الإلحاد
(١) القسم الأول
(١-١) عن المقارنة المتكررة بين الإلحاد والوثنية
عند باب أحد المنازل يقف بوابان، يُسألان: «أيُمكن التحدُّث إلى سيدكما؟» فيُجيب أحدهما: «إنه ليس هناك.» ويُجيب الآخر: «هو هناك، لكنه مُنشغِل بعمل نقود مزيَّفة، وعقود مزوَّرة، وخناجر وسموم؛ ليَمحق أولئك الذين لم يفعلوا شيئًا سوى تحقيق غرضه.» يشبه الملحد البوَّاب الأول، بينما يُشبه الوثني الآخر. من الواضح إذًا أن الوثني يسيء إلى الإله بأشد مما يَفعل المُلحد.
أستميح الأب ريشيوم، وحتى بايل، عذرًا. ليس هذا الوضعَ الملائم للأمر على الإطلاق. لكي يُشبه البواب الأول الملحدين، يجب ألا يقول: «سيدي ليس هنا.» ولكن يجب أن يقول: «ليس لديَّ سيد؛ ذاك الذي تدَّعي أنه سيدي ليس هنا. رفيقي أحمق إذ يُخبرك بأنه مشغول بتركيب السموم وشحذ الخناجر ليَغتال أولئك الذين نفذوا نزواته؛ لا يوجد كائن كهذا في العالم.»
هكذا فهم ريشيوم الأمر فهمًا بالغ السوء، ونسيَ بايل نفسه في أحاديثه المسهَبة حتى إنه أعطى لريشيوم شرف تفسير ما قاله بألفاظ مغلوطة.
يبدو أن بلوتارخ يُعبِّر عن نفسه تعبيرًا أفضل كثيرًا من ذلك في تفضيله الناس الذين يَنفون وجوده على أولئك الذين يدَّعون أن بلوتارخ صعب العشرة. حقًّا، ماذا يعنيه في أن يقول الناس إنه ليس موجودًا في العالم؟ لكن يَعنيه كثيرًا ألا تُلطَّخ سمعته. الوضع مختلف مع الكائن الأعلى.
لا يتحدَّث بلوتارخ حتى عن الموضوع الرئيس في المناقشة. ليست المسألة معرفة من الأكثر إساءة إلى الكائن الأعلى؛ من يُنكره أم من يُشوِّهه. مستحيل أن نعرف، إلا بالوحي، إن كان الله مستاءً من الهراء الذي يقوله البشر عنه.
غالبًا ما يسقط الفلاسفة دون تروٍّ في أفكار العامة؛ في افتراض أن الله غيورٌ على مجده، سريع الغضب، يحبُّ الانتقام؛ في تبنِّي صور خيالية بدلًا من تبنِّي أفكار حقيقية. الموضوع المهم للعالم كله هو معرفة ما إذا كان من الأفضل لصالح البشرية جمعاء أن نعترف بإله يُثيب ويُعاقب، يُكافئ على الأفعال الصالحة الخفية، ويُعاقب على الجرائم السرية، من ألا نَعترف بأي من ذلك على الإطلاق.
يُجهد بايل نفسه في سرد كل الأعمال الشائنة التي تعزوها الأساطير لآلهة العصور القديمة، ويُجيبه خصومه بملاحظات مبتذَلة لا تعني شيئًا. تَقاتَل دائمًا مؤيدو بايل وخصومه دون أن يلتقوا. لقد اتفقوا جميعًا على أن جوبيتر كان زانيًا، وأن فينوس كانت امرأة لعوبًا، وأن ميركوري كان وغدًا، لكن رأيي أن ذلك ليس هو ما يَستدعي الاهتمام؛ فلا بد أن يميز المرء بين «تحولات» أوفيد وبين ديانة الرومان القدماء. أكيد أنه لم يكن قطُّ لدى الرومان أو حتى اليونانيين معبد مكرَّس لميركوري الوغد، وفينوس اللعوب، وجوبيتر الزاني.
الإله الذي أطلق عليه الرومان «الإله الأفضل» كان طيبًا جدًّا، وعظيمًا جدًّا، ولم يُعرف عنه أنه شجَّع كلوديوس على النوم مع زوجة قيصر، أو قيصر على اللواط مع الملك نيكوميديس.
لا يقول شيشرون إن ميركوري حرَّض فيريس على سرقة صقلية، على الرغم من أن ميركوري في الأسطورة سرَق بقرات أبولو. كانت الديانة الحقيقية للقدماء أن جوبيتر «الطيب جدًّا والعادل جدًّا» والآلهة الثانويِّين عاقبوا شهود الزور في الجحيم. بالمثل، ظل الرومان لوقت طويل هم أكثر المتدينين برًّا بالأيمان؛ ومن ثم كان الدين مفيدًا للغاية للرومان. لم يكن هناك أمر بالإيمان ببيضتَي ليدا، وبتحول ابنة إيناخوس إلى بقرة، وبحب أبولو لهياسينثوس.
لذلك، يجب على المرء ألا يقول إن ديانة نوما قد دنَّست الربوبية. وهكذا نجد أن الناس كانوا يتنازعون على وهمٍ، وكثيرًا ما حدث هذا.
السؤال إذًا هو: هل يُمكن أن توجد أمة من الملحدين؟ يبدو لي أنه يجب على المرء أن يُميِّز بين ما يُطلق عليه أمة وبين مجتمع فلاسفة فوق الأمة. صحيح تمامًا أنه في كل بلد يحتاج العوام لأشد شكيمة، وأنه لو كان لدى بايل فقط خمسمائة فلاح أو ستمائة ليَحكمهم، فإنه لم يكن ليعجِز عن أن يُعلن لهم وجود الله المُثِيب والمُعاقِب. لكن بايل لم يكن ليتكلم عنه لأتباع إبيقور الذين كانوا أغنياء جدًّا، مولَعين بالراحة، ويرعَوْن كل الفضائل الاجتماعية، وعلى رأسها الصداقة، هربًا من حرج الشئون العامة وخطرها. قُصارَى القول أنهم كانوا يَحيَوْن حياة مريحة وبسيطة. يبدو لي أنه بهذه الطريقة قد حُسم الجدال فيما يخص المجتمع والسياسة.
أما الأجناس الهمَجية بأسرها، فقد قيل إنه لا يُمكن للمرء أن يَعُدَّهم بين الملاحدة أو المؤمنين. يُشبه سؤالهم عن عقيدتهم سؤالهم عما إن كانوا يؤيدون أرسطو أم ديموقريطس، بينما هم لا يعلمون شيئًا عن هذا أو ذاك. هم ليسوا مُلحدين بأكثر من كونهم «مشَّائين».
في هذه الحالة سأُجيب بأن الذئاب تعيش هكذا، وأن جماعة من أكَلة لحوم البشر المتوحِّشين — كما تظنُّهم — ليست مجتمعًا. ويجب أن أسألك دائمًا: حينما تُقرض نقودك شخصًا في مجتمعك، ألا تريد أن يؤمن مَدينك ومحاميك وقاضيك بالله؟
(١-٢) عن الملاحدة الجدد؛ أدلة عُبَّاد الله
نحن كائنات ذكية؛ والكائنات الذكية لا يمكن أن يَخلقها كائن خام، أعمى، غير عاقل. ثمة اختلافات، قطعًا، بين أفكار نيوتن وبين روث بغل؛ لذلك فإن ذكاء نيوتن أتى من ذكاء آخر.
حينما نرى آلةً جميلة، نقول إن هناك مهندسًا جيدًا، وإن ذلك المهندس يَتمتع بحُكم ممتاز. العالَم بالتأكيد آلة مثيرة للإعجاب؛ ولذلك يوجد في العالم ذكاء مُثير للإعجاب، أينما يكن. هذه الحُجة قديمة، ولا بأس في ذلك.
كل الأجسام الحية تتكوَّن من تروس وأذرع، تؤدي وظائفها طبقًا لقوانين الميكانيكا؛ ومن سوائل تجعلها قوانين الهيدروستاتيكا تدور على الدوام؛ وحينما يفكر المرء أن كل هذه الكائنات لديها إدراك لا يرتبط بنظامها العضوي، تَغمر المرء الدهشة.
تعمل حركة الأجرام السماوية وحركة أرضنا الصغيرة حول الشمس، جميعها، وفقًا لأعقد قانون رياضي. كيف حظيَ أفلاطون الذي لم يكن على دراية بأيٍّ من تلك القوانين؛ أفلاطون الفصيح، وإن يكن واهمًا، الذي قال إن الأرض قائمة على مثلث مُتساوي الأضلاع، والماء عند مثلَّث قائم الزاوية؛ أفلاطون الغريب الذي قال إنه لا يُمكن أن يكون هناك أكثر من خمسة عوالم؛ لأنه لا يوجد سوى خمسة أجسام منتظمة، أقول كيف حظيَ أفلاطون الذي لم يكن يعلم حتى حساب المثلثات الكروية مع ذلك بعبقرية راقية بما يكفي، وغريزة محظوظة بما يكفي لأن يدعو الله «المهندس الأبدي» وأن يَشعر بوجود ذكاء مبدع؟ يعترف اسبينوزا نفسه بذلك؛ فمن المستحيل أن نتهرب من تلك الحقيقة التي تُحيط بنا وتَضغط علينا من كل الاتجاهات.
(١-٣) أدلة الملاحدة
إن توليف ذلك الكون كان ممكنًا، بما أننا نرى هذا التوليف موجودًا؛ وبناءً عليه، كان ممكنًا للحركة بمفردها أن ترتب أجزاءه بنفسها. فلنُفكر في أربعة من الأجرام السماوية فحسب، المريخ والزهرة وعطارد والأرض؛ لنفكر أولًا في أماكنها فقط، ونستبعد ما خلا ذلك، ولنر كم لدينا من الاحتمالات أن الحركة بنفسها وضعت كلًّا منها في مكانه. لدينا فقط أربعة وعشرون احتمالًا مقابل واحد؛ أن تلك الأجرام لن تكون حيثما هي بالنسبة إلى كلٍّ منها. لنُضِف إلى تلك الأجرام الأربعة كوكب المُشتري. سيكون لدينا فقط مائة وعشرون احتمالًا مقابل واحد؛ أن المُشتري والمريخ والزهرة وعطارد وأرضنا لن تكون في أماكنها التي نراها فيها الآن.
أضف زُحل في النهاية؛ سيُصبح أمامنا فقط سبعمائة وعشرون احتمالًا مقابل واحد، لصالح وضع تلك الكواكب الستة الكبيرة في ترتيبها الذي تحتفظ به فيما بينها طبقًا للمسافات بينها؛ لذلك يتَّضح أنه خلال سبعمائة وعشرين احتمالًا، استطاعت الحركة بمفردها أن تضع الأجرام الرئيسية الستة في ترتيبها.
أضف بعد ذلك كل الأجرام الثانوية، وكل توليفاتها، وكل حركاتها، وكل الكائنات التي تنبت وتعيش وتشعُر وتُفكِّر وتعمل في كل العوالم، ولن يكون عليك إلا أن تزيد من عدد الاحتمالات؛ أن تُضاعِف هذا العدد إلى الأبد، حتى ذلك العدد الذي ندعوه نتيجة ضعفنا «لا نهاية». ستكون هناك وحدة لصالح تشكيل العالم، كما هو حاليًّا، بالحركة وحدها؛ لذلك فمن الممكن دومًا أن تكون حركة المادة بمُفردها أنتجت الكون بأكمله كما هو قائم الآن. لا، بل من الحتمي أن يحدث هذا التوليف بلا انقطاع.» يقولون: «لذا، ليس فقط من الممكن للعالم أن يكون كما هو كائن بالحركة وحدها، ولكن كان من المستحيل ألا يكون هكذا بعد عدد لا نهائي من التوليفات.»
(١-٤) الرد
يبدو لي هذا الافتراض كله خياليًّا إلى حدٍّ مذهل لسببين؛ أولًا: أن في هذا الكون كائنات ذكية، وأنكم لن تعرفوا كيف تُثبتون أن الحركة يمكنها بمفردها أن تُنتج الفهم. ثانيًا: أنه، باعترافكم، يوجد عدد لا نهائي من الاحتمالات في مواجهة احتمال واحد للمراهنة على أن سببًا ذكيًّا مبدعًا يُحرِّك الكون. عندما يكون المرء بمُفرده في مواجهة اللانهاية، يشعر المرء بالضآلة الشديدة.
نُكرِّر مرة ثانية أن اسبينوزا نفسه اعترف بهذا الذكاء؛ فهو يُشكِّل حجر الأساس لنظريته. لم تقرءوا ذلك على الرغم من وجوب قراءته. لماذا تودُّون أن تتجاوزوه، وتُغرقوا منطقكم الواهن بعنادكم الغبيِّ في لُجَّة لم يَجرؤ اسبينوزا أن يهبط إليها؟ أتُدركون جيدًا الحماقة القصوى في قول إن علة عمياء هي التي تُرتب أن نسبة مربع مدار كوكب إلى مربع مدارات الكواكب الأخرى هي نفسها نسبة مكعَّب مسافته إلى مكعَّب مسافات الكواكب الأخرى إلى المركز المشترك؟ إما أن الأجرام السماوية ضليعات في علم الهندسة أو أن «المهندس الأبدي» هو من رتب الأجرام السماوية.
لكن أين هو «المهندس الأبدي»؟ أهو في مكان واحد أم في جميع الأماكن، دون أن يشغل حيزًا؟ لا أدري البتة. هل من جوهره الخاص أنه رتَّب كل تلك الأشياء؟ لا أدري البتة. أهو هائل بلا كمية وبلا كيفية؟ لا أدري البتة. كل ما أعرفه هو أن على المرء أن يعبده، وأن يكون عادلًا.
(١-٥) اعتراض جديد من ملحد معاصر٤
هل يُمكن للمرء أن يقول إن أعضاء الحيوانات تتوافق مع احتياجاتها؟ ما هي هذه الاحتياجات؟ البقاء والتكاثر. هل هو مدهش إذًا أنه من ضمن التوليفات اللانهائية التي أنتجتها الصُّدفة، ثمة إمكانية فقط لاستمرار تلك الكائنات التي لدَيها أعضاء تكيَّفت مع التغذية واستمرار أنواعها؟ ألم تنقرض كل الأنواع الأخرى بالضرورة؟
(١-٦) الرد
هذا الاعتراض المكرَّر بكثرة منذ عصر لوكريتيوس، تدحضه بما يكفي هبة الإحساس لدى الحيوانات، وهبة الذكاء في الإنسان. كيف يُمكن للتوليفات «التي أنتجتْها الصدفة» أن تنتج هذا الإحساس وهذا الذكاء كما ذكرنا سابقًا؟ لا شك أن أطراف الحيوانات مصنوعة لتُلبي احتياجاتها بفنٍّ لا يُمكن استيعابه، ولا تجرؤ على نكرانه. ليس لديك ما يُمكن أن تُضيفه بشأنه. وتشعر بأنه ليس لديك ما تردُّ به على تلك الحجة العظيمة التي تسوقها الطبيعة ضدك. يَكفي تناسُق جناح بعوضة أو أعضاء حلزون لتفنيد حجتك كليًّا.
(١-٧) اعتراض موبرتيوس
وسَّع الفلاسفة الطبيعيون المُحدَثون من نطاق تلك الجدالات، ودفعوها في كثير من الأحوال إلى التفاهة والفظاظة. لقد وجدوا الله بين ثنايا جلد وحيدِ القرن؛ ويُمكن للمرء بمنطق مساوٍ أن يُنكر وجوده بسبب درقة السلحفاة.
(١-٨) الرد
يا له من منطق! إن السلحفاة ووحيد القرن وكل الأنواع المختلفة تُبرهن بالتساوي في تنوعها اللانهائي عن العلة ذاتها، والتصميم ذاته، والهدف ذاته، وهو البقاء والتكاثُر والموت.
هناك وحدة في هذا التنوع اللانهائي؛ فالدرقة والجلد يَشهدان على ذلك بالتساوي. ماذا؟! تُنكر الله لأن الدرقة لا تشبه الجلد؟! أسرَف الصحافيون في مدائحهم لأولئك الفلاسفة الحمقى، مدائح لم يمنحوها لنيوتن ولا للوك، وكلاهما عابدان للإله الذي تكلَّم بالمعرفة الكاملة.
(١-٩) اعتراض موبرتيوس
ما نفع الجمال والتناسُب في تكوين الثعبان؟ يقول بعض الناس إنه ربما يكون لهما استخدامات نجهلها. فلنصمُت على الأقل؛ ولنمتنع من الإعجاب بحيوانٍ لا نعرفه إلا بالضرر الذي يفعله.
(١-١٠) الرد
ولتصمُت أنت أيضًا، بما أنك لا تستطيع أن تُدرك جدواه أكثر مما أستطيع؛ أو أن تَعترِف بأن كل شيء في الزواحف يُثير الإعجاب في تناسُقه.
بعض الزواحف سامٌّ، وأنت أيضًا تَنفث السم. إنما نسأل هنا عن الفن المُذهل الذي شكَّل الثعابين وذوات الأربع والطيور والأسماك وذوات القدمَين. هذا الفن في حد ذاته دليل كافٍ. تسأل لماذا يؤذي الثعبان؟ ماذا عنك؟ لماذا تسبَّبت بالأذى مرارًا؟ لماذا اضطَهدتَ؟ وهذا أعظم جرم يمكن أن يَرتكبه فيلسوف. هذا سؤال مختلف، سؤال حول آفة أخلاقية ومادية. كم تساءل المرء طويلًا لماذا يوجد كثير من الثعابين وكثير من البشر الأشرار الأسوأ من الثعابين. لو كان للذباب أن يَعقل لاشتكى إلى الله من وجود العناكب؛ ولكنه كان سيُقر بما أقرَّت به مينيرفا عن أراكني، في الأسطورة، أنها تَنسج شبكتها ببراعة مذهلة.
على المرء إذًا أن يَعترف بهذا الذكاء الذي لا يوصف الذي أقر به اسبينوزا نفسه. وعلى المرء أن يُوافق على أن هذا الذكاء يبرق في أكثر الحشرات تفاهة كما في النجوم. أما ما يتعلق بالآفات الأخلاقية والعيوب الجسدية فماذا يستطيع المرء أن يقول؟ ماذا يستطيع أن يفعل؟ فليُعزِّ نفسه بأنه يستمتع بالخير الأخلاقي والجسدي في عبادة الكائن الأبدي الذي خلق واحدًا وسمح بالآخر.
كلمة أخرى عن هذا الموضوع: إن الإلحاد رذيلة يَقترفها قلة من الأذكياء، والخرافة رذيلة الحمقى. ولكن المدلسين! ماذا يكونون؟ مدلسين.
(٢) القسم الثاني
لنتكلم عن المسألة الأخلاقية التي أثارها بايل، لنعرف «هل يُمكن أن يوجد مجتمع من الملاحدة؟» فلنُحدِّد قبل أي شيء في هذا الشأن ما هو التناقض الكبير الذي يُبديه المشاركون في هذا الجدال. أولئك الذين عارضوا رأي بايل بحماسة عظيمة، أولئك الذين أنكروا بأبشع الإهانات إمكانية وجود مُجتمع من الملاحدة، زعموا بالجرأة نفسها أن الإلحاد هو دين الحكومة في الصين.
هم قطعًا مخطئون تمامًا بشأن الحكومة الصينية؛ كان عليهم أن يقرءوا مراسيم أباطرة تلك البلاد الشاسعة ليرَوْا بأعينهم أن هذه المراسيم هي بحد ذاتها عِظات، وأنه في كل موضع ثمة ذِكر للكائن الأعلى، المهيمن المنتقم المُثيب.
ولكنهم في الوقت نفسه، ليسوا أقل خطأً بشأن استحالة وجود مجتمع من الملاحدة. ولا أدري كيف يُمكن أن ينسى السيد بايل مثالًا صارخًا كان قادرًا أن يُحقق النصر لقضيته.
ما الذي يجعل مجتمعًا من ملاحدة يبدو مستحيلًا؟ هذا لأن المرء يَحكم بأن الناس الذين ليست لديهم مرجعية لا يُمكنهم العيش معًا أبدًا؛ أن القوانين لا تُجدي في مواجهة الجرائم السرية؛ أن وجود الله المنُتقِم الذي يُعاقِب — في هذا العالم أو في العالم الآخر — الأشرارَ الذين هربوا من العدالة البشرية، ضروري.
صحيح أن شرائع موسي لم تُبشِّر بحياة أخرى، ولم تُهدد بعقوبات بعد الموت، ولم تُعلِّم اليهود الأوائل عن خلود الروح، ولكن اليهود، وهم أبعد ما يكون عن تسميتهم بالملاحدة، وأبعد ما يكون عن الإيمان بتجنُّب الجزاء الإلهي، كانوا أكثر الناس تدينًا. لم يؤمنوا بوجود الله الأبدي فقط، ولكنهم اعتقدوا أنه حاضر دائمًا بينهم، وكانوا يَرتجفون خشية أن يُعاقَبوا في أنفسهم أو زوجاتهم أو أطفالهم أو في ذريتهم القادمة حتى الجيل الرابع. كان هذا وازعًا فعالًا للغاية.
أما غير اليهود فظهرت بينهم طوائف كثيرة بلا وازع: شكَّ الشكوكيون في كل شيء، وعلَّق الأكاديميون الحكم على كل شيء، وكان الإبيقوريون مُقتنعين بأن الإله لا يُمكن أن يُقحم نفسه في شئون البشر، وفي الحصيلة لم يُقِروا بأي إله. كانوا مُقتنعين بأن الروح ليست جوهرًا، ولكنها مَلَكة وُلِدت، وتضمحل مع الجسد؛ ومن ثم لم يكن من نير يثقلهم إلا الأخلاق والشرف. كان أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان الرومان ملاحدةً حقيقيِّين؛ لأن الآلهة لم تكن توجد عند رجالٍ لم يَخافوها ولم يرجوا منها شيئًا. هكذا كان مجلس الشيوخ الروماني في زمن قيصر وشيشرون — حقًّا — جماعةً من الملاحدة.
يقول الخطيب العظيم، في خطبته من أجل كلوينشوس، لمجلس الشيوخ المنعقد بأكمله: «ما الضرر الذي يُسببه له الموت؟ نحن نرفض كل الخرافات الموروثة من الأراضي الخفيضة، من أي شيء يحرمه الموت حينئذ؟ لا شيء سوى الوعي بالألم.»
ألم يَعترض قيصر، صديق كاتالينا، مُتمنيًا إنقاذ حياة صديقه، في مواجهة شيشرون هذا نفسه، محتجًّا بأن إماتة المُجرم لا تعني معاقبته على الإطلاق؛ لأن الموت «لا يعني شيئًا»، ولكنه مجرَّد نهاية لكل أوجاعنا، وهو لحظة سعيدة أكثر منها مأساوية؟ أوَلم يَستسلم شيشرون ومجلس الشيوخ جميعًا لتلك الحُجج؟ لقد شَكَّل غزاة الكون المعروف ومشرِّعوه مجتمعًا من الناس الذين لم يَخشوا شيئًا من الآلهة، وكانوا ملاحدة حقيقيِّين.
علاوة على ذلك، يبحث بايل ما إن كانت الوثنية أخطر من الإلحاد، وما إن كان انعدام الإيمان بالإله جريمة أكبر من اعتناق آراء تافهة عنه. ويَتبنى في ذلك رأي بلوتارخ؛ فيعتقد أن الافتقار لرأيٍ أفضل من تبني رأي سيئ. لكن، مع كل الإجلال لبلوتارخ، كان من الأفضل كثيرًا لليونانيين بوضوح أن يخشوا سيريس ونبتون وجوبيتر من ألا يخشوا أحدًا على الإطلاق. قداسة الأيْمان ضرورية للغاية، وينبغي أن يثق المرء بأولئك الذين يؤمنون بأن من يحنث في قَسَمه يُعاقَب أكثر مما يثق بأولئك الذين يظنون أن بإمكانهم أن يحنثوا في أيمانهم بلا عقوبة. لا شك أن وجود دين في مدينة مُتحضِّرة، وإن يكن دينًا سيئًا، أفضل كثيرًا من الافتقار لأي دين على الإطلاق.
لذلك يبدو أن بايل كان ينبغي عليه أن يدرس، بدلًا من ذلك، أيهما أخطر: التعصب أم الإلحاد؟ إن التعصب أخطر ألف مرة؛ لأن الإلحاد لا يُثير الشغف الدموي، بينما يثيره التعصُّب. لا يتعارض الإلحاد والجريمة، لكن التعصُّب يؤدي إلى ارتكاب الجرائم؛ فالمتعصبون هم من ارتكبوا مذابح يوم سان بارثولوميو. عاش هوبز، الذي قضى حياته مُلحِدًا، حياة هادئة وادعة. أما مُتعصِّبو عصره فأغرقوا إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا في الدم. لم يكن اسبينوزا ملحدًا فقط، لكنه كان يُعلِّم الإلحاد. لم يكن هو بالتأكيد من أسهم في الحكم القضائي بإعدام بارنيفلدت، ولم يكن هو مَن مزَّق الإخوة دي ويت إربًا وأكلهم مشويِّين.
الملاحدة، في المقام الأول، باحثون وقحون ومُضَلَّلون وفاسدو الفكر، وبما أنهم غير قادرين على فهم الخلق، وأصل الشر، وغيرها من الإشكاليات، فهم يلجئون إلى فرضيةٍ أبدية الأشياء وفرضية الحتمية.
لا يملك الطموحون والحِسِّيُّون الوقت لإعمال العقل، أو لاعتناق نظرية سيئة؛ فلديهم أشياء أخرى ليفعلوها غير مقارنة لوكريتيوس بسقراط. هكذا تسير الأمور بيننا.
لم تكن الأمور تسير هكذا مع مجلس الشيوخ الروماني الذي كان يتألف بالكامل تقريبًا من ملاحدة نظريًّا وعمليًّا، بمعنى أنهم لم يؤمنوا بالعناية الإلهية ولا بالحياة الآخرة. كان هذا المجلس يتألف من مجموعة من الفلاسفة، والرجال الحسِّيِّين، والطموحين، شديدي الخطورة الذين دمروا الجمهورية. كانت الإبيقورية موجودة تحت حكم الأباطرة؛ فقد كان مُلحدو مجلس الشيوخ متمردين في عصر سيلا وقيصر، بينما كانوا عبيدًا ملاحدة إبان حكم أوغسطوس وتيبيريوس.
لا أتمنى أن أُضطَر إلى التعامل مع أمير مُلحِد، يجد من مصلحته أن يَسحقني بمِدفع؛ سأكون متأكدًا تمامًا من السحق. ولو كنت سيدًا فلن أرغب في الاضطرار إلى التعامل مع حاشية ملاحدة مصلحتهم في قتلي بالسم؛ سيكون عليَّ أن أتناول ترياقًا كلَّ يوم. ضروري إذًا للأمراء والشعوب أن تكون فكرة الكائن الأعلى، الخالق المهيمن المُثيب المنتقم، محفورة بعمق في عقول الناس.
يقول بايل في كتابه «أفكار عن المذنَّبات» إن ثمة شعوبًا مُلحدة؛ الكفرة، والهوتنتوت، والتوبينامبو، وكثير من الأمم الصغيرة الأخرى ليس لديها إله. وهم لا يُنكرونه ولا يؤكدونه، ولم يسمعوا بذكره. أَخبرْهم بأن هناك إلهًا، وسيؤمنون به بسهولة. أَخبِرهم بأن كل شيء يحدث من خلال طبيعة الأشياء، سيُصدِّقونك بالقَدر نفسه. يعني ادعاؤك أنهم ملاحدة أنك تنسب إليهم شيئًا كما لو قال المرء إنهم مُناهِضون لديكارت، وهم لا يؤيدون ديكارت ولا يُنكرونه. إنهم أطفال حقيقيُّون، والطفل ليس ملحدًا ولا متديِّنًا، هو لا شيء.
ما الخلاصة التي نستنتجها من كل هذا؟ أن الإلحاد وحشٌ فتاك عند من يَحكمون، وأنه فتاك أيضًا عند الأشخاص الذين يُحيطون برجال الدولة، على الرغم من أن حيواتهم قد تكون بريئة؛ لأنه ربما يبدو صحيحًا لرجال الدولة وهم في مكاتبهم أنه إن كان غير قاتل بقدر التعصُّب، فإنه غالبًا ما يكون قاتلًا للفضيلة. دعنا نُضِف على وجه الخصوص أن لدينا اليوم ملاحدة أقل مما كان في أي وقت مضى، منذ أن أدرك الفلاسفة أنه ما من نبتة بلا بذرة ولا بذرة بلا خطة … إلخ، وأن القمح لا يُمكن أبدًا أن يَنتج من العفن.
لقد رفَض بعض علماء الهندسة غير الفلاسفة العِلَل الغائية، ولكن الفلاسفة الحقيقيِّين اعترفوا بها. يُعلن مُعلِّم المسيحية عن الله للأطفال، ويُبرهن عنه نيوتن للمتعلمين.
إذا كان هناك ملحدون فمَن المَلومون إن لم يكونوا طغاة الأرواح المأجورين الذين، بجعلهم إيانا نثور ضد حِيَلهم، أجبروا قلَّة من العقول الضعيفة على أن تُنكر الله الذي لا يُبجِّله هؤلاء الوحوش. كم أوصل مستنزفو البشر هؤلاء المواطنين المقهورين إلى نقطة الثورة ضد مَلِكهم!
أولئك الذين تغذَّوْا على أجسامنا يَصيحون لنا: «عليكم أن تقتنعوا بأن أَتانًا تكلمت؛ صدِّقوا أن سمكة بلعت رجلًا وأبقت عليه بداخلها، وبنهاية ثلاثة أيام لفظته على الشاطئ آمنًا معافًى؛ لا تشُكُّوا أبدًا أن إله هذا الكون قد أمر نبيًّا يهوديًّا أن يأكل الغائط (حزقيال)، ونبيًّا آخر أن يَشتري عاهرتين ليُنجب منهما أبناء زنا (هوشع). هذه هي حقًّا الكلمات التي نطق بها إله الحق والطُّهر. ولْتؤمن بمائة شيء آخر، سواء أكان مقيتًا بصريًّا أم مستحيلًا رياضيًّا. إن لم تفعل فسيَحرقك إله الرحمة، ليس فقط عبر ملايين آلاف الملايين من القرون في نار جهنم، ولكن عبر الأبدية كلها، سواء أكان لك جسد أم لم يكن.»
هذه السخافات غير المقنعة تُثير اشمئزاز العقول الضعيفة والطائشة، وكذلك العقول الحكيمة والحازمة. يقولون: «يُصوِّر مُعلِّمونا الله لنا على أنه الأكثر وحشية وهمجية من بين كل الكائنات، ولذلك فما من إله.» لكن عليهم أن يقولوا: «ولذلك فإن معلِّمينا ينسبون إلى الله سخافاتهم وسَوْراتهم، ولذلك فالله هو عكس مما يدَّعون، فالله حكيم وخيِّر بقدر ما يُصوِّرونه مجنونًا وشريرًا.» هكذا يُفسِّر الحكماء الأمور. لكن إذا سمعهم أحد المُتعصِّبين، فسيتهمهم أمام قاضٍ هو بدوره كلب حراسة للكهنة، وسيَحرقهم كلب الحراسة هذا على نارٍ هادئة، معتقدًا أنه يَنتصر للجلال الإلهي ويُحاكيه، وهو ينتهك حقه.