الخرافة السادسة
بمعايير عصرنا الحالي، من الواضح أن دراما الحِقْبة الإليزابيثية غير لائقة سياسيًّا بشكل مقيت؛ فالأقليات محرومة من امتيازاتها في كل مكان: السود، والنساء، واليهود، والكاثوليك، والخُدَّام، وسكان العالم الجديد، والحيوانات. والسؤال الذي تطرحه تلك الخرافة يتعلق بما إذا كانت مسرحيات شكسبير تتسامى على أيديولوجية عصره برؤية إنسانية سامية، أم تخضع للمعايير السائدة لثقافته (عن طيب خاطر أو على مَضَضٍ)، أم تقف على الحياد، وما إذا كانت قدرتنا على أن نستشف تعاطفًا مع الأقليات في مسرحياته يعكس رغباتنا في القرن الحادي والعشرين بدلًا من واقع المسرحيات أو إمكاناتها.
وهكذا، يقدم شكسبير، في بداية المسرحية، نظرة مزدوجة تجاه المرأة؛ فالمجتمع يقسم النساء إلى قسميْن: المرأة الصامتة (ومن ثم فهي صالحة للزواج)، والمرأة الثرثارة (ومن ثم فهي غير صالحة للزواج). ورغم هذا التعاطف الظاهر مع كاثرين، فالمشهد الأخير بالمسرحية يُظْهِرها بمظهر الزوجة المتفانية المطيعة. وتُلْقي كاثرين كلمة طويلة — وهي أطول كلماتها طوال المسرحية — تفسر فيها أن الزوجة تَدِين لزوجها بالطاعة. وتصيب كلمتها هذه الجماهير الحديثة والقراء الحداثيين بالِامْتِعاض، ولدى الأعمال الإنتاجية المبنية على المسرحية، وكذا النقاد، طُرُقٌ عدة لتبرير هذه الكلمة. ينطوي هذا الموقف على مُفارَقَة؛ فرغم أنها تصف علاقة متبادلة يَكِدُّ في إطارها الرجل في عمله وتُطيعه المرأة، فالواقع أنه لا أحد من رجال المسرحية يتصرف وفق وصفها (تنبيه: من الصعب بمكان تحمل ٤٣ بيتًا حافلًا بالمفارقة في المسرح). يُنظر إلى هذه الكلمة باعتبارها تعبيرًا عن الحب الحقيقي: وقعت كاثرين في حب مُرَوِّضها (تنبيه: أيمكن أن يُغْرَس الحبُّ بالقسوة؟) ويُنْظَر إليها أيضًا بوصفها أداءً: كاثرين تمثل وحَسْب لكسب رِهان. ويُنْظَر إليها بوصفها خطة بارعة؛ فكاثرين تختتم المسرحية بفرض رغبتها — ألا وهي الكلام — لكنها اكتشفت كيف تَفْرِضُها بموافقة المجتمع وبرضاه. إذا دعاكِ الزوج أو أمركِ بالحديث، يمكنكِ أن تُسهبي في الكلام بما يوازي ٤٣ بيتًا (تنبيه: أليس هذا انتصارًا باهظ الثمن؟ فقد تستفيد كاثرين منه، لكنه لن يُجْدِي قضية النساء نفعًا إذا كانت الواحدة منهن ستنال حريتها في السر بادعائها الخُنوع والطاعة في العلن). ويُنظر إلى تلك الكلمة بوصفها دليلًا على شخصية كاثرين الجديدة المتطورة السعيدة التي تعلمت عبثية شخصيتها السابقة وتَعَذُّر تقبُّلها (تنبيه: أليس من المُهين الإيحاء بأن المرأة لا تقدر على أن تعثر على نفسها إلا بمساعدة الرجل؟) وكما توحي جُمَلُنا الاعتراضية المحددة بين أقواس، ليس من الواضح إلى أين يَسُوق المشهدُ الأخير وجهاتِ نظرنا.
لم يكن شكسبير يرسم شخصيات من الحياة في تسعينيات القرن السادس عشر حين رسم شخصية المرابي اليهودي المشهور شايلوك في مسرحيته «تاجر البندقية»؛ فمنذ نَفْي اليهود في القرن الثالث عشر، لم يكن هناك يهود يعيشون في إنجلترا علنًا، ولو أن المؤرخين عثروا على أدلة تعضد وجود مجتمع يهودي صغير وسرِّي في لندن في العصر الإليزابيثي. لكن شايلوك، رغم ظهوره في خمسة مشاهد وحسب من المسرحية بأسرها، أمسى أبرز شخوصها بحضوره الثقافي الذي يتسامى على دوره في الحبكة؛ ففي «تاجر البندقية» يُقْرِض شايلوك أنطونيو مبلغًا من المال ليعطيه إلى صديقه باسانيو الذي يود أن يخطب وُدَّ «سيدة ثرية» (الفصل الأول، المشهد الأول، البيت ١٦١) تُدعى بورشيا بنة بيلمونت. ليس بين شايلوك وأنطونيو عداء من بعد مودة: جُلُّ ما في الأمر أن شايلوك يحمل لأنطونيو «ضغينة عتيقة»، ويُفصح عنها قائلًا: «إنني أكرهه لأنه مسيحي.» (الفصل الأول، المشهد الثالث، البيتان ٤٥ و٤٠). ويعترف أنطونيو، طواعيةً، بأنه بَصَقَ على خَصمه وازْدَراه، ويشعر أن له الحق بذلك بسبب مهنة المرابي التي يمتهنها شايلوك (الفصل الأول، المشهد الثالث، الأبيات ١٢٨–١٣٥). من المفترض هنا أن أسلوب شكسبير يظهر لنا موقف الدخيل من الداخل؛ فها هو شكسبير يقدم لنا تفاصيل عن شايلوك وشخصيته أكثر مما تقتضيه الضرورة لو كان هو ببساطة الشرير الكوميدي. وبينما يلعب شايلوك الدور التقليدي للشخصية هادمة اللذات ومفرقة الجماعات، التي يجب خداعها للحصول على نهاية كوميدية، فهو أيضًا عامل تمكين للكوميديا الرومانسية؛ فهو في الوقت عينه أب قامِع (لجيسيكا)، وشخصية داعمة (على نحو غير مباشر لباسانيو). وعندما يتحدث عن جيسيكا التي فرَّت برفقه عشيقها المسيحي لورينزو، وطَفِقَت تهدر ثروة أبيها، نراه يلتقط فيروزة مفقودة، ويقول: «منحتني إياها ليا عندما كنت أعزب، ولم أكن لأتخلى عنها ولو بكنوز الدنيا.» (الفصل الثالث، المشهد الأول، الأبيات ١١٣–١١٥). ولا شك أن نبرته عاطفية (لكننا لا نسمع بليا إلا في هذه الأسطر، ورغم أن المحررين يقترحون أنها زوجة شايلوك المتوفاة، فلا نستطيع الجزم بذلك أبدًا. وهذا جانب من جوانب العتامة التي تجعل الشخصيات تَضُجُّ بالحياة كما سنناقش في الخرافة التاسعة والعشرين).
ومرارًا وتكرارًا يتجاوز شايلوك الدور المُوكَّل إليه في المسرحية؛ إذ يشغل المساحة التفسيرية الكبرى في الدراما؛ فثمة أسئلة عن دوافعه وسلوكياته تهيمن على أي إنتاج مسرحي جديد أو قراءة لمسرحية «تاجر البندقية». ورغم ظهور بعض القراءات المعادية للسامية بعمق للمسرحية، فقد سَعِدَ أصحابها بالتحول العقائدي الاضطراري لشخصية شايلوك في الفصل الرابع، فقد أصبح أكثر شيوعًا منذ نهاية القرن التاسع عشر أن نرى شايلوك شخصية مُمَزَّقَة بين عالَمَيْن، والتعاطف مع وضعه الدخيل في المسرحية. ومنذ المَحْرَقة كان من المستحيل حقًّا طرح شخصية شايلوك بوصفه شريرًا مصنفًا عِرْقِيًّا، ولو أن الكاتب المسرحي أرنولد ويسكر كان مِن بين الذين اقترحوا أنه لا ينبغي عرض هذه المسرحية من الأساس. وحقيقة الأمر أن «تاجر البندقية» لم تكن من المسرحيات المفضلة لدى النازيين؛ فبينما اقتضت العلاقة المَدِيدَة بين الكُتَّاب والمفكرين الألمان وشكسبير أنه مَحْمِيٌّ نوعًا ما من ارتياب الرايخ الثالث المُكْتَسي بالطابع القومي في الفن الأجنبي، فإن زواج جيسيكا من شخص من الجنس «الآرِيِّ» كان يعني أن المسرحية لم تُؤَدَّ إلا بتصرف مُعَقَّد، لم تكن جيسيكا بموجبه ابنة شايلوك حقًّا (يبدو أن النازيين كانوا يفضلون النزعة العسكرية الذكورية لمأساة كوريولانوس وجمودها).
تقدم مسرحية «تاجر البندقية» أيضًا أميرًا مغربيًّا أسود يقول لبورشيا: «لا تكرهيني للون بشرتي» (الفصل الثاني، المشهد الأول، البيت ١). وليس عطيل، وهو مغربي الأصل أيضًا، بحاجة لأن يقول الشيء نفسه لمواطني البندقية التي تدور أحداث قصته فيها؛ فها هو الدوق يوقِّره، ويثق به قائدًا عسكريًّا وحامي حِمَى البندقية الذي يلجأ إليه مجلس الشيوخ قبل غيره حالما يظهر أي تهديد في الأُفُق، ويدعوه عضو مجلس الشيوخ برابانتيو إلى منزله («كثيرًا»)، ويُنْصت إلى قصصه وحياته المغامرة. ولكن، مع بداية الفصل الخامس، تستطيع إيميليا أن تحتج على أن خادمتها ديدمونة، زوجة عطيل «مُغْرَمة على نحو مبالغ فيه بصفقتها القذرة» (الفصل الخامس، المشهد الثاني، البيت ١٦٤). مثل هذه التصريحات مسئولة نوعًا ما عن وجهة النظر القائلة بأن تَمازُج الأجناس هو لُبُّ هذه المأساة.
وثمة شيء مثيل يحدث في «السير توماس مور» (التي أُلِّفَت ورُوجِعَت في فترة «عُطيل» نفسها تقريبًا، بحسب محرر المسرحية الأخير، جون جاويت الذي يُرْجِع تأليف «السير توماس مور» إلى حوالي عام ١٦٠٠ وتنقيحاتها إلى عام ١٦٠٤). وجوهر مسرحية «السير توماس مور» يَكْمُن في جانبين: المهاجرين إلى لندن (الكلمة الموازية للأجانب هي «الغرباء»، وهي كلمة أقوى بكثير في دلالتها مما هي عليه الآن)، وانهيار السير توماس مور. في النصف الأول من المسرحية، يُهدِّئ مور من ثورة المشاغبين اللندنيين، ويفعل ذلك بخطبة أضافها شكسبير عام ١٦٠٤، تدعو أهل لندن إلى تخيل الوضع لو أن المواقف انعكست؛ أي إذا نُفوا من الأرض:
أستذهبون إلى الإقليم الألماني أم إلى إسبانيا أم البرتغال؟
وهو يقول فعليًّا: تواصلوا مع الفَلَمَنْكي الكامن في أعماقكم، وتخيلوا الأمور من وجهة نظر الدخلاء. تجسد صفة «الجَبَليَّة» غير التقليدية هذه هذا القَلْب ببراعة؛ فهي تُلَمِّح إلى الجهلاء أو غير المتحضرين الذين يعيشون في منطقة جبلية؛ بُغْيَةَ إحالة هذا الإيحاء بالآخرية على الذات. وهو أسلوب نراه مرارًا وتكرارًا في أعمال شكسبير متمثلًا في تعاطف خيالي مع وجهة نظر الأقلية أو الشخص المُضْطَهد.
ومع ذلك، فصحيح أيضًا أن الأقليات يمكن تمثيلها نقديًّا: على سبيل المثال، الجموع المتلونة في «يوليوس قيصر» و«كوريولانوس» أو كاليبان المُستعبَد في «العاصفة» الذي يرى الحرية ببساطة في أن يكون له سيد جديد:
من الأسباب التي تجعل من الصعب الاستقرار على ما إذا كان شكسبير لائقًا، أو غير لائق، سياسيًّا هو أنه يجمع بين الأمرين. لقد حاولت الإنتاجات المسرحية الحديثة لمسرحية «كوريولانوس» أو «يوليوس قيصر» أن تحقق الاستقرار للتحيزات السياسية للمسرحيتين عبر الاستعانة بتصميم عصري للملابس — فظهر المتآمرون في حُلَّة مناضلي الحرية الذين يواجهون الدكتاتورية، أو عِلْيَة القوم في حلة الأثرياء النفعيين بدولة غير ديمقراطية — لكن ميزان التحيزات بين يدي شكسبير أكثر حساسية. هل لدى قيصر طموحات استبدادية بتفكيك الجمهورية وقَبول التاج؟ إننا لا نستطيع الجزم لأن المشهد منقول، وليس معروضًا.
ومن الممكن أيضًا أن نعيد خلق سياق بعض أكثر تلك المسرحيات حساسية، ونعزلها عن المشكلات المحددة تاريخيًّا. ثمة إنتاج حديث لمسرحية «تاجر البندقية» ﻟ «فرقة بروبلار المسرحية» لصحابها إدوارد هول — وجميع العاملين فيها من الرجال — يجعل مسرح أحداث المسرحية سجنًا عصريًّا. كان السجناء يؤدون نسخة من «تاجر البندقية» دون معرفة حراس السجن أو موافقتهم. وكانت أرضية السجن تُدْعَك كلما مر الحراس، وعند اختفائهم من الموقع، يشرع السجناء في تمثيل مشاهد من المسرحية. لكن مجموعة السجناء الهُواة هذه لم تكن وحدة متجانسة؛ فقد انقسم الممثلون إلى جماعتين غير متكافئتين، كما هي العادة في السياسات المؤسسية: جماعة المتسلطين أصحاب النفوذ وجماعة الضحايا. ولعب الضحايا أدوار اليهود ولعب المتسلطون أدوار المسيحيين. ومن هذا المنطلق، نُظِرَ إلى مسرحية شكسبير على اعتبارها تمثيلًا لجماعات الأقلية في مقابل جماعات الأغلبية، والسلوكيات التي تُصاحِب كل طرف. ولم يكن من الأهمية بمكان ما إذا كانت الجماعتان تمثلان مشجعي كرة قدم متنافسين، أم كان أفرادهما ينتمون إلى عرقين أو ديانتين مختلفتين؛ فقد كشفت المسرحية عن الانفعالات العاطفية للسلاسل الهَرَمية السياسية، لا السياسات الدينية أو العِرْقِية.
أيشير ذلك إلى أن مسرحيات شكسبير تسمو على فقدان اللياقة السياسية؟ أم أننا نحن الذين نستطيع أن نجعلها كذلك؟ يستحيل أن نجزم. ولكن، كما تفيد الخرافة الثانية والعشرون، فإن جزءًا من هذه الجاذبية التي لا تنقطع على خشبة المسرح وبين أيدي القراء هي قدرة تلك المسرحيات على مخاطبة فترات مختلفة، وقصد معانٍ مختلفة في أزمنة متباينة؛ فشكسبير كاتب معاصر للإليزابيثيين، ولنا أيضًا.