺑ «عباءته السوداء سواد الحبر»). في المشهد الأول للبلاط، المشهد الثاني من الفصل الأول، يقدم كلاوديوس لهاملت حكمة تقليدية كتذكرة بالموت، مذكرًا إياه بأن «أباك فقد أباه؛ / وذاك الأب المفقود فقد أباه»؛ «سنة الطبيعة / هي موت الآباء … وما زالت تبكي / من الجثة الأولى حتى ذلك الذي مات اليوم، / هذه هي طبيعة الأمور» (الفصل الأول، المشهد الثاني، البيتان ٨٩-٩٠، والأبيات ١٠٣–١٠٦). لكن هاملت، من فرط الأسى، أعجز من أن يقبل بأن «هذه هي طبيعة الأمور» وأن نسبة الوفيات في الحياة الدنيا تبلغ ١٠٠٪، وأن الموت هو النهاية الحتمية. ولذلك فإن المقابلة مع الفصل الخامس صارخة؛ إذ يدرك هاملت، ممسكًا بجمجمة يوريك، أن الجمجمة تلعب دور الرمز المُذكِّر بالموت. وإذ يخاطبها، يقول هاملت: «انطلقي الآن إلى غرفة سيدتي وأخبريها بأنها مهما لطخت وجهها بالزينة سيئول بها المآل إلى حالك يومًا ما. هذا كفيل بأن يضحكها.» (الفصل الخامس، المشهد الأول، الأبيات ١٨٨–١٩٠). وبتعبير آخر: ذكريها أيتها الجمجمة بأنها مهما تزينت، فلن تستطيع أن تفر من حقيقة أنها ستموت يومًا ما، وحينئذ لن تجدي أدوات زينتها نفعًا.
استخدم المسرح الإليزابيثي دماءً حقيقية (لا دماءً بشرية، ولكن حيوانية تقدمها المسالخ القريبة داخل مثائن). هل استخدم المسرح الإليزابيثي جماجم حقيقية أيضًا؟ الجماجم أدوات مساعدة نادرة جدًّا. في مسرحية ديكر وميدلتون «العاهرة المخلصة» (١٦٠٤)، يُعِدُّ الخادم «الطاولة ويضع عليها جمجمة وصورة وكتابًا وشمعة»، وفي مسرحية وبستر «الشيطان الأبيض» (١٦١٢)، يحمل الشبح أصيصًا من أزهار الزنبق فيه جمجمة. وتقدم مسرحية ميدلتون «مأساة المنتقم» (١٦٠٧) تنويعة شاذة وممتدة،؛ إذ يضع البطل الذي احتفظ بجمجمة محبوبته تسع سنوات أعلى دمية، ويُلبسها، ويضع على شفتيها أحمر شفاه سامًّا؛ لينتقم من قاتلها الوحشي. عندما جَرَدَ فيليب هينسلو عام ١٥٩٨ الأدوات المساعدة لفرقة «رجال الأدميرال»، لم تتضمن قائمته أية جماجم. وهذه ليست بالمفاجأة؛ فجميع أمثلة الجماجم في الإرشادات المسرحية محصورة في العقد الأول من القرن السابع عشر؛ مما يوحي بأنها كانت صرعة عابرة.
نظرًا لرخص تكلفة المعيشة في لندن إبان العصر الإليزابيثي، وقعت حالات الوفاة تأثرًا بالوباء فجأة وبأعداد مهولة، حتى إن عمليات الدفن كانت تتم على عجل، وفي مقابر جماعية حتى إن المقابر أُعيد استخدامها مرارًا وتكرارًا، وأمست الجماجم الحقيقية شيئًا مألوفًا جدًّا، في المستطاع إعادة أو إساءة استخدامه. وعلى أية حال، فالجماجم المرسومة بداخل اللوحات الشخصية تأتي من مكان ما، ربما من نفس المصدر الذي تُسْتَخْلَص منه جماجم المسرحيات. ويبدو أن الحصول على جمجمة حقيقية (كجمجمة يوريك) أيسر بكثير من جلب هيكل عظمي كامل. ولكن بما أن الهياكل العظمية، لا الجماجم وحسب، كانت تُنْقَل إلى قَبْو رُفات الموتى، فربما كانت سرقة هيكل عظمي كامل بسهولة سرقة جمجمة. كثيرًا ما تشير سجلات «شركة الحلاقين والجراحين» إلى إنتاج هياكل عظمية زائفة؛ فإذا كان بالإمكان صناعة الأداة المساعدة لأغراض الدراسة التشريحية، فلا شك أنه يمكن صناعتها أيضًا لأغراض مسرحية.
إن مسرحيات شكسبير لا تُعَوِّل بشدة على الأدوات المساعدة. وهناك أسباب عملية وجيهة لذلك؛ فالمسرحيات التي تتطلب أدوات مساعدة (في مسرحية «كوميديا الأخطاء» تتجلى أهمية صُرة من العملات الذهبية والفضية، وطرف حبل، وسلسلة ذهبية) تقتضي تنسيقًا لا غبار عليه وراء الكواليس. وبدون المنديل في مسرحية «عُطيل» تتعطل المأساة وتفسد المسرحية. (قال المؤلف المسرحي جو أورتون في ستينيات القرن الماضي إن عمله السابق في وظيفة مدير مسرح مساعد، ساعده بوصفه كاتبًا؛ لأنه علمه ألا يستعين في كتابته بعدد مبالغ فيه من الأدوات المساعدة).
إن النوع الأدبي الأكثر تعويلًا على الأدوات المساعدة هو الأعمال الرومانسية. وتعتمد المسرحيات الرومانسية — التي كتبها شكسبير في فترة متأخرة من مشواره الأدبي — عادةً على التئام شمل عائلات منفصلة عبر أمارة مميزة، كثيرًا ما تتمثل في قطعة من الحُلِيِّ تُرِكَت بحوزة الطفل اللقيط. في مسرحية «حكاية الشتاء»، تُهجَر الرضيعة بيرديتا في سلَّتها «يسترها غطاء الملكة هيرميون، وحليها معلق حول رقبتها» (الفصل الخامس، المشهد الثاني، البيتان ٣٢-٣٣). لكن شكسبير لا يؤلِّف مشاهد لم الشمل التي تعول على تلك الأدوات المساعدة بوصفها أدوات مساعدة. في مسرحية «حكاية الشتاء»، يقص النبيل الثالث قصة لم الشمل. وفي مسرحية «الليلة الثانية عشرة»، لا يتعارف التوءمان عبر الأدوات المساعدة، ولكن عبر ذكريات أبيهما، وعلامات جسدية مشتركة يقصانها. وفي مسرحية «بيركليس»، نجد أن حَكْي مارينا عن عذابها هو ما يدفع بيركليس إلى إدراك أنها ابنته («سأصدق كل حرف تقولينه / سأصدق كل ما يصدر عنكِ.» المشهد الحادي والعشرون، البيتان ١٥٥-١٥٦). وفي مسرحية «العاصفة»، تضرب المصالحة بين الإخوة بجذورها في جسد بروسبيرو الحي. عندما يعانق بروسبيرو ألونسو في النهاية — «أُعانق جسدك» — يعرف ألونسو أن الجسد حقيقي، وأنه ليس «شيئًا واهيًا مسحورًا» آخر؛ لأن «نَبْضَك / يَدُقُّ مُعْلِنًا حقيقتك» (الفصل الخامس، المشهد الأول، الأبيات ١١١ و١١٤–١١٦).
توضح محاكاة ساخرة للرومانسية المسرحية كتبها مايكل فراين مخاطر استعمال الأدوات المساعدة. يتخيل فراين مسرحية تحت عنوان «خطأ لغرض الخطأ» يثبت فيها الابن المفقود للدوق، الذي اختُطِف إثر مولده، نسَبه باستخدام أداة مساعدة — قلادة — يلقيها إلى الدوق الذي لا يُحسن التقاطها، فيضطر الممثلون إلى الارتجال:
والتقطها برشاقة مجددًا.
ساداتي، أَتَتَحَسَّسُون لِحَاكُم المتشابكة؟
لا أثر لها؟ يا للأسف! أخشى أنها تدحرجت بعيدًا
وسط هذه الأيكة المتشابكة من الأشجار الكرتونية.
بكافية لفهم المغزى العام من ورائها؟
— أن هذا هو ابنك الضال واقفًا قبالتك؟
هو كيف سألقي خطبتي التي أستهلها هكذا:
عودي أيتها القلادة، دعيني أقبلك لأمسح عنك بعضًا من معاناتك، وأتذوق حلاوة الإخلاص.
من دون القلادة اللعينة! تعالوا، لنَجُبْ هذه الغابة.
تولوا نهايتها القصوى ومرتفعاتها.
أي نوع من الأبناء المفقودين ذاك الذي يُضيِّع
من بين يدي العجوزتيْن الأدوات الضرورية
ويقطع على أبيه الذي فقده طويلًا أطول كلماته؟
فَلْتُفْقَد مجددًا يا ولدي حتى تتعلم في نهاية المطاف
فن إلقاء الأدوات المساعدة بدلًا من قذفها.
إن الأدوات المسرحية المساعدة ليست ممتلكات مادية وحسب، ولكنها تمتلك خلفيات (تستحضر جمجمة يوريك طرائف عن أنشطة المهرج، ومَحْرَمَة عُطيل تُمْنَح قصتين متعارضتين عن أصولها، وتصلنا أنباء عن التكليف بجلب سلسلة ذهبية قبل بدء مسرحية «كوميديا الأخطاء»)؛ فهي تلمِّح إلى المشاعر والصلات. وتعمل عمل الوسطاء (فنحن نلتفت إلى تحركاتها بقدر ما نلتفت إلى تحركات الشخصيات). وهي عبارة عن رموز (جميع الجماجم الموجودة في المسرحيات الجيكوبية لها وظيفة تقليدية تذكيرية بالموت). وتتعين قراءتها وتفسيرها شأنها شأن أية صورة مسرحية أخرى. وفي وجودها المادي، فهي تصل ما بين عالم الخيال وعالم الواقع (وكذلك تفعل الملابس). إن جمجمة يوريك، بوجودها المادي على خشبة المسرح، حاضرة حضور الجسم المادي لممثل حي. وبهذا المعنى، جمجمة يوريك، شأنها شأن كل الأدوات المسرحية المساعدة، «حقيقية».