الحنطة
كانت لدى الغال حنطة في زمن قيصر، ويشعر المرء بالفضول لمعرفة أين وجدها الغال والألمان القدماء حتى يزرعوها. يجيبك الناس بأن أهل مدينة صور قد جلبوها إلى إسبانيا؛ ومن ثم جلَبها الإسبان إلى الغال، والغال إلى ألمانيا. ومن أين أتى الصوريون بهذه الحنطة؟ ربما من اليونانيين الذين بادَلوهم إياها بالأبجدية.
من منَح اليونانيين هذه الهدية؟ إنها سيريس فيما مضى دون شك، وعندما يرجع المرء إلى سيريس، فبالكاد يستطيع أن يذهب أبعد من ذلك. لا بد وأن سيريس هبطت عمدًا من السماء لتمنحنا الحنطة، والجودار والشعير … إلخ.
لكن بقدر ما هوت كثيرًا في الوقت الحالي الثقة في أن سيريس هي التي منَحت اليونانيين الحنطة، وأن إيشيث أو إيزيس هي التي أنعمت بها على المصريين، فلا نزال في شكٍّ من أصل الحنطة.
يؤكد سانشونياثون أن داجون أو داجان، أحد أحفاد تحوت، كان يتحكم في الحنطة في فينيقيا. حسنًا. يُرجع إلهه تحوته هذا إلى زمن إلهنا القديم يارد تقريبًا. نستخلص من ذلك أن الحنطة قديمة جدًّا، وأنها قديمة قدم العشب. ربما كان داجون هذا هو أول من صنع الخبز، ولكن لا دليل على ذلك.
شيء غريب! نعرف قطعًا أننا مدينون بالنبيذ إلى نوح، ولا نعرف من ندين له بالخبز. ويبقى أكثر غرابة أننا شديدو الجُحود لنوح؛ فلدينا أكثر من ألفَي أغنية لتكريم باخوس، وبالكاد نُغني أغنية واحدة لتكريم نوح المُحسن إلينا.
أكَّد لي يهودي أن الحنطة ظهرت من تلقاء نفسها في بلاد ما بين النهرين، مثلها مثل التفاح، والكمثرى البرية، والكستناء، والبشملة في الغرب. أود أن أصدق ذلك إلى أن أتأكَّد من العكس؛ فلا بد أن الحنطة تنمو في مكانٍ ما. لقد أصبحت الغذاء المعتاد الذي لا غنى عنه في الأماكن ذات المناخ الجيد، وعبر الشمال.
ادَّعى بعض الفلاسفة العظماء الذين نحترم مواهبهم ولا نتبع مناهجهم (بوفون) في صفحة ١٩٥ من كتاب «التاريخ الطبيعي للكلب» أن الإنسان صنَع الحنطة؛ وأنه بفضل إلقاء آبائنا ببذور الزوان والنجيلية حوَّلوهما إلى حنطة. وكما لا يوافقنا هؤلاء الفلاسفة في رأينا عن الأصداف، فسيَسمحون لنا بألا نوافقهم في الرأي بشأن الحنطة. نحن لا نصدِّق أن أحدًا قط صنع التيوليب من الياسمين. ونجد أن أصل الحنطة مختلف تماما عن الزوان، ولا نؤمن بأي طفرة. حينما يرينا أحد إياها فسوف نتراجع.
ليست الحنطة بالتأكيد غذاء الجزء الأعظم من العالم. تُغذي الحنطة والتبيوكة كل أمريكا. لدينا مقاطعات بالكامل لا يأكل فيها الفلاحون شيئًا سوى خبز الكستناء، وهو أكثر تغذية وأفضل مذاقًا من نبات الجودار والشعير الذي يأكله كثير من الناس، وهو أفضل من الخبز الذي يُقدَّم للجنود. لا يعلم أحد في جنوب أفريقيا بالكامل شيئًا عن الخبز. أيضًا في الأرخبيل الشاسع لجزر الهند، وسيام، ولاوس، وبيجو، والكوشينشين، وتونكين، وبعض الصين، واليابان، وساحل مالابار، وكورومانديل، وضفاف نهر الجانج؛ يُزرع الأرز الذي تسهُل زراعته بالمقارنة بالحنطة؛ فأدى هذا إلى إهمال الحنطة. ولا تُعرف الحنطة في مساحة خمسة عشر ألف فرسخ على سواحل البحر الجليدي. هذا الطعام الذي تعودنا عليه قيِّم جدًّا عندنا، حتى إن خشية حدوث ندرة منه يُمكن أن تتسبَّب في أعمال شغب بين الشعوب الأكثر استعبادًا. تجارة الحنطة أهم أهداف الحكومة في كل مكان؛ إنها جزء من كينونتنا، مع ذلك، تُبدَّد هذه السلعة الأساسية أحيانًا على نحو سخيف. يستخدم تجار الدقيق أفضل أنواعه لتغطية رءوس شبابنا وشابَّاتنا. لكن ما يزيد على ثلاثة أرباع الخبز الذي تنتجه الأرض لا يؤكل على الإطلاق. يذكر الناس أن الإثيوبيين كانوا يهزءون بالمصريين الذين كانوا يعيشون على الخبز. لكن بما أن الحنطة هي طعامنا الرئيس، فقد صارت هدفًا عظيمًا للتجارة والسياسة. كُتب الكثير عن ذلك الموضوع، حتى إنه لو زرَع فلاح حنطةً بقدرِ ما لدينا من مجلدات عن هذه السلعة، لأمَّل في أوفر محصول، ولأصبح أغنى من الذين يجلسون في صالوناتهم منتشين، متجاهلين عمله الشاق وما يُعانيه من بؤس.