خاتمة
من بين الأسئلة التي غالبًا ما تُطْرَح علينا، باعتبارنا باحثين في فضاء شكسبير أو
مدرسين
لأعماله: أما من شيء جديد يمكن أن نضيفه عن شكسبير حقًّا؟ بالنظر إلى أن شكسبير هو المؤلف
الأكثر طلبًا في العالم حيث تصدر الآلاف من المنشورات عنه سنويًّا، فهذا سؤال منطقي جدًّا.
وحقيقة الأمر هناك الكثير الذي يمكن أن يُقال ويُعْرَف عن شكسبير بعد.
في عام ١٨٢٣، اكتُشفت نسخة قطع الرُّبع الأولى من مسرحية «هاملت» (المنشورة عام ١٦٠٣).
(عُثِرَ إلى اليوم فقط على نسختين وحسب من هذه الطبعة). ولقد بَدَّلَ هذا النص الموجز،
بما
يشتمل عليه من أحداث ولغة متغايرين، ما نعرفه وما ظننا أننا نعرفه عن كيفية عرض مسرحية
«هاملت» لأول مرة، وكيفية انتقال النصوص، أو ما ربما غَيَّرَه أو لم يغيره شكسبير أو
فرقته
في المسرحية. ما زالت الأسئلة التي يطرحها وجود نسخة قطع الربع الأولى من مسرحية «هاملت»
محل نزاع وخلاف، لكن لا خلاف على أن نسخة قطع الربع الأولى هذه دليل مهم جدًّا في عملية
البحث الجارية عن جواب.
إن الاكتشافات الجديدة كهذه لا نصادفها كل يوم. لكن الخطوات الصغيرة التراكمية لا
تقل
أهمية عن التحولات النموذجية؛ فكثير من هذه الخطوات تتحقق بدراسة معاصري شكسبير والظروف
التي أحاطت به.
منذ عشر سنوات، أشار ماكدونالد جاكسون إلى تسمية مسرحية «الأمور بخواتيمها» غير المألوفة
لشخصية في كتيبة إسبانية-إيطالية ﺑ «سبوريو»
(المزيف). ورد اسمه مرتيْن (الفصل الثاني، المشهد الأول، البيت ٤١ – الفصل الرابع، المشهد
الثالث، البيت ١٦٦) ولو أنه لا يظهر فعليًّا في المسرحية. والاسم غير مألوف، ولا وجود
له
إلا في موضع واحد فقط في دراما عصر النهضة؛ تحديدًا في مسرحية ميدلتون «مأساة المنتقم»
(١٦٠٧) حيث يتسق الاسم والمنطق رمزيًّا وينطبق على الابن غير الشرعي (المزيف) للدوق.
ولقد
أفضى ذلك بجاكسون إلى استنتاج أن الاسم نشأ على يد ميدلتون ومن ثم التقطه شكسبير. ويفيدنا
هذا بتأريخ مسرحية «الأمور بخواتيمها» بما بعد عام ١٦٠٦ بدلًا من التأريخ المعتاد لها
بعام
١٦٠٢. وربما كانت هناك حتى مزحة ذات خصوصية في استخدام شكسبير للاسم. ورغم أن «سبوريو»
هو
اسم الابن غير الشرعي للدوق في مسرحية ميدلتون، فلا يُذْكَر قط في حوار مسرحية «مأساة
المنتقم» (يَرِد اسمه فقط في الإرشادات المسرحية)، ولكن على الجانب الآخر نجد أن «سبوريو»
عند شكسبير مذكور في الحوار لكنه لا يظهر في أحداث في المسرحية. ويشير ذلك إلى أُلْفَة
شكسبير لنص مكتوب لمسرحية «مأساة المنتقم»، سواء في هيئة مخطوطة (افترض جيري تايلور أن
شكسبير ربما مَثَّلَ في مسرحية ميدلتون التراجيدية)
1 أو في الطبعة الأولى لها الصادرة عام ١٦٠٧/١٦٠٨. إن إعادة تأريخ مسرحية «الأمور
بخواتيمها» بترحيلها مستقبلًا خمس سنوات يخرجها من مجموعة «المسرحيات الثلاثة الإشكالية»
الصادرة بين عاميْ ١٦٠١ و١٦٠٤، وهي الفترة التي لم توائمها قط (المسرحيتان الأخريان هما
«ترويلوس وكريسيدا» (١٦٠٢) و«العين بالعين» (١٦٠٤)) ويجعلها واحدة من أوائل مسرحيات شكسبير
الأخيرة (وهي فئة خاضعة للتمحيص أيضًا: طالع الخرافة العشرين). النقطة المهمة ها هنا
هي أن
قراءة مسرحية لميدلون تُغيِّر فهمنا لمشوار شكسبير الأدبي.
المشروعات الرقمية ما زالت تُبَدِّل هي الأخرى مشهدنا على نحو مهول ومتسارع؛ فالإحصاءات
الخاصة بمفردات شكسبير وإحصاءات معاصريه لم تَعُدْ تُعَوِّل على الطبعة الأولى من «قاموس
أكسفورد للغة الإنجليزية» المتمحورة حول شكسبير (طالع الخرافة الحادية والعشرين). وتم
الآن
رَقْمَنَة الرسائل الخاصة، وكذلك كتابة النساء للمخطوطات. ومن ثم فإن سياقاتنا الخاصة
بشكسبير توسعت على نحو هائل.
إننا على يقين من أن هناك معلومات حقيقية جديدة ما زالت لم تُكْتَشَف بعد عن
الإليزابيثيين الذين نود دراستهم. والمملكة المتحدة زاخرة بأرشيفات لم تُسْبَر أَغْوارُها
بَعْدُ، بانتظار الباحثين الدءوبين والرَّقْمَنَة، ومثال تلك الأرشيفات النقابات المهنية
بلندن. ورغم أن شكسبير لم يكن عضوًا بنقابة مهنية، فقد كان كثير من معاصريه ينتمون إلى
تلك
النقابات، وكان لكل طائفة مهنية سجلات موسعة أغلبها غير منشور أو منشور بانتقاء وحسب.
كشف
ديفيد كاثمان عن أسماء الممثلين في السجلات النقابية، مضيفًا إلى معارفنا عن سير حيواتهم
وأنشطتهم. وتَعِد سجلات الجنازات بنتيجة مثيلة أيضًا، وهي قوائم ورسوم بيانية موسعة موجودة
في «كلية الأسلحة» لكل من سار في جنازة شخص مهم. وعليه فهي تمكننا من رؤية شبكات معارف
كل
شخص.
خارج لندن، تعكف فرق الباحثين من مشروع «سجلات الدراما الإنجليزية المبكرة» في تورونتو
على شق طريقها عبر سجلات المقاطعة، حيث دونوا الوثائق (الدفعات المالية التي تلقاها
الممثلون، وأسماء الفرق المسرحية الزائرة)، فقدموا لنا صورة ثرية للتفاعل ما بين الدراما
في
لندن وبين المقاطعات. وعلى سبيل المثال، دعم باحثو مشروع «سجلات الدراما الإنجليزية
المبكرة» كتاب سالي-بيث ماكلين وسكوت ماكميلين «رجال الملكة» الذي فاز بجوائز؛ في كتابهما
حَلَّلَ الباحثان مسارات الجولات الفنية المنتظمة لفرقة «رجال الملكة»، واحتجَّا بأن
التجول
كان نشاطًا راقيًا، لا شيئًا لجأ إليه الممثلون، كما شاع في السابق، عندما منعهم الوباء
من
تقديم مسرحياتهم في لندن. (إن تشويه سمعة المقاطعات موقف يتسم به القرن التاسع عشر، وهو
نتاج نظام قديم جعل من لندن عاصمة الثقافة المسرحية البريطانية.)
وتنزع البيوت والمساكن الراقية التي ظلت موروثة للعائلة نفسها لأجيال إلى امتلاك
مجموعات
ضخمة من الوثائق المخطوطة. ومثال من التاريخ الأدبي الحديث سيثبت كم كانت تلك المخزونات
الخاصة زاخرة. كتبت فيتا ساكفيل-ويست دون اختزال، واحتفظت بجميع مخطوطاتها: «الكتب المنشورة
وغير المنشورة، والمفكرة التي دونت فيها أحلامها، ومقالاتها في مجال البَسْتَنَة، وآثارها
الأدبية التي ترجع إلى فترة الصبا، وأشعارها، وقصصها، ومسرحياتها، ومقالاتها النقدية
بكميات
هائلة. ويبلغ إجمالي تلك الذخائر حوالي ٩٠٠٠ صفحة.»
2 استقر هذا الأرشيف في قلعة سيسينجهيرست لأربعين سنة حتى باعه ابنها نايجل
نيكلسون بمزاد سوذبيز في العاشر من يوليو عام ٢٠٠٢. وهناك أرشيفات لم تُبَع لأكثر من
٤٠٠
سنة؛ ففي عام ٢٠١٠، أحرزت كاثرين دنكان-جونز كشفًا عظيمًا في أرشيفات قلعة بيركلي، عبارة
عن
دليل يوحي بأن ويليام كيمب، المهرج الشهير لدى فرقة شكسبير خلال تسعينيات القرن السادس
عشر،
كان حيًّا وما برح يزاول مهنته حتى نوفمبر ١٦١٠. وكان اكتشاف دنكان-جونز في سجلات عائلة
هنري البارون السابع لبيركلي (١٦١٣–١٥٣٤) الذي سجل خادمه أنه في أواخر نوفمبر عام ١٦١٠
«استقر سيدي في لندن»، حيث دفع «كمكافأة لويليام كيمب الذي تتعهده سيدتي السيدة هانسدونز
بالرعاية أربعة شلنات وأربعة بنسات».
3 بعد أن اعتزل كيمب المسرح، من الواضح أنه عثر على من يرعاه في بيت خاص. تكمن
هذه الشذرة «المسرحية» في السجلات المالية للأسرة التي تعهدته بالرعاية.
وعلاوة على المخطوطات المنزلية، فالمنازل الفخمة عادة ما كانت تحوي مكتبات ضخمة. ورغم
أن
مجموعات كتبها مفهرسة، فإن هذه الكتب لم تُفْتَح كلها، ولم يَسْبُر أحدٌ أَغْوار جميع
صفحاتها. ما بَرِحَ الباحثون يجدون كتبًا تحوي توقيع بِن جونسون في الورقة البيضاء في
صدر
الكتاب. وذات يوم سنعثر على كتب تحمل توقيع شكسبير.
ولكن كثيرًا من الاكتشافات الجديدة لا تنشأ من الاكتشافات الفعلية، بل من التغير في
الموقف الأكاديمي؛ فقد صيغت المقالات التي تتناول شكسبير في أوائل القرن العشرين وفقًا
لإجراءات علمية، فانتهت بالعبارة الظافرة «وبناءً على ما تقدم يمكننا أن نرى أن …» وكأن
ورقة عباد الشمس لشكسبير قد بدلت لونها على نحو حاسم. يرى الباحثون الأدبيون في عصرنا
هذا
قيمة في طرح أسئلة دون الحاجة إلى صياغة إجابات منمقة؛ فنحن نرتاح بقدر أكثر إلى بيان
أوجه
التعارض والتضارب والفجوات، وأمسينا بارعين في التعامل مع النتائج غير المتسقة. ويمكننا
ذلك
من بحث الدليل السلبي: على سبيل المثال، لِمَ لم يكتب شكبير شعرًا دينيًّا (طالع الخرافة
السابعة)؟ يبدأ البحث المهم غالبًا بتغيير الأسئلة التي نطرحها.
إذا كان الأكاديميون يُمضون وقتًا نافعًا في الأرشيفات، فهم يحققون منفعة مثيلة من
زياراتهم للمسرح. بالتأكيد لاحظت كم مرة تناولنا في هذا الكتاب الإنتاجات المسرحية لإثبات
مبدأ ما؛ كيف أفلحت فكرة ما في الأداء أو كيف اكتُشِفَت فكرة ما أثناء العرض. إن المسرح،
وهو أبعد ما يكون عن البيئة العدائية، يقف على قدم المساواة مع العمل الأكاديمي؛ فالإنتاجات
المسرحية، شأنها شأن الكتب، هي تفسيرات لشكسبير بناءً على دراسة وثيقة للنص. والتفاعل
متبادل. ومثال ذلك إنتاج مسرحية «كاردينيو» عام ٢٠١١ في ستراتفورد-أبون-أفون. سبق أن
ذكرنا
في الخرافة السابعة عشرة أن هذه المسرحية المشتركة التي ألفها شكسبير بالتعاون مع فليتشر
في
آخر مشواره الأدبي، وتحديدًا عام ١٦١٣، مفقودة. (ظلت مخطوطتها موجودة حتى القرن الثامن
عشر
عندما استخدمها طبَّاخ ويليام واربيرتون في صورة ورق خَبْز). إننا نعلم مصدرها («دون
كيشوت»
لسرفانتس)، ونعلم أن لويس ثيوبولد اقتبس مسرحية فليتشر-شكسبير عام ١٧٢٧ وحولها إلى مسرحية
«زيف مزدوج». وبما أن لدينا الأصل والصورة المقتبسة — إضافة إلى شيء من الموسيقى التي
عثر
عليها مؤخرًا المؤرخ مايكل وود
4 — فينبغي أن يكون من الممكن خلق تقريب للصلة الوسيطة المفقودة. وهذا ما فعله
جريج دوران عام ٢٠١١ بالضبط حيث تعاطى مع المصدر والمسرحية المقتبسة وأكاديمي ومؤلف مسرحي
بغية إنتاج نسخة من المسرحية المفقودة قابلة للتمثيل على خشبة المسرح.
5 وعلى ذلك، فما زال هناك الكثير الذي يمكن الكشف عنه بخصوص شكسبير؛ فعليًّا في
الأرشيفات، واستنباطيًّا في المسرح. لاحظ كيف أن جميع التطورات المثيرة التي نستشهد بها
هنا
وقعت في السنوات العشر الأخيرة: طبعة ميدلتون، والإشارة إلى كيمب، وإعادة تأريخ مسرحية
«الأمور بخواتيمها» (وكذلك مسرحية «السير توماس مور»، طالع الخرافة السابعة عشرة)، وموسيقى
روبرت جونسون الخاصة بالمسرحية المفقودة. ومن الواضح أن نطاق دراسات شكسبير ما بَرِحَ
حافلًا بمفاجآت جَمَّة.
تنطوي الاكتشافات المستقبلية أيضًا على فهم لمعتقدات الماضي والحاضر — وهي ما سميناها
«الخرافات» — التي تمثل الأثر الثقافي لهذه الفرضيات علينا وعلى شاعرنا الوطني. وقد حاولنا
في هذا الكتاب تسليط الضوء على الرحلة باتجاه الاكتشافات بدلًا من الوجهة، والقراءة بدلًا
من الخلاصة. وطوال هذه الفصول الثلاثين، انصبت عنايتنا على كيفية تشكيل المعنى التفسيري
وإعادة تشكيله، وكيفية استخدام الدليل عينه بطرق عدة، واستثمارنا في القصص التي نقصها،
وكيفية نشأة تلك القصص أو الخرافات، والجاذبية التي تمارسها على الناس، وماهية الدليل
الذي
يمكن استخدامه لدحضها أو تأكيدها. ولعل الخرافة الكبرى، مع ذلك، هي خرافة يخلدها كتابنا
أيضًا — فيما خلا في هذا الإنذار الأخير. من الممكن غالبًا أن تحل الخرافات المحيطة بشكسبير
محل نصوصه نفسها؛ ففي القرن التاسع عشر مَيَّزَ هازليت بين نصوص شكسبير والتعليقات عليها
قائلًا: «إن أردنا أن نعرف قوة العبقرية البشرية فعلينا قراءة شكسبير. وإن شئنا أن نرى
تفاهة التعلم البشري، فربما علينا دراسة التعليقات على أعماله.»
6 إن ازدواجيته متطرفة — العبقرية في مقابل التفاهة — لكن مبدأه العام سليم: لا
يوجد بديل للمعرفة الوثيقة بالنص. ولقد صَدَّرَ هيمنج وكوندل طبعتهما المُجَمَّعَة
للمسرحيات عام ١٦٢٣ بأمر صريح: «اقرءوها مرارًا وتكرارًا.» وبعدها بأربعمائة عام، من
الصعب
أن نجد نصيحة أكثر سدادًا.
هوامش