الخرافة الثالثة
هذا الاقتراح ساخر؛ إذ يُشير بلمسة من المحاكاة الساخرة إلى واحد من أبرز الشخصيات المسرحية الإسبانية — هيرونيمو — في واحدة من أقوى مسرحيات الحِقْبة الإليزابيثية، ألا وهي مسرحية توماس كيد «المأساة الإسبانية» (طالِع الخرافة الأولى). لقد كانت الملابس من البنود المُكَلِّفة، ولم تكن تُؤَجِّرها الفِرق المسرحية. والواقع أن العكس هو الصحيح؛ فكثيرٌ من الملابس كان مصدرها الحياة الواقعية. كانت الملابس الباهظة الثمن المواكبة للعصر يَهَبُها أرباب الأعمال الأثرياء للخدم (على سبيل المثال). وحَظَرَ قانون الإنفاق على الخدم ارتداء تلك الملابس (حيث ساوى القانون ما بين المكانة الاجتماعية وطبيعة الملبس والإكسسوارات، مُحَدِّدًا ما يمكن لكل فئة ارتداؤه، ومن هنا جاء تصوُّر فاوست الأناركي؛ إذ أَلْبَسَ الطلاب الذين لم يتخرجوا بَعْدُ حريرًا في «دكتور فاوست» لمارلو). وعليه، باع الخدم الملابس التي وَرِثوها إلى الممثلين، واستفادوا من الأموال.
تدور أحداث مسرحية بِن جونسون «الخيميائي» في الحِقْبة والمكان اللذَيْن كُتِبَت فيهما؛ لندن عام ١٦١٠. وكغيرها من أعمال الكوميديا المدينية، فهي تعتمد على الحالِيَّة: تَتَعَرَّض الأزياء المعاصرة للسخرية في المسرحيات بدايةً من مسرحية ديكر «إجازة الإسكافي» (١٥٩٩)، وانتهاءً بكوميديا فيليب ماسنجر الكارولينية «سيدة المدينة» (١٦٣٢). لكنَّ ثَمَّةَ دليلًا يُوحي بأنه حتى المسرحيات التاريخية كانت أكثر ملاءمةً للعصر من كونها دقيقةً تاريخيًّا من حيث ملابس شخصياتها.
لا توجد لدينا سوى صورة معاصرة واحدة لإحدى مسرحيات شكسبير: رسم تخطيطي لمسرحية «تيتوس أندرونيكوس»، رسمه الكاتِب هنري بيتشام (١٥٧٨–١٦٤٤) عام ١٥٩٥ تقريبًا. والرسم الذي عادةً ما يُعاد اسْتِنْساخُه مستقلًّا عن المخطوطة التي يظهر فيها يُشَكِّل شريطًا أفقيًّا بأعلى صفحة المخطوطة التي كَتَبَ عليها بيتشام أربعين بيتًا من المسرحية. يُصَوِّر الرسمُ تامورا، ملكة القوطيين، تَتَوَسَّل إلى تيتوس أن يُبْقِي على حياة أولادها، وفي أقصى يمين الصورة تقف شخصية آرون المغربي الملونة بالحبر الأسود، وفي أقصى يسار الصورة يقف جنديان، وفي المنتصف تيتوس والملكة الراكعة. من المستبعد أن تُمَثِّل الصورةُ أداءً فِعْلِيًّا (فالسجين آرون يُلَوِّح بسيفه على سبيل المثال!)، لكنها قد تضم بين جنباتها ذكرى لدى بيتشام لأداء «تيتوس» بقراءته للنسخة ذات قَطع الرُّبع التي نُشِرَت عام ١٥٩٤. ورغم أن الأداء المسرحي عند تلك المرحلة يقتضي ظهور ثلاثة أبناء لتامورا، فإن الإخراج المسرحي (عن خطأ) يُوَفِّر مدخلًا لاثنين فقط (طالع الخرافة الثامنة). وحقيقة أن بيتشام رسم ولديْن وحسب قد توحي بأنه كان يرسم نصًّا يُطالِعُه، لا أداءً يستعيده من الذاكرة. ولكن المَزْج الانتقائي الموجود في الرسم بين الأساليب والحِقَب من الأرجح أنه نابِعٌ من الذاكرة، لا من الخيال. ومن ثَمَّ فهو مفيد في الإيحاء بكيفية انتقاء الملابس لواحدة من تراجيديات شكسبير التاريخية في تسعينيات القرن السادس عشر.
إذا كانت الملابس المسرحية الإليزابيثية مَزَجَت ما بين العصري والتاريخي، فكذلك كان حال الأدوات المساعدة واللغة. ثمة ساعة تَدُقُّ برَنين فيه مفارقة تاريخية في مسرحية «يوليوس قيصر»، ويُرَى بروتوس المُؤَرَّق، الذي يَحيا في ثقافة اللَّفائف، «الورقة وقد انقلبت / حيث الموضع الذي تركتُ القراءة عنده» (الفصل الرابع، المشهد الثاني، البيتان ٣٢٤-٣٢٥). يروي جلوستر، أحد سكان بريطانيا القديمة في عصر الملك لير، نكتة عن النظارات التي عُرِفَت لأول مرة في إيطاليا في العصور الوسطى. ويلتحق هاملت ابن العصور الوسطى بالجامعة (ويتنبرج) التي لم يُوضَع حجرُ أساسها قبل عام ١٥٠٢. وفي مشهد حرب طروادة بمسرحية «ترويلوس وكريسيدا» يقتبس هكتور من أرسطو الذي عاش وكتب بعد هكتور بقرون عدة (كما يعترف المهرج بمسرحية «الملك لير»، «سيُحَقِّق ميرلين هذه النبوءة؛ لأنني أعيش قبل زمانه» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، البيتان ٩٥-٩٦)). كانت أعمال أرسطو من الكتب الأكاديمية الاعتيادية على أيام شكسبير، تمامًا كما كانت الساعات والكتب والنظارات، أشياءَ مألوفة. تَضْرِب مسرحياتُ شكسبير بجذورها في الحاضر. إن كان شكسبير كتب عن مدينة واحدة فقط — لندن (طالع الخرافة الرابعة عشرة) — فقد كانت تلك المدينة دومًا هي لندن «المعاصرة».
يَتَجَلَّى ذلك أكثر ما يتجلى في الأعمال الكوميدية؛ فنجد مسرحية «كوميديا الأخطاء» تُغير العبيد الذين يمكن التعرف على أنهم رومان في مصدرها المنسوب إلى بلاوتوس إلى الخُدام الإليزابيثيين الأكثر أُلْفَة. وتقاليد الزواج الإليزابيثيِّ بارزةٌ جدًّا في مسرحيات «حلم ليلة منتصف الصيف»، و«ترويض النمرة»، و«جَعْجَعَة بلا طِحْن». وفي العالم الكوميدي التراجيدي في مسرحية «روميو وجولييت»، تحيا جولييت حياة الابنة الإليزابيثية الثرية الْمُتَقَوْقِعَة على نفسها النموذجية. وكان من الطبيعي أن يُمَثِّل الفنانون الإليزابيثيون تلك المسرحيات باللِّباس الإليزابيثي.
أمِنَ الطبيعي إذًا أنه يتعين علينا أن نَحْذُوَ حَذْوَهم؟ على أية حال، كانت الملابس الإليزابيثية عام ١٥٩٠ ملابس عصرية. قد يُملي علينا منطقُ المساواة أنه يتعين علينا اليوم انتقاء ملابس عصرية لمسرحيات شكسبير. وبالفعل، نحا بعض الأعمال الإنتاجية الناجحة جدًّا هذا المَنْحَى؛ ففي عام ٢٠٠٤، وجَّهَ المخرج تريفور نان الممثل البريطاني بن ويشو للعب دور هاملت لأبناء جيل الثمانينيات وأوائل التسعينيات؛ فخرجت شخصية هاملت في زي طالب مراهق، يرتدي بنطالًا من الجينز وقبعة صغيرة زاهية الألوان، يفكر في الانتحار بينما يُحَدِّق في زجاجة دوائه المضاد للاكتئاب الذي وصفه له الطبيب. وكانت جيرترود (إيموجين ستَبْز) هي ذلك الاكتشاف الجديد في التسعينيات، أُمًّا لَعُوبًا. وفي هذه المسرحية، رقصت أوفيليا مرتدية زيها المدرسي وحدها في غرفة نومها، ومعها جهاز آي بود وسماعتا أذنين (وهو المشهد الذي استفز سخرية هاملت الكارهة للنساء لاحقًا، الموجهة إلى كل بنات جنسها، «أنت أيتها «المُغْوِيَة»». (الفصل الثالث، المشهد الأول، البيت ١٤٧؛ (التشديد من لدن ويشو)).
أقام كل من روي كينير (٢٠١٠) وديفيد تينانت (٢٠٠٨) نسختيهما لمسرحية «هاملت» في أجواء حَداثية واقعية بالمثل من حيث الملابس؛ فعندما ظهرت أوفيليا (في «هاملت» تينانت) في المشهد الذي أُصِيبَت فيه بالجنون، لا ترتدي سوى ملابسها الداخلية — حمَّالة صَدْر للصغار، قطنية، وردية اللون، بريئة المظهر، وسروالًا قصيرًا — تَجَلَّت البَذاءة الاجتماعية والضعف الشخصي لسلوكها الطائش بقوة أكبر مما كان يمكن أن توحي به أنشودة داعِرة فقط؛ فالمراهقة التي تتحدث (أو تُنْشِد) عن الجنس لا تصدمنا اليوم أو تثير قلقنا، أما المراهقة التي تظهر على الملأ بملابسها الداخلية فتفعل ذلك (غطت جيرترود أوفيليا بشالها في تعاطف). وفي نسخة «هاملت» التي أخرجها كينير، نجد أن دولة كلوديوس البوليسية أُعْرِبَ عنها بالمسئولين الذين يرتدون حللًا رسمية، ويحملون ألواحًا للكتابة، وأجهزة لاسلكية، وهم يتبادلون المعلومات ويتلقون التعليمات. وبالمثل، عندما تَسَلَّقَ روميو جُدران بُستان عِزْبة كابوليت في مسرحية «روميو وجولييت»، يَشُقُّ علينا تقدير الخطر المُحْدِق به؛ إذ يَدْلِفُ إلى أرض العدو. صفوف من شاشات المراقبة التليفزيونية الأمنية، وحراس الدوريات برفقة كلابهم الأَلْزاسِيَّة، كما في فيلم «روميو + جولييت» للمخرج باز لورمان، يُمَهِّدون للمشهد ويخلقون أجواء المسرحية بطرق نستوعبها نحن على الفور. إننا نعي في عصرنا هذا الإيحاءات الاجتماعية التي يَشِي بها اللِّباس الحديث، بينما لم نعد نعرف كيف «نقرأ» المكانة اللِّباسيَّة التي تَشِي بها الجِرابات الذَّكَرية.
إن أعمال المسرح الحداثي هي امتداد منطقي للملابس الحداثية؛ ففي مسرحية «حلم ليلة منتصف صيف»، يُفْصِح سناج النجَّار عن نفسه للجمهور (خشية أن يظنوه فعلًا الأسد الذي يُجَسِّده). وعندما أخرج كينيث براناه المسرحية عام ١٩٩٠، خلع سناج الذي أدى دوره كارل جيمس قناعه، وتقدم نحو جمع من الشباب حديثي الزواج من بين الجمهور، قائلًا: «اعلموا إذًا أنني سناج النجَّار.» (الفصل الخامس، المشهد الأول، البيت ٢٢١). وباشر تمثيله مُوَزِّعًا بطاقته المِهَنِيَّة؛ في ظل ثلاث زيجات جديدة، يبدو أنه كان يتوقع إجراء تحسينات منزلية كثيرة. لقد تَمَّمَتْ هذه اللَّفْتة المسرحية بإبداع المقطع الذي رافقها؛ إذ عَمِلا معًا من أجل تبديد الوهم المسرحي.
لا حاجة بأن ينتقل بنا التحديث إلى مكاننا وزماننا الحالييْن؛ فقد ثبت أن ثلاثينيات القرن العشرين وقت مناسب لإنتاجات أعمال شكسبير، ومثال ذلك فيلم «ريتشارد الثالث» للممثل البريطاني إين ماكيلين (إخراج ريتشارد لونكرين) الذي وازى ما بين الاستبداد المتصاعد للملك ريتشارد وصعود نجم الفاشية. وتبدو مسرحية «السيدان الفيرونيَّان» كوميديا مُلْتَصِقَة بشدة بزمانها، ونِتاج حِقْبةٍ آمَنَ أهلُها بأن الصداقة بين الرجال أهم من الحب بين الجنسيْن (طالع الخرافة العاشرة). وفي الفصل الأخير، يؤدي هذا الإيمان إلى تقلبات عدة، ليست نفسانية الدافع (من وجهة نظرنا)، واختزال واحدة من البطلات إلى شيء تتناقله أيدي الرجال. عندما أخرج ديفيد ثاكر المسرحية بفرقة شكسبير الملكية عام ١٩٩١، جعلها تدور في أجواء عالَم العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، مع ألحان كول بورتر، وجيرشوينز، وإرفينج برلين، وروجرز وهارت؛ لا العالم الواقعي، بل عالم هوليوود الموسيقي. وبذلك فقد استبدل مجموعة من التقاليد المتعارف عليها بمجموعة أخرى، لكنها هذه المرة تقاليد نفهمها ونقبلها.
تنطبق مخاوف شبيهة على التحديثات التي أُدْخِلت على مسرحية «جَعْجَعَة بلا طَحْن». يَتَجَلَّى مَأْزِق الإنتاجات العصرية في الفصل الخامس؛ إذ تَقْبل هيرو، بسلبية، الزواج من الرجل الذي نَبَذَها بسرعة وبِرِيبَة عند المَذْبَح في الفصل الرابع. عندما أخرج نيكولاس هايتنر المسرحية (المسرح القومي، ٢٠٠٧)، ابتكر هيرو ذات طابع خاص (بياتريس غير مكتملة النضج) يتعين إقناعها بتوبة كلاوديو الحقيقية قبل أن تقبل بمراسم الزواج المقبلة. وتحقق ذلك بالإضافة المحدودة إلى شخصية هيرو بجعلها مُتَنَصِّتَة في الفصل الخامس، المشهد الثالث؛ فقد رأت كلاوديو يرتدي قماشًا كالخَيْش، ويقرأ المَنْقُوش على ضَريح عَرُوسه المتوفاة (كما يُخَيَّل إليه)، ويستلقي على قبرها، وعندئذ أذنت إلى أبيها وإلى الراهب الكاثوليكي بمتابعة حبكة شكسبير. عندما حَدَّثَ برنامجُ «شكسبير في حُلَّة جديدة» لهيئة الإذاعة البريطانية مسرحية «جَعْجَعَة بلا طِحْن» عام ٢٠٠٥، فجعل أحداثها تدور في غرفة أخبار معاصرة (بي وبِن مذيعا الأخبار، وكلود على منصة بث الأخبار الرياضية، وكانت هيرو مذيعة أخبار الطقس)، سارت كل الأمور على خير ما يُرام «ما خلا» فكرة أن هيرو الفتاة المنشغلة بمستقبلها المِهَني تقبل عودة كلود لها في النهاية. (وعليه، قدمت لنا هيئة الإذاعة البريطانية هذا الحوار: «كلود»: ولكن، عندما تُتَاح لكِ فُسْحة من الوقت، ربما فكرتِ في الرجوع إليَّ مجددًا؟ «هيرو»: ماذا؟ أتقصد الزواج منك؟ مستحيل! ولو بعد مليون سنة. «كلود»: حسنًا، ربما ليس على المدى القصير، ولكن …) إن حقيقة أن الإنتاج المسرحي تَعَيَّنَ عليه إضافة حوار في تلك المرحلة، لبيان التوبة النفسانية لكلاوديو، ولتشجيع هيرو على قَبوله، وأن الإنتاج التلفزيوني تَحَتَّمَ عليه التصرف في هذه الجزئية، هذه الحقيقة تدل على الصعوبة المترتبة على هذه اللحظة من الحبكة عند نزعها من أجوائها المرتبطة بعام ١٦٠٠.
عادةً ما يُكَلَّل تحديث مسرحيات شكسبير السياسية والتاريخية بنجاح مُبْهِر، ربما لأن القفزات الزمنية مُدْمَجة بها بالفعل. لقد حُظِرَ على مؤلفي الدراما الإليزابيثيين الكتابة عن السياسة المعاصرة، وكانت تَبِعات فعل ذلك وَخِيمة (سُجِنَ جونسون للمشاركة في كتابة مسرحية السخرية الكوميدية «جزيرة الكلاب»، لأن تضمين شخصية ذات لُكْنَة اسكتلندية كان يُعَدُّ مُهِينًا لجار إنجلترا الملكي — الذي سرعان ما أمسى ملك إنجلترا — جيمس السادس). وعندما نشر جونسون تراجيديته الرومانية «سيجانوس» (١٦٠٣)، كانت تحوي ملاحظات هامشية وافرة تُدَلِّل على أن مادته الأصلية مُسْتَقاة من أعمال المؤرخ الروماني تاسيتوس. ويرى العلماء تلك المسرحية أيضًا مثالًا آخر لترويج جونسون المُتَعَمَّد لمؤهلاته العلمية، وربما كانت أيضًا دليلًا على رغبته الغريزية في حماية نفسه. وكأن الملاحظات تعلن: «انظروا! إنني لا أثير القلاقل السياسية: كل ما أفعله هو ترجمة أعمال تاسيتوس».
لم يكن لدى الإليزابيثيين صحف تحوي صفحة «رسائل إلى المُحَرِّر» يُعبرون فيها عن آرائهم السياسية. (فلم يكن من المفترض أن تكون لهم آراء سياسة؛ إذ كانت الدولة تحتكر الرأي السياسي بالنيابة عنهم). كانت الدراما الإليزابيثية هي صحافة ذاك العصر، وشأنُها شأنُ غيرها من ألوان الكتابة في دولة غير ديمقراطية، كانت تلك الأعمال خاضعة للرقابة. (كانت تتعين المصادقة رسميًّا على جميع المسرحيات قبل عرضها). وعليه فقد كانت أيسر وسيلة للكتابة عن السياسات المعاصرة — بل الطريقة «الوحيدة» للكتابة عن السياسات المعاصرة في حقيقة الأمر — هي الكتابة عن التاريخ، حتى أُخْضِعَت هذه الكتابات للرقابة أيضًا، بالإضافة إلى الأعمال الهجائية، وغيرها من الأشكال الأدبية الخطرة، بموجب حظر الأساقفة عام ١٥٩٩.
لم يكن لدى شكسبير من وسيلة مباحة لتناول أية جمهورية إلا إذا تناول روما الجمهورية. ولم يكن لديه طريقة جائزة للحديث عن الحكومة أو المَلَكية، اللهم إلا إذا كتب مسرحيات مثل «يوليوس قيصر» (التي تناقش الاستبداد المرتقب)، أو «ماكبث» (التي تصور طاغية)، أو «العين بالعين» (التي يَسْتَهِلُّها بقوله: «إن تحليل الجوانب المختلفة للحكومة يقتضي أن أُسْهِب في الحديث» إذ يُسَلِّم الدُّوق السلطة إلى نائبه)، أو «هنري الخامس» (التي تصوِّر مَلِكًا مُفَوَّهًا بارعًا بلاغيًّا يستعين بسُبُل مشكوك فيها أخلاقيًّا — غزو دولة أجنبية — لتحقيق غاية قومية). ويَبْزُغ نجم «هنري الخامس» في فترات الغزو الأجنبي. لقد كان رأي أوليفييه الإيجابي في هنري (لا يتحقق إلا بالاستقطاع الاستراتيجي المُوَسَّع من نص شكسبير) مساهمةً مهمةً في الجهد الحربي للحلفاء عام ١٩٤٤، وانْتُدِبَ أوليفييه من واجبات خاصة بالسلاح الجوي للأسطول من أجل هذا الجهد الحربي المختلف. وفي عام ١٩٨٦، أي بعد فترة وجيزة من حرب فوكلاند (١٩٨٢)، أخرج مايكل بوجدانوف جيش هنري وكأنه جَمْع من مشاغبي كرة القدم يخوض حربًا بأناشيد كرة قدم غير مُتَناغِمَة، وبشعار قومي متطرف («اللعنة على الضفادع»)، عَكَسَ أسلوبهم عناوين رئيسية مُسيئة بالمِثْل، من واحدة من الصحف الإنجليزية الصفراء. وتصدرت عناوين الصحف الصفراء هذه عينها عناوين الصحف ذات القَطع الكبير، بينما ناقش المُعْرِضون عن مطالعة الصحيفة المُسيئة التوجهات المناسبة التي يتعين خوض الحرب بها. ولم يكن التوجه النبيل ونبرة مَشاهد بوجدانوف الفرنسية — حيث صُوِّرَ أحدُها على هيئة لوحة انطباعية — ليقدم مقابلةً أوضح. لقد كان إنتاج أوليفييه المُحَدَّث للمسرحية مُناصِرًا للإنجليز، بينما كانت نسخة بوجدانوف ناقدة للإنجليز (كانت، كما عَلَّقَ أحد النقاد، أول إنتاج مسرحي يتمنى فيه المرء فعلًا لو ينتصر الفرنسيون). ولكن في كلتا الحالتين، كانت سياسة شكسبير مُعاصرة.
لقد كانت مسرحيات شكسبير، بالنسبة إليه وإلى جمهوره أيضًا، أعمالًا درامية تناقش القضايا الْمُعاصرة بالغة الأهمية: مكانة المرأة، ودور الزواج، ومسئوليات الملك، وواجبات المواطنين، وأخطار الحرب الأهلية، وأخلاقيات الغزو الأجنبي. وسواء أألبسنا الممثلين لباسًا حديثًا أم لباسًا إليزابيثيًّا فالفارق طفيف. ولا يمكننا إخفاء قابلية التطبيق المعاصرة للمسرحيات؛ فلذلك، على أية حال، ما زلنا نؤدي تلك المسرحيات.