الخرافة الرابعة
لم يكن شكسبير مهتمًّا بأن تُطْبَع مسرحياته
إذا دَلَفْتَ إلى أية مكتبة في عصرنا هذا، فستلاحظ أن شكسبير يحتل قسمًا خاصًّا به
فيها.
وفي كل عام، تنتشر نسخ من مسرحيات شكسبير المنفردة، أو من الأعمال الكاملة في سوق نشر
شديدة
التنافسية (والربحية). ورغم أن وجهة الكاتب الدرامي، على خلاف الروائي، هي أن تُؤَدَّى
أعماله، لا أن تُطْبَع، فإن النشر بالنسبة إلى الكُتَّاب الدراميين في عصرنا هذا هو منتجٌ
نهائي مرغوب، وتأكيدٌ لحضورهم المسرحي ومكانتهم الأدبية؛ فالجانبان مرتبطان: الدراما
هي
الأدب. لكن الحال لم يكن كذلك في إنجلترا على أيام شكسبير، ولو أن تلك الفترة ربما تقف
دليلًا ساطعًا على العملية التي تَحَوَّلَ بموجبها أحدُهما إلى الآخر. وعليه فإن التفكير
بشأن مسرحيات شكسبير المطبوعة ينطوي على تأمل الهُوِية الأدبية، ومفاهيم المهنة وقوانينها،
ومعنى أن يكون المرء «مؤلفًا». كل هذه كانت قضايا جديدة لأي شخص يكتب الدراما في أواخر
القرن السادس عشر.
لم يكن لدى إنجلترا دراميون محترفون (أو دراما) قبل القرن السادس عشر. فقد كانت دراما
العصور الوسطى هاوية، وكانت الأسرار (الاسم «سِر» mystery
يعني «تجارة» trade) مسرحيات إنجيلية
قصيرة تُشَكِّل جزءًا من دورة طويلة تعرضها
سنويًّا الطوائف التجارية. (للاطلاع على مقاربة حديثة رائعة لدراما العصور الوسطى، راجع
مسرحية أنطوني مينجيلا «زلاجتان وشغف»). وجالت المسرحيات والفواصل الأخلاقية غير الإنجيلية
من بلد إلى خر، لكن الممثلين لم يكونوا محترفين بالمعنى الذي نعيه؛ فقد كانوا ملحقين
بمقر
أحد اللوردات، وكانوا يتجولون عندما لا يُحْتاج إليهم، وكانت الجولة ترتقي بمكانتهم
الثقافية، وتوفر عليهم نفقات معيشتهم. لكن العمل الترفيهي لم يكن يعتمد دومًا على فرقة
مقيمة. في أوائل القرن السادس عشر، مَثَّلَ مسرحية هنري ميدوول «آل فولجين ولوكريس»،
بوصفها
شكلًا من أشكال ترفيه ما بعد العشاء، أفراد عائلة الملك هنري الثامن في قصر هامبتون.
وأُلِّفَت أول مسرحيتين كوميديتين، وهما «رالف رويستر دويستر» و«إبرة جامر جيرتن»، في
منتصف
القرن السادس عشر، بحيث يؤديهما على الترتيب طلبة المدارس وطلبة الجامعات.
كان العام هو ١٥٧٦ قبل إنشاء أول مبنى في تاريخ لندن لأغراض التمثيل المسرحي، وهو
«المسرح»، على يد جيمس بيربيج على الجانب الشمالي من نهر التيمز في منطقة فينزبري فيلدز
بمقاطعة شورديتش (والمسرح حاليًّا مُقام على حدود إزلنجتون-إي سي١). وتبعه خلال عام مسرحٌ
جديد باسم «كيرتن ثييتر» في الموقع عينه، وبعدها، على الجانب الجنوبي من النهر، أُقِيم
مسرح
«روز» بحي ساذورك عام ١٥٨٧. وبالتزامن مع المسارح الدائمة، ظَهَرَ الممثلون المحترفون
في
فِرَق كُبرى (١٢ فرقة على الأقل، وبلغ عددها أحيانًا ٢٠ فرقة) تحت الرعاية الاسمية لأحد
اللوردات: «رجال وستر»، و«رجال ديربي»، و«رجال ساسيكس»، و«رجال تشامبرلين». وفي ظل العروض
اليومية للمسارح (فيما خلا أثناء الصوم الكبير، وعندما أَغْلَقَ الوباءُ المسارح) سنحت
الفرص للكُتَّاب لإمداد المسارح بأكثر من أربعين مسرحية سنويًّا (يشير هذا الرقم من مذكرات
هينسلو إلى الفترة من ٢٧ ديسمبر عام ١٥٩٣ حتى ٢٦ ديسمبر عام ١٥٩٤؛ طالع الخرافة السابعة
عشرة). لكن مفهوم المؤلف الدرامي بوصفه يشير إلى مهنة محترمة لم يكن راسخًا بعدُ؛ فقد
وُصِفَ مارلو ﺑ «الشاعر والمؤلف المسرحي البذيء»؛ فكانت للتأليف المسرحي صفة مُحَقِّرَة،
أما الشعر فلا.
كان مفهوم المهنة الأدبية، «المزعومة»، آنذاك شاعريًّا، وقائمًا، في أغلب الظن، على
نموذج
المؤلف الكلاسيكي فيرجل. أذاع الشباب الشعر في بلاط الملك، وقرأه أصدقاؤهم، غير أنه لم
يُنْشَر. أو إنه، بالأحرى، نُشِرَ (أي أصبح شعبيًّا: هذا هو المعنى الحرفي للفعل
«نَشَر»
publish) على هيئة تداول للنسخ المخطوطة. وكان
ذلك ينطبق على الطبقة الدنيا للسلم الاجتماعي أيضًا؛ فمن الواضح أن بعض سونيتات شكسبير
كانت
متداولة عام ١٥٩٨، حينما أثنى فرانسيس ميريس على شكسبير، واصفًا إياه بأنه «أوفيد» الجديد:
«انظروا إلى قصيدتيه: «فينوس وأدونيس»، و«اغتصاب لوكريس»، وإلى سونيتاته العذبة التي
يتداولها أصدقاؤه المقربون، وغير ذلك.»
1 كانت قصيدتا «فينوس وأدونيس» و«اغتصاب لوكريس» مطبوعتين آنذاك، أما السونيتات
فلم تكن مطبوعة، وعليه لم يكن لِمِيريس أن يتعرف عليها إلا في مخطوطات مكتوبة بخط
اليد.
لقد عَقَّدَت الطباعة مسألة «الأدب»؛ لأن الشعر اقتحم معه السوق. وأساء إلى سُمعة
الشعر
«الكسب القذر» والتوافر العشوائي للأشعار، وتداولها المختلط، وتحويلها إلى سلعة. وحسب
واحد
من الأمثال الإليزابيثية: «المَخْطوطة عذراء، والمطبعة عاهرة».
2 والسلبية نفسها الْتَصَقَت بالأعمال الدرامية المُجسَّدة على المسرح؛ فلأن
العامة كانوا يدفعون لقاء مشاهدة المسرحيات، عُدَّت التجربة مُعاملة تجارية بعيدة كل
البعد
عن العالم الخاص النبيل لشعر البلاط الملكي. ثمة نسخة من نص مسرحية «ترويلوس وكريسيدا»
عام
١٦٠٩ حملت بين دَفَّتَيْها رسالة استهلالية، ربما بقلم ناشرها، تَعِد ﺑ «مسرحية جديدة
لم
تُدَنِّسها خشبة المسرح قط، ولم تعبث بها براثن الغوغاء قط»: مسألة كون المسرحية لم تُؤدَّ
على خشبة المسرح — وهي معلومة غير صحيحة،
والنسخة البديلة تحوي صفحة عنوانها عبارة «كما مثَّلَها خُدَّام جلالات الملوك بمسرح
جلوب»
— مطروحة هنا باعتبارها سمة جذابة للقُراء المحتملين المتميزين بجلاء من غيرهم من «الغوغاء»
مرتادي المسارح.
كثيرٌ من المجموعات الشعرية الإليزابيثية وصلت المطابع بعد وفاة مؤلفيها، فيتبرأ
المؤلف
بذلك من الترويج لذاته. تُوُفِّيَ السير فيليب سيدني عام ١٥٨٦، ونُشرت سلسلة سونيتاته
المعنونة «أستروفيل وستيلا» عام ١٥٩١. ووصلت مجموعات شعرية أخرى المطبعة برفقة مواد
استهلالية تدلل على تردد المؤلف في النشر، واستسلامه في نهاية المطاف إلى توسلات أصدقائه.
وتخبرنا صفحة عنوان سلسلة سونيتات توماس واطسون «هيكاتومباثيا»، المنشورة عام ١٥٨٢، بأن
القصائد «من تأليف توماس واطسون النبيل، ونُشِرَت بناءً على طلب مجموعة من أخلص أصدقائه
النبلاء.» واحتوت مجموعات شعرية أخرى على إهداءات ورسائل تمهيدية مُنَمَّقَة، فتجعل المُجلد
تَقْدِمَةً لشخصية أرستقراطية ما، وهديةً إلى راعٍ، لا مشروع نشر. جدير بالذكر أن أول
عمليْن منشوريْن لشكسبير كانا قصيدتيْن، واندرجا تحت تلك الفئة الأخيرة: أُهْدِيَت قصيدتا
«فينوس وأدونيس» (١٥٩٣) و«اغتصاب لوكريس» (١٥٩٤) كلتاهما إلى إيرل ساوثهامبتون (طالع
الخرافة السادسة عشرة). ولا تُحَدِّد صفحتا العنوان للقصيدتين مؤلفهما، لكن الرسائل
المُهداة إلى الراعي مَمْهُورتان بهذا التوقيع: «المُخْلِص لفَخامَتكم [لوكريس: المخلص
لسيدي اللورد]، ويليام شكسبير». وعليه، فرغم أن صفحتَيِ العنوان مجهولتا المؤلف، فالمجلدان
ليسا كذلك.
3
عندما طُبِعَت مسرحيات شكسبير، لم تحتوِ على رسائل استهلالية. لم تكن الرسائل الاستهلالية
للأعمال الدرامية اعتيادية، لكنها لم تكن غريبة بالمرة أيضًا؛ فقد خَطَّ وبستر رسالة
استهلالية لمسرحيته «الشيطان الأبيض» (١٦١٢)، استعرض فيها آراءه عن التراجيديا، وطَرَحَ
فيها تاريخ استقبال الجمهور لهذه المسرحية، وكتب جونسون رسائل استهلالية لمسرحيتيْه:
«فولبون» (١٦٠٦)، و«كاتيلين» (١٦١١)، وغيرهما. وتشير ضروب أخرى من المواد الاستهلالية
للمسرحيات إلى مشاركة المؤلف في عملية النشر، أو موقفه منها؛ فقد أهدى جون مارستون مسرحيته
«الناقم» إلى بن جونسون، وعندما نشر جونسون مسرحيته «سيجانوس» عام ١٦٠٥ أسهم مارستون
بقصيدة
استهلالية لطبعتها، وكتب جون فورد أبياتًا مدحيَّة لمسرحيات ماسينجر ووبستر وغيرهما.
ولا
تحوي مسرحيات شكسبير مواد شبيهة. ولو كان شكسبير مهتمًّا بطباعة مسرحياته، ألم يكن من
المتوقع أن نراه يُصَدِّرها بشيء من المديح والثناء كما فعل في قصائده، أو كما فعل غيره
من
مؤلفي الدراما في مسرحياتهم؟
ليس بالضرورة. تخبرنا الإحصاءات بقصة مثيرة. تتصدر الإهداءات خمس مسرحيات فقط من
المسرحيات المطبوعة بين عامَيْ ١٥٨٣ و١٦٠٢ (بنسبة ٥٪)، وبين عاميْ ١٦٠٣ و١٦٢٢ يزداد عدد
المسرحيات ذات الإهداءات إلى ٢٢ مسرحية (بنسبة ١٩٪ من الدراما المطبوعة)، وبين عاميْ
١٦٢٣
و١٦٤٢ يقفز العدد إلى ٧٨ مسرحية (بنسبة ٥٨٪).
4 والأرقام مثيلة بالنسبة إلى المواد شبه النصيَّة، كقوائم الشخصيات على سبيل
المثال. لقد كانت الدراما تطور لنفسها هُوِيَّة مطبوعة، ولكن على مهل.
وربما تفسر الهوية الناشئة أيضًا الطريقة المُشَوَّشة التي تُعَرِّف بها صفحاتُ العناوين
مؤلفي المسرحيات؛ فلم تحوِ أوائل مسرحيات شكسبير التي نُشِرت، اسمَه بصفحة العنوان؛ فقد
كانت الميزة الترويجية للمسرحية هي الفرقة المسرحية التي أدتها: كانت الميزة التسويقية
التي
ضَمِنَت النجاح لمسرحية مطبوعةٍ ما هي المسرح الذي كُلِّلَت بالنجاح على خشبته بالفعل.
نُشِرَت مسرحية «تيتوس أندرونيكوس» عام ١٥٩٤، وتَبِعَتْها مسرحيات «ريتشارد الثاني»،
و«ريتشارد الثالث»، و«روميو وجولييت» عام ١٥٩٧. ولم تذكر أيٌّ من تلك الطبعات أن مؤلفها
هو
شكسبير، لكنها جميعًا ذكرت اسم الفرقة التي أدت المسرحية. وفي عام ١٥٩٨، تَسَلَّلَ
تَحَوُّلٌ إلى المشهد؛ فعندما أُعِيدَ نشر مسرحيتَيْ «ريتشارد الثاني» و«ريتشارد الثالث»
ذاك العام، رَوَّجَتا لشكسبير باعتباره مؤلفهما، وكذا فعلت النسخة المُعادَة طباعتُها
عام
١٥٩٨ من مسرحية «الحب مجهود ضائع» (نفدت الطبعة الأولى)، ولو أن صياغتها «صحَّحها ونقَّحها
حديثًا ويليام شكسبير» مُلْتَبِسَة فيما يختص بما إذا كان شكسبير هو الذي ألَّفَ النص
الأصلي أم نَقَّحَه وحسب. لكن تقديم اسم شكسبير على صفحة العنوان ليس مُتَساوِقًا. خلال
حياة شكسبير، كانت هناك ٣٩ طبعة لست عشرة مسرحية من مسرحياته: تذكر ٦٦٪ فقط من هذه الطبعات
عبارة «كتبها ويليام شكسبير»، أو «صحَّحها حديثًا …» أو «نقَّحها حديثًا ويليام شكسبير».
لم
يكن مفهوم المؤلف بعدُ من متطلبات صفحة العنوان. ويستحيل أن يُعْتَد بإخفاء الهوية دليلًا
قاطعًا على قصور اهتمام شكسبير بالنشر، كما لا يجوز أن يُعْتَد بغياب المواد الاستهلالية
دليلًا على ذلك أيضًا.
لم يكن لدى مؤلفي المسرحيات إلا القليل من السيطرة على نشر أعمالهم؛ فالمؤلف الدرامي
الذي
يبيع مسرحيته لفرقة مسرحية لم يكن له حقوق لاحقة عليها. وحقوق المؤلف النشرية استحدثت
في
القرن الثامن عشر. وعليه فقد كانت الفرق المسرحية الإليزابيثية تتصرف حسبما يتراءى لها
في
نصوص المسرحيات التي تملكها. ويزيد من تعقيد المسألة حقيقة أن شكسبير كان مساهمًا في
مسرح
«جلوب». وبصفته هذه، ولو أنه لم يكن مساهمًا بوصفه مؤلفًا مسرحيًّا، كان من الممكن أن
يساهم
في القرارات التي تتخذها الفرقة فيما يتعلق بشراء الممتلكات وبيعها (وكان الكتاب المسرحي
من
الممتلكات).
ويتفاقم تعقيد مسألة ما إذا كان شكسبير مهتمًّا بطباعة مسرحياته بوجود نسخ متنوعة
من بعض
مسرحياته؛ فعندما طُبِعَت «روميو وجولييت» أول مرة عام ١٥٩٧، جاءت في نسخة قصيرة نوعًا
ما
(٢٢٢٥ بيتًا، بما يوازي عمليًّا «تفاعلات الساعتين على خشبة مسرحنا» ديباجة رقم ١٢)،
وأُعِيدَت طباعتها عام ١٥٩٩ بصفحة عنوان تُرَوِّج لها على أنها «مُصححة ومُنَقَّحَة
ومُعَدَّلَة حديثًا»، وتتجاوز ٣٠٠٠ بيت. وبالمثل نجد أن النسخة الأولى المنشورة لمسرحية
«هاملت» (١٦٠٣) قصيرة (٢١٥٥ بيتًا)، وجامدة، وتفتقر للدقة النحويَّة في بعض أجزائها.
في
غضون عام من تلك الطبعة، ظهرت طبعة أطول وشاعرية على نحو أكثر فلسفيَّة، وذات تشخيص أدق
للأدوار. ورَوَّجَت صفحة العنوان الطبعة الجديدة باعتبارها «طُبِعَت حديثًا، وجرى التوسع
فيها وصولًا للحجم الذي كانت عليه تقريبًا مجددًا، وفقًا للنسخة الصحيحة المثالية.» وتُثْبت
الأرقام هذا الادعاء (٣٦٦٠ بيتًا). وتوحي مفردات التصحيح والتوسع بأن شخصًا ما ذا صلاحيات
يُبَدِّل نسخة غير مصرَّح بها؛ وقد يعكس ذلك طبيعة شكسبير القَلِق بشأن تلطيخ سمعته
الأدبية، والحريص، لذلك، على نشر نسخة موثوقة.
لقد شَغَلَت محاولة استنباط مصدر تلك النسخ «الموجزة» الرُّبْعية القَطْع النقاد
قَرْنًا
كاملًا. ويتفق أغلبهم على أن تلك النسخ تشير إلى ممارسة أو نية مسرحية؛ فالإرشادات المسرحية
تُوجِّه حركة الشخصيات، ومثال ذلك: «ممرضة تقترح الدخول ثم تلتفت مجددًا» (روميو وجولييت
١٥٩٧، sig. G2r)، «ينحني فراير،
ويلقي نظرة على الدماء والأسلحة» (روميو وجولييت ١٥٩٧، sig.
K2r)، «يقفز ليرتس في القبر … يقفز
هاملت في القبر بعد ليرتس» (هاملت ١٦٠٣، sig.
G1v). هل كتب شكسبير نسخة مطوَّلة اختصرتها
الفرقة لأغراض الأداء المسرحي؟ الحجة التي يَسُوقُها البعض مُعارَضَةً لهذه الفكرة مفادُها
أنه يبدو من الإسراف أن يكتب المؤلف مسرحية قوامها ٣٠٠٠ بيت إذا كان يعلم أن الفرقة لن
تمثل
سوى ٢٠٠٠ بيت. أَكَتَبَ شكسبير نسخة موجزة للأداء المسرحي ثم أسهب فيها؟ في مقابل وجهة
النظر هذه نشأت حجة أخرى مفادها أن بعض الأعمال القصيرة ذات القطع الرُّبعيِّ غير شِعرية
الطابع بوضوح، ومنسلخة لغويًّا عن أي شيء يمكن أن نتوقع أن يخطه شكسبير.
ومع ذلك، يؤيد لوكاس إرن فكرة أن النسخ الأطول نصوصًا المخصصة للقراءة، قد وضعها
شكسبير
استنادًا إلى النسخ الأوجز المخصصة للأداء المسرحي. يقول إرن إن الطول الأكبر، والتشخيص
الأدق، والمحادثات الأطول لا يَسْتَهْدِفُ كُلُّ ذلك جمهور المسرح، بل هو مخصص للقارئ
المتمتع برفاهية التدبر والتفكر.
5 وإن صح ذلك، فهو دليل على أن شكسبير كتب للمسرح، لكنه كان أيضًا مهتمًّا
بالنشر؛ مهتمًّا بما يكفي لمراجعة بعض مسرحياته وتعديلها تمهيدًا لطباعتها.
رغم أن رواية إرن تلائم الجودة النسبية للنسخ ذات قَطع الرُّبْع الموجزة والطويلة
(أي
الفروق بينها)، فإنها لا توائم الجودة المطلقة لطباعة أغلب المسرحيات. ولو أن النسخ الموجزة
ذات قطع الربع إشكالية، فالنسخ المطولة ذات قطع الربع أبعد ما تكون عن الكمال أيضًا.
ولذا،
فإن نظرية إرن تدعونا إلى افتراض أن شكسبير كان مهتمًّا بالقدر الكافي بسمعته في الأعمال
المطبوعة، حتى إنه أراد أن يقدم نصًّا أكمل، لكنه لم يكن معنيًّا بذلك لدرجة التغاضي
عن
جودة النسخة البديلة.
لننتقل إلى مفهوم الأعمال الكاملة: في عام ١٦١٦، نشر بِن جونسون أعماله المُجَمَّعة
(من
مسرحيات، وقصائد، وتمثيليات غنائية، وعروض ترفيهية) في مجلد ضخم من قطع النِّصْف. ولم
تكن
فكرة الأعمال المُجمعة التي تحوي مسرحياتٍ حديثةَ العهد؛ ففي عام ١٥٧٠ حَوَت «أطروحات»
توماس نورتون مسرحيته التي ألفها بالتعاون مع توماس ساكفيل بعنوان «جوربودوك»،
6 وفي عام ١٥٧٣، تضمنت مجموعة أشعار جورج جاسكوين المعنونة «مائة زهرة متنوعة»
مسرحيتيْن.
7 الجديد كان الحجم (حيث كان قطع النصف مخصصًا للأعمال الجادة كالإنجيل)،
والعنوان: الأعمال («أرجوك أن تفصح لي يا بِن أين يكمن السر / فما يسميه الناس مسرحية
تدعوه
أنت عملًا؟» هكذا كتب أحد الظرفاء). ورغم نبرة السخرية هذه، فالفكرة كانت جذابة بما يكفي
لحث اثنين من زملاء شكسبير الممثلين، وهما: جون هيمينج، وهنري كوندل، على جَمْع مسرحيات
شكسبير ونشرها بشكل قطع النصف عام ١٦٢٣ (استغرق الأمر عاميْن حتى طُبِعَ هذا
المجلد).
وربما كانت المجموعة المطبوعة بقطع النصف فكرة شكسبير نفسه؛ ففي رسالتهما الموجهة
إلى
«القراء على اختلاف أطيافهم»، كتب هيمينج وكوندل:
نعترف بأننا كنا نأمل لو عاش المؤلف نفسه ليُدَشِّن كتاباته ويشرف عليها بنفسه.
ولكن ما دام أنه قُدِّر له خلاف ذلك، وأنه، بمفارقته الحياة، تخلى عن هذا الحق،
نرجوك عزيزي القارئ ألا تستكثر على أصدقائه جهود عنايتهم ومشقة جمعهم ونشرهم
أعماله.
أيوحي ذلك بأن شكسبير بيَّت النية بأن «يُدَشِّن» كتاباته المُجمَّعَة
و«يشرف» عليها قبل مماته؟ قد يوافق ذلك ما نعرفه عن سيرة حياة شكسبير خلال سنواته الأخيرة.
رغم أن نشاطه تراجع في التعامل مع فرقة «رجال الملك»، فلا يبدو أنه قطع علاقاته بالفرقة
(فشراؤه منزله «بلاكفرايرز جيتهاوس» عام ١٦١٠، وهو أول ما اشتراه من العقارات اللندنية،
ليس
بالخطوة التي يُقْدِم عليها شخص يعتزم الاعتزال في ستراتفورد). وإذا كان شكسبير، كما
سنستكشف في الخرافة العشرين، بصدد اعتزال التمثيل دون التأليف عام ١٦١٠، فربما أنه أقدم
على
هذه الخطوة توفيرًا لوقته للتحرير.
ثمة أمر آخر يجب وضعه في الاعتبار في نقاشنا: في عام ١٦١٢، أخبر السير توماس بودلي،
مؤسس
مكتبة أكسفورد التي تحمل اسمه، أمين مكتبته بأن يستثني المسرحيات؛ لأنه لم يكن من اللائق
أن
تحوي مكتبة نبيلة كمكتبته «كتبًا فارغة وتافهة … والكتب التي يسهل على المسافر حملها
في
متاعه.» وبعدها بأحد عشر عامًا، حصلت مكتبة بودلي على نسخة من أول مجلد للأعمال الكاملة
لشكسبير من شركة ستيشنرز، وأرسلتها إلى أخصَّائي تجليد كتب أكسفورد (كانت الكتب في أغلب
الأحوال تُباع غير مُجَلَّدَة). ربما تبدلت المواقف من المسرحيات، أو ربما أن الناس كانوا
ينظرون إلى مُجلد مجموعة المسرحيات من قَطْع النِّصْف بطريقة مختلفة عن نظرتهم إلى
«التقاويم والمسرحيات والإعلانات» المطبوعة في الطبعات المنفصلة ذات الحجم الصغير التي
اعترض عليها بودلي.
8 وإن صحَّ ذلك، فربما أن شكسبير كان مهتمًّا بنشر مسرحياته بالفعل جُملةً، ولم
يُعْنَ بنشر مجلدات فردية.
وحقيقة الأمر أن هذه الخرافة تنقسم إلى خرافات عدة: اهتمام شكسبير بنشر مسرحياته،
واهتمامه بنشر أشعاره. لكن العنصر المسرحي نفسه ينقسم إلى قسميْن فرعييْن: رغبته في نشر
مسرحياته فُرادى، ورغبته في نشر أعمال كاملة. ولم يترك لنا شكسبير عينه دليلًا لِلْبَتِّ
في
تلك المسائل.
هوامش