اللغة الفرنسية
لم تبدأ اللغة الفرنسية في اتخاذ أي شكل حتى قبيل القرن العاشر الميلادي؛ فهي نشأت من أطلال اللغتين اللاتينية والكلتية، ممزوجة ببعض الألفاظ الجرمانية. كانت هذه اللغة الفرنسية في الأساس هي «الرومانوم روستيك»؛ أي الرومانية الريفية، وكانت اللغة الجرمانية لغة البلاط حتى زمن شارل الأصلع؛ وبقيت الجرمانية اللغة الوحيدة في ألمانيا بعد حقبة التقسيم العظيم في عام ٨٤٣م. سادت اللغة الريفية الرومانية اللغة الرومانسية في غرب فرنسا؛ وما زال الناس في أرياف كلٍّ من فو، وفاليه، ووادي إنجادين، وبضعة كانتونات أخرى يحتفظون بآثار واضحة لتلك اللهجة.
في نهاية القرن العاشر تشكَّلت اللغة الفرنسية؛ كتَب الناس بالفرنسية في بداية القرن الحادي عشر، لكن هذه الفرنسية احتفظَت من الرومانية الريفية بأكثر مما احتفظَت به فرنسية اليوم. «قصة حب فيلومينا» التي كُتبت في القرن العاشر بالرومانية الريفية لا تختلف كثيرًا في لغتها عن القوانين النورماندية. لا يزال المرء يلحَظ مُشتقات كلتية ولاتينية وألمانية. الكلمات التي تُعرِّف أعضاء الجسد البشري، والأشياء التي تُستخدَم يوميًّا، ولا تتشابه في شيء مع اللاتينية والألمانية، هي كلمات من اللغة الغالية القديمة أو الكلتية، مثل كلمات: «رأس»، و«ساق»، و«طرف»، و«يذهب»، و«يتكلم»، و«ينظر»، و«يسمع»، و«يصيح»، و«يبكي»، و«حكم»، و«مجموع»، وغيرها كثير من هذا النوع. وكان أغلب كلمات الحرب من اللغة الفرانكية أو الألمانية، مثل: «زحف»، و«استراحة»، و«قائد»، و«مُعسكَر مكشوف»، و«فارس مرتزق»، و«جندي مرتزق». الباقي كله لاتيني؛ واختُصرت كل الكلمات اللاتينية طبقًا لعادة شعوب الشمال وقريحتها. ومن ذلك اختصار «بالاتيوم» إلى «بالي» (قصر أو حنك)، و«لوبوس» إلى «لوب» (ذئب)، و«أغسطس» إلى «أوت»، و«جونيوس» إلى جويان (يونيو)، و«أونكتوس» إلى «وان» (دهان أو مرهم)، و«بوربورا» إلى «بوربر»، و«بريتيوم» إلى «بري» (ثمن أو جائزة) … إلخ. وبالكاد نجد أي آثار لليونانية التي طالما كانت لغة الحديث في مارسيليا.
في القرن الثاني عشر بدأ بعض مصطلحات الفلسفة الأرسطية في دخول اللغة؛ وقبيل القرن السادس عشر استخدم المرء ألفاظًا يونانية في التعبير عن كل أجزاء الجسد الإنساني وأمراضها وعلاجاتها؛ ومن ثم استُخدمت كلمات «قلبي»، و«دماغي»، و«قطرة»، و«مريض الربو»، و«خراج»، و«تقيُّح»، وكثير من المصطلحات الأخرى. بالرغم من أن اللغة أغنت نفسها كثيرًا من اليونانية، وبالرغم من أنه مع حلول عصر شارل الثامن بدأت الاستعانة بالإيطالية التي كانت بلغَت كمالها وقتها؛ فإن اللغة الفرنسية لم تكن اكتسبت التناسُق المُنتظِم بعد. ألغى فرانسوا الأول العُرف القديم القاضي باستخدام اللاتينية في الترافُع وإصدار الأحكام وكتابة العقود؛ وهو عُرفٌ مثَّل شاهدًا على همجية لغة لم يكن المرء يجرؤ على استخدامها في الوثائق الرسمية، عرفٌ ضارٌّ بالمواطنين الذين كان كثير من أمورهم يُنظَّم بلغة لا يفهمونها. كان على المرء إذًا أن يُعنَى باللغة الفرنسية، لكن اللغة لم تكن نبيلة ولا مُنتظِمة. كان بناء الجملة خاضعًا للهوى. انتقلَت عبقرية المُحادثة إلى المجاملات، وأصبحت اللغة خصبة في التعبيرات الساخرة والساذجة، وعقيمة للغاية في الألفاظ النبيلة المُتناغمة. بسبب هذا يجد المرء في القواميس المسجوعة عشرين لفظًا مناسبًا للشِّعر الهزلي مُقابل واحد للاستعمال الأكثر سموًّا؛ وهذا ما يُفسر، علاوة على ذلك، لماذا لم ينجح مارو قطُّ بأسلوبٍ جاد، ولماذا لم يتمكَّن أميو من ترجمة كتابات بلوتارخ الأنيقة إلا بسذاجة.
اكتسبت اللغة الفرنسية حيوية كبيرة بفضل قلم مونتين، لكنها ظلَّت بلا نُبل ولا تناغم. وأفسد رونسار اللغة بجلبه إلى الشعر الفرنسي التراكيب اليونانية التي استخدمها الأطباء والفلاسفة. أصلح ماليرب إخفاق رونسار نوعًا ما. وأضحَت اللغة أنبل وأكثر تناغمًا بتأسيس الأكاديمية الفرنسية، واكتسبت في النهاية، في عصر لويس الرابع عشر؛ الكمال الذي كان من المُمكن نقله إلى كل أنواع التأليف.
تكمن عبقرية هذه اللغة في النظام والوضوح؛ فلكلِّ لغة عبقريتها، وهذه العبقرية تكمن في السهولة التي تمنحها اللغة لتعبير المرء عن نفسه بدقة أكثر أو أقل، ولاستخدام الالتفاتات المألوفة من اللغات الأخرى أو رفضها. الفرنسية التي يوجد فيها تصريف أسماء، ودائمًا ما تكون خاضعة لأداة التذكير أو التأنيث، لا تستطيع أن تتبنَّى أساليب التقديم والتأخير المعروفة في اللغتين اليونانية واللاتينية؛ وتُجبَر الكلمات على التراتب وفقًا للنظام الطبيعي للأفكار. يستطيع المرء بطريقة واحدة فقط أن يقول بالفرنسية: «بلانكوس لديه عناية بشئون قيصر.» عبر عن هذا باللاتينية — «بشئون قيصر بلانكوس عليه أن يعتني.» ويستطيع المرء أن يُرتِّب تلك الكلمات بمائة وعشرين طريقة دون أن يضرَّ بالمعنى ودون أن يُفسد اللغة. إن الأفعال المساعدة التي تمدِّد الجُمل وتوهنها في اللغات الحديثة، تجعل اللسان الفرنسي مع ذلك أقل تلاؤمًا مع الأسلوب المختصر المصقول. الأفعال الناقصة، وضمائرها، وحروفها، وافتقارها إلى أسماء الفاعل القابلة للتصريف، وأخيرًا مشيتها المنتظمة، ضارَّة بحماسة الشعر العظيمة، التي تملك فيها مصادر أقل مما تملكه الإيطالية أو الإنجليزية، لكن هذا التقييد وهذا الالتزام يجعلانها أكثر ملاءمة للتراجيديا والكوميديا من أيِّ لغة في أوروبا. إن الترتيب الطبيعي الذي يُجبَر المرء على أن يُعبِّر به عن أفكاره وينشئ به عباراته يشيع في هذه اللغة حلاوة وسهولة تَسُر كل الشعوب. وأنتجت عبقرية ممزوجة مع عبقرية اللغة كتبًا مكتوبة سائغة أكثر مما يُمكن مشاهدته عند أي شعب آخر.
بهجة المجتمع وحريته معهودتان من زمن طويل فقط في فرنسا؛ ومن ثم اكتسبت اللغة رقة تعبير وإتقانًا مليئًا بالبساطة نادرًا ما يوجدان في أي مكان آخر. هذا الإتقان بولغ فيه أحيانًا، لكن ذوي الذوق الرفيع عرفوا دائمًا كيف يُقلِّلون منه إلى حدود معقولة.
اعتقد أشخاص كثيرون أن اللغة الفرنسية افتقرَت منذ زمن إميو ومونتين. وبالفعل، يستطيع المرء أن يجد لدى كثير من المؤلِّفين تعبيرات لم تعد مُستساغة، لكنها في معظمها تعبيرات استُبدِلت بها تعبيرات مكافئة. أُثريت اللغة بعدد من التعبيرات الرفيعة والحيوية. ودون التكلم هنا عن فصاحة الأشياء، اكتُسبت فصاحة الكلمات. وفي عهد لويس الرابع عشر، كما قيل، بلغت هذه الفصاحة ذروة روعتها، وصارت اللغة مضبوطة. مهما تغيَّر الوقت والهوى، سيبقى الكتَّاب الكبار في القرنين السابع عشر والثامن عشر نموذجًا يُحتذَى.