الدين
كنتُ أتأمل الليلة الماضية، كنت مُستغرَقًا تمامًا في تأمل الطبيعة، وشعرت بالإعجاب بالاتساع والتتابع والتناغُم الذي تتَّسم به هذه الكواكب اللانهائية التي لا يعرف السوقة كيف يُعجبون بها.
لكني أُعجبت أكثر من ذلك بالذكاء الذي يُوجِّه هذه القوى الشاسعة، وقلت لنفسي: «لا بد أن يكون المرء أعمى كي لا يَنبهر بهذه الأعجوبة، لا بد أن يكون المرء غبيًّا حتى لا يتعرَّف على مؤلفها، لا بد أن يكون المرء مجنونًا حتى لا يعبده، أي واجب من العبادة ينبغي أن أُقدمه له؟ ألا يجب أن يكون ذلك الواجب واحدًا في كل الفضاء، طالما أن القوة الفائقة نفسها تحكم بالتساوي في الفضاء كله؟ ألا يجب على كائن مُفكِّر يسكن في كوكب في مجرة الطريق اللبني أن يقدِّم له التبجيل نفسه الذي يُقدمه الكائن المفكِّر في كوكبنا الصغير هذا الذي نوجد فيه؟ الضوء موحَّد لكوكب الشِّعرى ولنا؛ ويجب أن تكون الفلسفة الأخلاقية موحَّدة. لو أن كائنًا حساسًا ومفكرًا في الشِّعرى وُلِد من أبٍ حنون، وأم مشغولة بإسعاده، فهو يدين لهما بالحب والعناية نفسها التي ندين بها لوالدينا. ولو أن أحدًا في مجرة الطريق اللبني يرى قعيدًا محتاجًا، وكان باستطاعته أن يُريحه ولم يفعل ذلك، فهو مُذنب تجاه الأكوان كلها. للقلب واجبات واحدة في كل مكان: على درجات عرش الله، إن كان له عرش، وفي عمق الجحيم إن كان هو جحيمًا.»
كنتُ غارقًا في هذه الأفكار حينما هبط لي أحد أولئك الجن الذين يملئون الفراغات بين الكواكب. تعرَّفت على هذا المخلوق الأثيري الذي سبق أن ظهر لي في مناسبة أخرى ليُعلمني كيف كانت أحكام الله مختلفة عن أحكامنا، وكيف أن الفعل الخيِّر مفضَّل على الجدل.
نقلني إلى صحراء مُغطاة كلها بأكوام من العظام، وبين أكوام الموتى هذه كانت هناك مماشٍ من الأشجار دائمة الاخضرار، وفي نهاية كل ممشًى كان رجل طويل ذو طلعة جليلة ينظر إلى تلك البقايا البائسة بشفقة.
قلت: «وا حسرتاه! يا ملاكي الرئيس، إلى أين أحضرتني؟»
أجاب: «إلى القفر.»
«ومَن هؤلاء الآباء الذين أراهم حَزانَى وساكنين في نهاية هذه المماشي الخضراء؟ يبدو وكأنهم ينتحبون على ذلك الجمع الذي لا يحصى من الموتى؟»
أجاب الجِنِّي من بين السماوات:
«ستعرف أيها المخلوق الإنساني البائس. ولكن بادئ ذي بدء يجب عليك أن تَنتحب.»
بدأ بالكومة الأولى، وقال: «هؤلاء هم الثلاثة والعشرون ألف يهودي الذين رقصوا أمام عِجل، مع الأربعة والعشرين ألفًا الذين أُبيدوا بينما كانوا يَضطجعون مع النساء الميدِيَّات. عدد أولئك المهلَكين بسبب مثل هذه الأخطاء والمعاصي يصل تقريبًا إلى ثلاثمائة ألف.
وفي المماشي الأخرى عظام المسيحيِّين الذين ذَبح بعضُهم بعضًا بسبب خلافات ميتافيزيقية. وهم مقسَّمون على بضعة أكوام؛ كلٌّ منها من أربعة قرون. كان يمكن لواحدة منها أن تصعد إلى السماء، فوجب تقسيمهم.»
صرختُ: «ماذا؟! عامَل الإخوة إخوتهم هكذا، ومن بَلِيَّتي أني أنتمي إلى أولئك الإخوة!»
قالت الروح: «هنا الاثنا عشر مليون أمريكي الذين قُتلوا على أرضهم الأم لأنهم لم يُعَمَّدوا.»
«يا إلهي! لِمَ لم تترك هذه العظام المريعة تجفُّ في نصف الكرة الأرضية الذي ولدت فيه أجسادهم؟ وأين أُسْلِموا لميتات مختلفة عديدة؟ لماذا تجمعون هنا كل تلك الآثار البشعة الشاهدة على الهمَجية والتعصب؟»
«لنُعلِّمك.»
قلت للجني: «طالما أنك تريد أن تُعلمني، أخبرني إن كانت هناك أمم أخرى غير المسيحيين واليهود تحوَّل دينها وغيرتها على نحو بائس إلى تعصُّب، وأوحيا بفظاعات مريعة كثيرة.»
قال: «نعم. تلطَّخ المحمديون بالأفعال اللاإنسانية نفسها، ولكن نادرًا، وحينما كان أحدٌ يطلب منهم الأمان، ويُعطيهم الجزية، كانوا يسامحون. أما عن الأمم الأخرى، فلم تكن هناك أمة واحدة منذ نشوء العالم شنَّت حربًا دينية على نحو خالص قط. اتبعني الآن.» تبعته.
خلف تلك الأكوام من الموتى بمسافة قليلة وجدنا أكوامًا أخرى. كانت مؤلَّفة من أكياس من الذهب والفضة، ولكلٍّ منها علامته: ثروة الهراطقة المذبوحين في القرن الثامن عشر، والسابع عشر، والسادس عشر. وهكذا بالعودة إلى الماضي: ذهبُ الأمريكيِّين المذبوحين وفضتهم … إلخ، إلخ. وكانت كل هذه الأكوام تعلوها صلبان، وتيجان، وصولجانات، وتيجان ثلاثية مرصَّعة بأحجار كريمة.
«ما هذا يا جنِّيِّي؟ كان من أجل الحصول على هذه الثروات أن كُوِّم هؤلاء الأموات؟»
«نعم يا بني.»
انتحبتُ. وذهبتُ بأساي الذي استحققته لأُقاد إلى نهاية المماشي الخضراء؛ فقادني هناك.
قال: «تأمَّل؛ أبطال الإنسانية الذين كانوا مُحسني العالم، وكانوا كلهم متحدين في أن يَطردوا من العالم، بقدر ما استطاعوا، العنف والسلب. اسألهم.»
ركضتُ صوب أول من كان في المجموعة. كان لديه تاج على رأسه، ومبخَرة صغيرة في يده؛ فسألته بتواضع عن اسمه، فقال لي: «أنا نيوما بومبيليوس، نشأتُ قاطعَ طريق، وكان لدي قطاع طرُق أقودهم. علَّمتهم الفضيلة وعبادة الله، ومن بعدي نسوا كليهما مرارًا. حرَّمت وجود أي صورة في المعابد؛ لأن الإله الذي يدير الطبيعة لا يُمكن تمثيله. خلال حكمي، لم يخُضِ الرومان حروبًا ولا تمرُّدات، ولم يفعل ديني إلا الخير. أتت كل الشعوب المجاورة لتكريمي في جنازتي، ولم يحدث ذلك لأحد سواي.»
قبَّلتُ يده وذهبت إلى الثاني، كان عجوزًا لطيفًا يُناهز عمره مِائة عام، مرتديًا رداءً أبيض. وضع إصبعه الوسطى على فمه، وباليد الأخرى رمى بعض الحبوب خلفه. عرفت فيثاغورث، أكَّد لي أنه لم تكن له وركٌ ذهبية قط، ولم يكن طاهيًا قط، ولكنه حكم الكروتونيين بقدر ما حكم نيوما الرومان من العدالة في الزمن نفسه تقريبًا، وأن هذه العدالة كانت أندر الأمور وجودًا في العالم وأشدها ضرورية. وعرفتُ أن الفيثاغوريين كانوا يفحصون ضمائرهم مرتين في اليوم. يا لهم من أمناء! ما أبعدَنا عنهم! ولكننا نحن الذين لم نكن سوى سفاحين على مدى ثلاثة عشر قرنًا، نقول إن هؤلاء الرجال الحكماء كانوا مغرورين!
من أجل أن أبعث السرور في فيثاغورس لم أقل شيئًا، وانتقلت إلى زرادشت الذي كان مُنغمسًا في التركيز في النار السماوية في بؤرة مرآة مقعَّرة، وسط حفرة ذات مائة باب، تقود جميعها إلى الحكمة. (تسمى وصايا زرادشت أبوابًا، وعددها مائة). وقرأت فوق الباب الرئيس تلك الكلمات التي تُعد خلاصة الفلسفة الأخلاقية كلها، وتختصر كل نزاعات المهتمين بالقضايا الأخلاقية: «حينما تكون على شك إن كان الفعل صالحًا أم طالحًا أحجم عنه.»
قلت لجنيِّي: «أكيد أن الهمَجيين الذين ضحوا بكل هؤلاء الضحايا لم يقرءوا تلك الكلمات قط.»
بعد ذلك شاهدنا زاليوكوس وطاليس وأنيكسماندرس وكل الحكماء الذين نشدوا الحقيقية ومارسوا الفضيلة.
وحينما وصلنا إلى سقراط، عرفته سريعًا جدًّا من أنفه المفلطحة. قلت له: «حسنًا، أنت إذًا هنا من بين خاصة القدير! كل سكان أوروبا باستثناء الأتراك وتتار القرم الذين لا يَعرفون شيئًا، ينطقون اسمك بإجلال. هذا الاسم العظيم مبجَّل ومحبوب لدرجة أن الناس أرادوا أن يعرفوا أسماء مضطهديك. ميليتيوس وأنيتوس معروفان بسببك، مثلما أن رفايلاك معروف بسبب هنري الرابع، لكني أعرف فقط اسم أنيتوس هذا. لا أعلم بالضبط من كان ذلك الوغد الذي افترى عليك، ونجَح في أن يُحكَم عليك بتجرُّع السم.»
أجاب سقراط: «منذ مغامرتي لم أفكر قط في ذلك الرجل، أما وقد ذكَّرتني به فأنا أشعر بكثير من الشفقة تجاهه. كان كاهنًا شريرًا يُدير عملًا في الخفاء، مهنة شائنة السمعة بيننا. أرسل طفليه إلى مدرستي، عيَّرهما التلاميذ الآخرون بأن والدهما كان دبَّاغًا، وأُجبرا على الرحيل. لم يَسترح الأب الغاضب حتى أثار جميع الكهنة وجميع السوفسطائيِّين ضدي. أقنعوا مجلس الخمسمائة بأني رفيقٌ مُزدرٍ بالآلهة، لا يؤمن بأن القمر وعطارد والمريخ آلهة. بالفعل، اعتدت أن أفكر، كما أفكِّر الآن، أن هناك إلهًا واحد فقط، سيد الطبيعة بأكملها. سلمَني القضاة إلى مُسمِّم الجمهورية؛ فاختصر من حياتي أيامًا قليلة. متُّ في سلام في عمر السبعين، ومنذ ذلك الوقت أُمضي حياة سعيدة وسط كل هؤلاء العظماء الذين تراهم، وأنا أَقَلهم.»
بعد الاستمتاع بفترة من الحديث مع سقراط، تقدمتُ مع مرشدي إلى داخل بستان قائم فوق الأجمات، حيث بدا أن كل حكماء العصور القديمة يرقدون في سلام.
رأيت رجلًا ذا سيماء بسيطة ومهذَّبة، بدا لي أنه في عمر الخامسة والثلاثين تقريبًا. ألقى من بعيد نظرات عطوفة على تلك الأكوام من العظام المُبْيَضَّة التي كان عليَّ أن أعبرها لأصل إلى مقر الحكماء. أصابتني الدهشة من رؤية قدميه متورمتَين داميتين، ويديه مثلهما، وجنبه مطعونًا، وضلوعه مسلوخة بقطوع سياط؛ فقلت له: «إلهي! يستحيل أن يكون رجل عادل حكيم بهذه الهيئة؟ شاهدت للتو امرأً عُومل بكراهية شديدة، لكن ما من مقارنة بين تعذيبه وتعذيبك. سمَّمه الكهنة الأشرار والقضاة الأشرار؛ أبسبب الكهنة والقضاة قُتِلت بهذه الوحشية؟
أجاب بأدب جم: «نعم.»
«ومن كانوا هؤلاء الوحوش؟»
«المنافقين.»
«آه! هذا يُفسر كل شيء. يمكنني أن أفهم بهذه الكلمة المفردة أنه لا بد أنهم حكموا عليك بالموت. هل أثبتَّ لهم كما فعل سقراط أن القمر لم يكن إلهًا وأن المريخ لم يكن إلهًا؟»
«لا. لم تكن المسألة بخصوص هذه الكواكب. لم يكن مُوَاطِنِيَّ يعلمون أصلًا ما يعنيه كوكب. كانوا جميعًا جُهَّالًا صرفًا. كانت خرافاتهم مختلفة بعض الشيء عن خرافات الإغريق.»
«أردتَ أن تُعلمهم دينًا جديدًا إذًا؟»
«لا على الإطلاق. إنما قلت لهم: «أحبوا الله بكل قلوبكم، وأقاربَكم كأنفسكم؛ لأن هذا هو كل ما على الإنسان أن يفعله. احكم ما إن كانت تلك الوصية ليست قديمة قدم الكون نفسه؛ احكم ما إن كنتُ أتيتهم بدين جديد. لم أتوقَّف عن إخبارهم بأني لم آتِ لأنقض القانون، ولكن لأُكمله. لقد راعيت كل شعائرهم، واختتنتُ كما كانوا كلهم، وتعمدتُ كما يفعل أشدهم غَيْرةً، ومثلهم، قدمتُ القربان، واحترمتُ الفصح كما فعلوا، آكلًا وأنا واقف لحم حمل مطبوخًا بالخس. وذهبت أنا وأصدقائي للصلاة بالهيكل، بل إن أصدقائي واظبوا على هذا الهيكل بعد مماتي. باختصار نفَّذت كل قوانينهم بلا استثناء واحد.»
«ماذا! لم يستطع البؤساء حتى أن يتَّهموك بالحياد عن قوانينهم؟»
«نعم، بلا شك.»
«لماذا إذًا وضعوك في الحالة التي أراك فيها الآن؟»
«ماذا تتوقع مني أن أقول! كانوا شديدي الكِبر والأنانية؛ لقد رأوا أني عرفتهم، وعرفوا أني أجعل المواطنين على دراية بهم، وكانوا هم الأقوى. أودوا بحياتي، ودائمًا ما سيفعل أناس على شاكلتهم مثل فعلهم إن استطاعوا إزاء أي شخص يعاملهم بعدل أكثر مما يطيقونه.»
«ولكن ألم تقل شيئًا أو تفعل شيئًا يمكن أن يتخذونه ذريعة؟»
«مع الأشرار كل شيء يمكن أن يُتَّخذ ذريعة.»
«ألم تقل مرَّة إنك لم تأتِ لتُرسل سلامًا ولكن سيفًا؟»
«إنه خطأ الناسخ. قلت لهم إني أرسلت السلام لا سيفًا. لم أكتب شيئًا قط، يمكن أن يكون ما كتبته غُيِّر من غير نية شريرة.»
«لذا لم تُسهم بأي طريقة بأحاديثك التي أسيئت كتابتها وأسيء تفسيرها في هذه الأكوام المريعة من العظام التي شاهدتها في طريقي وأنا قادم لاستشارتك؟»
«بالهول فقط رأيتُ أولئك الذين جعلوا أنفسهم مُذنبين بهذه المَقَاتل.»
«وتلك الآثار للقوة والثروة، للكِبر والجشع، هذه الكنوز، وهذه الزينة، وهذه العلامات على الفخامة التي رأيتها مكوَّمة في الطريق بينما كنتُ أبحث عن الحكمة، هل أتت من عندك؟»
«محال، عشتُ أنا وشعبي في فقر ومذلَّة، كانت عظمتي في الفضيلة وحدها.»
كنتُ على وشك أن أتوسَّل إليه أن يكون طيبًا معي ويُخبرني من هو بالضبط. حذرني مرشدي من أن أفعل شيئًا من هذا القبيل. أخبرَني أني لم أُخلَق لأفهم مثل تلك الأسرار السامية. كل ما فعلته أني ناشدته ليُخبرني علامَ تشتمل الديانة الحقيقية.
«ألم أخبرك بالفعل؟ أحب الرب، وأحبب قريبك كنفسك.»
«ماذا؟! إن أحبَّ المرء الله يمكنه أن يأكل اللحم يوم الجمعة؟»
«أكلت دومًا ما قُدِّم إلي، وكنتُ أفقَرَ من أن أمنح أحدًا طعامًا.»
«مع حب الله والتمسُّك بالعدالة، ألا ينبغي على المرء أن يكون حذرًا نوعًا ما من أن يأتمن شخصًا مجهولًا على كل مجازفاته؟»
«كان هذا دأبي دائمًا.»
«ألا يمكنني أن أستغني بفعل الخير عن الحج إلى سانتياجو كومبوستيلا؟»
«لم أزر أبدًا ذلك البلد.»
«هل من الضروري لي أن أَحبس نفسي في مأوًى مع حمقى؟»
«أما أنا، فتنقَّلتُ في رحلات قليلة من بلدة إلى بلدة.»
«أهو ضروري لي أن أنحاز إلى أيٍّ من الكنيسة اليونانية أو اللاتينية؟»
«حينما كنتُ في الدنيا لم أفرِّق قط بين اليهودي والسامري.»
«حسنًا، إذا كان الأمر كذلك فسأتخذك مُعلمي الوحيد.» وحينئذ، صنع لي برأسه إيماءة ملأتنْي بالتعزية. اختفَت الرؤيا وبقي معي وعي واضح.