الخدمة الكنسية
لا تقوم مؤسسة الدين إلا لإبقاء الجنس البشري داخل نظام؛ ولجعل البشر أهلًا لعطف الله بفضيلتهم. كل شيء في دين لا يتجه صوب ذلك الهدف يجب اعتباره غريبًا وخطيرًا.
التوجيه، والوعظ، والوعيد بالعذاب الآتي، والوعود بالسعادة الأبدية، والصلوات، والنصائح، والمساعدة الروحية هي الوسائل الوحيدة التي يُمكن للإكليروس أن يستخدموها ليُحاولوا أن يجعلوا البشر يتمسَّكون بالفضيلة في الحياة الدنيا، ويسعدون بالأبدية.
كل الوسائل الأخرى تتعارَض وحرية الفكر وطبيعة الروح وحقوق الضمير الثابتة، بل تتعارض وجوهر الدين ذاته والخدمة الكنسية أيضًا، وكل حقوق صاحب السيادة.
تَفترض الفضيلة الحرية، كما أنَّ تَحمُّل الأعباء يفترض القوة الفعَّالة. ما من فضيلة تحت الإجبار، وما من ديانة بلا فضيلة. اجعل مني عبدًا، ولن أكون سوى عبد.
حتى صاحب السيادة لا يملك الحق في استخدام القَسر ليقود البشر إلى الدين الذي يفترض بالضرورة الاختيار والحرية. لا يخضع فكري للسلطة بأكثر مما تخضع الصحة أو المرض لها.
كي نفكَّ أغوار تلك المُتناقضات التي امتلأت بها كتب القانون الكنسي، وكي نُعدِّل أفكارنا تجاه الخدمة الكنسية، دعونا نتحرَّ بين آلاف الأشياء الغامضة ماهية الكنيسة.
الكنيسة هي جمعية كل المؤمنين المجتمعين في أيام معينة للصلاة العامة، وللفِعال الصالحة في كل الأوقات.
الإكليروس هم أشخاص معيَّنون تحت سلطة صاحب السيادة ليُوجهوا هؤلاء المصلين وكل العبادة الدينية.
لم يكن مُمكنًا أن توجد كنيسة ضخمة بلا إكليروس؛ ولكن هؤلاء الإكليروس ليسوا هم الكنيسة.
ليس أقل وضوحًا أنه إن كان الإكليروس، الذين هم جزء من المجتمع المدني، اكتسبوا حقوقًا ربما تُعرقل المجتمع أو تُدمِّره، فيجب قمع هذه الحقوق.
يظل أكثر وضوحًا أنه إن كان الله منَح الكنيسة امتيازات أو حقوقًا، فلا يجب قصر هذه الامتيازات ولا هذه الحقوق على رئيس الكنيسة أو الإكليروس؛ لأنهم ليسوا الكنيسة، كما أن القضاة ليسوا هم صاحب السيادة في دولة ديمقراطية ولا في دولة ملكية.
في النهاية، واضح تمامًا أن أرواحنا هي التي تخضع لرعاية الإكليروس، فقط للأمور الروحية.
تعمل روحنا داخلنا؛ والأفعال الداخلية هي الفكر، والإرادة، والنزعات، والإذعان لحقائق معينة. كل هذه الأفعال فوق كل إجبار، وفي نطاق مجال الكاهن الإكليريكي، فقط بقدر ما يجب عليه أن يرشد، وألا يأمر أبدًا.
تعمل هذه الروح بالخارج أيضًا، والأفعال الخارجية تخضع للقانون المدني؛ هنا يمكن أن يكون للإجبار مكان؛ فالآلام الدنيوية أو البدنية تصون القانون بعقاب من ينتهكونه.
من ثم، يجب أن تبقى طاعة النظام الكنسي دائمًا حرة وطوعية، ويُمكن أن تكون غير ذلك. غير أن الخضوع للنظام المدني يجب أن يكون قسريًّا إلزاميًّا.
للسبب نفسه، العقوبات الكنسية التي هي دائمًا روحية، لا تمتد في الحياة الدنيا إلا إلى أولئك المُقتنِعين في قرارة أنفسهم بخطئهم. أما العقوبات المدنية فتكون، على النقيض من هذا، مصحوبة بأذًى جسدي، سواء أقرَّ المذنبون بعدالتها أم لم يُقروا.
ينتج من ذلك بوضوح أن سلطة الإكليروس روحية فقط، ولا يمكن أن تكون غير ذلك؛ لا يجب أن تكون لها أيُّ قوة دنيوية؛ وأنه ما من قوة قهرية ملائمة لخدمة الإكليروس التي قد تتحطَّم من جرَّائها.
يتَّضح من هذا أيضًا أن صاحب السيادة، وهو حريصٌ على ألا يعاني من أي تقسيم لسلطته، يجب ألا يسمح بأي مشروع يجعل أعضاء المجتمع المدني في حالة اعتماد خارجي ومدَني على الكيان الكنسي.
هذه هي المبادئ الأكيدة للقانون الكنَسي الحقيقي التي يجب أن تحتكم إليها الأحكام والقرارات في كل الأوقات طبقًا للحقائق الأبدية الثابتة القائمة على القانون الطبيعي والنظام الضروري للمجتمع.