الفصل الأول
«اللاتاريخية … أزمة الخطاب العربي المعاصر»
«إنه لما كان عهدُنا هذا، وهو أوائل القرن الرابع عشر الهجري،
عهدًا عَم فيه الضعف والخلَل كافة المسلمين …»
١
بهذا الإقرار الصارم افتتح الكواكبي نصًّا كرَّسه بأَسْره للتداول
في أمر الفتور والضعف النازل بالأمة، فكشَف بذلك عن أن الخطاب
العربي المعاصر لم يُبلوِر وعيًا بالتأخر إلا عند نهاية القرن الماضي،
٢ حين راحت جملة النصوص المنتجة آنذاك — ونص الكواكبي هو
ذروتها — تتكشَّف عن الوعي بالأزمة حادًّا ومسيطرًا.
والحق أنه لا شيء يحدث للآن إلا أن الأزمة تُعيد إنتاج نفسها،
وإلى حدٍّ يبدو فيه تاريخ الأمة مجرد «تاريخ للهزائم المتكرِّرة منذ
إخفاق تجربة محمد علي وإلى الآن … فهي — وتحت براقع ما تدَّعيه من
سيرورةٍ تقدُّمية — تُخفي سيرورةً حقيقية هي التقهقُر المطَّرد للمجتمع
العربي وتراجُعه التاريخي في جميع المجالات.»
٣
ولعله يبدو — تبعًا لذلك — أنه قد لا يُوجَد ما هو أكثر من
«الأزمة» حضورًا في وعي الخطاب، إذ ليس ثمَّة على مدى القرنَين
٤ — هي عمر الخطاب تقريبًا — إلا الإصلاح في كبوة،
والنهضة في أزمة، «والإجهاض مستمرًّا لكل تجربة تمر بها مجتمعاتنا
حتى تبدأ من الصفر من جديد.»
٥ وهكذا فإن ازدحام فضاء الخطاب بالعديد من مفردات
النهضة والتقدُّم والحداثة وغيرها، فإنها لا تعدو كونها مجرد زخارف
يُزركِش بها الخطاب سطحَه، ومن دون أن تقدر على أن تتجاوز به أزمتَه
التي يشقى بها؛ إذ الخطاب يكتفي بمجرد الاستهلاك الأيديولوجي لهذه
المفردات، ومن غير سعيٍ إلى إنتاجها معرفيًّا في سياقه الثقافي
الخاص، وأعني أنه يكتفي بتكرارها، لا إبداعها، الأمر الذي سلبها
إمكانية أن تكون منتجَة في حقله، بل لعله أحالها إلى عبءٍ أعجز
الخطاب وأثقلَ كاهلَه، ولعل الخطاب على هذا النحو، أعني بكيفية
إنتاجه للمفاهيم تكرارًا لا إبداعًا، لا يفعل إلا أن يفاقم أزمته،
ويعيد إنتاجها أبدًا.
وإذ الخطاب هكذا، لم يفعل إلا أن يفاقم أزمته ويعيد إنتاجها،
فإنه لذلك «لم يسجل — وعلى قول أحد كبار دارسيه — أي تقدمٍ ذي بالٍ
في أي قضية من «قضاياه»
٦ حتى لقد بدا أن كل ما قصد الخطاب إلى تحقيقه لم يفارق
أبدًا نطاق الأماني،
٧ وأعني أن شيئًا من كل ما وضعه الخطاب على قائمة مطالبه
(من حرية وعدالة ووحدة … إلخ) لم يبرح مكانه قَط لمطالبَ أخرى،
٨ بل ظلت نفس المطالب تُستعاد من مراقدها خلال لحظاتٍ
تاريخيةٍ عدة، وبالتحديد بعد كل كَبْوة للخطاب. وللغرابة فإنها كانت
تُستعاد لتثبيت حضور الخطاب من خلالِ ما تُوهم به من أن وعيًا
جديدًا بضرورة تحقيقها قد بدأ يظهر ويتخلَّق.
وهكذا فإن «العدل والإنصاف» اللذَين كانا على رأس أولويات الخطاب
مع كل من الطهطاوي والتونسي، لم يزالا للآن على رأس أولويات الخطاب
مع الأحفاد المتأخرين، بما يعني أن الكثير من مطالب الخطاب لم
يتحقَّق منها شيء؛ فالديمقراطية لم تُبدِّد شيئًا من وحشة الاستبداد
والقهر، بل بقي التسلُّط جاثمًا ينشر جناحَيه العملاقَين بلونهما
الأسود على العالم العربي بأَسْره، والديمقراطية إلى جواره مجرد ظلٍّ
شاحبٍ لا يُوجَد إلا كأداة تستوعب من خلالها النخبةُ الحاكمة ما يعتري
العلاقة بين شرائحها من تقلُّص واضطراب، ومن دون أن تكون (أي
الديمقراطية) أبدًا نظامًا للمجتمع.
٩ وأما الوحدة (العربية) فإنه يبدو — والوضع الراهن خير
شاهد — أن العرب لم يتجاوزوا إطار القبيلة إلى الدولة، ناهيك
بالطبع عن بلوغ وضع الأمة (الواحدة)،
١٠ الأمر الذي يؤكد على غلبة «البنية البطريركية على
المجتمع العربي»، وتخبُّطه — نتيجةً لذلك — فيما دون الوجود السياسي
الحقيقي الذي يتجاوز التفكير بالقبيلة. وأما الاستقلال فإنه لم
يتطوَّر إلى ضربٍ من الإنتاج الخلَّاق للذات، بل استحال إلى تبعيةٍ
شاملة؛ حيث «الدولة في البلدان العربية تشترك مع غيرها من الدول
الواقعة على هامش مركز الإنتاج والمعرفة في أنها تعتمد في
استمرارها على طبيعة علاقاتها مع المراكز أكثر مما ترتكز على مجتمعها»،
١١ ولهذا فإن الاستقلال الوطني كان في جوهره إعادة تشكيل
للروابط مع المراكز بأكثر مما هو تفكيكٌ للروابط معها.
١٢
والحق أن عجز الخطاب عن إنجاز «أي تقدمٍ ذي بالٍ في أي قضية من
قضاياه» كان يئول به إلى استعادتها على نحوٍ متكرر، وبما يعنيه ذلك
من العودة، لا إلى مجرد الكتابة فيها من درجة الصفر، بل وإلى خوض
المعارك المتعلقة بها من جديد؛ الأمر الذي دفع بأحدهم إلى التعليق:
«إنه لأمرٌ يدعو إلى الأسى العميق أن يجد المثقف العربي نفسه في
أواخر القرن العشرين مضطرًّا إلى أن يخوض معركة (بل معارك) كاد
المفكرون في أواخر القرن التاسع عشر أن يحسموها نهائيًّا»، وإذ يردُّ
المعلق هذا التأخر في الحسم النهائي للقضايا إلى «انتصار خصوم
العقل، وأعداء التبادل الفكري الخصب» الذين عادوا «بمستوى الجدل
الثقافي قرنًا من الزمان، بالنسبة إلى العرب أنفسهم، وخمسة قرون
على الأقل بالنسبة للمجتمعات المتقدمة»،
١٣ فإنه لا يفعل إلا أن يرُد — كأسلافه وأقرانه معًا — عجز
خطابه إلى «بنية مجتمع» يُحاصِر العقل ويضطهده، ومن دون أن يرى له
سببًا في البنية العميقة للثقافة السائدة في حقل خطابه.
وإذ أخفق الخطاب في إنجاز أي تقدم في قضاياه، وظل مُصرًّا على
رؤية علة إخفاقه في بنية المجتمع، لا في ذاته، فإنه يكشف بذلك عن
كونه مجرد خطابِ نُخبة، لا خطاب نهضة، وأعني أنه يبدو ستارًا
أيديولوجيًّا تُخفي به النخبة واقع هيمنتها على المجتمع وتسلُّطها عليه؛
إذ الخطاب لم يتجه إلى خلخلة وزحزحة مقولات الثقافة السائدة توطئةً
لتجاوز الأفق المعرفي الخاص بها إلى أفقٍ معرفيٍّ مغاير يسمح لمقولات
النهضة بالتفتُّح والنضوج؛ فالنهضة لا ترتبط فقط بمجرد السياق
التاريخي الذي يُبرِّرها، بل وبأفقٍ معرفيٍّ لا يمكن لمقولاتها أن تنتج
خارجه البتة. وليس من شكٍّ في أن أية محاولة لغرسها خارج أفقها
المعرفي الخاص لا يمكن أن تئول إلا إلى إحالتها إلى مسخٍ شائهٍ عاجز
عن التأثير في الواقع.
ومن هنا فإنه كان ينبغي السعي، أولًا، إلى زحزحة أنساق المعرفة
التقليدية السائدة في المجتمع وذلك بدلًا من السعي الدءوب إلى غرس
مقولات النهضة ضمن سياقٍ معرفيٍّ يُضادها،
١٤ مما أحالها إلى مجرد قشرة هشَّة لا تقدر قَط على إخفاء
المضمون الشائه للخطاب. حقًّا كان الخطاب يتصوَّر بذلك أنه «يتجه إلى
إقامة مصالحة بين الأضداد، بما يسمح بالمضي إلى الأمام، ويروغ من
السلطة القمعية لعناصر الثبات في أبنية الثقافة النقلية
التقليدية»، ولكن ما ترتَّب على ذلك من الحوار بين مقولات النهضة
وبين أنساق المعرفة التقليدية قد ظل «دائرًا في حدود شبكة علاقات
المجاورة، دون أن يجاوزها إلى صيغةٍ جدلية، وبحيث ظلت التغيُّرات
المصاحبة للحوار تغيُّرات كمية، لا تصل إلى ما يجعل منها تغيراتٍ
كيفيةً أو جذرية، تفضي إلى قطيعةٍ معرفية، أو تحوُّلاتٍ حاسمة لعمليات
إحلال وإبدال في الأنساق الكلية للمعرفة التقليدية للمجتمع»؛
١٥ وبما كان لا بد أن يئول إلى إخفاق صيغة المجاورة
ذاتها، وبحيث استحال التجاور إلى تناحُر يسعى فيه كل واحد من
الأضداد إلى إزاحة ما يُجاوره.
وعلى أي الأحوال فإن عجز الخطاب عن زحزحة الأنساق التقليدية
للمعرفة، والذي فرض على حواره مع مقولات النهضة أن يظل «دائرًا في
حدود شبكة علاقات المجاورة»، هو تحديدًا ما يكرِّس الطبيعة
الأيديولوجية للخطاب، وذلك من حيث آلت علاقات المجاورة إلى بلورة
نتاجاتٍ هشَّةٍ هائمة فوق الواقع، وعاجزة عن النفاذ إليه والتأثير فيه،
فبدت لذلك، أقرب إلى الأيديولوجيا، وبالمعنى الأسوأ للأسف؛ أي بما
هي وعيٌ زائفٌ غير مطابق للواقع. ولأن منطق تشكل هذه النتاجات
الأيديولوجية لا يكمن في الواقع، بل خارجه، فإن تعدُّدها يبدو
لافتًا، ولكنه تعدُّدٌ ظاهريٌّ غير حقيقي سرعان ما تطمسه، لا وحدة
الإبستيمولوجيا المنتجة لها فقط، بل ووحدة السعي إلى تكريس الوضع
المهيمن للنخبة السائدة.
١٦
ولقد اقتضى تكريس هذه الهيمنة تحوُّلًا — أو بالأحرى تبدُّلًا —
للأشكال الأيديولوجية التي شغلَت فضاء الخطاب على نحوٍ كامل،
١٧ بحيث يبرز منها الأكثر حداثةً على الدوام. ومن هنا فإن
الخطاب قد اكتفى بمجرد السعي إلى زركشة محتواه المتهافت بالمفاهيم
الأكثر حداثةً في النتاجات الغربية المعاصرة،
١٨ قاصدًا إلى التوحُّد معها لكي يبرِّر لنفسه ادِّعاء كونه
الأكثر معاصرةً وعصرية، ناسيًا — كعهده أبدًا — أن المعاصرة لا تعني
مجرد التزامن مع الآخر في لحظةٍ تاريخيةٍ تخصُّه، وأن العصرية لا تكون
بمجرد استهلاك الآخر، بل بالإنتاج الخلَّاق للذات؛ أعني
إبداعها.
لم يعرف الخطاب، إذن، إلا مجرد الاستهلاك الأيديولوجي لمفاهيم
الحداثة، وأعني أنه اكتفى بمجرد الترديد اللفظي لها، دون قدرة على
إدماجها في واقعه على نحوٍ منتج؛ إذ الحق أن المفهوم — أي مفهوم —
لا ينشأ في عزلة يُمكِن معها استنباتُه ضمن أي سياق، بل يندرج ضمن
شبكة من المفاهيم المتضافرة — المشروطة بإطارٍ تاريخيٍّ ومعرفيٍّ محدد —
والتي يفقد تمامًا فعاليته خارجها، ومن هنا فإنه يستحيل البتة
انتزاع مفهوم، أو جملة مفاهيم، من سياقاتها التاريخية المعرفية،
والسعي إلى إدماجها ضمن سياقاتٍ أخرى مغايرة تاريخيًّا ومعرفيًّا؛
لأن ذلك لا يُمكِن أن يئول إلا إلى مجرَّد التكرار الساذج؛ ذلك أن ثمَّة
شروطًا لفاعلية الإدماج المفاهيمي، يؤدِّي عدم توافرها إلى مجرد
الترديد الفارغ للمفاهيم، الأمر الذي يكشف عن كون فاعلية المفاهيم
تبقى فاعليةً مشروطةً لا مطلقة.
١٩ ولعل هذا التكرار الساذج للمفاهيم لا يقف عند حدِّ
إفقارها وإهدار محتواها فقط، بل إنه ينتهي بها إلى عكس ما تئول
إليه في سياقها الأصلي.
٢٠
وإذ سعى الخطاب العربي المعاصر إلى استعادة مفاهيم النهضة عبر
انتزاعها من سياقاتها التي لا فاعلية لها خارجها، فإنه كان بذلك
يؤسِّس لعلاقته بها ترديدًا واستهلاكًا أيديولوجيًّا، وبما يترتب على
ذلك بالطبع، من إفقارها والانتهاء بها إلى ما يناقضها؛ ذلك أن
إثراءً للمفاهيم كان يقتضي وعيًا من الخطاب بشروط إنتاجها أولًا،
وبما يترتب على ذلك من نقدٍ لبنية ثقافته الخاصة سعيًا إلى زحزحة
كل ما يُناقِض إنتاجها ثانيًا، لكنه بدا وكأن الخطاب على قناعة
بالتأثير السحري للكلمة، فراح يرى في مجرد ترديده اللفظي للمفاهيم
إنتاجًا لها. فاستغنى هكذا، بالترديد عن الوعي، وبالتكرار عن
المساءلة والحوار. ومن هنا فإن مفاهيمَ النهضة لم تتجاوز كونها مجرد
زخارفَ يتجمَّل بها الخطاب ويتجدَّد، سعيًا إلى إطالة أمد بقائه، وتأبيد
هيمنة النخبة المنتجة له بالتالي، أو أنها مجرد: «طبقة هشة من
الأفكار والمذاهب والنظريات طائرة فوق الواقع، لا هي مستمدة من
الموروث القديم، ولا هي نابعة من الواقع المباشر وتنظير له. وإذ
تتعارض النظريات بحيث ينفي بعضُها البعض فإن المرء يحتار أمام
العديد من هذه الأفكار والمذاهب المنتشرة فوق الواقع، المجتَثة
الجذور من أرضها، والمنتزَعة من واقعها الخاص الذي نبتَت فيه، كيف
يختار؟ وما هي مقاييس الاختيار.»
٢١ لكنه يبدو أنه لم يكن للحَيرة هنا أيُّ مجال؛ إذ
الاختيار كان دومًا للأكثر حداثة؛ ذلك أن خطابًا لا يعرف إلا
الترديد والتكرار لا بد أن يدرك مبرِّر وجوده في الاستنساخ اللاهث
للأكثر حداثةً على الدوام.
وضمن هذا السياق فإن السلفية الراهنة التي تطفو على سطح الخطاب
بقوة هي، في العمق، حداثةٌ معكوسةٌ تمامًا بمثل ما كانت حداثتُه سلفيةً
معكوسة، وذلك من حيث تُستعاد بدورها، ترديدًا وتكرارًا، الأمر الذي
يعني أن آلية الترديد والتكرار — أو الاستهلاك الأيديولوجي — لم
تؤسس لعلاقة الخطاب بالحداثة فقط، بل كانت هي نفس الآلية المؤسِّسة
لعلاقته بالتراث أيضًا.
فمنذ اللحظة التي أدرك فيها الطهطاوي أنه لا سبيل إلى استعارة
مفاهيم النهضة، إلا عَبْر تبريرها تراثيًّا، فإن الخطاب العربي
المعاصر لم يعرف، وعلى مدى تاريخه إلا مجرد التبرير — ومن خلال
التراث بالطبع — لكل أشكال الأيديولوجيا التي راح يستعيرها.
٢٢ ولعل هذا الحضور التبريري للتراث في بنية الخطاب يكشف
عن كون التراث ليس حاضرًا لأجل ذاته، بل هو حاضرٌ لأجل غيره؛ ولذلك
فإنه لم يستلزم وعيًا بالتراث في سياقاته المنتجة له، وبما يسمح
بإعادة بنائه على نحوٍ منتج، بقَدْر ما فرض إدراكًا له في لاتاريخيته؛
أي عزلًا له عن جملة هذه السياقات، لكي يسهل انتزاعُه لأداء الدور
التبريري الذي أناطه به الخطاب.
ولقد كان ذلك يتحقَّق عبر عزل المفهوم فيه (أي التراث) عن شبكة
المفاهيم المتضافرة معه، والتي لا فاعلية له دونها، ثم التمييز فيه
بين شكل ومضمون لا بد من إهداره ليبقى الشكل فارغًا وجاهزًا لتقبُّل
كل أشكال الأيديولوجيا المستعارة، وهكذا ينتهي الحضور التبريري
للتراث في بنية الخطاب إلى الإهدار الكامل له، وبحيث لا يبقى منه
غير جملةِ قوالب أو أشكالٍ فارغة لا تقبل شيئًا سوى الترديد
والتكرار. ولعل ذلك يكشف عن أن الحضور التبريري للتراث هو علة
الحضور الترديدي له. ومن هنا — لا شك — عجز الخطاب عن إنتاج معرفةٍ
حقيقية به، واستمرار معرفته به، وحتى بأشكال الأيديولوجيا التي جرى
استخدامُه في تبريرها، مجرد معرفةٍ زائفة.
إذ الخطاب لم يعرف إلا مجرد السعي إلى الاستهلاك الأيديولوجي
للتراث، وأعني بذلك الانشغال بالبحث فيه عما يدعم توجهًا
أيديولوجيًّا معينًا (ليبراليًّا أو قوميًّا أو
ماركسيًّا) أو الانشغال بأن يكون هو نفسه أيديولوجيا قائمة بذاتها
تسعى الآن إلى فرض نفسها، باعتبارها بديلًا لكل أشكال الأيديولوجيا
التي تراها غير أصيلة. ولكن هذا التوجُّه بالتراث إلى أن يكون
أيديولوجيا بديلة لا يأتي نتاجًا لمعرفةٍ حقيقيةٍ به راح معها يتبلور
كأيديولوجيا مستقلة، بل إنه يتبلور — كغيره من أشكال الأيديولوجيا
الأخرى — بوصفه ضربًا من المعرفة الزائفة بالواقع. وأعني أن هذا
التبلور لا يأتي نتاجًا طبيعيًّا لحركة الواقع وتطوره الخاص، وإنما
ينشأ من مجرد السعي إلى تبرير التخلي عن أشكال الأيديولوجيا
المستعارة من الغرب لصالح أيديولوجيا أخرى لا تختلف إلا في أنها
مستعارةٌ من السلف. وهكذا فإنها لا تختلف عن غيرها في كونها قد
تبلورَت واكتملَت خارج الواقع، وجاءت تفرض نفسها عليه قهرًا؛ ولهذا
السبب فإنها لا يمكن أن تكون أبدًا نتاجًا أصيلًا له؛ لأن ذلك كان
يقتضي منها استيعابًا شاملًا للتراث واستدماجًا له في صميم بنائها
الخاص، توطئةً لتجاوزه وتخطيه، وذلك على النحو الذي يتحول به عن
وجوده الخاص إلى أن يكون موجودًا من أجلها بدل أن تكون هي الموجودة
من أجله؛ أي إن الأمر كان يقتضي إنتاجًا معرفيًّا للتراث وتجاوزًا
للاستهلاك الأيديولوجي له، ولأن ذلك لم يتحقق بعدُ، فإن التوجُّه
بالتراث إلى أن يكون أيديولوجيا بديلة يبقى كغيره، مجرد ضرب من
المعرفة الزائفة بالواقع؛ أعني أنه يبقى شكلًا للأزمة، ولا يُعد
تجاوزًا لها.
واللافت أن هذا الاستهلاك الأيديولوجي للتراث قد أحاله إلى عالم
من الفوضى الشاملة، راحت معها الأيديولوجيات المتعارضة إلى حدِّ
التصادم تجد في ذات التراث ما يدعم وجودها وتبريرها.
٢٣ فبدا التراث هكذا، حاويًا للشيء ونقيضه في آنٍ معًا،
لكنها ليست بنقائضه الذاتية التي تُثري وتُغني، بل نقائض تفرض نفسها
عليه من الخارج؛ ولذلك فإنها أدنى إلى أن تُهدِر وتُفقِر؛ ذلك أن قانونَ
ظهور هذه النقائض واختفائها ليس داخل التراث، بل يقع خارجه؛ ولهذا
فإنها لا يمكن أن تكون أبدًا دليلًا على ثراء التراث وغناه …
حقًّا يتكشَّف التراث بالفعل عن ثراءٍ حقيقي، ولكنه لا يتأتى أبدًا من
تلك التناقضات الهشَّة المفروضة عليه من الخارج، بل من تناقضاته
الحقة التي ينتظمها، تاريخيًّا ومعرفيًّا، قانونه الباطني الخاص،
الأمر الذي يجعلها تجليًا لثرائه، لا فوضاه. وأما الاستهلاك
الأيديولوجي الراهن للتراث، فإنه لا يتكشَّف عن أي ثراء، بل عن
الفوضى كاملةً وشاملة، وذلك من حيث إن تعدُّد الأيديولوجيات التي
تتعلَّق عليه وتعارُضَها، ليس نتاجًا لتناقُضٍ حقيقي، يجد قانونه في
صيرورة الواقع الباطنية، بل نتاجٌ لتناقضٍ مشوَّه ينتظمه السعي
الدائب من الخطاب إلى إنتاج معرفة بواقعه، لا يمكن إلا أن تكون
زائفة لكونها لا تتخذ نقطة بدئها من الواقع، بل تأتي كنماذجَ جاهزة
معطاة تفرض نفسها عليه من الخارج؛ ولذلك فإنها تتجه إلى البحث في
التراث عما تدعم به وجودها، وذلك من حيث لا تجد في الواقع، أصلًا،
أي سندٍ لوجودٍ أصيل. وهكذا يتبلور الدور الجوهري للتراث في مجرد
تدعيم فوضى الأيديولوجيات السابحة في فضاء الخطاب، وفي حدود هذا
الدور فإن أحدًا لم يجد أي ضرورة لإنجاز فهمٍ متعمقٍ للتراث في
شُموله وكُليته، واكتفى الجميع بالانتقاء النفعي من التراث، كلٌّ حسب
موقفه الأيديولوجي. وإذ الانتقاء هنا تُوجِّهه الأيديولوجيا، فإنه بات
حتمًا على التراث أن ينطق بمضمون هذه الأيديولوجيا، وفي أكثر صورها
حداثة، الأمر الذي أحاله إلى ساحةٍ راح الكثيرون يُسقِطون عليها
أوهامهم الأيديولوجية. والحق أن حضور التراث في معية هذا الوهم
الأيديولوجي، يبدو مجرد حضورٍ وهمي أيضًا، الأمر الذي يعني أن
الاستهلاك الأيديولوجي للتراث لم يتمخَّض إلا عن الوهم شاملًا
ومسيطرًا … فلا هو أحيا تراثًا، ولا هو استنبَت حداثة، بل عاشهما
أوهامًا؛ ولذلك فإن إخفاقه في إنجاز النهضة كان ذريعًا.
يبدو إذن، أن الخطاب العربي المعاصر لا يعرف — وبكافة تشكلاته
الأيديولوجية — إلا مجرد الاستهلاك الأيديولوجي للآخر، والحق أن
«الآخرية» هنا تتجاوز مجرد الآخرية في المكان إلى الآخرية في
الزمان أيضًا، وأعني أنها تتجاوز مجرد آخرية الغرب إلى آخرية السلف
أيضًا؛ ذلك أن ما ينتمي حقًّا إلى مجال «الذاتية»، هو ما تنتجه
الذات في صميم وجودها التاريخي الخاص.
وليس من شك في أن الخطاب العربي يحيا مُستهلِكًا، لا مُنتِجًا، حتى
فيما يخص السلف. ومن هنا إن السلَف هم «آخرٌ» أيضًا؛ إذ كان الأمر
يقتضي أن تستدمج الذاتُ تراثَ السلف في صميم بنائها الخاص، استدماجًا
خلَّاقًا يتحول معه عن وجوده الخاص إلى وجودٍ من أجل الذات، بدل أن
تكون الذات هي الموجودة من أجله في حالها الراهن. وأعني أن الأمر
كان يقتضي إنتاجًا، لا استهلاكًا لتراث السلَف، على نحوٍ يجعل منه
جزءًا من الذاتية، وليس آخرَ غريبًا عنها.
ولقد راح الخطاب، عَبْر هذا الاستهلاك الأيديولوجي للآخر (غربًا
وسلفًا)، يُعيد إنتاج نفسه في صورٍ وأشكالٍ شتَّى تتبايَن فيما بينها
وعنه من الناحية الظاهرية فقط.
٢٤ وبالرغم من أن هذه الصور والأشكال تبدو في عملية
صيرورة، وذلك من حيث تخضعُ لعمليات من التحوُّل والتبدُّل الدائم على
نحو يحقق الوجود المتجدد للخطاب، فإن هذه التحوُّلات للأشكال عند
السطح، لا تستطيع أن تُغطي أبدًا على ثبات البنية العميقة للخطاب،
وهكذا فإنه، ورغم كل انكسارات الخطاب العربي المعاصر في الممارسة،
ابتداء من انكسار دولة محمد علي (والتي تمثِّل تعيُّنه الأول) إلى
الانكسارات الراهنة، فإن بنيتَه قد ظلَّت ثابتة، تستعصي على أي انكسارٍ
أو تحوُّل، وفقط فقد تبدَّلَت فوقها أشكالٌ من الأيديولوجيا التي لم
تتجاوز كونها مجرد تعيُّناتٍ جزئية، تتأكد عَبْرها البنية، ولا
تتقوَّض.
لقد كان، إذن، كل ما يطرأ على الخطاب من تحوُّل يطال فقط سطحه
ونظامه الظاهر، ولا يلحق أبدًا ببنيته ونظامها الباطن. ومن هنا
فإنه إذا كانت نخبة محمد علي باشا، قد بلورَت — حسب مقتضيات دولته —
خطابًا للنهضة ينبني، بتعبير الطهطاوي، على ضرورةِ «أن تضيف
[النخبة] إلى ما يجب عليها من نشر السُّنة الشريفة، ورفع أعلام
الشريعة المنيفة، معرفة سائر المعارف البشرية المدنية، التي لها
مدخل في تقدُّم الوطنية … وأن هذه العلوم الحكمية العلمية التي ظهرَت
الآن أنها أجنبية، هي علوم إسلامية»،
٢٥ فإن هذه الصيغة للخطاب — والتي تتجلى فيها على نحوٍ
نموذجيٍّ ثوابتُ خطاب النهضة بأَسْره
٢٦ — قد ظلَّت مهيمنةً تأبى الزوال رغم الانكسار المذهل
للدولة التي كانت تجسِّدها واقعيًّا، وفقط فإن هذه الانكسارات قد آلت
إلى ازدياد حدة الاستقطاب والتوتُّر بين طرَفي صيغة الخطاب (التراث
والحداثة)، ومن دون أن تتطوَّر أبدًا إلى كسرٍ لبنيته ذاتها.
والحق أن هذا الثبات في بنية الخطاب وتعصِّيها على الانكسار —
رغم كل انكسارات الواقع — لا يعني إلا اغتراب الخطاب عن واقعه
وتعاليه على تاريخه؛ وأعني أن الخطاب يُموضِع نفسَه خارجَ تاريخِ واقعه
متعاليًا عليه ومزدريًا له، ومن هذا التعالي على التاريخ تتشكَّل
آليَّتُه الرئيسية في تكريس هيمنته وسيادته؛ إذ الخطاب حين يفكُّ روابطه
مع التاريخ فإنه يحيا خارجه في سكونٍ وثباتٍ يستعصيان على أي تطور أو
تجاوز، ولكن ذلك لا يعني أن الخطاب يحيا خارج أي تاريخ، بل يعني
فقط أنه يكتفي بأن يحيا تاريخه الخاص، الذي يبدو — لسوء الحظ —
تاريخًا دائريًّا مغلقًا لا يعرف شيئًا عن التطوُّر والتراكُم؛ إذ ضمن
هذه الدائرية لا يملكُ الخطاب إلا السير عوْدًا على بَدء، متقافزًا
من لحظة إلى أخرى لا تكون تطورًا لها، وذلك ما يُبرِّر للخطاب قفزُه
الدائم من اللحظة الحاضرة الخاصة بواقعه إلى لحظةٍ أخرى مستعارة من
واقعٍ مغايرٍ يخص «ماضي الذات»؛ الاستعارة من السلف، أو يخص «حاضر
الآخر»؛ الاستعارة من الغرب.
وإذ يؤسِّس هذا التقافز وحده لتبدُّلات الأشكال الأيديولوجية على
سطح الخطاب، فإن هذه التبدُّلات لا تُغطِّي فقط على ثبات بنية الخطاب،
بل وعلى ثبات الواقع خارجَه كذلك، وذلك من حيث أنها لا تأتي نتاجًا
لحركةٍ أصيلةٍ في قلب الواقع، فتكون لذلك، تاريخًا له، بل إنها —
وبسبب كونها مجرد نتاجٍ للقفز عليه — تستحيل إلى أطْمارٍ تتكلَّس
فوقه، فتُوجِب ثباته وسكونيته.
٢٧ وإذن فإنه الثبات شاملًا للبنية العميقة للخطاب من
جهة، وللواقع خارجه من جهةٍ أخرى؛ الأمر الذي لا بد أن يئول إلى
تكريسٍ شاملٍ للاتاريخيته. وهكذا يُستفاد المظهر الأول ﻟ «لاتاريخية»
الخطاب من ثبات بنيته العميقة،
٢٨ وثبات الواقع خارجه، ومن عجز تبدُّلات الأيديولوجيا عند
سطحه عن زحزحة هذا الثبات. والحق أن هذه التبدُّلات كانت تكرِّس
الثبات، بدل أن تُزحزِحه؛ لأنها كانت تُوهِم بأن ثمَّة حركةً ما، وذلك
بصرف النظر عما إذا كانت حركةً حقَّة أم لا؟
ولعل هذا الثبات في بنية الخطاب، وتبدُّل الأشكال الأيديولوجية
على سطحه، يدفع إلى ضرورة التمييز فيما يتعلق بالخطاب — أي خطاب —
بين جملة من الأشكال الأيديولوجية التي تتبدَّل على سطحه وبين نظامٍ
معرفيٍّ واحد ينتجها، أو بنيةٍ قارَّة خلفها تنتظم حركتها وتُوجِّه
مسارها، وتتحكم، لا في انبثاقها وتطوُّرها فقط، بل وأيضًا في
انكسارها وتدهورها. ورغم أن التبايُن بين هذه الأشكال، عند السطح،
قد يبلُغ حد الصراع والتصادم، فإنه لا ينجح أبدًا في إخفاء وحدة
نظامها الباطن، بل لعله يزيدها وضوحًا وقوة، وذلك من حيث أن كل
واحدٍ من هذه الأشكال يُضطَر في صراعه مع الآخر إلى الارتداد للوحدة
الأصلية للخطاب، ساعيًا إلى التماهي معها، قصدَ تأكيدِ ذاته في
مواجهة شكلٍ آخر. وإذ الشكل الآخر، بدوره، يمارس بنفس الطريقة، فإن
ذلك يعني أن كل واحد منها — وضمن هذا السياق التناحري — لا ينجح في
تأكيد ذاته بقَدر ما ينجح في الكشف عن وحدة الخطاب بطريقةٍ واضحةٍ
جلية.
ولكن ذلك لا ينبغي أن يدفع إلى الاعتقاد بتفاهة أو هامشية هذه
الأشكال الأيديولوجية على سطح الخطاب؛ فهي أحد أهم أدوات الخطاب
لإطالة أمد، بقائه وذلك من حيث يئول الصراع بينها إلى إزاحة الأكثر
جِدةً وحداثةً منها للأقل نسبيًّا؛ الأمر الذي يهَب الخطاب وجودًا
متجددًا، عَبْر التجدد الدائم لأشكاله أو أقنعته، بل إن الخطاب ذاته
لا يكون له أي وجود حال عدمها، رغم أنها مجرد تبدلاتٍ على سطحه،
وذلك لأنه إذا كان الخطاب يحقِّقها في جزئيتها، فإنها بدورها — تحقِّقه
في شُموله وكُليته. لكنه يبقى أنها تمثِّل نقطة البدء الجوهرية في
التحليل المعرفي للخطاب سعيًا إلى رصد بنيته العميقة.
وهكذا فإن التحليل المعرفي للخطاب العربي المعاصر،
٢٩ لا بد أن يبدأ من التمييز، عند سطحه، بين تشكُّلاته
الأيديولوجية التي تتباين بين ليبرالية وماركسية وقومية وسلفية،
وبين بنيته أو نظامه المعرفي الثاوي خلفَها في العمق؛ وأعني بالنظام المعرفي
٣٠ طريقةَ الخطاب في إنتاج كل ضروب المعرفة بواقعه. ولعل
الخطاب العربي المعاصر لم يعرِف، وعلى تبايُن ما أنتجه، إلا طريقةً
واحدة في إنتاج معرفته بواقعه؛ الأمر الذي يعني أنه يُنتِج سلفيته
الراهنة بنفس الطريقة التي أنتج بها — وللمفارقة — ماركسيته
وليبراليته وقوميته. ومن هنا يأتي التوافق بينها جميعًا في العجز
عن الخروج بالواقع من أزمته، مما يعني أن إخفاقَها وعجزَها لا يكون
من ذاتها، بل من الطريقة التي يُنتِجها بها الخطاب. ولعل الخطاب
حقًّا لا ينتجها، بل هو — بالأحرى — يستهلكها ناقلًا ومستعيرًا لها
من أصلٍ جاهز. ويبدو ذلك واضحًا عند مَن راح يقطع بأنه «لا يستطيع أن
يتصوَّر نهضةً عصريةً لأمةٍ شرقيةٍ ما لم تقم على المبادئ الأوروبية
للحرية والمساواة والدستور»،
٣١ وعند من راح يجابهه، في المقابل، بأنه «لا يصلُح أمر
هذه الأمة إلا بما صلَح به أولها». فإن الواحد منهما لا يعرف لواقعه
— فيما يظهر — نهضةً أو صلاحًا إلا عَبْر الاستعارة الكاملة لنموذجٍ
جاهزٍ سبق وأظهر فاعليةً في لحظةٍ ما.
ولعله يصعب التعويل، هنا، على ما يقرِّره البعض من السعي إلى إعادة
تشكيل هذه النماذج لتتلاءم مع معطيات واقعه، أو أن هذه النماذج هي
ما يحتاج إليها واقعه فعلًا؛ إذ الحق أن نظام الخطاب في إنتاجها
يبقى ثابتًا لا يطاله أي تغيير، وفقط يتكشَّف ما يُسمَّى بإعادة تشكيل
النماذج عن مجرد السعي إلى تبرير عملية الاستعارة، وليس الانفلات منها.
٣٢ وإذن فإنها آلية النقل والاستعارة هي ما يُهيمِن على عقل
الخطاب في إنتاج معرفته بواقعه أبدًا.
والحق أن هذه الإبستيمولوجيا — بنظامها القائم على النقل
والاستعارة لأصلٍ جاهز — هي ما يؤسِّس لغياب التاريخ على نحوٍ شامل عن
فضاء الخطاب العربي المعاصر. ولعل الأمر يقتضي، هنا، إشارة إلى
التلازم اللافت بين نظامٍ معرفي وأنطولوجي معيَّن، وبين تصورٍ بعينه
للتاريخ؛ إذ التاريخ (حضورًا أو غيابًا) لا ينفصل عن نظامٍ بعينه
للمعرفة والوجود، بل إنه يجد ما يؤسِّسه فيهما. ولعل ذلك يكشف عن
استحالة التفكير في التاريخ بمعزلٍ عن التفكير فيما يؤسِّسه خارجه؛
أعني في الأنطولوجيا والإبستيمولوجيا معًا. ورغم أن ذلك يكشف عن
كون الشروط المنتجة لحضور التاريخ أو غيابه تقع خارج حقله الخاص،
٣٣ فإنه يكشف أيضًا — وهو الأهم — عن وحدته الجوهرية مع
أنظمة المعرفة والأنطولوجيا، وخصوصًا أن هذه الأنظمة تجدُ، بدورها،
ما يؤسِّسها في التاريخ، لا خارجه. وإذن فالتاريخ ليس مجرد هامشٍ زائد
أو تافه على حدود التفكير الفلسفي، بل نشاط ينكشف كغيره —
وبدلالة الحضور أو الغياب — عن نظام البنية المهيمِنة والمنتِجة
لمجمل النشاط المعرفي في عصرٍ ما. وعلى هذا فإن دلالة غياب التاريخ
عند الإغريق مثلًا، لا تختلف في انكشافها عن نظام البنية المهيمِنة،
عن دلالة حضوره في العصور الحديثة.
فإذ يكاد مفكِّرو الإغريق يتفقون على «نسبة المثالية إلى الثبات،
واعتباره أسمى قيمةً من التغير»،
٣٤ وذلك باعتبار أن «كل ما يتكرر ويبقى ثابتًا هو هو في
ذاتيته خلال كل التغيرات الأخرى تكون له مكانة الخلود والمشاركة في الألوهية»،
٣٥ فإن ذلك قد آل إلى هيمنة أنطولوجيا يمثل فيها «الجوهر»
الوجود الحق والكلي الثابت فيما وراء الجزئيات المتغيرة التي ليست
إلا صورًا زائفة له. وضمن هذا السياق فإن الجوهر بات وحده الموضوع
الأصيل للمعرفة الحقَّة، وأما الجزئي المتغيِّر فقد تم إقصاؤه من نطاق
هذه المعرفة؛ إذ الحق أنه ليس ثمَّة — عند الإغريق — «معرفة أو علم
إلا بما هو كلي، ولا يمكن إدراك إلا ما كان ثابتًا في ذاتيته على
أدقِّ ما يكون والذي يكرِّر نفسه سواء على شكل ماهية أو على شكل أحداث،
وعلى العكس فإنه لا تُوجَد معرفة بما يحدث مرةً واحدة، ولا بالفردي
الذي يمكن أن يكون حينًا هكذا، وحينًا آخر على شكلٍ مختلف، «إن» ما
كان هذا شأنه يبقى في دائرة إدراك الحسي.»
٣٦ وقد ترتَّب على هذا الإقصاء للجزئي والمتغيِّر من حقل
المعرفة، نوعٌ من الإقصاء الشامل للتاريخ من حقل المعرفة الحقَّة،
لأنه لا تاريخ إلا بالجزئي المتغير. ومن هنا تضاؤل مكانتِه عند
الإغريق التي بدت أدنى، لا من الفلسفة فقط، بل ومن الشعر الذي يظل
— عند أرسطو — قولًا عن الكلي، فيما التاريخ هو مجرد قولٍ عن الجزئي.
٣٧
ولعل التضاد بين كلٍّ من أفلاطون (المكرِّس الأكبر للأنطولوجيا
الإغريقية) وكانط (الرائد الأهم للإبستيمولوجيا الحديثة)، فيما
يتعلق بعلاقة الإدراك بكلٍّ من العالم المعقول (عالم الثبات) والعالم
المحسوس (عالم التغير)، ليكشف في العمق، عن مضمون تجاوز الفلسفة
الحديثة للفلسفة الإغريقية.
٣٨
«فعلى حين أن أفلاطون كان يقول: إننا ندرك العالم المعقول، أو
عالم الأشياء في ذاتها [عالم الثبات]، نجد أن كانط يقرر — على العكس
من ذلك — أننا لا ندرك إلا العالم المحسوس أو عالم الظواهر [المتغيرة]»،
٣٩ فيما يبقى عالم الشيء في ذاته عصيًّا على أي إدراك، بل
وعصيًّا — بالتالي — على الوجود؛ إذ الوجود قد بات قرين الإدراك،
حتى إن وجود الشيء أصبح في كونه مدركًا.
٤٠ ومن هنا — لا شك — سعى خلفاء كانط إلى استبعاد «الشيء
في ذاته»، الذي حسبوه مجرد زائدةٍ لا تجلب لمذهبه غير المرض، بل إن
أحدهم — وأعني فشته — قد رأى «أن هذا المذهب يقوم في جوهره على
أساس استبعاد الشيء في ذاته؛ أو الجوهر القائم بنفسه، الذي كان
محور التفكير منذ القِدم حتى كانط.»
٤١ وهكذا يبلغ التأكيد على كون الظاهرة هي محور الارتكاز
في الفكر الحديث، حد استبعاد أي شيء وراءها. وإذن فقد أسَّس الفكر
الحديث نظامًا للمعرفة والوجود يتمحور حول الظاهرة بكل ما تنطوي
عليه من تغيُّر وجزئية.
٤٢ إذ الظاهرة، رغم جزئيتها وتغيُّرها، لم تعُد مجرد طيفٍ
عابرٍ لجوهر، من طبيعةٍ مختلفة، يقوم وراءها، بل أصبحَت هي والجوهر
شيئًا واحدًا، أو أنها أصبحَت جزءًا منه على الأقل.
٤٣ ومن هنا فإنها قد أصبحَت الموضوع الأصيل لأي معرفةٍ حقة،
وعندئذٍ فقط بات انبثاقُ التاريخ ممكنًا، لأنه لا يجد ما يؤسِّسه إلا
في هذا الإقرار بضرورة وجوهرية — وليس صورية — الجزئي والمتغيِّر.
وهكذا يتبدى التلازم لافتًا بين حضور التاريخ أو غيابه من جهة،
وبين هيمنة أنظمةٍ بعينها للمعرفة والوجود.
وبدوره يتكشف الخطاب العربي المعاصر،
٤٤ على نحوٍ ظاهر، عن هذا التلازم نفسه؛ إذ التاريخ — كما
تصوَّره الخطاب — لا ينفصل، بل يبدو بالأحرى مشروطًا بنظام الخطاب في
إنتاج معرفته بواقعه على نحوٍ خاص، وبدوره فإن هذا النظام المعرفي
نفسه يستحيل إلا في ظل غيابٍ مطلَق لأي تاريخ؛ الأمر الذي يكشف عن
واقعةٍ نموذجية يؤسِّس فيها النظام المعرفي للنظام التاريخي ويتأسَّس به
في آنٍ معًا. وإذن فإن التحليل الدقيق لعناصر النظام المعرفي
للخطاب، والدلالات المرتبطة بها، ليُعد نقطة البدء الجوهرية للوعي
بكل ما يؤسِّس للاتاريخيته.
ولعل أول وأهم ما يتكشف عنه هذا النظام المعرفي أنه ينبني على
الاستعارة والنقل لأصلٍ جاهز — سبق وأظهر فاعليةً في لحظةٍ ما — قصد
استنساخه في واقعه. ومن هنا فإنه قد آل — وكان ذلك لازمًا — إلى
إنتاج خطابٍ أصوليٍّ في جوهره. والحق أن الخطاب العربي المعاصر هو
بالفعل، خطاب أصولي؛ لكنها الأصولية لا بمعناها السياسي الأفقر، بل
الأصولية بمعناها المعرفي الأشمل، الذي يُراد به كل تفكيرٍ ينطلق من
أصلٍ جاهز — بصرف النظر عن مصدَره — قصدَ فرضه على الواقع قهرًا؛ إذ
الأصولية لا تكونُ كذلك بمضمونها، بل بأداة إنتاجها؛ أعني أن الخطاب
يكون أصوليًّا ابتداءً من طريقة تعامله مع الأصل كسلطةٍ يلزم الخضوع
لها، وليس بما هو نقطة بدءٍ في عمليةٍ معرفية يكون هو أحد عناصرها،
وذلك بصرف النظر عن مضمونِ هذا الأصلِ ومصدره (ماركس أو ابن
تيمية).
والحق أن هذا النظام الاستعاري، الذي انبنَى حوله الخطاب بأَسْره،
ينطوي — بدلالة الآلية المنتجة له، وكذا بتحليل عناصر بنائه — على
إهدارٍ كاملٍ للتاريخ؛ فآلية تكرار الأصل — وهي جوهر النظام
الاستعاري — تنطوي على «نظرة دائرية إلى التاريخ»،
٤٥ وهي نظرةٌ تتناقض مع جوهر أي تاريخ حق، لا بد فيه من
طابعٍ غائيٍّ خلَّاق ومنفتح؛ إذ ليس ثمَّة، فيها، إلا مجرد نماذجَ جاهزة
ومحدَّدة سلفًا، تتكرر في دوائرَ رتيبةٍ لا تضيف الواحدةُ منها للأخرى
أي إضافة؛ حيث القيمة، هنا، تُستفاد من مجرد تكرار اللاحق للسابق،
لا الإضافة إليه؛ بل لعلَّ الإضافة تهبط به على سُلم القيمة؛ إذ
الإضافة، تبعًا لهذه النظرة تُعَد انحرافًا عن الأصل، لا إبداعًا
مضافًا إليه. وهكذا فإنه لا مجال هنا إلا للإبقاء على الأصل
المتكرر دوريًّا، نقيًّا وثابتًا؛ الأمر الذي يعني أنه لا مجال
للتاريخ، بل لما يتعداه؛ أعني للخالد الثابت.
٤٦ ومن جهةٍ أخرى فإن تقييد التاريخ بأصلٍ معطًى سابق،
يُفقِده طابعه المنفتح الخلَّاق، ويجعل وقائعه مجرد أصداءٍ لا أحداث؛
الأمر الذي يُفقِده جوهريته، بل وإنسانيته؛ حيث البشر، تبعًا لذلك —
ليسوا أكثر من أطياف للتاريخ، لا صانعين له، وذلك من حيث يبدو
التاريخ، هكذا، جوهرًا متعاليًا يفرضُ نفسَه على البشر من الخارج؛
فيكون في العمق، لاتاريخًا.
وعلى فرض أن ثمة تاريخًا مع ذلك، فإن العملية التاريخية؛ إذ
تتغيَّا استعادة أصلٍ جاهزٍ معطًى سلفًا، تتكشف — على عكس ما يبدو —
عن ميكانيكيتها ولا غائيتها؛ فالميكانيكية هي ضربٌ من العلاقة التي
تقوم بين الموضوعات من الخارج فحسب، ومن دون أن يكون بينها أي
ارتباطٍ باطني، وليس من شك في أن آلية تكرار الأصل — التي انبنى
حولها الخطاب — لا تعني أكثر من السعي إلى فرض نموذجٍ جاهز على
الواقع من خارجه؛ الأمر الذي يعني أنهما متمايزان غريبان، وأنه لا
مجال لأي ارتباطٍ باطني بينهما؛ إذ الأصل لا يكون حاضرًا هنا، إلا
ترديدًا وتكرارًا فقط (سواء كان من التراث أو الحداثة)، ومن هنا
خارجيته وعجزه عن النفاذ إلى الواقع والتأثير فيه. ومن هنا إن
العملية التاريخية هي — في جوهرها — ميكانيكية ولا غائية.
إذ الحق أنه يستحيل أن يكون الأصل المحدَّد سلفًا غاية؛ لأن مركزه
هو الماضي، والغاية، في جوهرها، هي توجُّهٌ نحو المستقبل … إنها
توجُّهٌ نحو ما لم يَكُنه الشيء بعدُ. ولعل كون الأصل يقع في
الماضي يعني تحقُّقه، مما ينفي كونه غاية؛ ذلك أن ما هو غائي يناقض
ما هو متحقِّق؛ حيث الغاية تعني ذلك الذي لا يكتمل تحقُّقه أبدًا. ومن
هنا كان اكتمال الكائن، الذي يعني تحقيقه لغايته، يرادف عند أرسطو
موته؛ لأن جوهر الغائية يكمن في كونها تجاوزًا مستمرًّا من الكائن
لنفسه؛ أعني انفتاحه وتعاليه المستمر على ذاته، وهكذا فإن تاريخًا
يكرر أصلًا جاهزًا متحققًا، هو — لا شك — تاريخ بلا غاية، لأنه
تاريخ بلا تجاوز. وهنا يتكامل ثبات الأصل وارتباطه الميكانيكي
الآلي — وليس الغائي
٤٧ — بالواقع خارجه، في تكريس لاتاريخية الخطاب، وعلى نحو
لا انفكاك منه إلا بضربٍ من الارتباط الباطني بين الأصل والواقع،
يتجاوز فيه الأصل ثباته إلى ما يجعله قادرًا على إغناء واقعه
والاغتناء به في آنٍ معًا.
لكن الدائرية تبقى من أهم ما يكرِّس لاتاريخية الخطاب؛ إذ الدائرية
دنوٌّ من الأبدية والخلود، بقَدْر ما هي انفلاتٌ من التاريخ؛ فثمة
النزوع، منذ القدم، إلى رؤية الأبدي في الدائري الذي لا تتناهى
حركتُه أبدًا، وذلك فيما لا تُحيل الحركة المستقيمة المتناهية إلا
إلى ما هو فانٍ ومتغير؛ ذلك «أنه لما كان نشاط الإله — حسب أرسطو —
هو الحياة الأبدية، ولما كانت السموات إلهية، فإن حركتها لا بد
وأن تكون أبدية، ومن ثم تكون السموات فلكًا دوارًا أو كرة لفَّافة …
وتتكون الأرض مملكة التغير، من العناصر الأربعة، أما الأجرام
السماوية، وهي الخالدة، فتتكون من عنصرٍ خامسٍ لا يشوبه التغيُّر أو
التوالُد أو التحلُّل، وهو يتحرك، لا في خطٍّ مستقيمٍ كما تتحرك عناصر
الأرض، بل على شكل دائرة.»
٤٨ ولعل أهم ما يُستفاد، هنا، هو ذلك الارتباط — الذي
يصنعه الذهن — بين ما يتحرك دائريًّا وبين ما هو أبديٌّ خالد، وبين
ما يتحرك مستقيمًا أو طوليًّا وبين ما يتغيَّر ويفنى، وهو ضربٌ من
الارتباط الذي يبدو أنه لم يتزحزح للآن.
٤٩
ومن هذا التقابل بين الطولي أو عالم التغيُّر والصيرورة، وبين
الدائري أو عالم التكرار والعودة، ينبثق التقابل بين التاريخ والأبدية.
٥٠ فإذ ينشأ التاريخ عن السعي إلى مجابهة التغير والصيرورة،
٥١ فإن الأبدية ليست — حسب نيتشه — إلا «دائرة الدوائر
حيث يصبح الابتداء انتهاء»؛
٥٢ أعني حيث لا تغيُّر هناك، ولا تاريخ بالتالي؛ إذ التاريخ
«لا ينشأ في حضارة إلا إذا كان هناك مفهوم التقدُّم؛ الخلف والأمام،
السابق واللاحق، وأن تسير الحقائق في خطوط ولا تنسج في دوائر حتى
تتراكم الحقائق وتحدث علمًا، أو بالأحرى تنتج تاريخًا.»
٥٣ وإذن فإنه لا مجال ضمن هذه الدائرية، للتراكم؛ وهو
أساس التاريخ وأصله، وذلك من حيث يُحيل؛ أي التراكم، إلى ضرب من
التواصل الكمِّي للأحداث سرعان ما يفضي إلى انقطاعٍ كيفي يُمكِن معه
التمييز بين مرحلةٍ وأخرى. إن ذلك هو جوهر التاريخ الذي يتأسس —
والحال كذلك — لا على الاتصال بمفرده، بل على الاتصال إذ يستحيل
إلى ضده؛ أعني الانفصال؛ إذ الاتصال الممتد دونما أي تقطُّع أو
انفصال — وهو جوهر الدائرية — لا ينتج تاريخًا، بل ديمومة، وهي
أيضا أحد أشكال الأبدية.
٥٤
وهكذا يتكشَّف الخطاب، وبدلالة الآلية المنتجة له معرفيًّا، عن
الإهدار الشامل للتاريخ من حيث هو عمليةٌ خلَّاقة تتفتح عن أشكال
للحياة أكثر ثراءً وتدفقًا؛ إذ التاريخ يستحيل — تبعًا لهذه الآلية
— إلى مجرد دوائر ليس فيها إلا التكرار لأشكالٍ فقيرة من الماضي،
استنفدَت كل إمكانات وجودها؛ ولذا فإنها تكون عاجزةً عن النفاذ إلى
الواقع الراهن والتأثير فيه. والحق أن هذا العجز لا يكون من هذه
الأشكال أو الأصول بما هي كذلك؛ أعني بما هي أصول، بل من كيفية
حضورها في الخطاب تقليدًا واتباعًا، لا تجاوزًا وإبداعًا. ولعل ذلك
يكشف عن أن اللاتاريخية في الخطاب لا يُنتِجها مفهوم الأصل بذاته،
بقَدْر ما تُنتِجها العلاقة معه تكرارًا لا حوارًا، واستنساخًا لا
استدماجًا.
ومن هنا فإن تأسيس تاريخية الخطاب لا يتحقق أبدًا بتنكُّره لأي
أصول، بل يتحقق بتشكيله للعلاقة معها على نحوٍ آخر؛ وأعني أن بناء
التاريخية لا يمكن أن يكون بالسعي إلى البدء من نقطةٍ مطلَقة لا
تسبقها أي معطيات أو أصول.
٥٥ فإن ذلك، إضافة إلى تنكره هو ذاته للتاريخ، مما يستحيل
على أي تفكيرٍ بشري، بل ومن حسن الحظ أن الله نفسه، وعَبْر نصوصه
المُوحاة، يكشف عن استحالة هذا الضرب من التفكير الذي يتشكَّل بمعزلٍ
عن أي معطًى سابق،
٥٦ وذلك من حيث إن نصوص الوحي لم تتجاهل أبدًا كل
المعطيات والأصول السابقة عليها (سواء كانت ثقافةً سائدة أو حتى
وقائع)، بل راحت تُحاوِرُها وتَستوعبُها وتتجاوزُها منتجةً بالطبع، لخطابٍ
مغايرٍ عنها. ولعل ذلك بالضبط هو ما يحتاج إليه الخطاب العربي
الراهن؛ أعني أن يحاور ويستوعب ويتجاوز أصوله، ويستدمجها في بنيته
الخاصة، وذلك بدلًا من تركها هكذا، كسلطةٍ مطلقةٍ تُمارِس عليه هيمنةً
شاملة لا يملكُ بإزائها إلا التكرار والاجترار.
٥٧
والحق أن لاتاريخية الخطاب لا تُستفاد فقط من دلالة النظام
المعرفي المُنتِج له، بل وكذا من العناصر التي ينبني منها هذا النظام
نفسه. وإذ النظام — في جوهره — نظام استعارة ونقل؛ والاستعارة تُحيل
— حسب بنائها — إلى المستعار والمستعار له، ثم رابطة — هي أشبه
بالعلة المنتجة لحكم الأصل بالفرع عند الأصوليين — تسوِّغ وصلهما،
فإن الخطاب يتكشف، بالفعل، عن نماذجَ مستعارة (انطوت عليها تلك
البناءات المعرفية التي راح الخطاب ينقلها عن الغرب حينًا وعن
السلف حينًا آخر)، وعن واقعٍ مستعارٍ له، ثم عن رابطةٍ أو علة راح
يسعى عَبْرها الخطاب إلى البحث في واقعه عما يبرِّر به استعارتَه لنموذجٍ
بعينه. واللافت أن هذه العناصر لا تفعل أبدًا داخل الخطاب إلا عَبْر
الإهدار الشامل لتاريخيتها.
حقًّا تنطوي الرابطة (وهي همزة الوصل بين النموذج والمستعار
والواقع المستعار له) على ما يُوهِم بتوافر حسٍّ تاريخي، وذلك من حيث
تنطوي على النزوع إلى قراءة ما تبرِّر به کل استعارة لنموذجٍ ما في
تاريخ الواقع المستعار له ومنطق تطوُّره الخاص؛ وذلك على النحو الذي
يبدو معه «أن الدعوة إلى الحرية [الليبرالية] ناتجةٌ قبل كل شيء عن
حاجةٍ متولدةٍ في المجتمع العربي شعَر بها عددٌ من الناس»،
٥٨ تمامًا كما أن الدعوة إلى الماركسية ستكون بدورها
ناتجةً عن حاجة في نفس المجتمع أيضًا، شعَر بها عددٌ من الناس، كان من
بينهم المؤلِّف (العروي) نفسه هذه المرة. وبالمثل فإن الداعي إلى
السلفية لن يرى في الواقع إلا الجاهلية يبرِّر بها دعوته.
٥٩ وهكذا فإن الواقع ذاته ينطوي على ما يبرِّر الاستعارة من
الليبرالية والماركسية والسلفية. والحق أن عجز هذه النماذج عن
النفاذ إلى الواقع والتأثير فيه، لَيَكشفُ عن أن روابطها مع الواقع
(المستعار له) كانت وهميةً واصطناعية، بأكثر مما كانت حقيقيةً أو
تاريخية؛ إذ الروابط هنا، لا تنتج إلا من أن عددًا من الناس (على
قول العروي) يصطنعون ظروفًا في واقعهم تبرِّر لهم استعارة نماذجَ
معرفيةٍ غريبة عنه؛ وذلك رغم أن تحليلًا معرفيًّا دقيقًا لهذا
الواقع قد يئول إلى الكشف عن غياب الشروط الحقة لإنتاج مثل هذه
النماذج. ولعل ذلك يكشفُ عن أن نقطة البدء في المعرفة الاستعارية،
بأَسْرها، ليست الواقع أبدًا، بقَدر ما هي النموذج المستعار الذي يفرض
على البعض اصطناع واقعٍ متوهم يبرِّرون به استعارة ذلك النموذج لا
غيره؛ الأمر الذي يعكس تزييفًا للواقع وتغييبًا شاملًا
لتاريخه.
وإذ الرابطة بين «المستعار والمستعار له» تتكشَّف، هكذا، عن طابعٍ
وهمي، لا تاريخي، فإن ذلك أيضًا هو ما يُستفاد، وعلى نحوٍ أكثر
جلاء، من تحليل طبيعة المستعار والمستعار له؛ الأمر الذي يؤكد على
كون عناصر الاستعارة جميعًا تتكشف عن نفس الطابع اللاتاريخي؛ إذ
الاستعارة تفترض، حسب طبيعتها، اكتمال النموذج المستعار وتعاليه
وأوليته، وذلك في مقابل نقص الواقع المستعار له وتخلُّفه ودونيته.
ولعل هذا الاكتمال للنموذج المستعار يأتي من كونه قد تبلور واكتمل
خارج الواقع (المستعار له)، وأصبح — لذلك — معطًى جاهزًا للاستعارة
والنقل إليه، وذلك بالرغم من أنه في علاقته بواقعه لا يفارق كونه
مجرد تكوينٍ (معرفي) يتخذ من هذا الواقع حقلًا يتبلور فيه؛ وأعني
أنه يتبلور في عمليةٍ معرفية يتحقق فيها الصعود من الواقع إلى
النموذج، ثم منه إلى الواقع، في ضروب من التحليل والفهم، يسَع فيها
النموذج واقعَه ويتسع به في آنٍ معًا.
وهكذا يبدو النموذج في علاقته بواقعه الخاص مجرد تكوينٍ تاريخي،
سرعان ما تهدِّده الاستعارة من حيث تتأسَّس على ضرورة تحويله إلى معطًى
جاهزٍ مكتمل؛ إذ الاستعارة تفرضُ ضرورة التعامي عن هذا التبلور
المعرفي للنموذج في علاقةٍ وطيدة مع واقعه الخاص، بل وتسعى إلى
انتزاعه من سياق هذا الواقع الخاص، توطئةً لغرسه في واقعٍ مغاير،
فتُحيله بذلك من تكوين (تاريخي) إلى معطًى (مطلَق)، قابل للاستنساخ في
كل زمان ومكان؛ وأعني — بعبارةٍ أخرى — أنه يتحول من كونه معرفةً
تكوينية (تتكون من التاريخ وفيه) إلى ضرب من المعرفة المتعالية
التي تحوز كل سمات الإطلاق والقداسة واللاتاريخ.
وفي المقابل، فإن تخلُّف الواقع (المستعار له) ودونيته لا يدع له
أبدًا إلا مجرد الانصياع — ولو قسرًا — لهذه النماذج المستعارة
المفروضة عليه من خارجه؛ ولذلك فإن الواقع لا يكون، هنا، هو نقطة
البدء في بناء النموذج المعرفي؛ أعني لن يكون حقلًا يتبلور فيه
النموذج … ينطلق منه ويعود إليه في مراوحةٍ مستمرةٍ ينفتح فيها
الواحد منهما على الآخر مؤثِّرًا فيه ومتأثرًا به في آنٍ معًا، بل
الواقع يصبح — وبسبب ما ينطوي عليه من تخلُّف وانحطاط — مجرد موضوعٍ
خامل لا يملك إلا الانقياد لمقتضيات نموذج، يحوز بطبيعته سمات
الكمال؛ حتى وإن اقتضى الأمر إهدار مقتضيات تطوُّره وتاريخه الخاص.
٦٠ وهكذا تفرض الاستعارةُ ضرورةَ التعامي عن مقتضيات التطور
الخاص للواقع المستعار له، بل وتسعى إلى انتزاعه من تاريخه الخاص
توطئةً لإلحاقه بتاريخٍ مغاير، فتُحيله، بذلك من واقعٍ إلى عماءٍ يمكن
أن يتشكَّل حسب أي نموذج، ومن دون أن تكون له أي ماهية أو
تاريخ.
وهكذا تنبني الاستعارة — وهي الآلية المُنتِجة للمعرفة داخل الخطاب
العربي المعاصر — على تنكُّرٍ مزدوج للتاريخ؛ فثمَّة — من جهة — تنكُّر
الخطاب لتاريخ واقعه، وثمَّة — من جهةٍ أخرى — تنكُّره لتاريخ الواقع
الذي أنتج النماذج المتعالية التي يستعيرها؛ إذ الاستعارة، كما
لاح، لا تجد ما يؤسِّسُها إلا في هذا الإلغاء المزدوج للتاريخ؛ وذلك
من حيث إنها تفترض توحُّدًا يقوم به الخطاب بين واقعه الخاص ونماذجه
المستعارة، يمكن أن يحلَّ فيه أحدهما محلَّ الآخر، ولكن الخطاب لا يملك
أبدًا أن يوحِّد واقعه معها إلا بأن يتنكَّر لتاريخه الخاص (أعني
تاريخ واقعه)، وكذلك فإنه لا يملك أن يوحِّدها مع واقعه إلا بأن
يتنكَّر للتاريخ الذي أنتجها، ولكن المفارقة، هنا، تتأتى من أن
تنكُّره لتاريخ واقعه يكون عنوانًا على نقصه ودونيته، في حين يكون
تنكُّره لتاريخ نماذجه عنوانًا لكمالها وتساميها. وهكذا يبدو وكأن
الواقع يتخبط فيما دون التاريخ شقيًّا وناقصًا، وأما النماذج فإنها
فوقه (فوق التاريخ) كاملة ومتعالية. ولقد كان حتمًا أن تستحيل
النماذج — بكمالها وتعاليها — إلى سلطةٍ مطلَقة خارج أي تحديدٍ زماني
ومكاني، وليس للواقع بإزائها — وبسبب ما ينطوي عليه من نقص ودونية
— إلا الخضوع والتبعية.
واللافت أن الخطاب، بإلغائه تاريخَ واقعِه وتاريخَ نماذجِه، قد أخرج
نفسه أيضًا من التاريخ؛ إذ الخطاب، بتشكيله لعناصر بنائه في فضاءٍ
لا تاريخي، قد تشكَّل — بدوره — ضمن نفس الفضاء؛ وأعني أنه صار معلقًا
في فضاء الزمان، لا هو يحيا تاريخ واقعه من جهة، ولا هو قادرٌ على
أن يحيا تاريخ الآخر (الذي استعار منه نماذجه) من جهةٍ أخرى؛ إذ
التاريخ ليس مجرد التزامن مع الآخر في لحظةٍ ما، بل هو تراكُم للخبرة
والتطوُّر ليس بمقدور الخطاب ادعاء امتلاكه. إنه عبثًا يوحِّد نفسه
مع تاريخ الآخر انطلاقا من مجرد التزامن معه في لحظةٍ واحدة، دون أن
يدرك أن التزامن لا يصنع تاريخًا، بل تلفيقًا؛ ولذلك فإنه لم يكن
غريبًا منه أن يسلك مع الحداثة، مثلًا، بعقلية البدوي الذي يرى
فيها متاعًا يمكن نقلُه من سياق إلى آخر، بالضبط كما ينقل خيمتَه في
الصحراء من شِعابٍ إلى أخرى، وأن يمارس السياسة — والحرب الأخيرة في
الخليج خير شاهد — بسلوك القبيلة الذي لم تُفلِح ألف عام أو يزيد من
الأمة الواحدة المدَّعاة في اجتثاثه من لاوعيه السياسي. ومن هنا فإنه
يحيا الحداثة ولوازمها كتاريخٍ زائفٍ يتبدَّى — كالقشرة الهشَّة — فوق
تاريخٍ أصيلٍ للتخلُّف هو تاريخه الحق الغائب، إنه إذن يحيا الحداثة
بثقافة التخلُّف وتاريخه؛ وأعني أنه لا يحياها «انتماءً» بل
«ادعاءً»، لا يحياها «إنتاجًا وفاعلية» بل «استهلاكًا وتبعية». ومن
هنا عجز الخطاب وإخفاقه أبدًا؛ أعني من هذا الإهدار الشامل
للتاريخ.
وهكذا يبدو — أخيرًا — أن الاستهلاك الأيديولوجي للمفاهيم (من
الحداثة والتراث)، والعجز عن إنتاجها معرفيًّا في حقل الخطاب،
يرتبط بنظامه في إنتاج المعرفة نقلًا واستعارة؛ تلك الاستعارة التي
لا تجد ما يؤسِّسُها إلا في الإهدار المزدوج لتاريخية واقع الخطاب
وأبنيته المعرفية المستعارة في آنٍ معًا. ومن هنا فإن اللاتاريخية
هي ما يؤسِّس، في العمق، لكلِّ ما ينطوي عليه الخطاب من تكرار وترديد
واتباع، وعجز عن الحوار والإبداع. ولعل ذلك يعني أنه لا سبيل أبدًا
لتجاوز أزمة الخطاب الراهنة إلا عَبْر تفكيك هذه اللاتاريخية، والسعي
إلى ردها إلى ما يؤسِّسها في وعي الخطاب أو حتى لاوعيه. وأعني —
بعبارة أخرى — أن الوعي المعرفي بما يؤسِّس اللاتاريخية وآليات
إنتاجها في خطابنا المعاصر، هو الشرط اللازم لإنتاج مفاهيم النهضة
إنتاجًا حقًّا يتجاوز بها مجرد ترديد الراهن؛ هذا الترديد الذي
يجعل الخطاب — مثلًا — يفكِّر في إنتاج الديمقراطية، بينما هو مسكون
في العمق، بكل ما يكرِّس التسلُّط ويُغذِّيه، ويسعى كذلك إلى التحرُّر
والاستقلال، بينما هو — في العمق — خطابُ تبعية. وهكذا تؤسِّس
اللاتاريخية لكل ضروب الإخفاق الراهن للخطاب، وعلى رأسها — بالطبع
— إخفاقه في المسألة الديمقراطية، ومسألة الاستقلال؛ لأنهما يعكسان
إخفاقَه على صعيد الداخل (حيث لا شيء سوى القمع والتضييق)، وعلى
صعيد الخارج (حيث لا شيء سوى التبعية والتفريط).
فهو — من جهة — خطاب الاستبداد،
٦١ لأنه — وبسبب ما ينطوي عليه من نظام لإنتاج المعرفة
نقلًا واستعارةً يتأسَّسان على التنكُّر للتاريخ — لا يعرف إلا السعي
إلى فرض نماذجه المستعارة قهرًا على واقعٍ لا يقبلها طوعًا لأنها
غريبةٌ عنه، وهو من جهةٍ أخرى — ولذات السبب أيضًا — خطاب التبعية؛
لأن كمال هذه النماذج المستعارة، في مقابل نقص الواقع المستعار له،
يجعلها تتنزَّل عليه — كالقدَر الذي لا رادَّ له — بضروب من الأمر
والنهي، وهي في هذا التنزُّل على الواقع من خارجه لا تعرف أبدًا
فضيلةَ الإنصاتِ إليه، ناهيك — بالطبع — أن تتعدَّل طبقًا لمقتضيات
تطوره الخاص؛ ولذلك فإنها لا تقبلُ منه أبدًا إلا محضَ التبعية
والخضوع. وهكذا يبدو تسلُّط الخطاب وتبعيتُه مجرد حاشية على
لاتاريخيته. ومن هنا ضرورة الوعي بها سعيًا إلى تجاوزهما.
والحق أن تفكيك هذه اللاتاريخية، والوعي بما يؤسِّسها معرفيًّا،
يقتضي أولًا، بأن اللاتاريخية هنا لا تعني غيابًا لأي مفهوم عن
التاريخ، وإنما تعني غيابًا للتاريخ كعمليةٍ خلَّاقة تنبثق عن أشكالٍ
للحياة أكثر ملاءمة وتقدمًا، وحضورًا — في المقابل — لتصورٍ
للتاريخ يكرس هو ذاته اللاتاريخية. وهنا يلزم التنويه بأن ثمة
تصوُّرًا مضمرًا للتاريخ — هو الغالب في علم أصول الدين
٦٢ — بوصفه انهيارًا وتدهورًا وتباعدًا من لحظة الفضل
والقيمة إلى لحظاتٍ من التردِّي تتلوها؛ وهو تدهورٌ لا يمكن قهرُه إلا
عبر القفز (ارتدادًا عند السلف) إلى لحظة الفضل الأولى، أو (صعودًا
إلى ما عند الأخرين) من لحظةٍ أخرى تماثلها فضلًا وقيمة.
٦٣ وإذن فإنه التاريخ ينهار من داخله، ولا سبيل أبدًا إلى
تجاوز انهياره إلا من خارجه؛ إذ الحق أنه يستحيل تجاوُز الانهيار
بفعلٍ ينتمي إلى تاريخٍ هو ذاته منهار. ومن هنا فإن قهر التدهور
والانهيار، ضمن هذا التصور للتاريخ، لا يمكن البتة أن يتحقق إلا
عَبْر نموذجٍ مستعار من خارج العملية التاريخية ذاتها. ولعل هذا
التصور — من حيث هو نفيٌ للفاعلية من التاريخ باستدعاء نموذجٍ مطلق
من خارجه — هو الجذر المؤسِّس، في العمق، لأزمة «اللاتاريخية» في
الخطاب العربي المعاصر؛ إذ هنا يجد الخطاب ما يؤسِّس لقفزه الدائم
على حاضره إلى «ماضي الذات» أو «حاضر الآخر».
وبالرغم من أن ذلك يقتضي ضرورة تفكيك هذه اللاتاريخية، وردها إلى
ما يؤسسها معرفيًّا؛ أعني إلى تصوُّر التاريخ الذي يؤسِّسها، فإن
الكثيرين من ناقدي الخطاب، قد صاروا إلى القفز فوقها، وذلك في
محاولةٍ لاستنباتِ تاريخيةٍ بديلةٍ في الوعي، ومن دون القيام بالخطوة
النقدية الجوهرية المتمثلة في تفكيك هذه «اللاتاريخية» والوعي
بحدودها من أجل زحزحتها أولًا.
٦٤ لقد بدا، إذن، وكأن الأمر قد وقف بهؤلاء النقاد، عند
حدود الوعي باللاتاريخية، ولا يتخطاه إلى الوعي بما يؤسسها؛ هذا
الوعي الذي من دونه ستبقى اللاتاريخية تُعيد إنتاج نفسها أبدًا، وإن
في صورٍ متباينة وأنماطٍ شتَّى. وإذا كان قد بدا أن ما يؤسِّس هذه
اللاتاريخية يتخفَّى — خارج الخطاب ذاته — قارًّا في باطن عِلْم
ينتمي إلى حقل التراث القديم؛ أعني علم أصول الدين،
٦٥ فإن ذلك يكشف عن واقعةٍ نموذجيةٍ يتبدَّى فيها الارتباط
صميميًّا بين الخطاب العربي وتراثه القديم، وهو الضرب من الارتباط
الذي قد يغيب عن وعي الخطاب المعاصر، ولكن من دون أن يعني هذا
الغياب للوعي غيابًا للفاعلية (أعني فاعلية التراث في الخطاب
المعاصر). وفقط، فإن هذه الفاعلية تبقى خارج أي سيطرة للوعي؛ أي
أنها تكون فاعليةً لا واعية، وستظل أبدًا تُنتِج نفس مفعولها (وحتى مع
تبايُن سياقه التاريخي)، ما لم يتم الوعي بها. ومن هنا وجوب السعي
إلى الحَفْر فيما وراء وعي الخطاب، عن ذلك الذي يؤسِّس، في العمق،
لشقاء وعيه وغربته، ويبقى هو ذاتُه خارج الوعي، وذلك سعيًا إلى
إبرائه؛ أعني إبراء الخطاب بالطبع.