الخرافة التاسعة والعشرون
شخصيات شكسبير شبيهة بالناس الحقيقيين
من بين المَعالِم التقليدية للفن الناجح تَعاطِي الناس معه كواقع حقيقي. يصف بليني
مسابقة
رسم مشهورة بين زيوكس وباراسيوس في القرن الخامس قبل الميلاد. كشف زيوكس الغطاء عن لوحته
لحياة ساكنة بدت فيها الأعناب مغرية جدًّا حتى إن طائرًا حَطَّ لِيَنْقرها. وبعدها، طلب
زيوكس من باراسيوس أن يزيح الستار عن لوحته، فأجابه الأخير أن الستار نفسه هو
اللوحة.
وثمة قصص مناظرة في عالم الأدب. عندما نُشِرَت رواية «المدينة الفاضلة» للسير توماس
مور
في القرن السادس عشر، طَلَبَ قسيس من أسقفه أن يرسله إلى المدينة الفاضلة. (المدينة الفاضلة
هي جزيرة خيالية اسمها يوتوبيا يعني في الإغريقية «لا مكان»)، لكن شخصيات الرواية يشاركون
عامة الناس أسماءهم، وربما كانوا حتى شخصيات حقيقية، ويصف أحدهم زيارته إلى المدينة
الفاضلة. استدعى بلزاك وهو على فراش الموت د. بيانكون، وهو واحد من اختلاقاته الخيالية.
وقبل أن يستقبل فرويد عددًا كبيرًا من المرضى ليجري عليهم دراسات حالة، لجأ إلى الدراما
الواقعية — لدى شكسبير وإبسن والتراجيديا الإغريقية — لتحليل شخصياتها. وقد يبدو من
المستغرب الحديث عن الدراما الإغريقية بما تحفل به من أقنعة وجوقات تقليدية على أنها
«واقعية»، لكن فرويد كان يستجيب إلى الواقعية «العاطفية» للمسرحيات.
دائمًا ما تكون صِفَتا «نابض بالحياة» و«واقعي» مُتَمَّمَتَيْن، ومقياسيْن نحكم بهما
على
كيفية النجاح الذي أحرزته مسرحية ما (أو ما إذا كانت نجحت).
1 لكن صفة «النابض بالحياة» في مسرحية من مسرحيات القرن السادس عشر تختلف عن
الصفة نفسها في القرن الحادي والعشرين. في المملكة المتحدة، وتحديدًا في خمسينيات القرن
العشرين، لا شك أن بث احتفالات الملكة بعيد الميلاد بدا نابضًا بالحياة للمشاهدين، ولكنها
بدت عام ٢٠١٢ متكلفة ولا تَمُتُّ بصلة إلى أي شيء نراه طبيعيًّا. وكما أوضح إدوارد بيشتر،
فإن الأسئلة المتعلقة بما يمكن أن يكون نابضًا بالحياة في دراما عصر النهضة تخلط ما بين
الوسائل والآثار. ولعل الممثل توماس بترتون «أنشد — أي بدا أنه يُنشد لنا ما إذا كان
باستطاعتنا السفر إلى الماضي وصولًا إلى المسرح الملكي في أواخر القرن السابع عشر … ولكن
أداءه بالنسبة لجمهوره، «المتوالف على تردد مختلف»، ربما بدا مثل الحياة نفسها.»
2 وعلى ذلك، فإن مناقشة هذه الخرافة محيرة؛ لأنها تنطوي على مفهوم — نابض
بالحياة/واقعي — غير ثابت. لنحاول التعامل مع هذه الخرافة بتقسيمها إلى جزأين: الشخصيات،
والناس الحقيقيين.
أولا: الشخصيات. في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، كتب المؤلف الإغريقي ثيوفراستوس
مُؤَلَّفًا لتخطيطات مبدئية لثلاثين شخصية («الشخصيات»). ورغم أن ثيوفراستوس لم يُترجَم
(إلى اللاتينية) حتى عام ١٥٩٢، فقد كان الشكل الذي استحدثه مؤثرًا. في إنجلترا، يقدم
لنا
كتاب توماس ويلسون «فن البلاغة» (١٥٥٣) تخطيطًا مبدئيًّا قصيرًا للشخصية كمثال على الاصطلاح
البلاغي «وصف الشخصية»، ووضع السير توماس أوفربري كتابًا عن «الشخصيات» نُشِرَ عام ١٦١٤
(وكان شعبيًّا حتى إنْ أُعِيدَت طباعته خمس مرات في العام نفسه)، وأُعِيدَ نشره مجددًا
في
عاميْ ١٦١٥ و١٦١٦ (ثلاث طبعات)، إضافة إلى المزيد من الطبعات التي ظهرت في الأعوام ١٦١٨
و١٦٢٢ و١٦٢٦ و١٦٢٧ و١٦٢٨ و١٦٣٠. ولعل جزءًا من الأهمية التجارية الأولية لكتاب أوفربري
يرجع
إلى الطبيعة المثيرة لوفاته عام ١٦١٣ (حيث قُتِلَ في برج لندن)، وتورطه في فضيحة طلاق
وزواج
جديد بالبلاط (طالع الخرافة الثانية والعشرين) الأمر الذي جعل علة وجود المجلد الأصلي
— وهي
شخصية شعرية ﻟ «زوجة» — موضوعًا آنيًّا على نحو مُدَوٍّ. لكن النسخ اللاحقة (التي كَبَّرَها
الآخرون بانتظام) وُضِعَت بالكامل نثرًا، وتألفت من تصويرات من صفحة إلى صفحتين للشخصية:
رجل حكيم، أخ أكبر، شرير منحرف، وسائس خيل. كثير من هذه الشخصيات أقرب إلى الكاريكاتير
منها
إلى الشخصيات ذات الأبعاد النفسية (فمن الواضح أن الهولندي السكير والويلزيَّ المتبجح
شخصيتان نمطيتان)، لكن الجوانب السيكولوجية الدقيقة موجودة رغم ذلك. يلاحظ أوفربري تدرج
الشخصية؛ فهناك اختلاف ما بين «عاهرة» و«عاهرة جدًّا» وبين «أرملة طاهرة» و«أرملة عادية».
وينتقل تصويره لشخصية الدائن من المَلْبَس إلى السلوك إلى العادات.
3 والتصوير المتعاطف لمالك الأرض من غير النبلاء يُقابل ما بين مظهر الرجل وخصاله
الداخلية، ويسلط الضوء على أهمية أنماط الكلام: «ورغم أنه سيد، فهو لا يقول لخدامه «اذهبوا
إلى الحقل» ولكن «لنذهب إلى الحقل».»
4 ويمتد التفصيل التخيلي لأوفربري حتى إلى ما تقرؤه الخادمة: «إنها تطالع أعمال
جرين مرارًا وتكرارًا (ويعني الأعمال الرومانسية النثرية لروبرت جرين)، لكنها مفتونة
جدًّا
بكتاب «مرآة الفروسية» حتى إنها عزمت غير مرة على أن تَنْسَلِخ من جلدها وتمسي باحثة
عن
المغامرات.»
5 وإنها لخطوة قصيرة تلك التي نخطوها من هنا وحتى كتاب «إعداد الممثل»
لستانيسلافسكي.
لم تكن أبدًا غاية ثيوفراستوس من كتابه «الشخصيات» واضحة بالكامل، لكن باحثي الأدب
الكلاسيكي الآن يظنون أنه كان ذا هدف قانوني؛ فمن بين المهارات البلاغية الضرورية للمحامي
قدرته على بناء شخصية المدَّعَى عليه أو الشاهد، أو هدمها. وبالمثل، نجد أن نقادًا، أمثال
لورنا هوتسن وجيمس ماكبين، استكشفوا مؤخرًا التقاليد البلاغية للهيئات القانونية الأربع
في
لندن التي صَبَّت في دراما منتصف القرن السادس عشر، ومنها إلى المسرح التجاري في أواخر
القرن السادس عشر. ومن الواضح أن الشخصية، من الأزمنة الكلاسيكية وحتى شكسبير، هي بناء
بلاغي.
لكن الشخصية أيضًا بناء سيكولوجي، على الأقل بالنسبة لشكسبير؛ فمن بين الأشياء التي
تُقْدِم عليها شخصيات شكسبير محاولة قراءة الشخصيات الخيالية الأخرى وفهمها. يقدم لنا
البيت
الافتتاحي لمسرحية «الملك لير» تَفَاجُؤَ كينت بأنه أساء فهم شخصية لير؛ إذ يقول: «ظننت
أن
الملك أثَّرَ بقدر أكبر في دوق ألباني مما أثر في دوق كورنوول» (أي «همم … أسأت الفهم»؛
الفصل الأول، المشهد الأول، البيتان ١-٢). وفي مسرحية «عُطيل»، ينسب لودوفيكو السلوك
الغريب
لعطيل إلى ضغوط عالَم المال والأعمال الفينيسي: «ربما أن الرسالة أثَّرت فيه» (الفصل
الرابع، المشهد الأول، البيت ٢٣٢). ويحاول هاملت أن يقرأ نفسه؛ فبعد أن رأى عزيمة فورتنبراس
ووضوح غايته، قال هاملت:
والآن، سواء أكان ذلك
نابعًا من غباء حيواني، أو من تردد نابع من الجُبن
من فرط التفكير على نحو دقيق في الحدث
•••
لا أعلم
لِماذا طال العمر بي كي أقول «يجب أن أقوم بهذا العمل»،
ما دمت أمتلك العلة والإرادة والقدرة والوسيلة
للقيام به.
(الفصل الرابع، المشهد الرابع،
الأبيات ٣٠–٣٢، ٣٤–٣٧)
6
إن السؤال السائد الذي شغل النقاد خلال القرن العشرين — لماذا تلكأ
هاملت؟ — هو سؤال يطرحه هاملت في واقع الأمر على نفسه. وهو سؤال يفترض أنه يمتلك الوسيلة
والخيار والمشاعر والدافع، وبتعبير آخر، أنه كائن واقعي.
إذا افترضَتْ شخصيات شكسبير أنها، هي وغيرها من شخصيات شكسبير، كائنات حقيقية، فهكذا
كانت
فرضية قرائها وجماهيرها الأوائل أيضًا. يبدأ نقد شكسبير من الشخصية: ومثال ذلك مُؤَلَّف
مارجريت كافينديش «رسائل اجتماعية» (١٦٦٤)، ومُؤَلَّف موريس مورجان «مقالة عن الشخصية
الدرامية للسير جون فالستاف» (١٧٧٧). من مرحلة مبكرة، كان لشخصيات شكسبير أيضًا حياة
خارج
مسرحياتهم؛ فقد عثرت تيفاني ستيرن على السير أندرو أجويتشيك في ألمانيا في مسرحية
مُرَكَّبَة من القرن السابع عشر، لا تمت بصلة لمسرحية «الليلة الثانية عشرة». وفي كتابها
الأخير عن الرواية، تُفَرِّق ماريا دي باتيستا ما بين شخصيات المسرحيات وشخصيات الروايات،
على حساب الأولى. تقول دي باتيستا إن الشخصيات المسرحية «مقيدة» بالمسرح.
7 لكن عندما ينتقل السير أندرو أجويتشيك إلى ألمانيا في مسرحية غير «الليلة
الثانية عشرة»، من الصعب أن نراه «مقيدًا» بأي حال.
ويجدر بنا أن نسأل في هذه المرحلة: كيف يخلق شكسبير وهم الشخصيات النابضة بالحياة؟
تضرب
كلمة «شخصية» بجذورها في اللغة الإغريقية؛ حيث تقابلها كلمة «كتابة»، وكان هذا هو المعنى
السائد في عصر شكسبير؛ فالشخصية شيء يُسَجَّل كتابةً. لكن هذا الإلزام بالهوية هو ما
تقاومه
شخصيات شكسبير، وفي هذه العملية تصبح أفرادًا يحاولون أن تكون لهم حياة خارج إطار الخيال.
وأبرز مثال لذلك مسرحية «ترويلوس وكريسيدا»، كما بينت ليندا تشارنز ببراعة عام ١٩٨٩،
فمعضلة
الشخصيات الاسمية تكمن في محاولتها الانسلاخ من الارتباطات المكتوبة سلفًا لأسمائها في
الأدب (ترويلوس عاشقًا ضحية الخيانة، وكريسيدا امرأةً خائنة). يَوَدُّ ترويلوس أن يكون
«مؤلفًا أصيلًا» لقصته الخاصة (الفصل الثالث، المشهد الثاني، البيت ١٧٧). ولكن، أَنَّى
له
أن يكون، وقصته مكتوبة سلفًا له؟
8 لا تنحصر هذه المعضلة في الشخصيات الخيالية/التاريخية/الخرافية/الشهيرة وحسب،
بل تنطبق على أي أحد يتحدى التوقعات العائلية، كما رأينا في حالة كوريولانوس حين يتمنى
أن
يكون مؤلف نفسه، ناكرًا أهله (ولا ينجح في توكيد استقلاليته، وتنتهي المسرحية نهاية
مأساوية). إن هذا البحث عن الحرية هو الذي يمنح شخصيات شكسبير تَجَلِّيَها النابض بالحياة
بصفتها أفرادًا، لا أنماطًا. لدى جولييت شرفة في مدينة فيرونا فعلًا، رغم أن وجودها لم
يتعدَّ الخيال قط. ولا تتمتع أية من شخصيات جونسون أو ميدلتون بأي شيء يُقارب تلك الحياة
البَعْدِيَّة.
هناك إجابة أخرى عن السؤال المتعلق بكيفية خلق شكسبير شخصيات نابضة بالحياة، ألا
وهي:
بجذب الانتباه إلى الثغرات. عندما يقول بروسبيرو إنه سيعتزل في ميلان، حيث «ستمسي كل
فكرة
ثالثة تخطر ببالي هي قبر(ه)» (الفصل الخامس، المشهد الأول، البيت ٣١٥)، يستدعي السؤال
الآتي: ما هما فكرتاه الأولى والثانية؟ كما كتب توني دوسون: «إننا نشعر بأننا نعرف هذه
الشخصيات لأننا لا نعرفهم.» ويخلق هذا وهمًا بأن هذه الشخصيات مثل الناس، وأن من الممكن
معرفتهم.
9
وهناك الْتِفاتَة أخرى هنا في أن شخصيات شكسبير تتنكر لمكانتها الخيالية بجذب الانتباه
إليها. تبدو كليوباترا واقعية لنا لأنها تزدري الممثلين الصبية الذين ربما يلعبون دورها
(طالع الخرافة الخامسة والعشرين). ويظهر عُطيل واقعيًّا؛ لأنه لو كان دوره يملي عليه
القتال
حقًّا لعرف ذلك دون أي مُحَفِّز خارجي. ويبدو فابيان واقعيًّا في مسرحية «الليلة الثانية
عشرة» لأنه ما كان ليصدق خدعة مالفوليو لو مورست على خشبة المسرح. إن هذه الشخصيات تعرف
ماهية المسرحيات؛ ومن ثم فهم، من حيث التعريف، ليسوا في مسرحية.
لنرجع إلى الجزء الثاني من هذه الخرافة: الناس الحقيقيين. ينبغي أن نتذكر أن أغلب
النقد
الموجه إلى الشخصية يستند إلى الرواية. رغم أن الرواية شكل مُوَسَّط، فهي لا تمتلك وسيطًا
ماديًّا. أما الدراما، في المقابل، فتمتلك وسيطًا ماديًّا: يلعب جسد الممثل دور الوسيط
فيها. وعليه، فعلى مستوى بدائي جدًّا، من الصعب على الجماهير ألا يروا شخصيات شكسبير
بوصفهم
ناسًا حقيقيين؛ لأنهم على المسرح ناس حقيقيون بالفعل. والخلط بين المسرحية وشخصياتها
باعتبارهم حقيقيين، محط سخرية واحتفاء في آنٍ واحد في مسرحية «ترويض نمرة» (المطبوعة
عام
١٥٩٤)، وهي المسرحية التي تستقي مادتها نوعًا ما من حبكة شكسبير المثيلة في مسرحية «ترويض
النمرة». في كلتا المسرحيتيْن يشاهد كريستوفر سلاي السمكري السِّكِّير أول مسرحية له.
ولكن،
في واحدة منهما نراه يُقاطع الأحداث طالبًا ألا يعتقل الشرطي أحد الشخصيات ويصطحبه للسجن
(ومن الواضح أنها تجربة مألوفة نوعًا ما بالنسبة لسلاي). ويظن سلاي أن ما يراه واقعيًّا؛
فهو فرد ساذج من الجمهور وفرد مثالي من الجمهور في آنٍ واحد.
ومن الطرق الأخرى التي يمكن بها التعاطي مع هذه الخرافة القول بأن شكسبير لا يخلق
شخصيات،
سواء أكانت نابضة بالحياة أم خلاف ذلك، بل هو يكتب «أدوارًا»، و«الممثلون» هم الذين يخلقون
الشخصيات. ومن ثم، فعندما تُعَرِّف تافيتا «النبيل القح» في مسرحية «زقاق رام» (١٦٠٧)
للوردينج باري، نراها تقول: «شَكَّلَه تاجر أقمشة حريرية (أي أمده بالمادة الخام)، وحائك
يصنعه (أي جعل له شكلًا) / وممثل يمنحه الروح [أي ضخ فيه حياة]»
(F3v). وهذا هو الموضوع
الذي جرت مناقشته في فيلم وودي آلين «زهرة القاهرة الأرجوانية» إخراج عام ١٩٨٥. سيسيليا
(ميا فارو) ربة منزل تنتمي إلى عصر الكساد، تلتمس السلوى في ترددها المتكرر على دور
السينما. ويلاحظ البطل، توم باكستر (جيف بريدجز)، مشاهداتها المتكررة، ويقع في حبها،
ويترك
الشاشة ليكون برفقتها. ولأن الفيلم يستحيل أن يستمر من دونه، يتوصل الممثل جيل شيبارد
(جيف
بريدجز أيضًا) الذي خلق الشخصية لإقناع باكستر بالعودة. وثمة نقاش يترتب على ذلك حول
مَن
الذي خلق الشخصية. تسأل سيسيليا المرتبكة: «ألم يفعل ذلك الرجل الذي كتب قصة الفيلم؟»
يجيبها شيبارد: «نعم، من الناحية الفنية. لكنني جعلته يعيش وجعلت الحياة تدب فيه.»
أحد مقاييس قدر «النبض بالحياة» الذي تتسم به الشخصيات الخيالية هو الطريقة التي تكتسب
بها تلك الشخصيات حياة بَعْديَّة مستقلة عن المسرحية التي خَدَموا وَظِيفَة في حبكتها.
ومثال على ذلك السير جون فالستاف في مسرحية «زوجات ويندسور البهيجات» (طالع الخرافة الثامنة
والعشرين)، ومثال آخر السير أندرو أجويتشيك في ألمانيا خلال القرن السابع عشر، وشرفة
جولييت
في فيرونا مثال ثالث. لكن شخصيات شكسبير ليست فريدة في هذه الحياة البعدية؛ فالشخصيات
الأسطورية والشخصيات التي اختلقها تشوسر تمنح أسماءها لسلوكيات وتوجهات ومواقف وأعراض:
العقدة الجوردية، وعقدة أوديب، ومهمة هرقلية، وزواج يناير–مايو. وحقيقة أن الدراما لها
تاريخ طويل من كونها نابضة بالحياة تتجلى في محاولات عرقلتها في القرنين التاسع عشر
والعشرين: في الدراما الرمزية لمايترلينك وغيره، وفي تكنيك التغريب لبريشت على سبيل
المثال.
لقد انتهت صرعة الحديث عن الشخصيات وكأنها حقيقية بين النقاد الأدبيين لعدة عقود.
وبدلًا
من ذلك، اقتحم النقد مضمارًا آخر؛ ألا وهو التحديات المثيرة للبنيوية، وما بعد البنيوية،
والتأريخية الجديدة، والمادية الثقافية، والنسوية. ولقد جلبت هذه المدارس النقدية التجديدية
معها اكتشافات جديدة، لكنها جلبت أيضًا خطرًا جديدًا: ألا وهو أن مفرداتها المتخصصة جعلت
نقد شكسبير عصيًّا على القارئ ومرتاد المسرح العاديَّيْن، وكما قال آلان سينفيلد، فإن
تلك
المفردات هددت «بجعل الشخصية فئة غير ملائمة بالمرة للتحليل.»
10 كتبت هيثر دوبرو أن «الشخصية أمست فعليًّا كلمة بذيئة.»
11 وإذا لم تَعُدِ الشخصية بعدُ فئة مهمة جديرة بالتفكير، فإن صفة «نابضة
بالحياة/واقعية» لم تَعُدْ مصطلحًا مهمًّا جديرًا بالتحليل.
قد يرجع جزء من السبب وراء هذا التحول في
النموذج الكلي إلى التطور المهني للأدب الإنجليزي، بصفته مادة للدراسة الأكاديمية. إن
دراسة
الإنجليزية في الجامعات ترجع إلى قرن مضى وحسب، وكانت بدايات دراستها شاقة، حيث عُدَّت
بمنزلة كلاسيكيات الفقراء، وكان لها مفردات غير متخصصة وغير فنية، ولمَّا كانت قاصرة
بحد
ذاتها، فقد اضطرت إلى تعزيز ذاتها بالتحالف مع أقسام أخرى (كالتاريخ، والدراسات
الإسكندنافية). من بين المشكلات التي ينطوي عليها التفكير في الشخصيات باعتبارها نابضة
بالحياة (أو حتى التفكير في الشخصيات عمومًا) هو أن هذا هو ما يفعله الهواة («الهاوِي»
بالمعنى الحرفي للمحبين: الجماهير أو القراء الذين يستمتعون بالمسرحيات). كيف يمكن للمرء
أن
يبرر وجود قسم للإنجليزية بالجامعة إذا كان ما يقدمه هو ما يفعله القراء الهواة، دون
تدريب
ودون أي مقابل مادي؟ وعلى ذلك، فإن استبعاد الشخصية من النقاشات الأكاديمية خلال العقود
الأربعة الماضية ربما يرتبط بالمنافسة على فرض الهيمنة ما بين الأكاديميين المحترفين
وعامة
القراء (طالع الخرافة الثلاثين).
أظهرت السنوات الأخيرة مؤشرات على إحياء الاهتمام بشخصيات شكسبير. وهذا الاهتمام لا
يماثل
الاهتمام العتيق الذي كان يتعامل مع الشخصيات الخيالية وكأنهم أشخاص حقيقيون، بل هو محاولة،
على نحو أكثر دقة وتفصيلًا؛ لفهم الحدود بين التشخيص والتمثيل النابضين بالحياة، وبين
البراعة الفنية التي تجعل التمثيل أشبه بالتشخيص. إننا ندرك الآن أن الاهتمام بالتشخيص
النابض بالحياة واحد من الأشياء التي تميز شكسبير عن معاصريه. ومن ثم، فهو في مرتبة تسترعي
الانتباه.
هوامش