أولًا: وصف المسار
يتدرَّج مسار «التفضيل» في المصنَّفات الأشعرية، ابتداءً من ظهوره
مختلطًا بالإمامة غير متميِّز عنها في المصنَّفات المتقدِّمة (للأشعري
والباقلاني والجويني)، ثم يبدأ الموضوع في الاستقلال والتميُّز عن
الإمامة، والتضخُّم والاتساع، حتى ليستحيل إلى نمطٍ يستوعب معظم مظاهر
النشاط الإنساني (البغدادي والإسفرائيني وابن حزم)، ثم يعود
الموضوع في المصنَّفات اللاحقة لا للانكماش فقط، بل وللتهميش أيضًا؛
حيث يتحوَّل إلى مجرد ملحقٍ للإمامة يأتي في نهاية مباحثها (الغزالي
والنسفي والرازي والآمدي والإيجي والبيضاوي). وفي المؤلفات
المتأخرة؛ حيث تسقط الإمامة بالكلية كجزء من السعي إلى تغييب أي
تفكيرٍ في السياسة، فإن التفضيل يتحوَّل إلى هامشٍ ولاحقةٍ للنبوة التي
باتت تشكِّل أحد قطبَي علم العقائد الذي استحال بأَسْره إلى جملة عقائد
في الله والرسول فقط. وإذن فإنه يُمكِن التمييز في مسار التفضيل — في
المصنَّفات الأشعرية بالطبع — بين أربعِ مراحلَ للتطور.
والمُلاحَظ أن التفضيل عند الأشعري نفسه يتدرج ابتداءً من عدم
الظهور على الإطلاق في اللمع؛ حيث «الكلام في الإمامة» ينحصر في
إثبات إمامة أبي بكر بالدلائل من الإجماع والقرآن، ومن دون أن
يتطرَّق إلى مسألة أفضليته على غيره.
١
وفي الإبانة فإنه يظل منشغلًا بإمامة أبي بكر الصديق التي يلجأ
إلى إقامة الدليل عليها من القرآن (ثلاثة أدلة)، لكنه لا يقف عند
ذلك، بل ينطلق إلى تقرير أنه أفضلُ المسلمين بعد النبي؛
٢ وبما يعني أن أفضلية أبي بكر، هنا، تُستفاد من كونه
موضوعًا لخطاب قرآني. «وإذا ثبتَت إمامة الصديق [وأنه الأفضل بعد
النبي] ثبتَت إمامة الفاروق؛ لأن الصديق نصَّ عليه، وعقَد له الإمامة
واختاره لها. وكان أفضلَهم بعد أبي بكر رضي الله عنه.»
٣ وبنفس المنطق يُثبِت الأشعري الإمامة والفضل لعثمان ثم
لعليٍّ من بعده.
وهكذا فإنه يرتِّب الخلفاء الأربعة في الإمامة والفضل، ويُحصي مدة
خلافتهم بثلاثين عامًا، ويتخذ من ذلك دليلًا على إمامتهم جميعًا،
وذلك استنادًا إلى الحديث: «قال رسول الله
ﷺ:
الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم مُلك بعد ذلك. ثم قال لي سُفينة:
أمسِك خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان. ثم قال: أمسِك خلافة
عليِّ بن أبي طالب؛ قال فوجدتهُا ثلاثين سنة» فدَل ذلك على إمامة
الأئمة الأربعة رضي الله عنهم.
٤ وأخيرًا فإنه يُنهي بتفسير ما جرى من الاختلافات
والمنازعة بين الصحابة، على أنه ضربٌ من الاجتهاد، وكانوا كلهم على
الحق فيه.
٥
وبدوره فإن الأمر لا يختلف عند الباقلاني عنه عند الأشعري، وذلك
من حيث لا يستقلُّ مبحثُ التفضيل عنده ولا يتميَّز عن الإمامة، بل
يتبلور في سياق السعي إلى إثبات الإمامة الخاصة بكل واحدٍ من
الخلفاء الأربعة باعتباره الأفضلَ من غيره وقتَ توليه؛ وذلك على نحوٍ
تفصيلي في التمهيد،
٦ وعلى نحوٍ موجزٍ في الإنصاف.
٧ لكنه في الإنصاف يتوسَّع في معالجة بعض مسائل التفضيل
الأخرى، فيُفرِد مسألةً لإقامة «الدليل على إثبات الإمامة للخلفاء
الأربعة على الترتيب الذي بينَّاه». فيرى الدليل أيضًا في حديث
نبوي، لكن لا في حديث: «الخلافةُ في أُمتي ثلاثون سنة كما يفعل
الأشعري»، بل في حديث: «خيرُ القرونِ قرني»؛ إذ الصحابة هم خير
القرون، فلما قدَّموا هؤلاء الأربعة على غيرهم ورتَّبوهم على
الترتيب المذكور علمنا أنهم رضي الله عنهم لم يقدِّموا أحدًا
تشهِّيًا منهم، وإنما قدَّموا من قدَّموه لاعتقادهم كونَه أفضلَ وأصلحَ
للإمامة من غيره في وقت تولِّيه.
٨ وهكذا يظهر التفضيل — ولأول مرة — استنادًا إلى حديث
«خير القرون»، ولكن في سياق إثبات الأفضلية للصحابة، وليس في سياق
إثبات التدهور في الزمان كما سيظهر في المصنَّفات اللاحقة.
ويبدو أن الباقلاني قد عاصَر حقبةً تزايَد فيها الطعنُ على الصحابة،
فاضطُر إلى أن يُفرِد للموضوع مسألتَين من مسائل التفضيل، أوجب — في
إحداهما — «الكف عن ذكر ما شجَر بينهم والسكوت عنه، لقوله
ﷺ:
«إياكم وما شَجَر بين أصحابي».»
٩ وأكد — في الأخرى — على «أن الصحابة رضي الله عنهم
إنما صدَر منهم ما كان باجتهاد، فلهم الأجر، ولا يُفسَّقون ولا يُبدَّعون»،
١٠ ولعله كان في تلك المسألة الأخيرة متابعًا للأشعري على
نحوٍ خاص. وأخيرًا فإن الباقلاني ينتقل في تناول مسألة التفضيل من
الصحابة إلى غيرهم، فيُقرُّ بفضل أهل بيت رسول الله.
١١
وامتدادًا لنفس النهج في ربط التفضيل بالإمامة بحيث لا يتميَّز أو
يستقل عنها، فإنه قد يرتبطُ بموضوع إمامة المفضول؛ حيث الغرضُ منه
(أي التفضيل) ينبني على منع إمامة المفضول،
١٢ لأن الإمامة لا تثبُت إلا للأفضل من أهل العصر، ومن هنا
منع إمامة المفضول. وإذن فإنه الربط بين إثبات كلٍّ من الإمامة
والفضل معًا كالحال في المصنَّفات السابقة. لكنه يظهر، هنا — ولأول
مرة — الشك في موضوع التفضيل كله؛ حيث «لم يقم عندنا دليلٌ قاطع على
تفضيل بعض الأئمة على بعض؛ إذ العقل لا يشهد على ذلك، والأخبار
الواردة في فضائلهم متعارضة.»
١٣ وقد يتراجع الشك بعض الشيء حيث يبقى «الغالب على الظن
أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الخلائق بعد الرسول
ﷺ،
ثم عمر بعده أفضلهم، وتتعارض الظنون في عثمان وعليٍّ …
[وتأكيدًا لهذا الظن يتم إسناده إلى رواية للإمام علي قال فيها]:
خير الناس بعد نبيِّهم أبو بكر، ثم عمر، ثم الله أعلم بخيرهم بعدهما
… [ويكون] هذا قوله [أي علي] أبديناه مجانبًا للتقليد، جاريًا على
الحق الواضح.»
١٤ ثم يتراجع الشك كليًّا حيث «الخلفاء الراشدون لما
ترتَّبوا في الإمامة، فالظاهر ترتيبُهم في الفضيلة؛ فخيرُ الناس بعد
رسول الله
ﷺ: أبو بكر ثم عمرُ ثم عثمانُ ثم عليٌّ
رضي الله عنهم أجمعين؛ إذ المسلمون كانوا لا يقدِّمون للإمامة
أحدًا تشهيًا منهم، وإنما قدَّموا من قدَّموه لاعتقادهم كونَه أفضلَ
وأصلحَ للإمامة من غيره.»
١٥
وإذا كان التفضيل في مصنَّفات هذه المرحلة قد اختلط بالإمامة لا
يتميَّز عنها، سعيًا إلى إثبات الإمامة للخلفاء الأربعة على الترتيب
باعتبار كل واحدٍ منهم هو الأفضل وقتَ توليه، فإنه قد راح في مرحلةٍ
لاحقة، يتميَّز ويستقل بوضعٍ خاصٍّ عن مباحث الإمامة. والمُلاحَظ أن
التفضيل قد راح، في مصنَّفات هذه المرحلة، يتضخَّم على نحوٍ لافت، وكان
ذلك نتاج تجاوزه مجرد الارتباط بالإمامة، إلى تنظيم وتوجيه العديد
من ضروب النشاط والممارسة الإنسانية؛ حيث راح التفضيل يتطرق إلى
مجالاتٍ شتى لم يكن يتطرق إليها قبلًا.
وهكذا يُفرِد البغدادي للتفضيل أصلًا كاملًا من كتابه أصول الدين،
يأتي لاحقًا لأصل الإمامة مباشرة.
١٦ وإذا كان البغدادي لم يلتفت إلى بعض العلوم كالتفسير
وعلوم المغازي والسير والتواريخ، فلم يُخضِعها للتفضيل، فإن ثمَّة من
سيتولى الأمر من بعده.
١٧ والمُلاحَظ فيما يتعلق بهذا التضخم في التفضيل،
والانتقال به إلى حقل العلم خاصةً أنه قد ذاع في مصنَّفات القرن
الخامس الهجري على نحوٍ خاص. ولعل ذلك يرتبط بأن اكتمال دورة
الإبداع في حقل العلم، في القرن الرابع الهجري، لم تترك أمام البعض
إلا مجرَّد التنظيم والتوجيه لهذا النشاط الإبداعي، واستثماره في
الصراع بين الفِرَق.
ورغم أن ابن حزم في نفس القرن (٤٥٦ﻫ) يُنهي حديثه عن الإمامة
بحديثٍ مستفيض «في وجوه الفضل والمفاضلة بين الصحابة»،
١٨ إلا أنه يُلاحَظ أن التفضيل عنده — ورغم تضخُّمه — لم يزل
مشغولًا بالتفكير في الإمامة، انطلاقًا — فيما يبدو — من تأييده
ودعمه المعلَن للدولة الأموية في الأندلس، وهو تأييد كان يستلزم
إعادة بناء السياسة في «الماضي» — من خلال التفضيل — لتكريس
السياسة في «الحاضر»؛ ولهذا فإنه إذ ينفرد بتقديم نساء النبي على
صحابته في الفضل، فإنه يقول بأفضلية عائشة على فاطمة، ثم يؤكد —
فيما يتعلق بالصحابة — أفضلية أبي بكر على الإمام عليٍّ خاصة؛ وبما
يعني تحامُلَه على الطالبيين لحساب خصومهم. ومن جهةٍ أخرى، فإن ابنَ
حزم يتعرض للتفضيل كمفهومٍ نظري، فيحدِّد الوجوه التي يتعيَّن بها
الفضل، كما يحدِّد مصدر التفضيل ومستنده. وهنا فإنه — واستنادًا إلى
انتمائه للمذهب الظاهري فيما يبدو — يرى «الفضل لا يُعرَف إلا ببرهانٍ
مسموع من الله تعالى في القرآن، أو من كلام الرسول
ﷺ»،
١٩ متجاوزًا إسناده إلى الاجتهاد أو الإجماع أو حتى الميل
من الأمة كما يفعل معظم الأشاعرة؛ لأنها لا تتفِق مع ظاهريته.
والمُلاحَظ أن البزدوي — في نفس الفترة — قد رأى أيضًا الفضل لا يكون
إلا «بالوضع من الله تعالى»؛
٢٠ وبما يعني تركيزًا من هذا القرن (الخامس) على تكريس
التفضيل بإسناده إلى النص من الله أو الرسول، متجاوزًا ما كان من
الشك في مصدره، في المرحلة السابقة، وعند الجويني خاصة.
وفيما بعد القرن الخامس الهجري، فإن التفضيل يعود، لا للانكماش
فقط، بل وللتهميش أيضًا، حيث يتحوَّل إلى مجرد ملحقٍ للإمامة يأتي بعد
مباحثها، ومع ذلك فإنه يُلاحَظ على مصنفات هذه المرحلة أنها قد
احتفظَت بمعظم أفكار المرحلة الأولى خاصة (كترتيب الخلفاء في الفضل
بنفس ترتيبهم في الإمامة، ووجوب تعظيم الصحابة، والكفِّ عن الطعن
فيهم)، وأضافت إلى ذلك التركيز على جُملةِ مسائلَ استأثرَت باهتمامها
على نحوٍ لافتٍ. ولقد كان من أهمِّ ما استأثر باهتمام هذه المصنَّفات،
٢١ مسألة الأخبار الواردة فيما جرى بين الصحابة من
الاختلاف والمنازعة؛ إذ الأمرُ في هذه المصنَّفات لا يقفُ عند حدِّ
اعتبار ما جرى بين الصحابة من الاختلاف والمنازعة ضربًا من
الاجتهاد كانوا جميعًا على الحق فيه (كما هو الحال في مصنَّفات
المرحلة الأولى)، بل يتمُّ تحليلُ الأخبار الواردة عن هذه المنازعات،
والتمييز فيها بين أخبارٍ موضوعة ينبغي إنكارُها، وأخبارِ آحادٍ يُمكِن
تضعيفها، وأخبارٍ متواترة إذا كان لا يُمكِن إنكارُها أو تضعيفُها، فإنه
لا بد من تأويلها على أحسن التأويلات.
٢٢
لكن تحليل الأخبار والنصوص قد آل أيضًا إلى أنه «لا يمكن أن
يُدَّعى نصوصٌ قاطعةٌ من صاحب الشرع متواترةٌ مقتضيةٌ للفضيلة على هذا الترتيب»،
٢٣ وأن «النصوص المذكورة لا تفيد القطع على ما لا يخفى
على منصف»،
٢٤ وأن «دلائل الجانبَين [في التفضيل] متعارضة.»
٢٥ الأمر الذي اقتضى التفكير في مستنَد التفضيل، فصار
الإجماع عند البعض،
٢٦ وصار «الظن وما ورَد في ذلك الآثار، وأخبار الآحاد، أو
الميل من الأمة إلى ذلك بطريق الاجتهاد.»
٢٧ ولعله بدا — تبعًا لذلك — أن هذه المرحلة تأخذ موقفًا
مضادًّا من المرحلة السابقة عليها، والتي ساد فيها إسناد التفضيل
إلى «النص» من الله أو الرسول. ولعله يُلاحَظ أن التفضيل، في هذه
المرحلة، قد راح يتبلوَر بوصفه انهيارًا في الزمان من عصرٍ إلى آخر.
٢٨
وأخيرًا، فإن التفضيل قد تحوَّل في المصنَّفات المتأخرة إلى مجرد
لاحقة للنبوة، بعد أن غابت الإمامة وسقطَت نهائيًّا من هذه المصنَّفات
٢٩ التي اختزلَت العلم في جملة عقائد عن الله والرسول فقط؛
ولهذا فإن التفضيل يتبلور في هذه المصنَّفات، بوصفه عقيدةً في النبي
ينبغي الإيمان بها؛ حيث صار «مما يجب اعتقاده [في النبي] أن قَرْنَه
أفضل القرون، ثم الذي بعدَه، ثم القَرْن الذي بعده.»
٣٠ وقد يُصار إلى تفصيل القول في هذه القرون، فيقال:
وصُحبة خيرُ القرون فاستمع. فتابعي فتابع لمن تبع، وخيرهم من وُلي
الخلافة، وأمرهم في الفضل كالخلافة، يليهم قومٌ كرامٌ برَرة، عدَّتُهم ستٌّ
تمام العشرة، فأهل بدرٍ العظيمِ الشان، فأهل أُحد فبيعة الرضوان،
ومالكٌ وسائر الأئمة … كذا أبو القاسم هداةُ الأمة.
٣١ ورغم أن البعض قد صار إلى «أن ما بعد القرون الثلاثة
[الأولى] سواءٌ في الفضيلة، [فإن جماعةً ذهبَت] إلى تفاوُت بقية القرون
بالسَّبْقية، فكل قرنٍ أفضل من الذي بعدَه إلى يوم القيامة، لحديث: «ما
من يوم إلا والذي بعدَه شرٌّ منه، وإنما يُسرَع بخياركم».»
٣٢ لقد استحال التفضيل، إذن، إلى نظريةٍ في تدهوُر الزمان
وانهياره، والمهم أنه أصبح عقيدةً ينبغي الإيمان بها؛ الأمر الذي
يعني أنه انفصل عن أصله السياسي الذي ارتبط به الذي هو الإمامة.
وهكذا فإنه، وكما انفصل العِلم بأَسْره (أعني علم أصول الدين) عن أصله
السياسي، فإن التفضيل، بدوره، قد انفصل عن أصله السياسي. وقد ظل
الواحد منهما — ورغم انفصاله عن أصله السياسي (أي الإمامة) —
فاعلًا؛ وبما يعني أنه أصبح بنيةً متعاليةً لا سيطرة عليها. ولعله
يمكن التمييز في التفضيل هكذا، بين أربعِ مراحل. وبالرغم مما يبدو
عليها من كونها مراحلَ بالمعنى المعرفي أساسًا، فإنها قد تصِح
بالمعنى التاريخي كذلك.
ثانيًا: تحليل المسار
يبدو أن التفكير في الإمامة عمومًا، قد انبثق — داخل نسَق العقائد
الأشعري — في سياق السعي إلى إثبات الإمامة الخاصة بأبي بكر. ولعل
ذلك ما يؤكِّده النص المؤسِّس في النسَق بأَسْره؛ وأعني به نص الإبانة للأشعري،
٣٣ الذي جعل من «الكلام في إمامة أبي بكر الصديق رضي الله
عنه» عنوانًا للكلام في مسألة الإمامة عمومًا. ومن هنا فإنه إذا
كان يمكن التمييز — فيما يتعلق بالإمامة — بين إطارٍ نظري (يستوعب
مسائلها النظرية كالإمكان والوجوب وكيفية الوقوع وشروط الإمام
وصفاته … إلخ)، وبين إطارٍ تاريخي (يستوعب وقائعَ ما جرى حولها
بالفعل)، فإنه يبدو وكأن «النظري» في الإمامة قد انبثق من
«التاريخي» فيها، وذلك باعتبار أن الأشعري قد وقف بتفكيره في
الإمامة عند وقائعِ ما جرى حولها بالفعل، دون أن يتطرَّق إلى مسائلها
النظرية. وكالعادة المستقرة في النسَق الأشعري، فإن «النظري» سرعان
ما راح يُمارِس إقصاء وتهميشًا للتاريخي على النحو الذي أصبح معه هذا
«التاريخي» من لواحق الإمامة التي تقبل الاستبعاد أحيانًا.
٣٤
والمُلاحَظ أن القولَ بالتفضيلِ قد انبثَق، للوهلة الأولى في سياق
السعي إلى إثبات إمامة أبي بكر، وخلفائه الثلاثة على الترتيب؛ حيث
إنه «إذا وجبَت إمامة أبي بكر، وجب أنه أفضلُ المسلمين رضي الله عنه
… [وكذا فإنه] إذا ثبتَت إمامة الصديق، ثبتَت إمامة الفاروق … وكان
أفضلَهم بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وثبتَت إمامة عثمان رضي الله
عنه.»
٣٥ وهكذا ينتقل النص من وجوب الإمامة إلى وجوب الفضل من
جهة، ومن التراتُب في الإمامة إلى التراتُب في الفضل من جهةٍ أخرى،
والحق أن النسَق الأشعري قد صار بعد ذلك (وكان ذلك جزءًا من الرد
على الشيعة فيما يبدو) إلى أن التراتُب في الفضل هو ما يؤسِّس للتراتُب
في الإمامة.
٣٦ وبالرغم من ذلك فإنه يبقى أن القولَ بالتفضيلِ قد انبثَق
من الجانب التاريخي في الإمامة (وأعني من تبرير ما جرى من حصول
الإمامة لأبي بكر وخلفائه على الترتيب)، وليس من الجوانب النظرية
فيها؛ ولهذا فإنه يبدو أن تهميش التاريخي في الإمامة لم يكن يعني
إلا تهميش التفضيل وتحويله إلى مجرد هامشٍ للإمامة. وهكذا يئول
الأمر إلى التحول من الإمامة بأَسْرها كدرس في التفضيل (حسبما يظهر
من نص الأشعري الإبانة)، إلى التفضيل كمجرد لاحقةٍ هامشيةٍ للإمامة.
والملاحظ أن هذا التحول إنما يتسقُ مع سعي النسَق الأشعري الدائم إلى
نسيان «التاريخي والمتعيَّن» والاستغراق في «النظري
والمجرَّد».
وبالرغم من أن التفضيل يكون، هكذا، قد تبلوَر ضمن سياق ما هو
تاريخي في الإمامة، فإنه — وللمفارقة — كان يقصد إلى صياغة هذا
الجانب التاريخي على نحوٍ يسلبُه تاريخيتُه الحقة، فإنه لا شك في أن
التفضيل — وليس سواه — هو ما جَعَل الأشعري يرى في وقائعِ ما جرى بين
الصحابة من المنازعة والاختلاف، لا «تاريخًا» أنتجه تبايُن المصالح
والأهواء بينهم، بل تأويلًا واجتهادًا، كلهم كانوا على الحق فيه.
وهكذا فإن «ما جرى بين عليٍّ والزبير وعائشة رضي الله عنهم، فإنما
كان على تأويل واجتهاد، وعلي الإمام وكلهم من أهل الاجتهاد، وقد
شهد لهم النبي
ﷺ بالجنة والشهادة، فدَل على أنهم
كانوا على حقٍّ في اجتهادهم. وكذلك ما جرى بين عليٍّ ومعاوية رضي
الله عنهما كان على تأويل واجتهاد.»
٣٧ والمُلاحَظ أن الأمر في النصوص اللاحقة قد تجاوز حدَّ
تصوُّر ما جرى بين الصحابة بوصفه اجتهادًا كانوا كلهم على الحق فيه،
إلى القطع بوجوب الكَف عن ذكرِ ما شجَر بينهم والسكوت عنه، لقوله
ﷺ:
«إياكم وما شجَر بين أصحابي.»
٣٨ ذلك «أن أكثَر ما ورَد في حقهم من الأفعال الشنيعة،
والأمور الخارجة عن حكم الشريعة، فلا أصل لها إلا تخرُّصات أهل
الأهواء، وتصنُّعات الأعداء، كالروافض والخوارج وغيرهم من
السَّفساف، ومَن لا خَلاقَ له من الأطراف.»
٣٩ وأما فيما يتعلق بما «ثبت نقلُه [من هذه الأخبار] ولا
سبيل إلى الطعن فيه، فما كان يسُوغ فيه الاحتمال، والتأويل فيه
بحالٍ، فالواجب أن يُحمل على أحسن الاحتمالات، وأن يُنزَّل على
أشرف التنزيلات، وإلا فالواجب [أيضًا] الكفُّ عنه، والانقباضُ منه،
وأن يُعتقد أن له تأويلًا لم يُوصل إليه ولم يُوقَف عليه؛ إذ هو الأليق
بأرباب الديانات، وأصحاب المروءات، وأسلم من الوقوع في الزلَّات،
ولكون سكوت الإنسان عما لا يلزمه الكلام فيه أرجى له من أن يخوض
فيما لا يعنيه، لا سيما إذا احتمل ذلك الزلَل والوقوع بالظن والرَّجم
بالغيب في الخَطَل.»
٤٠ ولعله يبدو، هكذا، أن الأشاعرة قد طوَّروا أربعَ آلياتٍ
لتناول ما جرى بين الصحابة من التنازُع والاختلاف وتكريس التفضيل
بينهم؛ إذ ثمَّة أولًا آلية التأويل والاجتهاد التي ترى فيما جرى
بينهم (أي الصحابة)، لا تنازعًا واختلافًا، بل اجتهادًا كانوا
جميعًا على الحق فيه.
٤١ وثمَّة … ثانيًا آلية الإسكات أو القطعِ بوجوبِ الكَف
والسكوت عما جرى بينهم،
٤٢ وثمَّة … ثالثًا آلية التضعيف لما ورَد في حقِّهم من
الأفعال الشنيعة،
٤٣ وثمَّة … أخيرًا آلية الإنكار الكلي لما ورَد من أخبار
التنازُع بينهم.
٤٤ والمُلاحَظ أن هذه الآليات الأربع إنما تتضافر جميعًا في
استبدال مبدأ التفضيل بالتاريخ كإطارٍ لقراءة ما جرى في حقبة
الصحابة، والسعي إلى تحويل هذه الحِقبة من حقبةٍ تاريخيةٍ إلى حقبةٍ
مثاليةٍ لا تنتظمها قوانينُ التاريخ؛ وهو ما سيتجلى عند ابن خلدون
على نحوٍ حاسم.
وإذا كان الغرض من التفضيل قد انبنى عند الأشعري على إثبات
الإمامة الخاصة بأبي بكر (وما ترتَّب عليها)، فإن ثمَّة من الأشاعرة من
صار إلى أن «الغرض منه [أي التفضيل] ينبني على منع إمامة المفضول.»
٤٥ فبدا بذلك وكأنه يرى للتفضيل غرضًا يتجاوز الواقعة
الجزئية الخاصة بإثبات إمامة أبي بكر إلى مبدأ أكثر عمومًا يتمثل
في الرد على ما صار إليه الزيدية من تجويز إمامة المفضول، وذلك
انطلاقًا من المبدأ «الذي صار إليه معظم أهل السنَّة [من] أنه
يتعين للإمامة أفضل أهل العصر»،
٤٦ وهو المبدأ الذي يئول إلى تكريس ضربٍ من التماهي الكامل
بين ترتيب الخلفاء الأربعة في الإمامة وترتيبهم في الفضل؛ لأنه
يستحيل — حسب هذا المبدأ — أن يكون الإمام «مفضولًا» وأن يكون هناك
من أهل العصر من هو أفضل منه؛ الأمر الذي يعني أن الرتبة في الفضل
توازي الرتبة في الإمامة.
٤٧ وبالرغم من أن مسألة أفضلية عثمان على الإمام عليٍّ
تحديدًا كانت مصدر خلافٍ،
٤٨ فإنه يبقى أن أمر التفضيل بأَسْره قد انبثق من مسألة
التفاضُل بين أشخاص الخلفاء الأربعة تثبيتًا لخلافة الواحد منهم على
ترتيب وقوعها وتحقُّقها.
وبالرغم من أن التفاضل بين الخلفاء الأربعة يتكشَّف، هكذا، عن
السعي إلى تكريس إمامة كل واحدٍ منهم بترتيب وقوعها، فإنه يتكشَّف
أيضًا عن ضربٍ من الهبوط من الأفضل إلى الأقل فضلًا. ولعل هذا
التدهوُر من الأفضل إلى الأقل فضلًا يتجلى، على نحوٍ أظهر، مع
الانتقال إلى التفاضُل بين الصحابة. وهنا فإن التفضيل يكتسي طابعًا
لا شخصيًّا،
٤٩ حيث الأمر يتطور من المفاضَلة بين أشخاص إلى المفاضَلة
بين أصناف أو طبقات تكون كلُّ واحدةٍ منها أقل فضلًا من تلك السابقة عليها.
٥٠ ورغم أنه يبدو، على العموم، أن التفاوت في مدة الصحبة
للنبي ودرجة القرب منه، هو ما يؤسِّس للتفاوت في الفضل بين مراتب الصحابة،
٥١ إلا أن الأمر قد اقتضى ضرورة تعيين الوجوه التي يكون
بها استحقاقُ الفضل وتفاوتُه.
٥٢ ومِن المفارقات أن تعيينَ هذه الوجوه قد آل إلى وضعِ نساء
النبي في درجة من الفضل أعلى من درجة الصحابة.
٥٣ وهنا أيضًا، أعني فيما يتعلق بالتفاضُل بين النساء، فإن
الأمر كان مثار اختلافٍ كبير،
٥٤ وهو اختلافٌ يجد أيضًا تفسيره بين الطالبيين (آل البيت)
وغيرهم؛ حيث الأمر يكاد ينحصر في مجرد المفاضلة بين كلٍّ من السيدة
عائشة وفاطمة، والحق أن ذلك يُحيل إلى أن حضور السياسة في أمر
التفضيل يتجاوز مجرد النشأة إلى تطوُّره اللاحق أيضًا.
وإذا كان الأمر، فيما يتعلق بالصحابة، يقف عند مجرد القول: إن كل
طبقة من الصحابة تكونُ أفضلَ من تلك التي تليها (بسبب السابقة وطول
الصحبة)، فإن ذلك لا يحيل إلى أن اللحظة التي تخص طبقةً ما تكون
أفضلَ من تلك التي تخص طبقةً تالية؛ لأن حضور النبي (وهو معيار الفضل)
٥٥ قائم في كل اللحظات بالطبع؛ ولهذا فإن الهبوط في الفضل
بين الصحابة يكون فقط من طبقةٍ إلى أخرى، وليس من زمانٍ إلى آخر؛ لأن
حضور النبي في الزمان واحد. ولعل التدهور في الزمان يتبدَّى على نحوٍ
حاسمٍ في الانتقال من الصحابة إلى التابعين ثم إلى تابعي التابعين؛
لأن تدهوُر الفضل هنا لا يكون من طبقةٍ إلى أخرى فقط، بل ومن لحظةٍ
إلى أخرى، وهو الأهم. يبدو إذن أن التفضيل قد راح ينتقل من مجرد
التفاضُل بين الأشخاص (أفرادًا وطبقات) إلى ضربٍ من التفاضُل بين
الأزمنة والقرون.
٥٦ ولقد كان ذلك مرتبطًا بالانتقال من الصحابة إلى التابعين،
٥٧ لأنه يكون انتقالًا إلى زمانٍ مغاير غاب عنه الحضور
المباشر للنبي، وحل محلَّه ضربٌ من الحضور غير المباشر له (وذلك من
خلال التعاصُر معه دون رؤيته، أو الميلاد في زمانه دون سماعٍ منه، أو
حتى من خلال مجرد اللقاء مع الصحابة والاجتماع بهم).
٥٨ ومن غير شك فإنه إذا كان زمانُ الحضور غير المباشر
للنبي يمثِّل انهيارًا بالنسبة لزمان حضوره المباشر، فإن هذا
الانهيار سيتزايد بالطبع بعد غياب هذا الحضور غير المباشر.
٥٩
والمُلاحَظ أن هذا الحضور للنبي (مباشرًا أو غير مباشرٍ) لم يحدِّد
فقط تفاوُت القرون والأزمنة في الفضل والقيمة، بل وحدَّد أيضًا
تفاوتها في الطول والمدة؛ «فقرنه
ﷺ [هو] مدة
أصحابه من البعث إلى آخر من مات منهم، وهي مائة وعشرون سنة أو نفس
أصحابه عليه السلام، وقرن التابعين من سنة مائة إلى نحو سبعين [أي
سبعين سنة فقط]، وقرن أتباع التابعين من ثَم إلى حدود العشرين
ومائتَين [أي نحو خمسين سنةً فقط].»
٦٠ وبالرغم من أن ذلك يعني أن خير القرون (قرن النبي
وصحابته) ليس الأفضل فقط، بل والأطول أيضًا، فإن ذلك يتعارض مع ما
يُستفاد من الحديث المنسوب للنبي: «الخلافة بعدي ثلاثون عامًا،
بعدها مُلك عَضوض»؛ حيث يجعل ذلك الحديث من الخلافة (وهي النيابة
عن النبي
ﷺ في عموم مصالح المسلمين) مدةً قصيرة لا
تتجاوز ثلاثين سنة، تصير بعدها ملكًا عَضوضًا «أي ذا عضٍّ وتضييق؛
لأن الملوك يضرُّون بالرعية حتى كأنهم يعَضُّون عضًّا، فالمراد أنه ذو
تضييقٍ ومشقةٍ على الرعية.»
٦١ وهكذا لا تتجاوز مدة الفضل ثلاثين سنة بعدها تضييقٌ ومشقة.
٦٢ لكنه يبقى — وبصرف النظر عن طول المدة أو قصرها — أن
الانتقال من الخلافة إلى المُلك هو انتقال من الأفضل إلى الأقل
فضلًا، الأمر الذي يتفق مع مسار الفضلِ من قرنٍ إلى آخر. والملاحظ أن
هذا الانتقال من الخلافة إلى الملك (بوصفه انتقالًا من الأفضل إلى
الأقل فضلًا) سيستحيل عند ابن خلدون إلى قانونٍ نمطي يقرأ من خلاله
أحداث التاريخ الفعلي.
٦٣ والحق أن التفضيل قد راح، ضمن هذا السياق من التفاضل
بين الأزمنة والعصور، يستحيل إلى نمطٍ كليٍّ شاملٍ ينتظم كل مظاهر
النشاط الإنساني في العالم؛ صناعة
٦٤ وعلمًا؛ حيث «المتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علمٍ ما، ما
بلغه المتقدم، وحسبُك من ذلك أهل كل علمٍ نظري أو عملي، فأعمال
المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين.»
٦٥ وهكذا فإنه رغم أن الأمر في العلم لا بد أن ينبني على
قانون التراكُم والتطوُّر والإضافة من السابق إلى اللاحق، فإن النظرة
إليه، بدوره، لم تتجاوز إطارَ الانهيارِ والتدهور. ولعل ذلك يرتبط
بأن المتقدِّمين لم يتركوا للمتأخرين شيئًا إلا مجرد التكرار والتقليد.
٦٦ فبدا هكذا، وكأن صيرورة العلم لا تتكشَّف عن جديد يضيفه
المتأخر إلى المتقدم، أو أن كل ما يصل إليه المتأخر في علمٍ ما لا
يفارق أبدًا آفاق تفكير المتقدم.
٦٧
وإذ اقتضى ذلك ضرورة تعيين مراتب العلماء في كل علم، فإن ذلك
التعيين لم يكن يستهدف تكريسَ أفضليةِ السابقِ على اللاحقِ فقط، بل —
والأهم — حصر الفضل فيهم دون غيرهم، باعتبارهم علماء الفرقة
الناجية (فرقة السلطة) في مواجهة علماء الفِرق الأخرى الهالكة (فِرق
المعارضة)، وهكذا فإن القصد من تعيين مراتب العلماء ليس الأفضلية
فقط، بل وإقامة «الدليل على أن جميع أئمة الدين في جميع العلوم من
أهل السنة.»
٦٨ وتبعًا لذلك فإنه إذا كان «جماعة من المتأخرين من أهل
الأدب [قد] تدنَّسوا بشيء من الرفض والاعتزال، تقربًا إلى [ابن
عباد] طمعًا في شيء من الدنيا والرياسة، وأظهروا شيئًا من الرفض
والاعتزال. فمن كان متدنسًا بشيء من ذلك لم يجُز الاعتماد عليه في
رواية أصول اللغة، وفي نقل معاني النحو، ولا في تأويل شيء من
الأخبار، ولا في تفسير آية من كتاب الله تعالى.»
٦٩ وإذن فإنها السلطة تُمارِس سطوتها في حقل العلم بتهميش
كل اجتهاد للخصوم وإخراجه من موضوعية العلم إلى تحيُّزات الهوى
والغرَض؛ إذ الغرض يعني أنه لا تُوجد أصول أو تقاليد تنتظم أقوال
الخصوم وتؤسسها علميًّا؛ ولهذا فإن التأسيس العلمي لأقوال فرقة
السلطة إنما يأتيها، في المقابل، من مجموعة التقاليد والمحددات
والأصول التي تنتظمها وتؤسِّسها. وهكذا فإنه إذا كانت فرقة السلطة قد
راحت تؤسِّس «سطوتها العلمية» عَبْر ضم وإلحاق الأعلام والمشاهير في كل
علم إلى صفِّها وتجنيدهم في حربها ضد الفرق المناوئة، وعَبْر تأصيل
اجتهادات هؤلاء الأعلام بردِّها إلى ما تقولُ إنه أصولها عند كبار
الصحابة المتقدِّمين،
٧٠ فإنها راحت تُمركِز هذه السطوة العلمية حول مجموعة من
التقاليد والأصول التي يُعتبر الخروج عليها انحرافًا، لا اجتهادًا.
وعَبْر هذه القواعد والأصول التي تتضمَّنها مصنَّفات الأعلام في كل علم،
فإن فرقة السلطة قد راحت تحدِّد للناس ما ينبغي الالتزام به في كل
مناحي الحياة ابتداء من «قواعد العقائد» التي «لأهل السنة والجماعة
التفرُّد بأكثر من ألف تصنيفٍ فيها؛ فيها ما هو مبسوط يكثر علمه،
ومنها ما هو لطيفٌ يصغر حجمه في عصورٍ مختلفة، من عصر الصحابة إلى
يومنا هذا، في نصرة الدين، والرد على الملحدين، والكشف عن أسرار
بدع المبتدعين. ولم يكن لواحدٍ من متقدمي القدرية والروافض والخوارج
تصنيف في هذا النوع يظهر ويُتداول. وهل كان لهم علمٌ حتى يكون لهم
فيه تصنيف؟ بلى قومٌ من متأخريهم تكلَّفوا جمع شُبه يخادعون بها
القوم عن أديانهم، وصنَّفوا فيها تصانيف أكثرها لا يُوجَد إلا بخط المصنَّف.»
٧١ وهكذا فإنه فيما لم يكن لواحدٍ من متقدمي الخصوم تصنيف
في أصول الدين، وفقط كان لمتأخريهم جملة شُبه يُخادعون بها القوم عن
أديانهم؛ وبما يعني تشوُّشهم على نحوٍ يستحيل معه ترتيبُهم في سلسلةٍ
متصلةٍ تحفظ وجودهم وتؤكِّد تأثيرهم، فإنه يمكن فيما يتعلق بفرقة
السلطة «ترتيب أئمة الدين في علم الكلام.»
٧٢
والملاحظ أن أمر الترتيب هذا — الذي أشعل بين الفرق ما يمكن
تسميته ﺑ «حرب الطبقات» — لم يكن عارضًا، بل كان غاية في الجوهرية،
لأنه يكشف اتصال الوجود ودوام التأثير. ومن هنا الحرص من جانب فرقة
السلطة على بيان تشوُّش الخصوم وعدم انتظامهم في ترتيبٍ ما (وانتفاء
فاعليتهم وتأثيرهم بالتالي) في مقابل بيان انتظام علمائها، في كل
حقل، في ترتيبٍ ونظامٍ يؤكِّد الفاعلية والتأثير. هكذا كان الأمر —
مثلًا — في علم الفقه الذي «لم يكن قَط للروافض، والخوارج، والقدَرية
تصنيفٌ معروفٌ يُرجَع إليه في تعرُّف شيء من الشريعة، ولا كان لهم إمامٌ
يُقتدى به في فروع الديانة»،
٧٣ وذلك فيما يمكن — في المقابل — «ترتيب أئمة الفقه من
أهل السنة والجماعة.»
٧٤ وهكذا الأمر أيضًا في «العلوم المتعلقة بأحاديث
المصطفى
ﷺ، والتمييز بين الصحيح والسقيم من
الروايات، ومعرفة السلف الصالح، ولا يدخل في تلك الصنعة إلا أهل
السنة والجماعة»
٧٥ الذين يمكن لذلك «ترتيب أئمتهم في الحديث والإسناد.»
٧٦ وكذلك الأمر في «علم التصوف والإشارات، وما لهم فيها
من الدقائق والحقائق، لم يكن قط لأحد من أهل البدعة فيه حظٌّ، بل
كانوا محرومين مما فيه من الراحة والحلاوة والسكينة والطمأنينة.
وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي من مشايخهم قريبًا من ألف،
٧٧ يقتضي الأمر ضرورة ترتيبهم.
٧٨ وأخيرًا فإن الأمر يتسع لذات الترتيب حتى في علوم
اللغة والأدب،
٧٩ وهكذا تحدِّد فرقة السلطة للناس، عَبْر هذا الترتيب في كل
العلوم المعروفة آنذاك؛ ليس فقط «قواعد العقائد»، بل «مبادئ السلوك
والعمل» و«طرق الرواية»، و«كيفية الرياضة والمجاهدة»، وحتى «قواعد
التذوق الأدبي والضبط اللغوي»؛ وبكيفية يصبح معها الخروج عن هذا
التحديد ضربًا من الانحراف والهرطقة؛ ولهذا فإن الأمر، هنا، لا
يخرج عن إطار التفضيل؛ لأنه يبقى لازمًا ضرورة الخضوع لأصولٍ
ومحدداتٍ سابقة في الماضي هي الأفضل لا محالة.
وإذا كان الخروج عن هذه الأصول والمحددات لا يُعَد — حسب فرقة
السلطة — اجتهادًا، بل كفرًا وبدعة، فإنه يبدو، هكذا، وكأن التفضيل
يُحيل إلى صِنوه الذي يرتبط به؛ وأعني به التكفير؛ فإذ التفضيل يُحيل
إلى تكريس الفاعلية وتأكيد الوجود واتصاله (لا بالمعنى التاريخي
فقط، بل الجغرافي كذلك)،
٨٠ فإن التكفير يُحيل — في المقابل — إلى دلالةٍ هامشية
الوجود وانعدام التأثير.
٨١ والحقُّ أن اقتران التفضيل والتكفير،
٨٢ على هذا النحو، إنما يكشف عن الاقتران بين فعلَي
التمييز والإزاحة؛ وبمعنى أن فعل التفضيل ليس فقط فعل تمييز، بل —
والأخطر — أنه فعل إزاحة. ولعل ذلك يُحيل إلى الأساس الأيديولوجي
للتفضيل، لا عَبْر تكريس اختيار سياسي ما (مثلما كان الأمر فيما
يتعلق بالتفاضُل بين الخلفاء)، بل عَبْر تكريس خطابٍ محدَّد (ينتظم كل
مظاهر النظر والعمل) وإزاحة وإقصاء سائر الخطابات المناوئة؛ إذ
التكفير ينطوي على دلالة السعي من الخطاب الأشعري (خطاب السلطة)
إلى فرض هيمنته في محيط الثقافة، وذلك بإقصاء ونفي كافَّة الخطابات
المناوئة عَبْر وصمها بالضلال والهرطقة.
ومن هنا إلحاح الخطاب الأشعري — وخاصة مع البغدادي الذي ابتدأ
معه التفكير في التكفير
٨٣ — على أن يضع نفسه في هُويةٍ واحدة مع «الدين القويم
والصراط المستقيم» تمييزًا لنفسه عن الخطاباتِ المناوئةِ التي لا
تُعبِّر، في المقابل، إلا عن «الأهواء المنكوسة والآراء المعكوسة.»
٨٤ إنه إذن خطاب القوامة والاستقامة في مقابل خطاب الرأي
والهوى، خطاب الفرقة الناجية في مقابل خطابات الأخرى الهالكة.
وهكذا يتوازى الخطابان ولا يلتقيان في سلسلة من الثنائيات المتضادة
التي تئول دومًا إلى استبقاء واحدٍ منها ونفي وإقصاء ما عداه؛ إذ
كيف لخطاب الرأي والهوى أن يُوجَد وهناك القوامة والاستقامة؟ إن مآله
— لا شك — هو النفي والإقصاء من حقل الملة والأمة معًا. بل إن
النفي والإقصاء يلحقانه أيضًا خارج العالم؛ حيث لا شيء هناك إلا
المصير إلى الهاوية والنار الحامية. وهكذا الإقصاء في العالم يتبعه
الإقصاء خارجه لا مفرَّ؛ حيث الخطاب المسيطر لا يكتفي بضمان النعيم
لحامليه في الدارَين، بل ويصر على النبذ لمخالفيه فيهما أيضًا.
وهكذا يتكشَّف التكفير — مثلما التفضيل قبلًا — عن أيديولوجيا
للهيمنة لا يُفلِح شيء في التغطية عليها.
والحق أن اقتران التفضيل والتكفير، هكذا، إنما يئول إلى تصوير
التاريخ حقل صراع بين الإيمان والكفر أو حتى بين الله والشيطان،
أعني بين طرفَين لا يمكن الالتقاء بينهما أبدًا، بل لا بد من النفي
لأحدهما والإبقاء للآخر. وبقَدر ما يبدو التاريخ، لذلك، تاريخًا
صوريًّا لا مجال فيه للإنسان كما سيظهر فيما بعدُ، فإنه يبدو أيضًا
تاريخًا لاهوتيًّا ساذجًا لا مجال فيه إلا للانقسام والإزاحة، وليس
الاستيعاب والإضافة اللذين ينبني عليهما تاريخ الإنسان
بالفعل.
ولعله يلزم التنويه بأنه إذا كان التفضيل قد انبثق من السعي إلى
تكريس الاختيار السياسي لجماعةٍ ما بوصفه الأفضل من كل ما عداه، ثم
تطوَّر إلى تكريس نوع من السلطة الثابتة التي لا تتزعزع لهذه
الجماعة، في كافة مناحي النشاط الإنساني (وفي الحالَين فإن ثمَّة
الخضوع لأصلٍ ثابتٍ في الماضي لا يمكن الخروجُ عليه بوصفه الأفضل)،
فإن ذلك يعني أن التفضيل قد انبثَق وتطوَّر قاصدًا إلى تكريس وضعٍ ما.
ولعل ذلك يئول إلى أن التفضيل إنما يجد ما يؤسِّسه في ذلك القصد فقط،
وبما يعني أن هذا «القصد» وليس «النص (القرآني أو النبوي)» هو ما
يؤسِّس القول في التفضيل. ومن هنا ما صار إليه البعض من أن «النصوص
المذكورة [فيه] لا تفيد القطع على ما لا يخفى على منصف.»
٨٥ ولذلك فإن «مُستنده ليس إلا الظن، وما ورد في ذلك من
الآثار، وأخبار الآحاد، والميل من الأمة إلى ذلك بطريق الاجتهاد»،
٨٦ أو بدلالة الإجماع.
٨٧
ومن غير شك فإن هذا «الميل من الأمة» — الذي يسند النص التفضيل
إليه — ليس إلَّا «قصدها» إلى تبرير وتكريس ما حدث في مسألة الخلافة
— وكل ما ترتَّب عليه — من خلال مفهوم التفضيل. لكنه بدا أن هذا
الإسناد للتفضيل (بطريق الاجتهاد أو بدلالة الإجماع) إلى القصد أو
الميل وليس النص، لا يئول فقط إلى مجرد زعزعة أسسه، بل — والأهم —
أنه يفضَح أصله الأيديولوجي. ومن هنا ما صار إليه البعض، تغطيةً
لذلك، من أن التفضيل إنما يكون «بالوضع من الله تعالى»،
٨٨ وأنه لذلك «لا يُعرف إلا ببرهانٍ مسموع من الله تعالى
في القرآن أو من كلام رسول الله.»
٨٩ إنه السعي — لا شك — إلى التغطية بالنص على الأساس
الأيديولوجي للتفضيل. وأخيرًا، فإنه إذا كان التفضيل قد اتسع لبعض
ضروب المفاضلة الأخرى، كالتفاضُل بين الأنبياء بعضهم وبعض،
٩٠ وبينهم وبين الأولياء،
٩١ فإن الأمر هنا أيضًا ينطوي على ذات فعلَي التمييز
والإزاحة، لكنه التمييز فيما يتعلق بالتفاضُل بين الأنبياء للأمة
التي ينتمي إليها النبي في مقابل إزاحة غيرها من الأمم الخاصة
بالأنبياء الآخرين؛ وبما يعني أن أفضلية النبي محمد في هذا السياق
لا تعني إلا أن أمته هي أفضل من باقي الأمم جميعًا.
٩٢
وبالرغم من أن الأمر ذاته يتبدَّى فيما يتعلق بالتفاضل بين
الأنبياء والأولياء، فإن أثَر الانفتاح على التصوُّف يبدو حاضرًا في
هذا السياق؛ إذ يبدو أن هذه الضروب من المفاضلة كانت صدًى لما
انطوت عليه بعض نصوص التصوُّف من إعلاء شأن الأولياء على الأنبياء.
والحق أن تأثير التصوف الإشراقي، بتصوُّره الهرمي للعالم، يبدو
قويًّا على مبحث التفضيل بأَسْره.