الجهل
أجهل كيف جُبِلتُ، وكيف وُلدتُ. ظللتُ ربع حياتي جاهلًا تمامًا بأسباب كل ما شاهدت وسمعت وشعرت، ولم أكن سوى ببغاء ثرثرَت عليه ببغاوات أخرى.
حينما نظرت حولي وبداخلي أدركت أن هناك شيئًا سرمديًّا؛ لأن هناك كائنات توجد اليوم، استخلصتُ أن هناك كائنًا ضروريًّا وأبديًّا بالضرورة؛ ومن ثم فالخطوة الأولى التي خطوتها لأخرج من جهلي عبرَت حدود القرون كلها.
لكن حينما حاولتُ أن أسير في هذه المتاهة اللانهائية المفتوحة أمامي، لم أستطع أن أجد ممرًّا واحدًا، ولا أن أحدِّد بوضوح هدفًا واحدًا؛ ومن الوثبة التي وثبتُها لأتأمل في الأبدية شعرتُ أني أتراجع مرة أخرى إلى هاوية جهلي.
رأيت ما سُمِّيَت «مادة»، من نجم الشِّعرى ونجوم الطريق اللبني، بعيدًا عن الشعرى كما يَبعد الشعرى عنا، عند آخر ذرة يُمكن أن نلحظها عبر الميكروسوكوب، وأجهل ما هي المادة.
الضوء الذي جعَلني أرى كل هذه الكائنات مجهول لي؛ أستطيع بالاستعانة بمنشور أن أُحلل الضوء، وأقسِّمه إلى سبعة حُزَم من الأشعة؛ لكني لا أستطيع تقسيم هذه الحُزم، فأنا أجهل ممَّ تكوَّنت. الضوء من طبيعة المادة، طالما أنه يتحرَّك ويترك أثرًا على الأشياء، لكنه لا يتجه صوب مركز مثل كل الأجسام؛ على العكس، هو يهرب باقتدارٍ من المركز، بينما تتحرَّك جميع المواد صوب المركز. يبدو الضوء قابلًا للاختراق، والمادة غير قابلة للاختراق. هل الضوء مادة؟ أليس مادة؟ بأي خصائص لا تُحصى يمكن أن يُزوَّد؟ أجهل ذلك.
هل هذا الجوهر اللامع جدًّا، الخاطف جدًّا، المجهول جدًّا، وهل هذه الجواهر الأخرى التي تدور في رحابة الفضاء أبدية كما تبدو؟ ما عندي فكرة. هل خلَقها كائن ضروري ذو ذكاء فائق من لا شيء، أم رتَّبها؟ هل أنشأ هذا النظام في الزمن أم قبل الزمن؟ بل ما هو هذا الزمن الذي أتكلَّم عنه؟ لا أستطيع تعريفه. يا إلهي! علِّمني كي لا أغرق في ظلام الآخرين أو ظلامي.
ما الحس؟ كيف استقبلته؟ أي صلة ما بين الهواء الذي يصدم أذني والإحساس بالصوت؟ بين هذا الجسد وبين الإحساس باللون؟ أجهل ذلك بعمق، وسأظل جاهلًا بذلك.
ما الفكر؟ أين يقطن؟ كيف يُشكَّل؟ من يمنحني الفكر أثناء نومي؟ هل أفكر بفضل إرادتي؟ لكن دومًا طوال نومي، وكثيرًا أثناء يقظتي، تكون لديَّ أفكار رغمًا مني. هذه الأفكار المنسية طويلًا المُبعدة إلى الجزء الخلفي من مخي تصدر منه بلا تدخل مني، وتُقدِّم نفسها إلى ذاكرتي التي تبذل جهودًا تافهة لتستدعيها.
لا تملك الأشياء الخارجية القوة لتُشكِّل الأفكار بداخلي؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وأنا مقتنع كذلك بأني لست أنا الذي أمنحها لنفسي؛ لأنها تولد دون أوامري. من ينتجها إذًا بداخلي؟ من أين تأتي؟ إلى أين تذهب؟ أيتها الأشباح الهاربة، أيُّ يد خفية تخلقك وتجعلك تختفين؟
لماذا لدى الإنسان وحده من دون كل الحيوانات ذلك الهوَس بالسيطرة على أخيه الإنسان؟
لماذا وكيف أمكن تقديم أكثر من تسعة وتسعين من أصل مائة مليار من البشر قربانًا لذلك الجنون؟
كيف يكون التعقُّل منحة نفيسة لا نخسرها مقابل أي شيء في العالم، وكيف لم يُجْد هذا العقل إلا في جعلنا أكثر الكائنات تعاسة؟
من أين يأتي أننا إذ نُحب الحقيقة بشغف نُسْلَم دومًا لأكثر الخدع جسامة؟
لماذا تظلُّ الحياة محبوبة لأولئك الهنود الذين خدَعهم البوذيون واستعبدوهم، وسحَقهم أسلاف رجل تتري، وحُمِّلوا عملًا فوق طاقتهم، وهم يئنُّون في عوز، وتجتاحهم الأمراض، وينكشفون لكل متجبِّر؟
من أين يأتي الشر ولماذا يوجد الشر؟
أيا ذرَّات اليوم! أيا رفيقاتي في الفراغ اللانهائي، المولودات مثلي لمعاناة كل شيء، وللجهل بكل شيء، أيوجد بينكم مجانين بما يكفي ليَعتقدوا بأنهم يعرفون كل هذه الأمور؟ لا، لا يوجد؛ ففي قرارة قلوبكم تشعرون بتفاهتكم كما أحكم بالعدل على تفاهتي. لكنكم مُكابرون بما يكفي لترغبوا في أن يعتنق الناس نظرياتكم الباطلة؛ وبينما لا تستطيعون أن تكونوا طغاة على أجسادنا، تزعمون أنكم طغاة على أرواحنا.