٢
وإذا كانت الإمامة قد استحالت هكذا؛ أعني من خلال الوضع الهامشي
لها في ختام نسَق العقائد، من فضاءٍ ينبثق فيه التاريخ إلى ساحةٍ
لتهميشه وتغييبه، فإنها وبما ينطوي عليه بناؤها من الأفكار
والتصورات، قد راحت — وعلى نحوٍ صريح هذه المرة — تدعَم هامشيته
وتؤسِّس لغيابه، وذلك عَبْر سلبه الفاعلية، وتصوُّره إطارًا للانهيار
والتدهور، وليس الارتقاء والتطور. وإذن فإنه الإقصاء الشامل
للتاريخ، وذلك من حيث إن المضمون هنا قد راح — بعد الشكل فيما سبق
— يؤسِّس صراحةً لهذا الإقصاء؛ إذ الإمامة لم تكن مجرد إطارٍ لتداول
جملة أفكارٍ عن شروط الإمام وكيفية تعيينه، أو حتى الخروج عليه،
وغيرها من الأفكار التي تبلوَر منها البناء الفقير لكتب الأحكام
السلطانية المتأخرة، بل إنها — ولدورها التكويني — قد انطوت على
جملة تصوُّراتٍ مركزية راحت بها تتجاوز مجرد «التقعيد للحكم» إلى
«التقعيد للفكرة»؛ وأعني أن تنظير الإمامة عند المتكلمين يتميَّز
بتجاوزه مسألة «أصول الحكم» إلى «أصول الفكر»، فإذ انبثق الخلاف
حول الإمامة مبكرًا جدًّا في الماضي — بعد وفاة النبي مباشرة —
وسابقًا لذلك على تنظيرها الذي يبدو أنه قد تأخَّر لقرنٍ كامل تقريبًا
عن ظهور الخلاف بالفعل،
٥٧ فإن الكلام فيها (أي الإمامة) لم يقف عند مجرد وضع
القواعد النظرية اللازمة لممارسة السياسة في الحاضر فحسب، بل إنه
راح ينعكس على «سياسة الماضي»، باعتبار أن «سياسة الحاضر» هي مجرد
امتداد لها.
وفي هذا الانعكاس على الماضي، فإن قصد المتكلمين لم يكن مجرد
السرد والرواية لما جرى على طريقة الإخباريين، بل التقييم والتوجيه
ﻟ «الماضي» على نحوٍ يدعم سياسة الحاضر؛ وهو الأمر الذي اقتضى أن تتسع
الإمامة لجملة أفكار عن «التفضيل والتكفير» كانت لازمة، بالطبع،
كأدوات للتقييم والتوجيه. ولعل هذه الأفكار، تحديدًا، هي التي لعبَت
الدور الجوهري في تبرير الإقصاء الشامل للتاريخ من حقل التفكير
الذي راح يتبلور — تبعًا لذلك — في فضاءٍ لا تاريخي.
والحق أنه ليس ثمَّة في الإمامة ما هو أكثر جوهرية من «التفضيل
والتكفير»، وذلك من حيث يبدو أنه لا سبيل إلى التماس التصوُّر الصريح
للتاريخ داخل نسَق العقائد إلا من خلالهما أساسًا. ويبدو أن
الفكرتَين تتضافران معًا في تكريس ذات التصوُّر الواحد للتاريخ؛ فإذ
«التفضيل» يئول إلى تصوُّر للتاريخ بوصفه انهيارًا، فإن «التكفير» لا
يفعل إلا أن يجسِّد هذا الانهيار واقعًا متحققًا «في صورة التشرذُم
والتفرُّق والتبعثُر والقضاء على الوحدة الأولى التي كانت في العصر
الأول، عصر النبوة والخلافة.»
٥٨ ولعل ذلك يعني أن المرء، هنا، بإزاء ضربٍ من الارتباط
البنيوي بين الفكرتَين، وليس مجرد علاقةٍ خارجيةٍ طارئة تقبل
الانفكاك. ومن هنا فإن الخاتمة «فيمن يجب تكفيرُه من الفرق» ليست
ملحقًا للإمامة، أو تذييلًا للنسَق،
٥٩ يستهدف تمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكة، بل
القصد منه تجسيد انهيار التاريخ وتحقيقه واقعًا، ومن هنا جوهرية
ارتباطه ﺑ «التفضيل» الذي يكرِّس هذا الانهيار نظريًّا.
لكنه يبدو — مع ذلك — أن نقطة البدء في التحليل لالتماس التصور
التاريخي المهيمن على النسَق الأشعري تنطلق من فكرة التفضيل أساسًا،
لا لأن هذا التصوُّر يتبلور ضِمنَ أفق التفضيل على نحوٍ أكثر جلاء، بل
ولأن علاقته بالإمامة — وهي حقل التاريخ في النسَق — تبدو الأسبق
والأكثر جوهرية، وذلك على عكس علاقته بمفهوم التكفير الذي لم
يتبلور داخل النسق إلا ابتداءً من القرن الخامس الهجري حين ابتدأ
إلحاقه بالإمامة. بل إن الإمامة عند بدء تنظيرها — وعند واحدٍ مثل
الأشعري مثلًا — تكاد أن تكون مجرد درس في التفضيل لا غير.
٦٠ ولعل ذلك يرتبط باستغراق التنظير للإمامة — آنذاك — في
مجرد الانعكاس على الماضي تقييمًا وتوجيهًا؛ وأعني أن الانشغال
الجوهري هنا قد انصَبَّ أساسًا، لا على كيفية تعيين الإمام وشروطه، بل
على تقييم الاختلاف حول الإمامة في الماضي، وبعد وفاة الرسول مباشرة.
٦١ وإذ انحصر ذلك في السعي إلى تأسيس تراتُب الأئمة (أو
الخلفاء) — وكان ذلك يمثِّل خلافًا جوهريًّا آنذاك —،
٦٢ على أساس تراتُبهم في الفضل خاصة، فإن ذلك هو ما جعل
الإمامة مجرد درسٍ في التفضيل؛ لأنها لم تكن شيئًا إلا السعي إلى
تأسيس شرعية كل واحدٍ من الأئمة أو الخلفاء على أساس أنه هو أفضلُ
الأمة في وقت توليه.
ولعله يبدو، هنا، أن التراتب في الفضل هو الأساس في تراتب الأئمة
أو الخلفاء؛ وبما يعني أن تقدُّم الإمام أو تخلُّفه في سلسلة الأئمة
يرتبط بموقعه في سلسلة الأفضل من أهل العصر. وإذ يرتبط ذلك بما
«صار إليه معظم أهل السنة [من] أنه يتعيَّن للإمامة أفضل أهل العصر»،
٦٣ فإنه — ومنذ الأشعري — لا شيء يؤسس لإمامة أبي بكر ومن
جاءوا بعده أيضًا، إلا النص أو الإجماع
٦٤ على أنه «كان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق
بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي وسياسة الأمة وغير ذلك»،
٦٥ أو — وبعبارة للباقلاني يكثِّف الاختصار دلالتها — على
«اجتماع خلال الفضل والإمامة فيه.»
٦٦ ويتجاوز الأمر، من غير شك، أبا بكر إلى عمر من بعده؛
وذلك من حيث إن عَقْد الإمامة له واختياره لها إنما يأتي من أنه «كان
أفضلَهم بعد أبي بكر رضي الله عنه.»
٦٧ وإذ الأمر هكذا فيمن يخلُفونه أيضًا، فإنه يبدو فعلًا
أن التراتُب في الفضل هو المؤسس للتراتُب في الإمامة، حيث «الفضيلة»
لا غير هي المحدد — والحال كذلك — لانعقاد الإمامة لأشخاصِ مَن
تولَّوها، ولتراتُبهم فيها بالطبع.
والحق أن تأخُّر الكلام في التفضيل عن حدث الإمامة،
٦٨ كان لا بد أن يجعل منه شيئًا أقرب إلى حكم القيمة
المفروض على واقعِ ما جرى من خارجه، وليس أداةً منهجيةً لتحليل الواقع
منبثقة منه، ومن هنا عدم دلالته على واقعِ ما جرى فعلًا، وتحوُّله
بالتالي إلى مجرد إسقاط لتصوُّرٍ مثالي على واقعٍ متخيل؛ ذلك أن قراءةً
لمجمل الروايات
٦٩ التي راحت تسرد وقائع وكيفية انعقاد الإمامة لأبي بكر
— ومن تلَوه أيضًا — لتكشف عن «أن جميع الأخبار التي تنقلُها [هذه
الروايات] حول الطريقة التي بُويع بها أبو بكر تجعل القبيلة المحدِّد
الأول والأخير لجميع المواقف.»
٧٠ إذ الاحتجاجُ بالقبيلة يبدو المهيمن بقوة على كافة حُجج
الفرقاء المتنازعين على الخلافة إبَّان حدث السقيفة وما تلاه حتى
استقر الأمر لأبي بكر؛ وأعني أن أحدًا آنذاك لم يستند في تبرير
أحقيته بالخلافة إلى كونه «الأفضل». ولقد كان الأمر كذلك حتى فيما
يتعلق بابن أبي طالب الذي يكشف تحليلُ أقواله عن وعيٍ حادٍّ بدور
القبيلة حاسمًا في استئثار بعضهم بالخلافة دونه، رغم أنه كان يرى
نفسَه الأحق بها، لا لكونه الأفضل، بل لقرابته من النبي؛ وهي الحجة
(حُجة القرابة) التي استندَت إليها قريشٌ نفسها في انتزاع الأمر من الأنصار.
٧١ فإن كان الأنصار قد ردُّوا ما تصوَّروا أنها جدارتهم
بالخلافة إلى «سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب»،
٧٢ فإن قريشًا قد احتجت بقول أبي بكر: «نحن عشيرة رسول
الله
ﷺ ونحن مع ذلك أوسط العرب أنسابًا، ليست
قبيلةٌ من قبائل العرب إلا ولقريشٍ فيها ولادة»،
٧٣ ثم تؤكِّد بلسان عمر مخاطبًا الأنصار أيضًا: «والله لا
ترضى العرب أن تؤمِّركم ونبيُّها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي أن
تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم وأولو الأمر منهم، لنا
بذلك على من خالفَنا من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين، من
ينازعنا سلطانَ محمد وميراثَه — ونحن أولياؤه وعشيرته — إلا مُدلٍ
بباطل أو متورطٌ في هلكة.»
٧٤ وهكذا لم تجد قريشٌ ما تستند إليه — في مواجهة الأنصار
— إلا وضعها المتميز بين قبائل العرب، وهو ما رضخ له الأنصار،
إقرارًا بمنطق القبيلة الذي كانوا — هم أنفسهم — يفكِّرون به من دون
شك، فراحوا يُسلِّمون: «إن محمدًا رسول الله
ﷺ رجلٌ
من قريش؛ وقومه أحق بميراثه وتولِّي سلطانه.»
٧٥ وحين كان على قريش، بعد ذلك، أن تحسم أمرها في مواجهة
آل البيت الذين راح ابن أبي طالب يحتج باسمهم: «الله الله، يا معشر
المهاجرين، لا تُخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته إلى
دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهلَه عن مقامه في الناس وحقه،
فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحقُّ الناس به لأنَّا أهل البيت،
ونحن أحقُّ بهذا الأمر منكم»،
٧٦ فإنها لم تجد ما تردُّ به عليه إلا قول عمر: «إنَّ الناسَ
قد كَرِهوا أن يجمعوا لكم النبوَّة والخلافة، وإن قريشًا اختارت لنفسها فأصابت.»
٧٧
وهكذا يتبدَّى التبايُن لافتًا بين روايات الإخباريين ونصوص المتكلمين
٧٨ فيما يتعلق بفترة الخلافة الراشدة؛ إذ بينما تتجلى
رواياتُ الإخباريين عن الدَّور الحاسم للقبيلة آنذاك، فإن نصوص
المتكلمين لا تتكشَّف — وكما سبقَت الإشارة — إلا عن الحضور المُهيمِن
للتفضيل والفضيلة.
٧٩ والحق أن تجاوزًا للروايات إلى تحليل مجمل العوامل
التي ساهمَت في انعقاد الخلافة وتداوُلها، ليكشف — بالفعل — عن كون
«القبيلة» لا «الفضيلة» هي المحدِّد لانعقادها وتداوُلها على نحوِ ما
تحقق؛ وأعني أن جملة المعطيات الواقعية السائدة آنذاك لم تكن تسمح
أبدًا بما يتجاوز إطار القبيلة، ليس فيما يتعلق بفترة الخلافة
الراشدة فقط، بل وفيما يتعلق بفترة الدعوة النبوية أيضًا. ومن هنا
ما صار إليه ابن خلدون — في «فصل في أن الدعوة الدينية من غير
عصبيةٍ لا تتم» — من الاستناد إلى حديث «ما بعث الله نبيًّا إلا في
منَعة من قومه» في التأكيد على أنه: «هكذا كان حال الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم
المؤيَّدون من الله بالكون كله لو شاء؛ لكنه إنما أجرى الأمور على
مستقَر العادة … وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرقِ
العوائد، فما ظنُّك بغيرهم ألا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية …
[وهكذا] فإن كل أمر تُحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية.»
٨٠ وإذ يبدو أمر العصبية أكثر جلاءً في التاريخ اللاحق
لحقبتَي النبوة والخلافة على الخصوص،
٨١ فإنه يبدو وكأن تحليلَ ابن خلدون لتاريخ الدولة العربية
الإسلامية لا يكشف إلا عن هيمنة مفهوم العصبية بقوة على تاريخ هذه
الدولة، وعلى نحو يكاد فيه أن يكون قانونها الأوحد.
٨٢ إنها، إذن، «طبائع العمران» السائد آنذاك هي ما يئول
إلى هذا المفهوم-القانون مما يؤكِّد على كونه انبثاقًا عنها، وليس
مفروضًا عليها من الخارج؛ ومن هنا أنه يمثل قانونًا ثابتًا لهذا
العمران، وإلى حد أنه لا انفكاك عنه — حسب ابن خلدون نفسه — إلا
بما هو خارقٌ للعادة. وإذ الخارق للعادة لا يمكن أن يكون موضوعًا
للعلم، بل للإيمان، فإن ذلك يعني أن أي مفهومٍ آخر غير العصبية
القبلية، يُستعار لتُقرأ من خلاله أحداث أي حقبة في تاريخ الدولة
العربية الإسلامية، سيكون مجرد إسقاطٍ خارجي يفرضه الإيمان، وليس
نتاج تحليلٍ باطني لهذا التاريخ.
وضمن هذا السياق فإن التفضيل (وهو المفهوم الذي راح يقرأ من
خلاله المتكلمون الأشاعرة خاصة أحداث حقبة الخلافة الراشدة) يبدو
مجرد إسقاطٍ متأخر على هذه الحقبة.
٨٣ ومن هنا ما ينطوي عليه من الاصطناع لا شك؛ فإذ القصد
من التفضيل هو ترتيب الخلفاء في الفضل على نحوٍ يدعم شرعية تراتُبهم
في الخلافة على ما تحقَّق، فإن ذلك قد آل — وكان لا بد أن يئول —
بالمتكلمين إلى اصطناع ضروبٍ من الفضل ينسبونها إلى المتقدم في
الخلافة ليتفوَّق بها على من يليه، فيُصبح تقدُّمه في الخلافة مُبررًا —
والحال كذلك — بتقدُّمه في الفضل.
وهكذا يصطنع المتكلمون تقدمًا في الفضل يبرِّرون به التقدُّم في
الخلافة، فيُوهِمون بأن التراتُب في الفضل هو أساس التراتُب في الخلافة
أو الإمامة. والحق أنه ليس ثمَّة إلا التراتُب في الإمامة (المتحقَّقة)
أولًا، يتلوه السعي إلى تبريره عَبْر «اصطناع» تراتُب في الفضل
ثانيًا؛ وأعني أن تحقُّق إمامة الواحد من الخلفاء سابقًا على الآخر
هي التي تُوجِب اصطناع تقدُّمه في الفضل عليه. وإذن فإن الإمامة
(والتراتب فيها) هي التي أوجبَت الفضل (والتراتُب فيه)، وليس العكس.
ومن المفارقات أن الإقرار بهذه الحقيقة قد أفلَت من الأشعري نفسه،
وذلك حين قرَّر بصدَد إمامة أبي بكر أنه «إذا وجبَت إمامة أبي بكر بعد
رسول الله
ﷺ وجَب أنه أفضلُ المسلمين.»
٨٤ وهكذا يبدو إيجابُ الفضل مُستفادًا من إيجاب الإمامة؛
وبما يعني أن التراتُب في الإمامة هو ما يؤسس للتراتُب في الفضل. ولا
ريب في أن الإمام، ضمن هذا السياق لا يكون إمامًا لأنه الأفضل، بل
إنه يغدو الأفضل لمجرد كونه الإمام. وإذ يبدو أن هذا التلازم بين
مجرد أن يكون المرء إمامًا، وبين إيجاب كونه الأفضل، قد تبلور
کردٍّ متأخرٍ على ما صار إليه الشيعة الزيدية من «جواز إمامة
المفضول مع وجود الأفضل»، فإن ذلك يعني أن التفضيل قد تبلوَر، لأول
وهلة، لمنع إمامة المفضول. ومن حُسن الحظ أن أحد البناة الأوائل
للنسَق الأشعري، يقرر — تأكيدًا لذلك — أن «الغرض من ذلك [أي
التفضيل] ينبني على منع إمامة المفضول.»
٨٥ ولعله يبدو غريبًا ذلك السعي — بالتفضيل — إلى منع
إمامة المفضول، رغم أن تجويز إمامته (أي المفضول) كان سبيلَ من
قالوا به من الشيعة وغيرهم إلى تجويز الإمامة لكلٍّ من أبي بكر وعمر
تحديدًا (وهما من انشغَل أهل السنَّة بإمامتهما على نحوٍ خاص). وإذ
كان ذلك ما قرَّره الزيدية صراحة،
٨٦ فإنه يبدو أنه قد كان هناك أيضًا — وراء القول بإمامة
المفضول — ما سكَتوا عنه وأدركه الأشاعرة، فراحوا يسعَون لذلك إلى
منع إمامة المفضول. فلعلهم قرءوا جملة ما قاله الزيدية حول «إمامة
المفضول»، وأدركوا ما ينطوي عليه من النظر إلى ما جرى فيما يتعلق
بالإمامة، بوصفه انتصارًا لقيم القبيلة التي بدا لهم أن الإسلام لم
يكن قد تجاوزَها بعدُ،
٨٧ وفطنوا إلى ما يرمي هذا النظر للإمامة في سياقٍ مغاير
لما استقرَّ عليه الفكر الشيعي على العموم.
فإذا انشغل عموم الشيعة، من الإمامة، بالكيفية التي تتحقق بها
(نصًّا وتعيينًا لا اختيارًا وشورى)، فإنهم لم يركِّزوا على تقييم ما
جرى بشأنها من داخله، وانحصر دحضُهم، لهذا الذي جرى، انطلاقًا من
كونه لم يتحقق طبقًا للكيفية التي كان لا بد أن يتحقَّق بها عندهم؛
وهي النص. وأما الزيدية، فقد انشغلوا، لا بدحض ما جرى بشأن الإمامة
لمجرد مخالفته للكيفية التي كان لا بد أن تتحقق بها؛ وهي النص
(وكيف هذا؟ … وهم الذين بلَغوا حد القول بأنها شوری)،
٨٨ بل ركَّزوا الاهتمام على قراءة ما جرى واكتشاف قوانينه
الخاصة من الداخل؛ وهو ما آل بهم إلى إدراك كونه جاء تكريسًا لعالم
القبيلة الذي لم يكن الواقع قد تخطَّاه بعدُ.
ومن غير شك فإنه في مقابل «عالم القبيلة» هذا، ماثلًا في إمامة
المفضول، قد كان هناك «عالم الفضيلة» ماثلًا في إمامة الأفضل؛ وهو
التقابل نفسه بين «عالم المتحقق» من جهة، و«عالم الممكن» من جهةٍ
أخرى. وهكذا يبدو الواقع — ضمن هذه النظرة
٨٩ — منطويًا في جوفه، لا على المتحقق فقط، بل الممكن
أيضًا؛ وبما يعني، بالطبع، إمكان سلب المتحقق ونفيه بواسطة الممكن.
وإذن فإنهم لا يقبلون المتحقق بوصفه واقعةً نهائيةً لا تقبل
التخطِّي، بل بوصفه لحظةً ضروريةً فرضَتْها ظروف الواقع حقًّا، ولكنها،
مع ذلك، تبقى مجرد لحظةٍ عارضة يستحيل إلا تجاوُزها لإفساح السبيل
أمام الممكن للتحقق في صيرورة لا تتوقف فيها عملياتُ التحقق
والتخطي. وهكذا فإن قبولهم للمتحقق كان قبولًا «تاريخيًّا»، لا
«مطلقًا» كالحال عند الأشاعرة الذين سعَوا إلى ترسيخ هذه النظرة
المطلقَة لكل ما تحقَّق إبَّان فترة الخلافة، ليبقى هذا المتحقق فاعلًا
أبدًا في مخيال الجماعة وقادرًا على صياغة تصوُّراتها، حتى في
الحاضر. ومن هنا، السعي الأشعري إلى «منع إمامة المفضول» التي
أدركوا فيها سعيًا بالممكن إلى زعزعة هذا المتحقق ونفيه. وإذ
التفضيل هو أداة الأشاعرة في منع «إمامة المفضول» — حسب الجويني —
فإن ذلك يعني أن التفضيل ينبني بالأساس على نظريةٍ في الطبيعة
المطلَقة للمتحقق وأوليته على الممكن. بل إن التفضيل الأشعري يسعى
بالكلية إلى تغييب هذا الممكن وإقصائه على نحوٍ تام، وذلك بوصفه
سقوطًا إلى الأقل فضلًا عن الدوام.
فإذ الممكن يكون هو الأفضل، والمتحقق هو المفضول أو الأقل فضلًا،
تبعًا لقول الزيدية بإمامة المفضول، فإن المتحقق هو، على العكس،
الأفضل، وأما الممكن فهو المفضول أو الأقل فضلًا، تبعًا لقول
الأشاعرة بالتفضيل. وهكذا يبدو أن التحقُّق هو الأساس في الفضل، وبما
يعني أن الشيء لا يتحقَّق لأنه الأفضل، بل إنه الأفضل لمجرد أنه تحقَّق
فحسب. ومن غير شك فإنه يستحيل مع هذا التلازم بين المتحقق والأفضل
أن يتم تجاوزُه أو تخطيه، وهو ما يجعل انبثاق التاريخ مستحيلًا
تمامًا. إذ الثبات عند «المتحقق»، بسبب كونه الأفضل، لا يقدِّم البتة
تاريخًا؛ لأن التاريخ هو صيرورة للواقع، لا تتوقف عند جانبه
المتحقِّق، بل تتجاوزه إلى ما لم يكنه بعدُ، وهو ما يعني أن التاريخ
في جوهره هو سلب للمعطى المتحقق، وليس أبدًا ثباتًا عنده.
وهكذا يتكشف التفضيل عن نظرةٍ وضعيةٍ معاديةٍ للتاريخ؛ وذلك من حيث
لا يرى — كالوضعية — إلا الواقع في جانبه المتحقق فقط، ومن دون أن
ينفذ إلى جملة الممكنات الكامنة فيه. ومن هنا أنه يمثل تكريسًا
للواقع القائم، ومناهضةً لأي سعي إلى تغييره؛ وهو ما يعكس طابعه
التسلُّطي الذي يتفق فيه مع الوضعية التي أفاض ناقدوها في الكشف عن
طبيعتها التسلُّطية.
٩٠ ولعل ذلك يدفع إلى التأكيد على أن السياسة كانت هي
الفضاء الذي انبثَق فيه مفهوم التفضيل الأشعري على نحوٍ مباشر، ولكن
مع ملاحظة أنه خضع بدوره لقانون التحوُّل الأساسي في الثقافة
التراثية من التاريخي إلى البنيوي؛ وأعني أنه سرعان ما تجاوَز
ارتباطَه التاريخي مع السياسة التي انبثَق فيها على نحوٍ مباشر، إلى
تكوين مجالٍ معرفيٍّ خاص راح منه يمارس هيمنةً بنيويةً شاملة على نظام
المعرفة السائد في محيط الثقافة بأَسْرها.
فإذ راح التفضيل، في سعيه إلى تثبيت الواقع القائم، يؤسِّس نفسه
على تصورٍ لما تحقَّق في الماضي (لا من حيث هو كذلك، بل بوصفه أساسًا
للحاضر) باعتباره الأفضل، فإنه كان، هكذا، يضع أساسه في الماضي؛ إذ
المتحقق من حيث هو كذلك، لا يتميز عن الممكن أو الذي لم يتحقق بعدُ
إلا بأنه يتقدَّمه في الزمان؛ أعني أنه مجرد ماضٍ. ولعل ذلك يعني أن
المتحقق ليس إلا «المتقدم» قياسًا على «المتأخر» الذي هو ممكن لم
يتحقق بعدُ؛ وبما يعني أن المتحقق يرادف المتقدِّم، فيما المتأخر هو
قرين الممكن. والحق أن هذا الارتباط بين «المتحقق والمتقدم» من
جهة، وبين «الممكن والمتأخر» من جهةٍ أخرى، يبلغ حدًّا من الجوهرية
يستحيل الفضل تمامًا دونه؛ ذلك أنه إذا كان مجرد التحقق لا يمكن أن
يصنع فضلًا، فإن الانتقال من «المتحقق» إلى «المتقدم» هو ما يصنع
الفضل ويؤسِّسه؛ لأنه إذا كان المتحقق لا يتميَّز عن الممكن (غير
المتحقق) إلا بمجرد التقدم في الزمان، فإن المتقدم لا يتمايز عن
المتأخر — حسب خطاب الثقافة المهيمنة — بمجرد التقدُّم بالزمان، بل
وبالعلية والطبع والشرف والمرتبة.
٩١
وهكذا يعكس الانتقال من «المتحقق» إلى «المتقدم» تحولًا من فضاء
«الزمان» إلى فضاء «القيمة»، وهو ما يتسِق مع جوهر التفضيل على
العموم. وإذ المتحقق هكذا (أعني لا من حيث هو كذلك، بل بما هو
يرادف المتقدم) لا يتميَّز بمجرد تقدُّمه في الزمان، بل — والأهم —
بتقدُّمه في الطبع والشرف والمرتبة، فإن ذلك يعني أن أوَّليته ليست،
هنا، واقعةً عارضةً أنتجَتها الأسبقية الزمانية فحسب، بل واقعة أصلية
ترتبط، جوهريًّا، بطبيعة المتحقِّق أو المتقدِّم ذاته. ولقد اقتضى ذلك،
بالطبع، تصورًا لطبيعة هذا المتحقق-المتقدم، لا بوصفه وجودًا
حيًّا ينطوي — ككل حياة — على كافة ضروب التناقض والاختلاف، بل بوصفه
نموذجًا لا بد من تصوره خلوًا، على نحوٍ مثالي، من كل ضروب الخلاف،
وذلك عبر إسقاط الصور المتخيلة على هذا النموذج-المتقدم، بما
يجعله فاعلًا في صياغة مخيال الجماعة، وقادرًا على توجيه حاضرها
بالتالي. وهكذا يبدو وكأن ثمَّة ضربًا من التوجيه المزدوج، للماضي من
الحاضر أولًا، توطئة لممارسة الماضي توجيهه للحاضر على نحوٍ دائم
لاحقًا؛ فثمة (أولًا) التوجيه للماضي عَبْر إسقاط الصور المتخيَّلة
عليه من الحاضر، وثمَّة (ثانيًا) التوجيه من هذا الماضي (الخاضع
للتوجيه أصلًا) للحاضر؛ وذلك من خلال إحضاره في المخيال كبناءٍ مطلَق
يستحيل تجاوزه في الحاضر.
واللافت في هذا التوجه المزدوج أنه يجعل مركزية التفضيل بأَسْره
تقوم في الماضي الذي ينطوي وحده — وعَبْر الاصطناع غالبًا — على كل
شروط الفضل والتميز. وإذ يصبح الماضي هكذا؛ أعني من حيث يستحيل إلى
نموذج، هو وحدَه مصدر الفضل وأصله، فإن كل زمانٍ لاحقٍ لا يمكن إلا أن
يكون إطارًا للأقل فضلًا وقيمة؛ لأنه يمثِّل آنئذٍ مجرد انهيارٍ
للنموذج المتقدِّم (في الماضي) وتدهورًا له. ولعل هذا الانشطار، في
صميم الزمان، بين لحظةٍ نموذجيةٍ وبين لحظاتٍ من الانهيار والتدهور
تتلوها، يعني أن المرء، هنا، بإزاء رؤية يبدو فيها التاريخ
انهيارًا وتدهورًا، على نحوٍ دائم، من الأفضل إلى الأقل فضلًا؛ وبما
يعني أن التفضيل قد استحال من مجرد أداة لتكريس الواقع القائم في
الإمامة، إلى كيفية لتصوُّر التاريخ بوصفه انهيارًا؛ وهو التصوُّر الذي
أسَّس لرؤية للعالم راحت تنتظم كل ضروب التفكير وطرائقه، وأنظمة
إنتاج المعرفة داخل خطاب الثقافة المهيمنة.
ولقد راح الأشاعرة يمركزون هذه اللحظة النموذج التي يبدأ منها
التاريخ دورة انهياره وتدهوره، حول «لحظة النبوة» التي كان لا بد
من تصوُّرها — تبعًا لذلك — ذروة الفضل ومثاله. ومن هنا السعي المُلِح
إلى تصوُّر هذه اللحظة خلوًا من كل ضروب الاختلاف مطلقًا؛ وبما
يعني اختزال مسألة الفضل، فيما يتعلق بالحِقَب والقرون على الأقل، في
مجرد الوحدة التي تخلو من الاختلاف، وذلك فيما يختزل غياب الفضل —
تبعًا لذلك — في مجرد التشتُّت والافتراق.
٩٢ وإذن فإن ما يبرِّر كون عصر النبي هو «عصر السعادة»
٩٣ أنه كان «عصر الوحدة»
٩٤ الذي راحت تتلوه، لسوء الحظ، عصور الشقاوة بكل ما
تمخضَت عنه من مظاهر التعارض والاختلاف. وهنا يبدو وكأن لحظة النبوة
تمثِّل ذروةَ الفضل وكمالَه بالقياس إلى ما يتلوها فقط؛ وبما يعني أنها
تكتسب دلالتَها ومعناها من التاريخ اللاحق عليها فحسب، والذي يكتسب
منها، بدوره، كل دلالته ومعناه. ولعل ذلك يكشف عن كونها مجرد لحظةٍ
جزئية، وذلك من حيث لا تمثِّل أساسًا لتصور تاريخٍ كونيٍّ شامل، بل
للتاريخ اللاحق عليها فقط.
ولقد أدرك الأشاعرة، فيما يبدو، ضرورةَ تجاوز هذه الجزئية، لتبقى
اللحظة التي يتأسَّس عليها التاريخ بريئةً عن كل نقص من جهة، وقادرة
على تفسيره في شموله وكليته من جهةٍ أخرى، وإذ بدا أن أي سعي إلى
تجاوز هذه «الجزئية» كان يقتضي تصوُّر لحظة النبوة، لا كمجرد نقطة
أولى يبدأ منها الفضل انهياره، بل كنتاج لتطور في الفضل تُعَد هي
لحظة ختامه واكتماله، وبحيث تستمد، أيضًا، دلالتها ومعناها من هذا
التاريخ السابق، وذلك بقَدر ما يستمد منها، بدوره، دلالته ومعناه،
فإن الأشاعرة قد راحوا يتصوَّرون التاريخ السابق على نبوة محمد بوصفه
تطورًا في الفضل — لا انهيارًا له — من الأقل فضلًا إلى الأفضل؛
وأعني أنهم راحوا يفاضلون بين الأنبياء، ولكن في ضربٍ من التفضيل
كان لا بد أن ينعكس فيه اتجاه الحركة من الأقل فضلًا (الأنبياء
السابقين) إلى الأفضل (النبي محمد).
ومن هنا أنهم صاروا إلى «أن نبينا
ﷺ أفضلُهم [أي
الأنبياء]، وأولو العزم من الرسل أفضلُ من غيرهم؛ وهم خمسة؛ نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام»،
٩٥ وجعلوا الفضل فيهم مترتبًا من الأقل فضلًا إلى الأفضل،
وذلك باعتبار «أن من بُعثَ منهم إلى الكافة أفضلُ ممن بُعث منهم إلى
قومٍ مخصوصين.»
٩٦ وإذ يبدو التطور في النبوة من الخطاب «لقومٍ مخصوصين»
إلى الخطاب «للكافة»، وذلك من حيث «إن تأثير دعوة موسى عليه السلام
كانت مقصورةً على بني إسرائيل فقط. وأما دعوة عيسى عليه السلام،
فكأنه لم يظهَر لها تأثيرٌ إلا في القليل [رغم أنها كانت خطابًا
للكافة]، وأن تأثير دعوة محمد عليه السلام في علاج القلوب المريضة
والنفوس الظلمانية، كان أتم وأكمل من تأثير دعوة سائر الأنبياء،
فوجَب القطعُ بأنه أفضلُ من جميع الأنبياء والرسل»،
٩٧ فإن ذلك يؤكد على أن التاريخ السابق على نبوة محمد هو
تطورٌ من الأقل فضلًا إلى الأفضل. وهكذا يكون تبلور لحظة النبوة
كذروة للفضل ومثاله، لا بالنسبة فقط للتاريخ اللاحق عليها (والذي
يمثِّل سقوطًا للفضل)، بل وبالنسبة أيضًا للتاريخ السابق عليها،
والذي كان لا بد أن يمثل صعودًا في الفضل تكون هي — أي لحظة النبوة
الخاصة بالنبي محمد — ذروتَه وختامَه؛ وبما يعني أنها الأساس في بناء
تاريخٍ كونيٍّ شامل تبدو هي قطبَه ومركزَه. لكنه التاريخ، هنا، لا بوصفه
بناءً متجانسًا، يكرِّس التجانس وحدته، بل التاريخ بما هو منقسم على
ذاته بين لحظتَين من الصعود والسقوط، لا سبيل أبدًا إلى صهرهما في
هويةٍ واحدة.
٩٨
وبالرغم من أن التفاضل بين الأنبياء — تكريسًا لأفضلية النبي
محمد على غيره — يبدو ضروريًّا، على هذا النحو، لتبلور النبوة
كأساس لبناء تاريخٍ كونيٍّ شامل، إلا أنه يمثِّل مأزقًا لمسألة التفضيل
بأَسْرها، وذلك من حيث يكشف عن اتجاهٍ للفضل يعاكس اتجاهه في التفضيل
على العموم، فقد بدا أنه يستلزم انكسارًا لنمط التفضيل السائد من
الأفضل إلى الأقل فضلًا، والتحوُّل عنه إلى نمطٍ مغاير —بل مناقض —
يمضي فيه التفضيل من الأقل فضلًا إلى الأفضل. والحق أن هذا
الانكسار في نمط التفضيل قد أصبح ضروريًّا، حين بدا للأشاعرة أنه
يستحيل اعتبار النبوة مجرد نقطة الصفر في التاريخ الذي انشغلوا به؛
وهو التاريخ اللاحق عليها، وذلك من حيث أدركوا استحالة تصوُّرها في
انفصال عن كل ما سبقها (حيث اعتبَر الإسلامُ الإيمانَ بالنبوات
السابقة جزءًا من الإيمان بنبوته الخاصة)؛ وبما يعني أنهم كانوا
مضطَرين للتفكير في وضعها بالنسبة للتاريخ السابق عليها. وإذ راحوا
يفكِّرون في هذا التاريخ السابق، فإنهم لم يستطيعوا إلا تصوُّرها لحظة
ختامه واكتماله؛ وبما يعني أنها — هنا — نهاية تاريخ كان لا بد أن
يكون تاريخًا للفضل المتصاعد. وإذ آل بهم التفكير في وضعها بالنسبة
للتاريخ اللاحق عليها إلى تصوُّرها نقطة ابتداء انهياره، فإنها بدت —
ضمن هذا السياق — كنقطة ابتداءٍ لتاريخٍ مغاير؛ وهو تاريخ الفضل
المتساقط. ولأن التفضيل عندهم يتبلور ضمن هذا الانشغال بالتاريخ
اللاحق فحسب؛ أعني من تصوُّرها نقطة ابتداء فقط، فإن المأزق، الذي
يفرض ضرورة انكساره، ينشأ من هذا التصور الذي يفرضه قيام تاريخٍ
سابق عليها؛ أعني من تصوُّرها لحظة اكتمال وختام.
ولعل ذلك يكشف عن أن تجاوز مأزق التفضيل مشروطٌ بتصور النبوة
كمجرد لحظة ابتداء فقط؛ وأعني مشروطًا بتصوُّرها من دون تاريخٍ سابق
عليها. وإذ سبق التنويه بأن تصوُّرها من دون تاريخٍ سابقٍ عليها، يُعَد
تنكرًا لكل النبوات السابقة؛ الأمر الذي يتعارض مع روح الإسلام
الحقَّة، فإنه بدا وكأن الأمر يقتضي بلوغ تصوُّر يمكن الجمع في بنائه
بين وضع نبوة محمدٍ كحقيقةٍ أولى يبدأ منها كل تعيين من جهة، وبين
أخذ كافة النبوات الأخرى في الاعتبار من جهةٍ أخرى. وبالرغم من أن
الفكر قد أمكنه بلوغ مثل هذا التصور بالفعل، ولكن في إطار حقلٍ
معرفيٍّ مغايرٍ لعلم الكلام، هو حقل التصوف؛
٩٩ ومن خلال مفهوم «الحقيقة المحمدية» تحديدًا، إلا أن
مأزق التفضيل قد بقي قائمًا؛ وبما يعني أنه يستعصي على أي
تجاوز.
فالحق أن «مفهوم الحقيقة المحمدية» يضع النبوة المحمدية كحقيقة
أولى تبدأ منها، لا كل النبوات والشرائع فقط، بل وكل التعينات
الأنطولوجية والمعرفية. ومن هنا كليَّتها،
١٠٠ التي تبرِّر مركزيتها ضمن سياق أي تاريخ؛ حيث تشمل كافة
التعيُّنات «أنطولوجيًّا» من حيث «هو — أي النبي محمد كأول تعيُّن
تتعيَّن به الذات الأحادية قبل كل تعيُّن»
١٠١ — القطب الذي تدق عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره،
١٠٢ و«معرفيًّا» من حيث هو «صاحب النبوة قبل وجود
الأنبياء الذين هم نُوابه في الدنيا.»
١٠٣ وليس من شك في أن مركزيته النبوية تلك ترتبط —
جوهريًّا — بأولويته الأنطولوجية؛ وأعني باعتبار كونه صاحبَ وجودٍ
سابقٍ بالاسم الباطن أو «الروح المجرد»؛ حيث «كان لها [أي لروح
محمد] وجود في عالم الغيب دون عالم الشهادة، وأعلمه (الله فيه)
بنبوَّته، وبشَّره بها، وآدم لم يكن إلا كما قال بين الماء والطين.»
١٠٤ ولقد كان للنبي، بهذه النبوة السابقة في عالم الغيب
«الحكم باطنًا في جميع ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء
والرسل، سلام الله عليهم أجمعين»؛
١٠٥ وبما يعني أن هذا الحكم «كان منسوبًا في الباطن
والحقيقة إلى محمد، وفي الظاهر والمجاز كان الحكم منسوبًا إلى من
نُسِب إليه من شرع إبراهيم وموسى وعيسى، وجميع الأنبياء والرسل.»
١٠٦ ومن هنا كونهم — أي هؤلاء الأنبياء جميعًا — دونه في
الفضل «ومُلحَقون به لحوق الكامل بالأكمل، ومنتسبون إليه انتسابَ
الفاضل إلى الأفضل.»
١٠٧ وبالرغم من أن جميع الأنبياء في الفضل دونه، إلا أنهم
يتفاضلون فيما بينهم لا شك؛ وعلى نحوٍ تتجه فيه حركة الفضل من الأقل
فضلًا إلى الأفضل؛ وذلك من حيث تبلغ النبوة المحمدية — عند الصوفية
— غايةَ تحقُّقها وكمالها مع كل واحدةٍ من لحظات تحقُّقها الجزئي (مع
الأنبياء السابقين على محمد) بأكثر مما كانت عليه مع سابقتها. ومن
هنا ما لاحظه (ابن عربي) من «أنهم — أي الأنبياء — في التصاعد وسعة
الاستعداد والمرتبة ينتهون إلى التعيُّن الأول ولا يبلغونه.»
١٠٨ إذ الفضل هكذا، يتصاعد بينهم من الأقل فضلًا إلى
الأفضل الذي لا يبلغ فضله أحد. وإذن فإنه التصاعد للفضل ينتظم
النبوات الجزئية، وذلك رغم الوجود السابق، في البدء، للحقيقة المحمدية؛
١٠٩ وبما يعني أن وضع هذه الحقيقة المحمدية كنقطة ابتداء
للزمان والوجود بأَسْره، لم يحُل دون أن تكون مسيرة التاريخ اللاحق
صعودًا من الأقل فضلًا إلى الأفضل. والحق أن ذلك يرتبط بكون الوجود
المجرَّد أو الباطن للحقيقة المحمدية، يبدو في حاجة إلى الاكتمال
بالوجود العيني الظاهر الذي تحققه النبوات الجزئية لسائر الأنبياء
قبل محمد؛ إذ من دون هذا الاكتمال للحقيقة المحمدية بالوجود العيني
الظاهر، فإنها تبقى مفهومًا فارغًا لا ينطوي على شيء. وإذ التاريخ
اللاحق بأَسْره، وحتى لحظة الوجود التاريخي المتحقق للنبوة المحمدية،
يمثِّل مسيرة تعيُّن الوجود المجرَّد للحقيقة المحمدية واكتماله بالوجود
الظاهر، فإن كل واحدة من لحظاته كان لا بد أن تمثِّل صعودًا في الفضل
من الأدنى إلى الأعلى؛ وعلى نحو يبدو فيه سياق الصعود في الفضل من
الأكثر تجريدًا إلى الأكثر تعيُّنًا.
ولعل ذلك يعني أن الوجود السابق للحقيقة المحمدية في البدء، لم
يفرض تصورًا للفضل من الأفضل إلى الأقل فضلًا؛ لأنه كان وجودًا
فارغًا وفقيرًا بسبب ما ينطوي عليه من صورية وتجريد، ولكن بلوغ هذا
الوجود المجرد ذروة الامتلاء والتعيُّن، مع التحقُّق التاريخي للنبوة
المحمدية، يجعله يبلغ، فعلًا، ذروة الفضل الذي يمكن تصوُّر التاريخ
اللاحق عليه تدهورًا بالنسبة إليه. وهكذا يعكس مفهوم «الحقيقة
المحمدية» ضربًا من التمييز بين الوجود الميتافيزيقي السابق لمحمد
من جهة، وبين الوجود التاريخي المتحقق لنبوته من جهةٍ أخرى. وحسب
هذا التمييز، فإن الوجود الميتافيزيقي الأول يفرض تصورًا للفضل
صعودًا من الأدنى إلى الأعلى، فيما يفرض الوجود التاريخي المتحقق
لنبوته تصورًا معاكسًا للفضل ينحدر من الأعلى إلى الأدنى.
١١٠
وبالرغم من أن «مفهوم الحقيقة» قد أفلح، هكذا، في وضع النبوة
المحمدية كحقيقةٍ مطلقة يبدأ منها كل زمان وتاريخ، إلا أنه، رغم
ذلك، لم يستطع إلا تصوُّر الفضل ابتداءً من هذه الحقيقة، بوصفه صعودًا
من الأقل فضلًا إلى الأفضل. فبدا — هكذا — وكأن هذا المفهوم قد
أخفَق في تجاوز مأزق التفضيل، وذلك من حيث ظل الفضل، فيما قبل تحقُّق
النبوة المحمدية، صعودًا من الأدنى إلى الأعلى، وانهيارًا له بعد
تحقُّقها من الأعلى إلى الأدنى؛ وبما يعني عجزَه عن تجاوز التصور
الأشعري للتفضيل على العموم، وانتهاءه إلى نفس المأزق الذي آل إليه
التفضيل الأشعري.
١١١ والحق أن ذلك يعني أن مفهوم التفضيل يتكشَّف عن مأزقٍ
بنيوي يستحيل تجاوزه أبدًا.
وبالرغم من هذا المأزق الذي آل إليه السعي إلى وضع النبوة كلحظةٍ
مركزية يبدأ منها التاريخ مسيرة انهياره وتدهوره، فإن إطار هذه
اللحظة المركزية قد راح يتسع، عند الأشاعرة، لينطوي على حقبة
الخلافة الراشدة أيضًا. ولقد كان ذلك لازمًا، بالطبع؛ لأن التفضيل
بأسْره قد انبثق من التفكير في هذه الحقبة تحديدًا؛ بل إنه كان مجرد
إسقاطٍ مثاليٍّ متأخر راح يقرأ الأشاعرة من خلاله وقائع أحداث هذه
الحقبة بالذات.
١١٢ وإذ راح الأشاعرة، فيما لاح آنفًا، يؤسسون مركزية عصر
النبوة على كونه عصر «الوحدة» الذي لا ينطوي على أي اختلاف، فإنهم
راحوا — وقد أدركوا الاختلاف جليًّا، وإلى حد الفتنة، في هذه
الحقبة
١١٣ — يتأوَّلون كل ضروب الاختلاف فيها بوصفها ضروبًا من
الاجتهاد. وهكذا صار (الأشعري) إلى أن «ما جرى بين علي والزبير
وعائشة رضي الله عنهم، فإنما كان على تأويل واجتهاد، وعليٌّ الإمام،
وكلهم من أهل الاجتهاد، وقد شهد لهم النبي
ﷺ
بالجنة والشهادة، فدَل أنهم كانوا على حقٍّ في اجتهادهم، وكذلك ما جری
بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما كان على تأويل واجتهاد.»
١١٤ ويتابع (ابن خلدون) بأن: «المجتهدون إذا اختلفوا، فإن
قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحدٌ من الطرفَين، ومن لم
يصادفه مخطئ، فإن جهته لا تتعيَّن بإجماع، فيبقى الكل على احتمال
الإصابة، ولا يتعيَّن المخطئ منهم، والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعًا
… [ثم يردف]، هذا هو الذي ينبغي أن تُحمل عليه أفعال السلف من
الصحابة والتابعين،
١١٥ «فهم خيار الأمة، وإذا جعلناهم عُرضةً للقدح فمن الذي
يختص بالعدالة … فإياك أن تعوِّد نفسك أو لسانك التعرُّض لأحد منهم،
ولا تشوِّش قلبك بالريب في شيءٍ مما وقع منهم، والتمِس لهم مذاهبَ الحق
وطُرقَه ما استطعت، فهم أولى الناس بذلك، وما اختلفوا إلا عن بيِّنة.»
١١٦ ذلك أن «كل الصحابة أئمةٌ مأمونون غير متَّهمين في الدين،
وقد أثنى الله ورسوله على جميعهم، وتعبَّدنا بتوقيرهم وموالاتهم
والتبرِّي من كل مَن ينقُص أحدًا منهم.»
١١٧ وهكذا، من نهي «ابن خلدون» عن التعرض للصحابة، وتأكيد
«الأشعري» على التعبُّد بتوقيرهم، راح الأشاعرة يكرِّسون مركزية حقبة
الخلافة وعصر الصحابة أيضًا. وفي كل الأحوال فإن مركزية اللحظة
(النبوة أو الخلافة) تنبني على قراءتها، لا من خلال تاريخها، بل
عَبْر إسقاط التصوُّرات المثالية المتخيَّلة عليها.
يبدو — إذن — أن المركزية في هذه اللحظة، إنما تتأسَّس على السعي
إلى انتزاعها من تاريخها،
١١٨ عَبْر السكوت عنه أو التنكُّر له وإخفائه،
١١٩ وذلك توطئة لتحويلها إلى بنيةٍ مثاليةٍ متعالية، تحوز
—في تعاليها — على كل سمات الإطلاق والقداسة؛ وبما يعني أن المرء،
هنا، بإزاء أحد تجليات التحوُّل الأثير، في النسَق المُهيمِن على
الثقافة التراثية، من التاريخي إلى البنيوي. وبمثل ما يكون هذا
التحوُّل أحد أهم آليات النسَق في تكريس هيمنته وتأبيدها على العموم،
فإنه يكون، هنا، آلية هذه اللحظة في تأسيس مركزيتها وفرض هيمنتها
على نحوٍ يستحيل تجاوزُه البتة؛ ذلك أنها (أعني اللحظة المراد
مركزتها) حين تفك روابطها مع التاريخ، فإنها تسكُن خارجه في سكون
وثبات يستعصيان على أي تطوُّر أو تجاوز؛ إذ هي تستحيل، عَبْر الانفكاك
من التاريخ، من مجرد «لحظة» يبدأ منها الوعي مسيرته، متمثلًا
ومستوعبًا ومتجاوزًا لها، رغم تميُّزها، إلى صور وجود جديدة، إلى
«نموذج» لا يمكن أن يكون — بسبب طابعه المتعالي — لحظة ابتداء، بل
واقعًا نهائيًّا مكتملًا لا يملك الوعي إلا العودة إليه تقليدًا
واجترارًا، والاحتفاظ به، في اكتماله المطلق، عصيًّا على التجاوز
والاستدماج في أشكالِ وجودٍ أرقى؛ ذلك أنه يبدو أن النموذج، أي
نموذج، لا يمكن أن يكون، وخصوصًا حين يحقِّق مفارقته وتعاليه
بالانفكاك عن التاريخ، موضوعًا لموقف «معرفي»، بل لموقف «سيكولوجي»
١٢٠ بالأحرى؛ وذلك لأنه يفرض على الوعي، وبلغة التحليل
النفسي، نوعًا من «التثبيت» عنده، وهو ما يجعله (أي النموذج) لا
يفلِت فقط من هيمنة الوعي، بل ويفرض عليه، وربما أيضًا على
«اللاوعي» بمعناه المعرفي لا النفسي بالطبع، سطوةً لا مهرب
منها.
إذ المعرفة الحقة هي، في جوهرها، فعلٌ جدلي؛ أعني أنها فعلٌ يستوعب
موضوعه ويتخطاه ويتجاوزه في آن معًا، وهو ما يكشف عن كونها، في
العمق، فعل هيمنة. وإذ يبدو ذلك غير ممكن فيما يتعلق بالنموذج من
حيث هو كذلك؛ أعني من حيث يسعى، بدوره للهيمنة، فإنه لا يمكن،
بالطبع، أن يكون موضوعًا لمثل هذا الضرب من المعرفة، بل لضرب من
المعرفة الاجترارية التي تقصد لا إلى تجاوز موضوعها، بل إلى ضربٍ من
التماهي معه تُلغي فيه ذاتها كفعلٍ خلَّاق، ولا تكشِف إلا عن الحضور
الأبوي الطاغي لموضوعها؛ وبما يعني هيمنتَه عليها بالطبع.
وهكذا يبدو وكأن النموذج ينتج شكلًا معرفيًّا سرعان ما يقوم هو،
بدوره، بإنتاج هذا النموذج،
١٢١ وضمن هذا الإنتاج المتبادل (من النموذج للشكل المعرفي
والعكس) فإن تحرير الوعي من هيمنة هذه اللحظة النموذج — أو حتى أي
نموذج — لا يكون إلا بردِّها إلى تاريخها — الذي يجتهد النسَق المهيمن
في إخفائه والتنكر له — سعيًا إلى تفكيك مركزيتها وتحويلها من
«نموذج» إلى مجرد لحظة بإمكان الوعي، رغم تميُّزها، أن يتجاوزها، لا
باستبعادها كليًّا بالطبع، بل باستيعابها ضمن أشكالٍ للوجود أكثر
تطورًا؛ وأعني أنه لا يكون إلا بإنتاج نوعٍ من المعرفة الحقَّة بها،
بدل أن تكون — كما هي في وضعها الراهن — موضوعًا لتثبيتٍ نفسيٍّ مرضي.
وإذن فالأمر، هنا، لا يتعلق بنفي اللحظة المركزية، أو حتى دحض
تميُّزها، بل يتعلق فقط بإنتاج معرفةٍ بها تُغايِر كيفية الإنتاج
المعرفي السائد لها، وخصوصًا أنه قد آل، لا إلى مجرد غُربة الوعي،
بل وغربة التاريخ أيضًا.
ذلك أن «نمذجة» اللحظة، أي لحظة، وبمعنى تصورها من طبيعةٍ مغايرة
للتاريخ ومفارقة له، يفرض على كل التاريخ اللاحق أن يكون، لا
امتدادًا، بل سقوطًا. إذ تبدو اللحظة، حين تصير نموذجًا، غريبةً عن
التاريخ ولا تنتمي إليه، وذلك ما يجعل التاريخ، بدوره، غريبًا عنها
ولا ينتمي إليها. وإذ يبدو السبيل إلى قهر غُربة التاريخ وعدم
انتمائه إلى هذه اللحظة، ماثلًا فقط في السعي إلى التماهي أو
التوحُّد معها، فإن ذلك يكشف عن مفارقة تاريخٍ يسعى بنفسه إلى أن يكون
لاتاريخًا. ذلك أن اللحظة المتعالية هي التي تتعالى بالتاريخ — إذ
يسعى إلى التماهي معها — إلى أن يصبح لاتاريخيًّا مثلها، دون أن
يكون هو نفسُه قادرًا على استيعابها ضمن حدوده الخاصة؛ وأعني أنها
تنطوي عليه في جَوفِها دون أن يكون هو — بالمثل — قادرًا على
احتوائها في جوفه. والحق أن ذلك يرتبط بأن التاريخ — في سعيه إلى
التماهي في هذه اللحظة — النموذج، لا يعرف إلا كيفيةً واحدة في
إنتاجها معرفيًّا، هي التكرار والاجترار؛ وهي «معرفة» لا تكشف إلا
عن الحضور الطاغي لموضوعها، (وهو هنا هذه اللحظة النموذج) وبما
يسلب التاريخ هويته، ولا يبقي إلا الهوية اللاتاريخية الخاصة بهذه
اللحظة النموذج. ولعل ذلك هو مأزق أي تصور لتاريخ يتخذ نقطة
ابتدائه (أو بالأحرى سقوطه) من خارجه؛ أعني أنه يبقى محكومًا بأن
يكون: إما سقوطًا أو لاتاريخًا. وهذا الخيار، أمام التاريخ، بين أن
يكون سقوطًا أو لاتاريخًا، يأتي من أن تجاوزه لتدهوره وسقوطه يبدو
مشروطًا بنفيه لذاته على نحوٍ جوهري. ومن هنا فإن التاريخ اللاحق
للحظة النبوة والخلافة كان لا بد أن يجمع بين كونه سقوطًا
ولاتاريخًا؛ وذلك من حيث أن ابتداءه من وضع النبوة والخلافة كنماذج
متعالية ومن طبيعة لاتاريخية،
١٢٢ راح يفرض عليه إما السقوط والتدهور، وإما السعي إلى
تجنبهما عبر التماهي مع نماذج من خارجه. إنه إذن تاريخ محكوم
بالانهيار والتدهور، ولا سبيل أمامه إلى تجاوزهما إلا بأن يكون لاتاريخًا.
١٢٣
واللافت حقًّا أن هذا التصور للتاريخ سقوطًا من اللحظة النموذج
خارجه، قد استحال إلى نمط للتأريخ الخاص بكل حقبة أو دولة، وذلك في
التاريخ اللاحق للنبوة بأَسْره؛ وبما يعني انطواء كل حقبةٍ لاحقة
للنبوة على لحظةٍ نموذجية،
١٢٤ يبدأ منها التاريخُ الخاصُّ بها انهيارَه الذي يتزايد مع
كل ابتعادٍ عنها بالطبع، هكذا يظهر الأمر صريحًا عند ابن خلدون الذي
لم يفعل إلا أن قرأ التاريخَ الخاصَّ بكلٍّ من الدولتَين الأموية
والعباسية بحسب هذا النمط لا غير.
١٢٥
وبالرغم من أن الأمر يقتضي اختبارًا تطبيقيًّا بالطبع،
١٢٦ إلا أنه يمكن الزعم بأن هذا «النمط» للتأريخ قد وجَّه
الكتابات التاريخية لجل المؤرخين المسلمين، وخصوصًا أولئك الذين
طواهم النسَق الأشعري، ولو دون وعيٍ منهم، في جوفه.
١٢٧ وهكذا يبدو وكأن ثمَّة داخل التاريخ العام اللاحق
للنبوة، تواريخَ جزئيةً متمايزة (من دون أن يُلغي تمايُزها كونُها مجرد
لحظات يحقِّق عَبْرها التاريخُ العام قصدَه)، ينطوي كل واحدٍ منها على
لحظته النموذجية الخاصة به بالطبع. لكن هذه اللحظات النموذجية
الخاصة بكل حِقَب التاريخ اللاحق للنبوة تمثِّل، هي نفسها — وبسببِ ما
تنطوي عليه من جزئية — ضربًا من الانهيار والتدهور بالنسبة للحظة
النبوة؛ التي هي النموذج الكلي الأعلى لكل التاريخ اللاحق. بل إنه
يبدو وكأن هذه اللحظات النموذجية الجزئية لا تفلِت، بدورها، من
هيمنة النمط الشامل الذي ينتظم حركة التاريخ اللاحق للنبوة بأَسْره؛
وأعني أن كل واحدةٍ من هذه اللحظات الجزئية تمثِّل انهيارًا وتدهورًا
بالنسبة لتلك السابقة عليها.
والحق أن ذلك يكشف عن كون التاريخ — حسب الأشاعرة — أعجز من أن
يحقِّق تماهيَه مع اللحظة-النموذج خارجه؛ وأعني بها لحظة النبوة التي
هي من طبيعةٍ كلية. إنه لا يعرف، وفقط، إلا نماذجَ جزئيةً خاصة يمثِّل
اللاحق منها سقوطًا من السابق؛
١٢٨ وبما يعني أن التاريخ لا يعرف، حتى مع هذه النماذج
الجزئية، إلا السقوط والتدهور الذي يتزايد بمقدار ابتعاده عن لحظة
النبوة. واللافت أن فاعلية هذا النمط (نموذج/تدهور) لم تقف عند حد
التأسيس المعرفي للكتابة التاريخية فقط، بل تعدَّته إلى التأسيس
لكافة ضروب الإبداع المعرفي داخل الثقافة.
١٢٩ ومن هنا يمكن فهم تحوُّل هذا النمط — في المؤلفات
المتأخرة خاصة — إلى أصل من أصول الدين الذي ينبغي الاعتقاد فيه؛
إذ صار «مما يجب اعتقاده أن قَرنه [المقصود قَرن النبي بالطبع] أفضل
القرون، ثم القرن الذي بعده.»
١٣٠ وكذا وجب الاعتقاد، على العموم، في أنه «ما من يومٍ إلا
والذي بعدَه شرٌّ منه، وإنما يُسرَعُ بخياركم»،
١٣١ وبهذا التحوُّل راح هذا «النمط» يُمارِس، في محيط الثقافة،
هيمنةً لا مهربَ منها.
بل إنه بدا أيضًا، أن هذه الهيمنة هي مما يستحيل تجاوزه؛ حيث
الأشاعرة لم يكتَفوا فيما يبدو، بتصوُّر النموذج، الذي يبدأ منه
التدهوُر، مطلقًا خارج سياق تاريخه، بل راحوا يضيفون إليه التشخيص أيضًا؛
١٣٢ أعني تصوُّره مشخَّصًا؛ ذلك أن ما صار واجبًا اعتقاده من
أن قَرْنَ النبي هو أفضلُ القرون لم يصبح اعتقادًا لانطوائه على قيمةٍ
ذات طابعٍ موضوعي، وبحيث يمكن استعادتها على نحوٍ ما،
١٣٣ بل يرتبط بحضور «شخصي» للنبي، وهو ما يستحيل استعادته
على أي نحو. والحق أن ذلك يعني أن حضور النبي «الشخصي»، وليس
الحضور «الموضوعي» للقيمة التي تنطوي عليها نبوَّته، هو أساسُ الفضل
ومصدره؛ وهو ما يئول في المقابل إلى ارتباط التدهوُر، لا بغياب
القيمة، بل بغياب الشخص، وبما يكشف عن استحالة رفعه لتوقُّفه على شرط
الحضور الشخصي للنبي.
١٣٤
وإذ الفضل هكذا، لا نتاج تمثُّل «القيمة»، بل نتاج مجرد الصحبة
والملازمة أو حتى مجرد اللقاء والرؤية لشخص النبي، فإن مراتب الفضل
كان لا بد أن تتحدد تبعًا لذلك بالطبع؛ حتى لقد راح البعض يرتِّب على
ذلك أفضلية نساء النبي على سائر صحابته، وذلك لما «لهن من الاختصاص
في الصحبة، ووكيد الملازمة له عليه السلام، ولطيف المنزلة عنده
عليه السلام، وبالقرب منه والحظوة لديه، ما ليس لأحد من الصحابة
رضي الله عنهم، فهن أعلى درجةً في الصحبة من جميع الصحابة، ثم فضَلن
سائر الصحابة بحق زائد، وهو حق الأمومية [للمؤمنين] الواجب لهن
كلِّهن بنص القرآن.»
١٣٥
وحتى رغم أفضلية الصحابة، على العموم، فإن ثمَّة بينهم من هو
الأفضل من الآخر بالطبع؛ وذلك باعتبار سبق بعضهم وتقدُّمه في الصحبة
على البعض الآخر، ومن هنا التعيين الأشعري لمراتب الفضل بين
الصحابة على نحوٍ يكون فيه «أعلاهم رتبة «هم» السابقون في الإسلام
[والأسبق في الصحبة بالتالي]، بينما آخرهم قوم رأَوا [مجرد رؤية]
رسول الله
ﷺ فحسب.»
١٣٦ وتتفاوت مراتب الصحابة، بالطبع، فيما بين هؤلاء
«الأسبق في الصحبة»، وأولئك «الذين حازوا مجرد الرؤية»، بلوغًا
لأولئك الذين «أدركوا الجاهلية والإسلام [أي أدركوا زمان النبي
كله]، ولم يُرزقوا رؤية رسول الله
ﷺ … وهؤلاء
عدادهم في التابعين.»
١٣٧ وإذ يبدو هؤلاء ضمن الطبقة الأولى من التابعين، فإنه
يبدو وكأن مراتب الفضل بين التابعين تتحدَّد ابتداءً من الحضور
الشخصي للنبي أيضًا، وذلك من حيث يلحق بهم أيضًا «قوم وُلدوا في
زمان النبي
ﷺ ولم يسمَعوا منه.»
١٣٨ لكنه إذ يلحق بهذه الطبقة أيضًا «من أدرك العشرة الذين
شهد لهم رسول الله
ﷺ بالجنة، أو أدرك أكثرهم»،
١٣٩ فإنه يبدو وكأن الفصل بين التابعين يتعيَّن أيضًا تبعًا
لضرب من الحضور الشخصي غير المباشر للنبي؛ وأعني من خلال أولئك
الذين كانوا أسبق في الصحبة — وبالتالي أعلى في درجتها — من غيرهم.
ولا بد بالطبع من أن تتباين درجة هذا الحضور الشخصي غير المباشر
للنبي بدوره؛ وأعني فيما بين هؤلاء الذين هم الأعلى درجةً في
الصحبة، وأولئك الأقل درجةً فيها.
١٤٠ وهكذا بلوغًا إلى تابعي التابعين الذين يتلاشى بعدهم
الحضور الشخصي للنبي، إنْ على نحوٍ مباشر أو غيرِ مباشر، فيغيب الفضل،
ولا يكون ثمَّة إلا التدهور.
ولعل من أخطر ما آل إليه هذا الحضور الشخصي للنبي في تعيين مراتب
الصحابة والتابعين، أنه راح يفرض تصورًا «للفعل»، لا يستمد فيه
قيمته في ذاته، بل من مجرد إضافته إلى عَرَضٍ خارجي؛ إذ الفعل — تبعًا
لذلك — لا يكون من درجةٍ واحدة في الفضل تفرضُها طبيعة ذاته، بل
تتباين درجته حسبما يُفرَض عليه من الخارج؛ وأعني أن كونَه الأفضل أو
الأقل فضلًا هو نتاجٌ عارضٌ لإضافة تلحقه من الخارج، ومن دون أن يكون
لطبيعته الذاتية أيُّ تأثير في ذلك. وتبعًا لذلك فإن «فضل من عمل في
المكان الفاضل «يفوق فضل» غيره ممن عمل في غير ذلك المكان
[الفاضل]، وإن تساوى العملان، [وكذا فإن] سائر أعمال البر من
«النبي» أو معه، فقليلٌ من ذلك أفضلُ من كثير الأعمال بعده، [وهكذا
إلى حد القطع بأن] كل عمل عملوه [أي الصحابة] بأنفسهم بعد موت
النبي
ﷺ، لا يوازي شيئًا من البِر عملَه ذلك
الصاحب بنفسِه مع النبي
ﷺ.»
١٤١ وهكذا تتوقَّف درجة الفعل في الفضل على حضور النبي (ولو
بوساطة المكان) أيضًا؛ وبما يعني أن القيمة مضافةٌ إليه من الخارج.
والحق أن هذا التصور للفعل، لا ينطوي على أي قيمةٍ باطنية، بل تُضاف
إليه دومًا من خارجه، هو ما يؤسِّس بناء التاريخ الأشعري بأَسْره. ولعل
ذلك يتسِق مع تصورهم للفعل عمومًا — وفي الأخلاق خاصة — يفتقر إلى
تقوُّم ذاتي، حيث الافتقار إلى التقوُّم الذاتي هو ما يميِّز العالم
الذي يفكر به الأشاعرة، وبكل ما يتضمَّنه من عناصر (الطبيعة والإنسان
والتاريخ).
والحقُّ أن تصوُّر «الفعل» — ضمن سياق التفضيل — يستمد قيمته ومعناه،
لا من ذاته، بل من مجرد إضافته إلى عرض خارجي، يجعل من التاريخ
(المضمر في التفضيل) أحد وجوه الأخلاق الأشعرية؛ وذلك من حيث إنه
الحقل المؤسس لتصور الفعل هكذا، هو حقل الأخلاق أصلًا.
١٤٢ وضمن سياق الأخلاق الأشعرية، فإن الفعل لا ينطوي في
ذاته، على أي قيمةٍ موضوعيةٍ باطنة، تبرِّر أخلاقيته، أو حُسنه أو قُبحه؛
ولهذا فإنه، وبما هو فعل، يبدو — حسب الأشاعرة — من طبيعةٍ لا
أخلاقية؛ لا بمعنى تنافيه مع الأخلاق، بل بمعنى أنه خارج نطاق
التناول الأخلاقي، وذلك من حيث لا ينطوي على أي مقوِّم لحكمٍ أخلاقي
أو تقويم.
١٤٣ ولقد ترتب على هذا التصوُّر للفعل، خلوًا من أي مقوِّم
ذاتيٍّ يبرِّر أخلاقيته، أن منع الأشاعرة «أشدَّ المنع من أن يكون في
العقل بمجرَّده طريقٌ إلى العلم بقُبحِ فعلٍ أو حُسنه.»
١٤٤ إذ لا سبيل للعقل في إنتاج معارفه، إلا بإدراك ما
ينطويه موضوعه في باطنه، بينما الفعل (وهو هنا موضوعه) لا ينطوي في
باطنه على أي قيمةٍ موضوعيةٍ يُدرِكها العقل؛ ولهذا كان لا بد أن يجعل
الأشاعرة تقريرَ حُسن الفعل أو قُبحه من موارد الشرع، لا العقل؛ وبما
يعني أن الأحكام الأخلاقية (أو التحسين والتقبيح) — هي كالأعراض
التي تلحق بالجواهر في سياق الأنطولوجيا الأشعرية
١٤٥ — مجرد لواحقَ تلحقُ بالأفعال بدورها، وتُضاف إليها من
الخارج؛ وبمعنى أنها ليست متضمَّنةً موضوعيًّا فيها. وليس من شك في أن
هذه الإضافة للقيمة على الفعل، تكون من الله، ومن هنا فإنه إذا كان
الله هو الذي يُلحق الأعراض بالجواهر، في سياق الأنطولوجيا، ويؤلِّف
بينها، فإن الأحكام (أو القيم)، بدورها، لا تثبُت للأفعال إلا
بالشرع (من الله).
١٤٦ ولهذا فإنه، وكما أن علاقة الأعراض بالجواهر كانت —
حسب الأشاعرة — خارجية وطارئة، فإن علاقة الأحكام الأخلاقية
بالأفعال لا بد أن تكون، بدورها خارجية وطارئة، وذلك لكي يكون في
مقدور الله، إن أراد بالطبع، أن يُقبِّح ما حسَّن أو يُحسِّن ما
قبَّح؛ وبما يعني أنه حتى بعد تحسين فعلٍ ما أو تقبيحه من الله، فإن
هذا الحسن أو القبح، لا يتحول إلى قيمةٍ موضوعيةٍ ينطوي عليها الفعل،
بل يبقى مجرد إضافةٍ خارجيةٍ وطارئة. وإذ الأخلاق، هكذا، لا تجد ما
يؤسِّسها إلا في «ورود القول المبيِّن [لها] عن مالك الأعيان»،
١٤٧ وليس في ارتباطها الحميم بعالَم الإنسان، فإنها — بذلك
— تتكشف عن خواء الوجود الإنساني وضآلة شأنه؛ لأنها — وفي كل
مراحلها — لا تعرف إلا أن تُصادِر «الإنسان» لحساب «مالك الأعيان».
وليس من شك في أن تاريخًا لا يجد ما يؤسِّسه إلا في تصوُّر الفعل كما
ينبثق في مجال هذه الأخلاق، لا يمكن أن يتكشَّف عن شيءٍ مغايرٍ لما
تتكشَّف عنه هذه الأخلاق.
إذ الحق أن بنية الفعل التاريخي، لا تكاد البتة أن تتميَّز عن بنية
الفعل الأخلاقي؛ وذلك من حيث إنه لا ينطوي مثلُه على ما يتقوَّم به
ذاتيًّا؛ وأعني أنه، ضمن سياق التفضيل، مثلًا، لا ينطوي على ما
يجعله الأفضل أو الأقل فضلًا، بل الوصف له (بالأفضل أو الأقل
فضلًا)، يبدو مجرد إضافةٍ تلحقُ به من خارجه.
١٤٨ وإذ يبدو الفعل هكذا، خلوًا من أي مقوِّم ذاتي يبرِّر
أفضليَّته أو عدمها، فإنه يمكن أن يُصار من ذلك إلى أن الأشاعرة
يمنعون «أشد المنع أن يكون في العقل بمجرده طريق إلى العلم بأفضلية
فعلٍ على آخر، بل وأفضلية شخصٍ على آخر؛ ولهذا فإن الفضل لا يُعرف
إلا ببرهانٍ مسموعٍ من الله تعالى في القرآن، أو من كلام رسول الله.»
١٤٩ وهو ما يؤكِّد على أن أحكام التفضيل — هي كالأعراض في
سياق الأنطولوجيا، والتحسين والتقبيح في سياق الأخلاق — مجرد لواحق
تلحَق بالأفعال والأحداث والأشخاص من الخارج. وهكذا فإنه — وكما
كانت الأحكام — في سياق الأخلاق لا تثبُت، على قول الباقلاني، إلا
بالشرع من الله، فإن أحكام التفضيل راحت بدَورها، لا تثبت إلا
«بالوضع من الله.»
١٥٠
وإذ يبدو التوازي شاملًا، على هذا النحو، بين الأخلاق والتاريخ؛
أعني على مستوى «بناء الفعل» (إذ هو في الحقلَين خاوٍ لا يتقوَّم
بذاته)، وكذا على مستوى «مصدر القيمة» (إذ هي في الحقلَين من الشرع
أو الوضع من الله)، فإنه يبدو وكأن التاريخ، حسب الأشاعرة، هو أحد
أشكال الأخلاق لا غير.
١٥١ ولعله يستحيل، بسبب هذا الجوهر الأخلاقي للتاريخ،
تصوُّره عمليةً خلَّاقة، تتسع لحركة الإنسان في العالم، وتنطوي في جوفها
على قوانينها الباطنية الخاصة. ويرتبط ذلك بأنه يصبح عمليةَ مقايسةٍ
بسيطةٍ للوضع الإنساني في العالم على نموذجٍ أوليٍّ مطلَق يقوم خارجه؛
وهي — حتى — مقايسةٌ عقيمة لأنها لا تئول أبدًا إلا إلى إدانة هذا
الوضع الإنساني في العالم؛ لأنها لا ترى فيه إلا اغترابًا دائمًا
عن نموذج الكمال المطلق خارجه. وإذ التاريخ هكذا، هو ضربٌ من القياس
لا يُدرك في الواقع (المُقاس) قيمةَ النموذج، الأصل (المُقاس عليه)
وفضلَه، فإن ذلك يعني أن مساهمة الفقه في بناء هذا التاريخ، تتجاوز
ما سبقَت الإشارة إليه من انبناء الفضل على الأدلة الشرعية الأربعة
التي تؤسِّس للفقه، إلى أن يهبه الشكل
١٥٢ الذي يتشكَّل تبعًا له تصوُّر التاريخ؛ أعني شكل المقايسة
الفقهية.
ولعله يلزم التنويه، هنا، بأن هذا الجوهر الأخلاقي للتاريخ
الأشعري (والذي آل به إلى أن يغدو مجرد مقايسة فقهية)،
١٥٣ تنسَد فيها الآفاق أمامه؛ من حيث لا يصبح (أي التاريخ)
صيرورةً خلَّاقةً غيرَ مشروطة إلا بقوانينها الخاصة، بل صيرورة تدهورٍ
مشروطة بنموذجٍ متحققٍ (سلفًا)، إنما يُستفاد — وكما سبقت الإشارة —
من ذلك الإلحاح الأشعري على كون الموقف الفاضل (أو نموذج الكمال)،
ليس التمثُّل، بل التعظيم؛ وذلك من حيث إن «كل فاضلٍ فمأمورٌ [فقط] بتعظيمه»،
١٥٤ وليس تمثُّله. إذ بينما «التمثُّل» موقف معرفي ينطوي
على مجاوزة لموضوعه بعد احتوائه له (ينبثق التاريخ منها)، فإن
«التعظيم» هو موقفٌ أخلاقيٌّ لا يرى في أي مجاوزة لموضوعه، إلا ضربًا
من السقوط يستحق الإدانة، وهو ما يجعل غايته مجرد الاستغراق في
موضوعه (الذي هو أصلًا نموذج) والثبات عنده؛ الأمر الذي يتناقض، لا
شك، والجوهر الحق للتاريخ. ولعله يبدو لذلك، أن هذا الموقف
الأخلاقي (المنبثق عن تعظيم النموذج، وليس تمثُّله) كان أحد آليات
النسَق الأشعري في تحويل «نموذج الفضل» إلى مطلقٍ يستحيل تجاوزه؛
وذلك من حيث أحاله إلى موضوعٍ للأخلاق، وليس المعرفة. والملاحَظ أنه
بينما يتكشَّف هذا الموقف الأخلاقي عن ضربٍ من التعالي بنموذج الفضل
إلى حدِّ الإطلاق والمفارقة، فإنه — وفيما يتعلق بالتاريخ اللاحق
عليه — لا يتكشَّف إلا عن ضربٍ من الإدانة الدائمة.
٣
ولعل هذا الانشغال بإدانة التاريخ اللاحق على اللحظة-النموذج،
قد فرض على النسق ضرورة تجاوز «التفضيل» إلى ما يتفق وانشغاله
الراهن بالإدانة والتحقير، فإذ التفضيل، وفيما سبق القول، مجرد
إسقاطٍ متأخر تُقرأ من خلاله أحداثُ حقبتَي النبوة والخلافة، قَصْد
نمذجتها وتحويلها إلى لحظةٍ متعاليةٍ مطلقة، ومن طبيعةٍ لا تاريخية،
فإنه لا يصلُح أبدًا لقراءة أحداث الانهيار والابتعاد المتزايد عن
النموذج؛ وذلك من حيث إن كلًّا منهما (أعني كلًّا؛ اللحظة-
النموذج، ولحظة الانهيار اللاحقة) تبدو من طبيعةٍ مغايرةٍ للأخرى؛ إذ
الأمر — فيما يتعلق بالأولى — ينبني على التعالي والصعود، بينما هو
— فيما يتعلق بالأخرى — ينبني على التدهور والسقوط. وإذ السقوط،
وبدلالة سقوط «آدم» الذي يؤسِّس لكل سقوطٍ لاحق، يرتبط بما يعني
العصيان والمخالفة، فإنه يبدو وكأن لا شيء سوى ذلك — أي التكفير
على نحوٍ صريح — هو يصلُح إطارًا يُقرأ من خلاله تاريخ الانهيار
والتدهور.
وهكذا فإن انشطار التاريخ الأشعري بين لحظة تعالٍ وصعود، ولحظات
تدهور وسقوط قد فرض منطقًا «للتفضيل» ينحصر تداوله ضمن سياق اللحظة-النموذج، في مقابل
منطق «للتكفير» يستغرق كل تاريخ الانهيار
اللاحق عليها.
١٥٥ ولقد اقتضى هذا التباين بين «منطقَين» تباينًا؛ لا في
الآلية المنتجة لكلٍّ منهما فقط، بل وفي جملة المفردات المتداوَلة في
فضاء الواحد منهما أيضًا؛ فإذ «التفضيل» ينبني على «وجوب الكف
[فيما يتعلق بلحظة الفضل الأولى] عن ذكر الاختلاف والسكوت عنه، بل
وإنكاره حسب البعض»،
١٥٦ فإن التكفير ينبني على الآلية النقيض؛ أعني آلية الكشف
والفضح، أو «بيان الحديث المأثور في افتراق الأمة … وبيان فضائح
كل فرقة»،
١٥٧ وليس السكوت عنها.
وإذ الحديث يجري في سياق اللحظة — النموذج، بمفردات الفضل
والاجتهاد وحسن الخلال، فإنه لا يعرف، فيما يتعلق بالتاريخ اللاحق،
إلا الفضائح والأهواء وفرق الضلال. وهكذا ينطوي التاريخ في جوفه
على ضربٍ من الثنائية التي يشقى بها أبدًا، وذلك من حيث يبدو أنْ
لا سبيلَ إلى تجاوزها؛ حيث الشكل الأوحد للعلاقة الممكنة — ضمن هذه
الثنائية — هو النبذُ من الأفضل للأقل فضلًا، وعلى نحوٍ لا يكون فيه
لهذا الأخير (الأقل فضلًا) من معنًى إلا عَبْر نفي نفسه، سعيًا إلى
التوحُّد مع الأفضل بالطبع. وإذ النفي، هكذا، هو جوهر العلاقة بين
طرفَي الثنائية التي ينطوي عليها التاريخ؛ وبما يعني أنه لا سبيل
إلى التقائهما أبدًا، فإنه يبدو وكأن التاريخ الأشعري يستحيل إلى
تاريخَين يُضادُّ الواحد منهما الآخر بالكلية، وكذا يسعى فيه أحدهما
(وهو التاريخ النموذجي بالطبع) إلى نفي الآخر.
١٥٨
والحق أن التضادَّ بين التاريخَين (أو اللحظة-النموذج من جهة،
ولحظات الانهيار التي تتلوها من جهةٍ أخرى) يتجاوز مجرد الآلية
المنتجة لكلٍّ منهما (أعني السكوت في مقابل الفضح)، وكذا مجمل
المفردات المتداوَلة في فضاء كلٍّ منهما، إلى «المفهوم» المؤسِّس في
العمق لكلٍّ منهما؛ إذ «الوحدة» أو الاتفاق على «منهاج واحد، أو طريق
واحدة دون خلافٍ ظاهر»،
١٥٩ هي ما يؤسِّس بناء اللحظة-النموذج؛ ومن هنا الإلحاح على
نفي أي حضورٍ للخلاف فيها وإنكاره بالكلية عنها، أو على الأقل
تأويله بوصفه ضربًا من الاجتهاد «يبقَى الكل فيه على احتمال
الإصابة، ولا يتعيَّن فيه المخطئ»،
١٦٠ أو اعتباره جزئيًّا في الفروع، ظل المسلمون أثناءه
«على كلمةٍ واحدةٍ في أبواب العدل والتوحيد والوعد والوعيد وفي سائر
أصول الدين.»
١٦١ وحسب البغدادي، فإن المسلمين «كانوا على هذه الجملة
[أو الوحدة] في أيام أبي بكر وعمر وست سنين من خلافة عثمان.»
١٦٢ فإلى هنا تقف حدود اللحظة-النموذج
١٦٣ التي لم يقع فيها خلاف ينقض الوحدة، ويبدأ تاريخ
الانهيار اللاحق الذي لن يجد ما يؤسِّسُه بالطبع، إلا في نقيض ما
يؤسسها؛ أعني فيما «اختلفوا فيه … اختلافًا باقيًا إلى يومنا هذا»،
١٦٤ لأنه يتعلق بالأصول التي يبقى الخلاف فيها موجبًا
للتفسيق والتبرِّي أبدًا؛ إذ الأشاعرة، هنا، لن يسعَوا إلى تأول هذه
الاختلافات بوصفها نتاج «الاجتهاد» الذي يبقَى الكل فيه على احتمال
الإصابة، بل بما هي نتاج «الهوى»
١٦٥ الذي لا بد أن يتعيَّن فيه المخطئ؛ وذلك من حيث إنها
تبدو — آنئذٍ — أعمالًا إراديةً مقصودة تمامًا، تنتمي إلى عالم الذات
وما يعتمل فيها من الجنوح إلى الهوى؛ الأمر الذي يكرِّس الجوهر
الأخلاقي للتاريخ لا شك؛ حيث «الاختلاف» المؤسِّس لتاريخ التدهور
يكون نتاج مجرد الانحراف الأخلاقي للذات، وليس نتاج التحقُّق الضروري
لممكنات الموضوع (أعني الوحي) ذاته.
والحقُّ أن تصوُّر الاختلاف هكذا؛ أعني نتاج الانحراف الأخلاقي
للذات، إنما يرتبط بتصوُّر الأشاعرة للموضوع (أو الوحي) لا ينطوي في
جوفه على ما يبرِّر أي تنوُّع أو اختلاف؛ إذ الاختلاف — حسب هذا التصوُّر
— يمثل تهديدًا لهوية الموضوع (الوحي) وإهدارًا لها. ولعل ذلك
يرتبط بتصوُّر هذه الهوية على نحوٍ صوري مجرد؛ أعني خلوًا من «الحياة»
التي تدفعُها إلى التخارُج من ذاتها لتتحقَّق في العالم، في صورٍ
وأشكال وجود شتَّى، لا يمكن أن تكون تكرارًا لها (أي للهوية)، بل
استيعابًا لها وارتفاعًا بها إلى آفاقٍ أرقى تُدرِك فيها نفسَها حقًّا.
وهكذا يئول تصوُّر الموضوع (الوحي) خلوًا من الاختلاف، إلى اضمحلاله
ومواته؛ وذلك من حيث يبدو — آنئذٍ — مجرد وحدةٍ مغلقة لا سبيل إلى
الاحتفاظ بها إلا عَبْر مجرد تكرارها. والتكرار للفكرة — أي فكرة —
يفترض دائمًا تحوُّلها إلى نموذجٍ فارغ لا ينطوي على أي مضمونٍ محدَّد،
وينطوي — في نفس الوقت — على كل مضمون؛ الأمر الذي يعني كونها (أي
الفكرة) تجريدًا خالصًا ينطوي على كل شيء ولا شيء، ويخلو — لذلك —
من أي تعيُّن أو تحديد. وإذ التكرار، هكذا، يحيل الموضوع (الوحي)
إلى تجريدٍ خالص، فإنه يُفقِده وجوده الحق، ويجعله مجرد وجودٍ شكلانيٍّ
فارغ. والحق أن الوحي — وبحسب طبيعته الخاصة — لا يمكن أن يكون
مجرد وحدةٍ مغلقةٍ لا تقبل سوى التكرار؛ ذلك أنه — وبما هو خطاب في
العالم — لا يمكن إلا أن يكون مشروعًا مفتوحًا على الدوام، يسع
العالم خارجه ويتسع به في آنٍ معًا، وهو ما يجعله حاضرًا، لا عَبْر
مجرد التكرار، بل عَبْر التفاعل والحوار. ثم إنه — وككل خطاب — لا بد
أن يقصد، وحسب بنائه، آخَر خارج ذاته، وهو ما يعني أن «الآخَر»
يدخل في تركيب ماهيَّته الخاصة. وإذ الآخر، هكذا، يمثِّل جزءًا من
التركيب الباطني لماهية الوحي، فإن ذلك يكشف عن كون الاختلاف هو
جزءٌ من بناء تلك الماهية، وليس مفروضًا عليها من الخارج.
ومن هنا فإن الاختلاف، فيما يتعلق بالوحي، لا يمكن أن يكون مما
يهدَّد ويقوَّض، بل لعله — بالأحرى — مما يعيَّن ويحدَّد؛ وأعني أنه يسمح
بتحقيق الهُوية الصورية للوحي في أشكالِ وجودٍ محددة؛ فإذ الوحي
ينطوي، كهويةٍ مجردة، على كل شيءٍ ولا شيء في آنٍ معًا، وذلك من حيث
إنها تخلو من التحديد والتعيين، فإن الاختلاف هو ما يسمح بتعيين
شيءٍ ما في مواجهة شيءٍ آخر داخل هذا الحضور لكل شيء ولا شيء؛ وأعني
أنه يعيِّن شكلًا ما للوجود في مواجهة شكل، أو أشكالٍ معيَّنةٍ أخرى.
وعَبْر هذا التعيين للوحي في أشكال وجود، فإن الاختلاف لا يحقِّقه فقط
في العالم عَبْر الكشف عن ممكناته المضمَرة، بل ويسمح له بتجاوز ذاته
على الدوام؛ لأن هذه الأشكال المحدَّدة، التي يتعيَّن فيها، سرعان ما
تستنفد — بسبب ما تنطوي عليه من محدودية — طاقتها في الوجود،
فيتجاوزها الوحي إلى أشكالٍ أرقى يحقق عَبْرها المزيد من الوعي بما
تنطوي عليه ذاته من ممكنات، وكذا يكشف من خلالها عن نمط حضوره
الفعَّال والخلَّاق في العالم.
ولعله يبدو — تبعًا لذلك — استحالة إقصاء الاختلاف عن دائرة
الوحي، لأنه جزءٌ جوهري من بنائه، حتى ليئول غيابُه إلى مواته
واضمحلاله؛ وهو ما يعني، بالطبع، أن الإقصاء الأشعري للاختلاف عن
دائرة الوحي هو ما يهدِّد هويته، وليس العكس. ومن هنا وجوب النظر إلى
هذا الإقصاء الأشعري للاختلاف عن دائرة الوحي، باعتباره مجرد قناع
للسعي الجوهري إلى إقصاء التعدُّد والاختلاف من العالم؛ وأعني أنه
ليس نتاج الحرص على الوحي، بل على امتلاك العالم بالأحرى؛ إذ الحق
أن الاختلاف في دائرة الوحي لا يمكن البتَّة تصوُّره بمعزلٍ عن تصوُّر
التعدد والاختلاف في العالم. ومن هنا فإنه إذا كان قد لاح، آنفًا،
أن الاختلاف هو جزءٌ من الطبيعة الباطنية الخاصة لماهية الوحي،
فإنه لا بد من التأكيد، الآن، على أنه يبقى مجرد إمكانية (وجوده
بالقوة) مشروطة بحضور التعدُّد في العالم؛ وبما يعني أنه (أي
الاختلاف) يكون جزءًا من بنية الوحي، لا بما هو كذلك، بل بما هو
خطاب في العالم مشروطٌ بالوضع الإنساني في لحظةٍ معيَّنة.
إذ الوحي بما هو حضورٌ في المطلَق لا ينطوي أبدًا على أي اختلاف
أو تعدُّد، بل يبقى مجرد وحدةٍ مغلقة لا ينفتح فيها الوحي على شيءٍ غير ذاته.
١٦٦ ومن هنا فإن حضوره في العالم هو فقط ما يجعل الاختلاف
جزءًا من بناء ماهيته؛ وذلك من حيث يفرض عليه هذا الحضور في
العالم، ضرورة التبلوُر كخطاب، لا يقصد فقط وضعًا إنسانيًّا معينًا
في لحظةٍ ما، بل ولا بد أن يتجاوزه أيضًا. وذلك من حيث يُفترض في
الوحي ضرورة أن تتخطى فاعليَّته، على الدوام، حدود أي لحظةٍ ما. ولعل
ذلك يعني أن تبلور الوحي كخطابٍ يتأسَّس جوهريًّا، على آليتَي
الاستيعاب والتجاوز؛ وبمعنى استيعاب الوضع القائم ثم تجاوزه إلى
أشكالِ وجودٍ أرقى. وإذ الاستيعاب — وكذا التجاوز — يكون دومًا في
مواجهة «آخر»، فإن ذلك يعني حضورًا للآخرية، وللاختلاف بالتالي، في
بناء ماهية الوحي الخاصة. والحق أن كون الاختلاف يُعَد جزءًا من بناء
الوحي — لأنه في الأصل جزء من بناء العالم — إنما يؤكِّد على أن
إقصاء الاختلاف من دائرة الوحي، ليس مقصودًا لذاته حسبما يعلن
الأشاعرة، بل من حيث دلالته على العالم فحسب.
١٦٧ وأعني أن تصوُّر الوحي وحدةً لا حضور فيها إلا لماهيته في
مقابل ذاتها (ودون أي إحالة إلى «آخر» خارجها)، يدُل على تصوُّر
للعالم لا مكان فيه بدوره إلا للنسَق «الأشعري» في مواجهة ذاته
(ودون أي حضور لآخر يقابله أيضًا). وإذ يبدو نفي الآخر من العالم
موازيًا لنفي انتمائه إلى دائرة «الوحي»، فإنه يبدو وكأن تكريس
النسَق لحضوره الأوحد في العالم لن يقوم فقط على تأكيد انتمائه وحده
إلى دائرة «الوحي»، بل وعلى التوحُّد معه (أي الوحي) بالأحرى؛ وبحيث
يبدو التنكُّر لنسق، آنئذٍ، تنكُّرًا للوحي ذاته، وخروجًا عنه يستحق
التكفير لا شك. وهكذا يبدو الجوهر العميق لإقصاء الاختلاف (عن
الوحي والعالم)، ماثلًا في سعي النسَق، لا إلى فرض هيمنته على
العالم فحسب، بل وإلى تأبيد هذه الهيمنة، وذلك عَبْر اعتبار الخروج
عنها موازيًا — أو مرادفًا — للخروج عن الدين بالكلية.
ولعل ذلك يتبدَّى، جليًّا، في إلحاح النسَق «الأشعري» على اعتبار
نفسه خطاب «أهل السنة والجماعة»، في مقابل غيره من خطابات «أهل
البدع والضلالة». وبلغة البغدادي، فإنه خطاب «الدين القويم والصراط
المستقيم» الذي يفارق خطابات «الأهواء المنكوسة والآراء المعكوسة.»
١٦٨ ولا بد هنا، من التنويه بأن اختصاصَ النسَق بوصف
«الجماعة» يبدو دالًّا تمامًا فيما يتعلق بسعيه إلى إقصاء التعدُّد
والاختلاف، بل إنه يبدو وكأن مفهوم «الجماعة» قد تبلور، أصلًا،
كنقيض لمفهوم «الاختلاف والتعدد» لا غير؛ وذلك من حيث يحمل معنى
الإزاحة لكل ما لا ينتمي إلى إطاره الخاص؛ إذ الجماعة — أي جماعة —
لا تتعيَّن إلا بتمييز نفسها في مواجهةِ آخرَ يقابلها؛ وهي إذ تتميز
بأن تثبت لنفسها سماتٍ يخلو منها الآخر في مواجهتها، فإن ذلك يعني
نفيَ ما يقابل هذه السمات في الآخر؛ الأمر الذي يعني أن النفي هو
مضمون العلاقة بين الجماعة والآخر. وهكذا تتكامل ضروب النفي للآخر
من الجماعة والعالم والوحي؛ وذلك على النحو الذي يبدو فيه وكأن نفي
انتماء الآخر إلى إطار الجماعة يتوازى، ليس فقط مع نفي انتمائه إلى
دائرة الوحي، بل ومع نفيه من العالم أيضًا.
وفي المقابل، فإنه يبدو وكأن الانتماء إلى كلٍّ من «الوحي والعالم»
لا يمكن أن يتحقق إلا عَبْر الانخراط في تلك الجماعة ومفارقة ما
عداها؛ وبحيث يبدو أن الانطواء ضمن إطار الجماعة هو انطواءٌ ضمن
إطار الوحي، والانفكاك عنها هو انفكاكٌ عنه لا شك. ومن هنا فإن سعي
النسق إلى اختصاص نفسه بوصف الجماعة،
١٦٩ لا يمكن أن يكون — حسب المُعلَن — ناتجًا عن أن «معظم
الأئمة ينتحلون مذهبهم، ويجتمعون على طريقهم، وهو الغالب على بلاد المسلمين»،
١٧٠ بل هو نتاج السعي إلى الهيمنة عَبْر الإقصاء المتعمَّد لكل
اختلاف وآخَرية. وإذ راح النسَق كذلك يسعى إلى الإيحاء بأن اختصاصه
بوصف «الجماعة»، لم يكن من ذاته، بل من غيره، وذلك «لأن جميع الخاص
والعام من أهل الفرق المختلفة [هم الذين] يُسمُّونهم أهل السنة والجماعة»،
١٧١ وليسوا هم الذين يسمُّون أنفسهم هكذا، فإنه لا بد من
التنويه بأن ذلك ليس إلا تمويهًا عَبْر الإيحاء بأن اختصاصه بهذا
الوصف، قد جاء تعبيرًا عن «واقع»، وليس انحيازًا ﻟ «قيمة». لكنه
يبدو أن ظلال القيمة لا تُفارِق أبدًا وصف الجماعة، إنْ من حيث أصله؛
حيث آثر النسَق إلا أن يردَّه إلى النبي نفسه، وإن من حيث دلالته على
الفرقة الناجية حسب النبي نفسه أيضًا.
١٧٢ ومن هنا؛ أعني من هذا الانحياز لقيمة، يتبلور الحضور
الجوهري لمفهوم «الجماعة» في المخيال الإسلامي على العموم، وإلى
الحد الذي بات معه «إنكار الإجماع» — وبما يتضمنه من دلالة مفارقة
الجماعة — من الأمور المستحقَّة للتكفير حسب الأشاعرة.
١٧٣
وليس من شكٍّ في أن هذا الإلحاح على «الإجماع» — أو الجماعة —
يرتبط بما يتضمَّنه من دلالة «التوحُّد»، التي تجعل بالإمكان المماثلة
بينه وبين لحظة الفضل الأولى، التي تصوَّر الأشاعرة — فيما سبقَت
الإشارة — أنها تتأسَّس جوهريًّا على الوحدة. وإذن فإنه يمثِّل السعي
إلى استعادة الوحدة الجوهرية الأولى (وحدة النبوة) السابقة على كل
اختلاف؛ والذي يمثِّل — حسب التصوُّر المجرَّد للوحدة — نقيضًا لها يهدِّد
وجودها ويقوِّضه، وليس عامل إثراء يقوم في باطنها بما يُضفيه عليها من
تنوُّع وتعدُّد يكون باطنًا فيها لا خارجًا عنها. ومن هذا التصوُّر
للاختلاف كعامل إهدار وتقويض، وليس عامل إثراء وتجديد (لوحدة الوحي
الأولى)، فإنه يبقَى وحده هو الأصل المؤسِّس لكل التاريخ اللاحق للحظة
الفضل والقيمة (أي لحظة الوحدة الأولى)؛ والذي لا بد أن يكون تاريخ
انهيار وتدهور، وذلك بما ينطوي عليه — حسب الأشاعرة بالطبع — من
إهدار وحدة الوحي الأولى وتقويضها من جهة، مع الإيغال في البعد
والغربة عنها من جهةٍ أخرى. والمهم، هنا، أن هذا الانهيار والتدهور
في التاريخ يبدو نتاج تصورٍ ما للاختلاف، وليس نتاج الاختلاف بما
هو كذلك.
إذ الحق أن ثمَّة تصورًا للاختلاف يكون فيه جزءًا من الوحدة
(يُثريها بالتنوُّع ويُغنيها بالتعدُّد)، وليس مجرد نقيضٍ لها يقوم
خارجها. ولقد بدا أن الاختلاف — حسب هذا التصور — يبدو جوهريًّا
بالنسبة لحضور الوحي وفاعليته في العالم؛ وذلك إلى الحد الذي يئول
فيه إقصاؤه عن دائرة الوحي إلى اضمحلاله ومواته. ولعل الاختلاف
هكذا؛ أعني من حيث يئول غيابه إلى اضمحلال الوحي ومواته، لا يمكن
أن يكون جوهرًا لتاريخ الانهيار والتدهور الذي تصوَّره الأشاعرة مجرد
نتاجٍ له لا غير، بل هو — بالأحرى — جوهر تاريخ تجدُّد الوحي ونمائه
من خلال استيعابه — وليس استبعاده — لكل ضروب التعدُّد والثراء في
التجربة البشرية. وحسب هذا التصوُّر للاختلاف، فإن نفيه وإقصاءه —
وليس العكس — يكون هو الأصل في التدهور التاريخي؛ وذلك من حيث يئول
إلى موات الوحي الذي هو مركز الحضارة. ومن هنا فإنه لا يمكن تصوُّر
الإلحاح الأشعري على إقصاء الاختلاف بالكلية، بوصفه جزءًا من السعي
إلى رفع «تاريخ التدهور» بقَدْر ما هو السعي إلى تكريس «تاريخ
الهيمنة» عَبْر نفي الآخر واستبعاده، وليس احتوائه واستيعابه. ولعل
هذه الهيمنة بالأحرى، هي الأصل المؤسِّس لتاريخ التدهور والانهيار،
وذلك من حيث تئول إلى تَكلُّس الوحي وضموره. وإذ يقتضي هذا التصور
لأصل التدهور في التاريخ، إعادة بناء لحظة الفضل الأولى، على نحوٍ
يبدو فيه جوهرها ماثلًا في كونها لحظة ثراء وتعدُّد، وبحيث يمثِّل
السعي إلى نفي الآخر منها، بداية الانهيار والتدهور، فإن ذلك يعني
أن «المثل التاريخي الأعلى» — حسب هذا التصور — يبدو ماثلًا في
تحقيق المزيد من «الحرية والتعدُّد» وليس «الهيمنة والتفرُّد».
والحق أن ذلك يعني أن التصور بأَسْره؛ وأعني تصوُّر التاريخ — حسب
الأشاعرة — منقسمًا بين اللحظة-النموذج (وجوهرها الوحدة) من جهة،
ولحظات انهيار تتلوها (يؤسِّسها الاختلاف) من جهةٍ أخرى، وتصوُّر المثل
التاريخي الأعلى قائمًا — تبعًا لذلك — في النبذ الدائم للاختلاف
(الذي هو علامة الانهيار) سعيًا إلى بلوغ الوحدة (التي هي علامة
الفضل والقيمة)، إنما هو نتاج سعي النسَق الأشعري إلى مجرد «الهيمنة
والتفرُّد» في العالم، عَبْر نفي كافة الأنساق الأخرى، وذلك على الرغم
مما يعلنه النسَق دومًا من أن ذلك هو نتاجُ حرصِه على نقاء الوحي
ووحدته التي تبدِّدها هذه الأنساق المنحرفة.
١٧٤
وإذ يبقى الاختلاف — حسب الأشاعرة — هو ما يؤسِّس كل تاريخ
الانهيار والتدهور، أو حتى التكفير، فإنه يبدو وكأن هذا التكفير
يتكامل — ولكن بالتضاد — مع التفضيل الذي ينبني، في مقابل الاختلاف
والتعدُّد (المؤسِّس للتكفير) على الوحدة أو التوحُّد. واللافت حقًّا أن
هذا التكامل بينهما بالتضاد يكتمل، هو نفسه، بتصوُّر الاختلاف يتأسَّس
على غياب الحضور الشخصي للنبي، في مقابل انبناء التوحُّد على الحضور
الشخصي له بالطبع، وذلك من حيث لم يحُل هذا الحضور الشخصي للنبي دون
الاختلاف بين الجماعة فحسب، بل إنه أصبح وحده الضامن لوحدة الجماعة
واتفاقها على رأيٍ واحد، وذلك من خلال ما يتضمَّنه هذا الحضور للنبي
من النطق عن الوحي، لا الهوى. وأما غياب الحضور الشخصي للنبي، فإنه
— وحتى رغم حضوره الرمزي من خلال الكتاب والسنة — قد آل إلى
الاختلاف والتنازع، بل وحتى إلى الكفر والضلال، وذلك باعتبار أن
معظم النطق بعده — إلا ما ينطق به النسَق الأشعري بالطبع — لا يكون
عن الوحي، بل عن الهوى. وإذ النطق عن الوحي (أساس الوحدة) هو — على
هذا النحو — قرينُ الحضور الشخصي للنبي، فيما النطق عن الهوى (أصل
الاختلاف) هو قرينُ غيابه الشخصي، فإن ذلك يكشف عن استحالة رفع
التدهور (الذي يؤسِّسه الاختلاف)، تمامًا مثلما بدا — فيما سبق —
استحالة استعادة الوحدة (أصل الفضل والقيمة)، وذلك من حيث يبقى
كلاهما مشروطًا بما يتعلق بالنبي-الشخص، وليس بالقيمة الموضوعية
التي تمثِّلها نبوَّته. ولعل ذلك يئول إلى أنه ليس ثمَّة عند الأشاعرة
أي حضورٍ للتاريخ الحق، وذلك من حيث لا يتكشَّف هذا التاريخ (سواء
تعلق بالفضل أو التدهور) عن أي بنيةٍ موضوعية.
وبالرغم من هذا التقابل، وإلى حدِّ التضاد، بين كلٍّ من التفضيل
(ينبني على الوحدة)، والتكفير (ينبني على الاختلاف)، فإن ضربًا من
التحليل المعرفي يئول إلى أن التكفير يتجلَّى عن نفس البنية العميقة
التي يتكشَّف عنها التفضيل؛ وبما يعني أن ثابتًا بنيويًّا واحدًا
ينتظمهما، رغم الاختلاف،
١٧٥ وأن نظامًا معرفيًّا واحدًا هو الذي أنتجهما، رغم
التباين؛ فإذ التفضيل يتكشَّف — وفيما سبق القول — عن السعي إلى
نمذجة لحظة الفضل، وبحيث تستحيل إلى نموذجٍ مطلَقٍ خارج أي تاريخ، لكي
يُقاس عليه أي فضلٍ لاحق في حال وجوده بالطبع، فإن التكفير، بدوره،
يتكشف عن ذات السعي إلى نمذجة لحظة الكفر الأولى (كفر إبليس)،
واعتبارها نموذجًا مطلقًا للكفر الذي يقع خارج التاريخ، ويُقاس عليه
أيضًا كل كفرٍ لاحق. «فمن المعلوم الذي لا مرية فيه أن كل شبهةٍ وقعَت
لبني آدم، فإنما وقعَت من إضلال الشيطان الرجيم [إبليس] ووساوسه،
ونشأَت من شبهاته، وإذا كانت الشبهات [الخاصة بإبليس] محصورةً في
سبع، عادت كبار البدع والضلالات [اللاحقة] إلى سبع، ولا يجوز أن
تعدُوَ شبهات فرق الزيغ والكفر والضلال هذه الشبهات، وإن اختلفَت
العبارات وتباينَت الطرق، فإنها [أي شبهات إبليس] بالنسبة إلى أنواع
الضلالات (الخاصة بالفرق) كالبذور»؛
١٧٦ أو أنها — وبتعبير الشهرستاني نفسه — هي المصدر أو
الجوهَر، وأما ضلالات الفرق فإنها المظهَر.
وإذ يبدو أن كل كفرٍ لاحق، هو مجرد تكرار لكفرٍ أوليٍّ سابق،
١٧٧ فإن ذلك يئول إلى أن التاريخ الأشعري بأَسْره يبقى مجرد
تكرارٍ شائه للنماذج المطلقة خارجه، وذلك من حيث إن تصوُّر الكفر
هكذا، يرتبط بنيويًّا بتصوُّر أن كل فضلٍ لاحق (للنبوة) لا بد أن
يكون، بدوره، مجرد تكرارٍ للفضلِ الأوليِّ السابق؛ وبما يعني أن
التاريخ لا يتكشَّف (فضلًا أو كفرًا) عن شيءٍ يغاير ما كان موجودًا
قبلًا البتة. واللافتُ أيضًا أن حركة الكفر من «الكفر النموذج-المطلق» إلى كل كفرٍ لاحق،
تبدو حركة انهيار وتدهور، وذلك من حيث
يبدو هذا الكفر اللاحق مجرد مسخٍ أو تكرارٍ شائه (تشوُّه الفرع
بالنسبة للأصل) للكفر الأصلي السابق. وهكذا يبدو الانهيار والتدهور
ثابتًا بنيويًّا ينتظم، لا حركة الفضل فقط، بل وحركة الكفر كذلك؛
وهو ما يعني أن التاريخ الأشعري، رغم ثنائية الفضل والكفر، لا يعرف
البتة شيئًا إلا محض التدهوُر والانهيار.
ولعل هذه الوحدة البنيوية (الثاوية خلف كلٍّ من التفضيل والتكفير)
تتبدَّى على نحوٍ لافت من ملاحظة أنه إذا كان السعي إلى نمذجة «لحظة
الفضل» قد آل إلى أن تصبح موضوعًا لمجرد التعظيم «الأخلاقي»، وليس
التمثُّل «المعرفي»، فإن السعي إلى نمذجة «لحظة الكفر» قد آل بها
أيضًا إلى أن تصبح موضوعًا لمجرد الإدانة أو التحقير «الأخلاقي»
وليس التمثُّل «المعرفي»؛ وأعني أن السعي إلى نمذجتهما قد آل إلى أن
يكون الموقف منهما معًا من طبيعةٍ أخلاقية، لا معرفية، وذلك رغم أن
هذه «الأخلاقية» تتبدَّى تارةً عَبْر التعظيم، وتارةً أخرى عَبْر
التحقير.
وإذ الفعل المعرفي يقوم على تجاوُزٍ لموضوعه، بعد احتوائه
واستيعابه بالطبع، فإن الموقف الأخلاقي لا ينطوي إلا على مجرد
الاستغراق في موضوعه، لا تجاوزه؛ الأمر الذي يعني أن الموقف
الأخلاقي (سواء من لحظة الفضل أو الكفر) لا يفعل إلا أن يجعلهما
مجرد موضوعَين للتكرار، وليس التجاوز. ومن هنا فإنه إذا كان قد بدا
فعلًا أن الوعي الأشعري لم يعرف، فيما يتعلق بلحظة الفضل (أو عصر
النبوة)، إلا مجرد التكرار، لا التجاوُز أو حتى الحوار، فإنه —
وفيما يتعلق بالكفر أيضًا — لم يفعل إلا أن تصوَّر كل كفرٍ لاحق بما
هو مجرد تكرار، لا يجاوز نموذج الكفر الأصلي السابق.
١٧٨
وإذا كان التكرار — فيما سبق القول — قد آل فيما يتعلق بلحظة
الفضل (أو عصر النبوة) إلى جمود الوحي واضمحلاله؛ وذلك من حيث يعكس
هذا التكرار عجزًا عن الوعي بالروح الحقَّة للوحي، وبثراء الممكنات
التي تنطوي عليها ذاته، فإنه قد آل أيضًا — فيما يتعلق بفرق الضلال
(التي تجسِّد نموذج الضلال الأصلي السابق) — إلى العجز عن إنتاج أي
معرفةٍ حقَّة بها؛ فهو إذ راح يرى في الفِرق-الخصوم مجرد صورٍ لضلالٍ سابق،
١٧٩ فإنه كان يكشف عن انشغاله، لا بالمعرفة الحقة بها، بل
بما يدعم إمكان المماثلة
١٨٠ التي يُقيمها بين ضلال هذه الفرق، وبين الضلال الأصلي
السابق. وأعني أن الوعي، هنا، لم يكن يتجه إلى قراءة النسَق الخاص
بكل فرقة وإدراكه من داخله، بل يتجه إلى الرصد الخارجي المحض لكل
ما يجعل المماثلة ممكنةً بين فرقةٍ ما، وبين نموذج الضلال السابق؛ إذ
القصد لم يكن أبدًا إنتاج علمٍ منضبط بالفرق، بل السعي إلى التماس
كل ما يكرِّس إدانتها؛ وأعني أنه — وبكلمةٍ واحدة — لم يكن الفهم، بل
الحكم؛ أي الانشغال بمجرد إصدار الأحكام على الفِرق، وليس
فهمها.
ومن حسن الحظ أن ذلك ما تؤكِّده مصنَّفات الفِرق، التي تجعل غايتها
في مجرد «التمييز بين الفرقة الناجية التي لا يزلُّ بها القدم، ولا
تزول عنها النِّعَم، وبين فِرق الضلال الذين يرون ظلام الظلم نورًا،
واعتقاد الحق ثبورًا، وسيصلَون سعيرًا، ولا يجدون من الله نصيرًا»،
١٨١ أو «بيان أوصافِ عقائدِ أهل الدين، وفضائحِ أهل الزيغ والملحدين»،
١٨٢ وبما ينطوي عليه هذا البيان والتمييز من دلالة الإدانة
والبراءة التي تؤكِّد أن الغاية فيها هي مجرد الحكم، وليس الفهم.
ولقد آل ذلك بالفرق إلى أن تكون مجرد صورٍ نمطية للضلال، يلحق بها
الخطاب المهيمن كل ما يراه انحرافًا عن مجمل تصوُّراته؛ وبحيث يبدو
كل انحراف في التاريخ هو مجرد تكرارٍ لانحرافٍ سبق وجوده. ولعل في
ذلك ما يفسِّر إلحاح الخطاب الراهن على أن يرى في الخارجين عليه مجرد
تكرارٍ لنمط الخوارج في الخروج، وبما يعني أن التاريخ لا يتكشف
البتة عن شيءٍ يغاير ما كانه.
وأخيرًا فإن الوحدة البنيوية بين كلٍّ من التفضيل والتكفير يؤكِّدها
أن كونهما — بسبب نمذجتهما — موضوعَين لموقفٍ أخلاقي، لا معرفي،
يجعلهما — كالأخلاق الأشعرية عمومًا — موضوعَين للنقل، لا العقل،
وبما يعني أن السبيل إلى معرفتهما معًا لا مدخل فيه البتة للعقل.
ومن هنا فإنه إذا كان الفضل «لا يُعرف إلا ببرهانٍ مسموعٍ من الله
تعالى في القرآن، أو من كلام رسول الله»،
١٨٣ فإن الكفر، بدوره، هو مما «لا مجال لدليل العقل فيه البتة.»
١٨٤ والحق أنه يبدو — لذلك — وكأن التكفير هو التفضيل
معكوسًا، وأن العلاقة بينهما تتجاوز مجرد تجاورهما الخارجي في ختام
نسَق العقائد، إلى ضرب من الارتباط الباطني يتضافران فيه معًا
لبلورة تصوُّر متكامل، يبدو فيه التاريخ، لا انهيارًا وتدهورًا فقط،
بل وتكرارًا مملًّا لا يعرف التجاوز والتخطِّي.
ولعله يبقى لازمًا ضرورة اختبار هذا التصور تجريبيًّا، وهنا فإن
قراءة لابن خلدون تبدو الأكثر دلالةً في هذا السياق، وذلك من حيث لم
يكتفِ الرجل بمجرد التأريخ، بل حاول التنظير له والتفلسُف فيه. ومن
حُسن الحظ أنه — ورغم ثراء نصِّه وغناه — يؤكِّد هذا التصوُّر عن التاريخ،
رغم ما يبدو عليه من آلية وعقم، بل إنه يبدو وكأن النص الخلدوني
(أعني المقدمة) مُكرَّسٌ بأَسْره لدعم هذا التصوُّر وتأكيده، وأن ابن
خلدون لم يفعل إلا أن راح يُفلسِف التاريخ الإسلامي إلى عصره طبقًا
لهذا التصوُّر (الذي تبلوَر في سياق عقائدي مجرد) وذلك بالرغم مما
يجري تداولُه في فضاء نصه من مفاهيمَ ومقولاتٍ ذات طابعٍ علمي
ومتعين.
اختبار التصور الأشعري للتاريخ: ابن خلدون نموذجًا
لعل قراءة لابن خلدون تُعاكِس السائد والمستقر في أغلب الدراسات
الخلدونية، يلزمها التنويه أولًا، بأن النص الخلدوني — وككل النصوص
المؤسِّسة — ينطوي، لا على صعيد بنية مفاهيمه فقط، بل وبنيته اللغوية أيضًا،
١٨٥ على ما يجعله إطارًا لضروب من القراءة والتأويل تتنوَّع
إلى حدِّ التباين، وتتباين أحيانًا إلى حدِّ التناقُض؛ وأعني أن النص،
وبما ينطوي عليه من ثراءٍ ظاهر،
١٨٦ يُعَد واحدًا من تلك النصوص المولِّدة لما يتجاوز
منطوقها المباشر. وإذ يعني ذلك أن ثمَّة ما هو مسكوتٌ عنه داخل النص
الخلدوني يبرِّر تولُّد التأويلات وتعدُّدها، فإن هذا المسكوت عنه لا
يمكن التماسُه البتة، أو النطق به، من خارج جملة السياقات المنتجة
للنص؛ وأعني أن القراءة الأكثر علميةً وإحكامًا ستكون هي تلك الأكثر
قدرةً على ردِّ النص إلى سياقه التاريخي (الذي ينطوي على جملة الشروط
المحدِّدة لعملية إنتاجه تاريخيًّا) وإلى أفقِه المعرفي (الذي يعيِّن
حدود المسموح وغير المسموح التفكير فيه)، وإلا فإن الاجتزاء
والتعسُّف يكون — فيما سيظهر — قدَر أي قراءةٍ تضع النص في سياقٍ تاريخي
ومعرفي لا ينتمي إليه؛ وهي قراءةٌ راح فيها ابن خلدون ينطق بآراء
كونت ومونتسكيو وماركس وغيرهم، وراحت مصطلحاته تتلبَّس بمعانٍ
ودلالاتٍ تبلورَت فقط في سياقٍ معرفيٍّ معاصر، ولم تكن قد تحدَّدَت في عصر
ابن خلدون.
١٨٧ ولقد راح النص الخلدوني، ضمن هذه القراءة يتضمن طموحًا
إلى بناء جملة مفاهيمَ يُفلسِف بها التاريخ العام للإنسانية (رغم أن
ابن خلدون نفسه قد أكد أن مجال تفكيره التاريخي يقف عند حدود
التجربة الإسلامية على العموم، والتجربة المغربية الأندلسية خاصة)،
١٨٨ وهو جهاز يتسع لمفاهيمَ جعلَت ابن خلدون، عند البعض، أحد
أهم رُوَّاد المادية التاريخية.
١٨٩
والمُلاحَظ أن كل القراءات للنص الخلدوني خارج سياقه الخاص قد
انتهت، حين أدركَت في النص بعضَ ما يُناقِض انتماءه إلى السياق المعاصر
الذي تفرضه عليه، إلى أن هذا النقيض يُعَد استطرادًا زائدًا على
الروح العلمية أو العقلانية للمقدمة، وغريبًا عنها؛ إذ «الترابط
المنطقي الفريد المُلاحَظ في المقدِّمة هو من العمق والدقة بحيث يُصبِح
من حقِّ الباحث [لا سيما في حالة اعتماده هذا الترابُط كأساسٍ لبنية
المقدمة الداخلية، وكمحكٍّ لتقويمها] حتى التشكيك بعائدية بعض
أجزائها شخصيًّا، وفعلًا مهما حاول البعض تصوير جزء المقدِّمة الذي
يُعالِج قضايا النبوة والكهانة والرؤيا، وكأنه ظاهرةٌ اعتيادية
وطبيعية فيها، فإن هذا الجزء يبقى نوتة نشاز في مجمل هارموني
المقدمة، جسمًا غريبًا عنها، وعنصرًا دخيلًا عليها.»
١٩٠ وإذ كان الاستبعاد لأجزاءٍ من النص يبدو، هكذا، عملًا
يفرضه الترابُط المنطقي له، فإن ثمَّة من راح — في المقابل — يرى في
هذا الاستبعاد ذاته إهدارًا للترابط العميق في نص المقدمة، ومن هنا
ما تولَّد في نفسه من «اعتقادٍ قوي بأن الدراسات الخلدونية أصبحَت
اليوم في حاجةٍ ماسَّة إلى عملية [تصحيح] تعود بالفكر الخلدوني إلى
إطاره الأصلي، وتحتفظ له بكُليته وهُويته الحقيقية.»
١٩١
يبدو إذن أن ثمَّة قراءةً لنص المقدمة تسعى إلى تجاوز المأزق الذي
انتهت إليه القراءات السابقة له؛ والمتمثل في إهدار سياقه ووحدته،
وتبديد شموله وكُليته. وإذ اتخذَت هذه القراءة نقطةَ بدئها من «أن
الطريقة المثلى في دراسة فكر ابن خلدون يجب أن تنطلق من النظر إليه
ككُل، مع تجنِّب إخضاعه إلى مقاييسنا الراهنة، بل الرجوع به إلى روح
العصر والمفاهيم السائدة بين رجاله»،
١٩٢ فإنها قد انتهت إلى «أن ابن خلدون — خلافًا لما يذهب
إليه بعض الباحثين — لم يتحرَّر نهائيًّا من أطر التفكير السائدة آنئذٍ.»
١٩٣ لكن هذه القراءة، وانطلاقًا من الإصرار على القطيعة
المعرفية بين المشرق والمغرب، قد راحت تُلِح على «أن الأمر [مع ابن
خلدون وغيره من مفكِّري المغرب والأندلس] يتعلق فعلًا بلحظةٍ جديدة
تمامًا في تاريخ الفكر العربي، لحظة تميَّزَت بنقد الأساس
الإبستيمولوجي الذي قام عليه الحقل المعرفي البياني منذ عصر
التدوين، واقتراح أساسٍ جديد»،
١٩٤ فبدا وكأنها تميِّز في نص ابن خلدون بين «ملاحظاتٍ جزئية
أو وجهاتِ نظرٍ في هذه المسألة أو تلك»، تنتمي إلى أُطر التفكير
القديمة، وبين «طريقة في التفكير، ومفاهيم مُوظفة، وكيفية في
توظيفها» تؤسس لحظةً جديدة تمامًا في الفكر العربي. وبتعبير الجابري
فإنه «يمكن أن نختلف [مع ابن خلدون] حول ما يقرِّره من وجهات نظر في
هذه المسألة أو تلك، فهذا لا يهم، ولا يهمنا نحن بالذات، إنَّ ما
يهمنا هو طريقة التفكير والمفاهيم الموظَّفة وكيفية توظيفها.»
١٩٥
وإذن فالنص الخلدوني لا ينتمي — حسب هذه القراءة — إلى النظام
المعرفي السائد في عصره إلا من خلال بعض وجهات النظر الجزئية (التي
يمكن الاختلاف معها بالطبع)،
١٩٦ وأما من حيث طريقة التفكير التي تنتجه، وبنية المفاهيم
التي تنتظمه (وهي الأمور الحاسمة في التحليل حسب هذه القراءة) فإنه
يؤسِّس نظامًا معرفيًّا مناقضًا للنظام السائد. وهكذا يبدو وكأن هذه
القراءة تردُّ النص إلى سياقه الخاص، لا لتأكيد انتمائه إليه، بل
لإثبات انقطاعه عنه. والحق أنه بالرغم من أن ثمَّة «طريقة في
التفكير، ومفاهيم موظَّفة، وكيفية في توظيفها» يتميَّز بها ابن خلدون
داخل النسَق أو النظام السائد (وهو النسَق الأشعري)، فإن ذلك لا يعني
البتة انقطاعه عن هذا النسق … بل إنه فقط يتميَّز داخله، دون أن يقطع
معه؛ ذلك أن هذا الذي يتميز به ابن خلدون (أعني طريقة التفكير
وبنية المفاهيم) يبدو مستخدمًا ضمن حدود النسق، لا خارجه، أو
موظفًا لتكريس بنيته الثاوية؛ وأعني أنها — وبما تنطوي عليه من
اختلافٍ ومغايرة — تمثِّل القناع المتعين والملموس الذي يؤكِّد تصورًا
للتاريخ تبلوَر في سياق نسَق العقائد الأشعري.
ومن هنا فلعله يبدو أن طريقة التفكير وبنية المفاهيم المستخدَمة
في النص الخلدوني تمثِّل فقط أحد مستوياته التي يُمكِن تجاوزها إلى
مستوى بنيته الأعمق، أو ما يؤسِّسه فلسفيًّا وميتافيزيقيًّا؛
١٩٧ وهو المستوى الذي يتكشَّف — وعلى نحوٍ أعمق — عن انتماء
ابن خلدون إلى نفس النظام المعرفي السائد في عصره، لكن لا على نحوٍ
مباشر؛ إذ الحق أن حضور البنية العميقة للنسَق الأشعري (وهو السائد
في عصر ابن خلدون) داخل النص الخلدوني، لا يكون حضورًا مباشرًا، بل
من خلال طريقة في التفكير وبنيةٍ مفاهيميةٍ تبدو — للمفارقة — لا
غريبة فقط عن بنية النسَق، بل ونقيضة لها. ومن هنا فإن ابن خلدون
يبقى — رغم كل شيء — يفكِّر داخل النسق حقًّا، لكن على نحوٍ يلائم، لا
خصوصية حقله المعرفي فقط، بل ومجمل إنجازاته وكشوفه، التي لا سبيل
إلى إنكارها داخل هذا الحقل أيضًا.
والملاحظ أن البنية الأشعرية تنسرب داخل النص الخلدوني من خلال
جملة آليات تکاد تنتظم النص بأَسْره؛ وهي آلياتُ التدهور (من الأفضل
إلى الأقل تفضيلًا)، والنمذجة (للحظة-مثال)، والوعي الوضعي
بالواقع (أو النزوع إلى تثبيته)، والتي بدا — فيما سبق — أنها
تنتظم التصوُّر الأشعري للتاريخ؛ إذ التاريخ — حسب ابن خلدون — هو
مجرد دوراتٍ متكرِّرة من التدهور الدائم للعمران واضمحلاله؛ وهو تدهوُر
لا يمكن البتَّة رفعه؛ لأنه إنما يحدُث بمقتضى الطبع الذاتي للعمران،
ومن دون أن يكون مجرد عرضٍ طارئ عليه.
١٩٨ وبعبارة ابن خلدون فإن التدهور أو الهَرَم «من الأمراض
المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعُها، لما أنه أمرٌ طبيعي،
والأمور الطبيعية لا تتبدل.»
١٩٩ وهكذا يبلغ انحصار ابن خلدون داخل أفق التدهور أو
(الهرم) حد تصوره، لا على أنه ظاهرةٌ إنسانية أو تاريخية، بل «أمرٌ
طبيعيٌّ»؛ الأمر الذي يعني انفلاته من هيمنة الإنسان وقدرته على
تخطيه، بل الإنسان سيصبح — وحسب ابن خلدون — مجرد أداة لتحقُّق هذا
الأمر الطبيعي؛ الذي هو التدهور؛ إذ «قد يتنَبه كثيرٌ من أهل الدول
(والدولة عند ابن خلدون هي صورة العمران) ممن له يقظة في السياسة،
فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهَرَم، ويظن أنه ممكن الارتفاع،
فيأخذ نفسه بتلافي الدولة، وإصلاح مزاجها عند ذلك الهَرَم، ويحسبه
أنه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدولة وغفلتهم، وليس «الأمر»
كذلك، فإنها أمورٌ طبيعية للدولة، والعوائد هي المانعة له من
تلافيها، والعوائد منزلةٌ طبيعيةٌ أخرى.»
٢٠٠ يعني ابن خلدون أن عوائد البشر هي المانعة من تلافي
تدهور الدولة، ولكنه حين يرى بعضُهم يظن أن بالمقدور تغيير هذه
العوائد على نحوٍ يجنِّب الدولة التدهور، فإنه يُسارِع إلى التأكيد بأن
«العوائد منزلةٌ طبيعيةٌ أخرى»؛ الأمر الذي يعني استحالة تغييرها،
وتجنيب الدولة المصير الذي ينتظرها. وإذن، فالإنسان بعوائده التي
هي طبيعية تُفلِت من الهيمنة (ولا سبيل هنا البتة للتعويل على وعيه)
هو الأداة لتحقق التدهور. وهكذا، يمعن ابن خلدون في التأكيد على «طبيعية»
٢٠١ التدهور، وذلك عَبْر رد الجزء الذي يفعل به الإنسان في
دورة العمران إلى الطبيعة، لا الوعي.
ولعل ذلك يكشف عن كون التاريخ — حسب ابن خلدون — ليس إطارًا
لفاعلية الجماعة الإنسانية وتراكمًا لوعيها وخبرتها يمكن أن تُفيد
منه في صُنع تقدُّمها، بقَدْر ما هو إطارٌ تتحقق فيه نفس الدورة الطبيعية
المتكرَّرة للسقوط والتدهور؛ فكل دولة، ورغم وراثتها لتجربة الدولة
السابقة لا تستطيع البتة أن تُفلِت من المصير إلى التدهوُر والسقوط؛
حتى ليبدو وكأن الدولة اللاحقة لا ترث من الدولة السابقة إلا هذا
المصير إلى التدهور.
٢٠٢
فالتدهور، على طول المقدمة، هو الثابت الذي ينتظم دورة العمران
وما تقتضيه من عوائد وأحوال وصنائع وعلوم. ذلك أنه إذا كان المظهر
الأساسي لدورة العمران يتمثل، على العموم، في الانتقال من البداوة
إلى الحضارة، أو على الخصوص في التحول من الخلافة إلى الملك، فإن
هذا الانتقال أو التحوُّل ينطوي أبدًا على دلالة الانحدار والتدهور؛
وذلك من حيث إنه يكون دومًا من الأفضل إلى الأقل فضلًا. وهكذا فإنه
إذ ينطوي طَوْر البداوة على ما يجعل ابن خلدون يخصِّص فصلًا «في أن أهل
البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر» وآخر «في أن أهل البدو أقرب
إلى الشجاعة من أهل الحضر»،
٢٠٣ فإنه يَمْضي — في المقابل — إلى «أن الحضارة هي نهاية
العمران، وخروجه إلى الفساد، ونهاية الشر (أي بلوغه الذروة)،
والبعد عن الخير.»
٢٠٤
وبعبارة أظهر، فإنه إذا كانت أخلاق البداوة «أقرب إلى الفطرة
الأولى، وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد
المذمومة وقبحها … فإن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد.»
٢٠٥ وليس من شك في أن ذلك يعني أن اللحظة الثانية في الزوج
(بداوة/حضارة) تمثِّل تدهورًا لتلك السابقة عليها. وإذ يوازي ابن
خلدون بين هذا الانتقال من البداوة إلى الحضارة، وبين التحوُّل من
الخلافة إلى المُلك، فإن ذلك يئول إلى أن لحظة «المُلك» تمثِّل ضربًا
من التدهور والسقوط — لا ريب — بالنسبة للحظة الخلافة. وذلك أنه
إذا كان «الأمر في أوله خلافة، ووازع كل أحدٍ فيها من نفسه وهو
الدين، وكانوا يُؤثِرونه على أمور دنياهم، وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم
دون الكافة … [فإن الأمر بعد ذلك قد] صار إلى المُلك وبقيت معاني
الخلافة من تحرِّي الدين ومذاهبه، والجري على منهاج الحق، ولم يظهر
التغيُّر إلا في الوازع الذي كان دينًا ثم انقلب عصبيةً وسيفًا … ثم
ذهبَت معاني الخلافة ولم يبقَ إلا اسمها، وصار الأمر ملكًا بحتًا،
وجرت طبيعة التغلُّب إلى غايتها، واستعملَت في أغراضها من القهر
والتقلب في الشهوات والملاذ … ثم ذهب رسمُ الخلافة وأثرُها بذهاب
عصبية العرب، وفناء جيلهم، وتلاشي أحوالهم.»
٢٠٦ وهكذا ينطوي التحوُّل على التدهور من «الخلافة»، لا بما
تَعنيه فقط من تحري الدين والجري على منهاج الحق وبما صاحبها من
«الإذن للعرب في انتزاع ما بأيدي الأمم الأخرى [الروم والفرس] من
الملك والدنيا، فغلَبوهم عليه، وانتزعوه منهم»،
٢٠٧ إلى المُلك الذي يُحيل، لا إلى مجرد «القهر والتقلب في
الشهوات والملاذ»، بل وإلى «ذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي
أحوالهم». والمُلاحظ أن دورة التدهور من «الخلافة إلى الملك» تُوازِي
تمامًا دورة التدهور «من البداوة إلى الحضارة»؛ لأنه إذا كان قد
بدا «أن الخلافة قد وجدَت بدون المُلك أولًا، ثم التبسَت معانيهما
واختلطَت، ثم انفرد المُلك حيث افترقَت عصبيتُه من عصبية الخلافة»،
٢٠٨ فإن ذلك يَعْني أن دورة التحوُّل هذه، هي دورةٌ ثلاثية
يتحقَّق فيها الانتقال من الخلافة إلى المُلك عَبْر مرحلةٍ وسطى «التبسَت
فيها معانيهما واختلطَت»، وهو ما يتوازى تمامًا مع دورة الانتقال من
البداوة إلى الحضارة، التي هي أيضًا دورةٌ ثلاثية يتحقق فيها
الانتقال عَبْر مرحلةٍ وسطى «تلتبس فيها معانيهما وتختلط»؛
٢٠٩ وبمعنى أن دورة التدهُور هي في النمطَين، ثلاثيةُ
الأطوار.
وإذ بدا التدهور، هكذا، هو المصير اللازم لدورة العمران أبدًا،
٢١٠ فإن كل ما تقتضيه دورة العمران من الصنائع والعلوم كان
لا بد أن يلزمه ذات المصير؛ أعني التدهور؛ إذ العلوم والصنائع هي،
كالأعراضِ الأشعرية، التي لا تنفَك عن الجوهر البتة. وهكذا فإنه «لا
تزال الصناعات [والعلوم] في التناقُص، ما زال [عمران] المِصْر في
التناقُص إلى أن تضمحل.»
٢١١ «وذلك لما بينَّا أن الصنائع [والعلوم] إنما تُستجاد إذا
احتيج إليها وكثر طلبها؛ وإذا ضعفَت أحوال المصر وأخذ في الهرَم
بانتقاص عمرانه وقلة ساكنه تناقص فيه الترَف، ورجعوا إلى الاقتصار
على الضروري من أحوالهم، فتَقِل الصنائع التي كانت من توابع الترَف.»
٢١٢ وانطلاقًا من هذه المقدمات فإنه «في كل مرة يكتب فيها
المؤلف [يعني ابن خلدون] تاريخ علم أو مؤسسة، فإنه يلاحظ انحطاطها»؛
٢١٣ وبما يعني أن صيرورة العلوم والصنائع لم تتكشَّف لابن
خلدون إلا عن الانحطاط والتدهور.
ولعل هذا الانحطاط للعلوم والصنائع، إنما يتأتى من كونها ليست
تعبيرًا عن النشاط الواعي للإنسان في العالم قصدَ إخضاعِه والسيطرة
عليه، بقَدْر ما هي توابعُ للترف؛ إذ الحق أن كونها من توابعِ الترف
يحولُ دون تبلورها كموضوعاتٍ مستقلةٍ تنطوي في باطنها على آلياتِ تطوُّرٍ
خاصة تستطيع بها أن تتجاوز التدهور (تدهورها الخاص أو تدهور
العمران بأَسْره). ومن جهةٍ أخرى فإن كونَ العِلم والصنائع هي مجرد
توابعَ لما ينتمي إلى «عالم الشهوة»، بما ينطوي عليه من هيمنة لعالم
الأشياء الخارجية على الإنسان، وليس إلى «عالم العقل» بما ينطوي
عليه من هيمنة الإنسان على عالم الأشياء، إنما يَكشِف عن كونها لا
تمثِّل تحريرًا للإنسان من عبوديته للأشياء (وتلك غاية كل نشاطٍ
إنسانيٍّ حق)، بقَدر ما هي تجسيدٌ لهذه العبودية ذاتها. وبذلك فإنها
تُحيل إلى وجودٍ إنساني لا يحقِّق أي تطوُّر، بل يتكشَّف بالأحرى، عن
مجرد التدهور. وهكذا تعكس العلوم والصنائع واقع التدهور، لا عَبْر
تاريخها، بل وعَبْر بنيتها الباطنية الخاصة أيضًا.
والحق أن هيمنة «التدهور» على بنية المقدمة، تتأكد على نحوٍ
نموذجي من خلال تحليل ما أوردَه عن «أمر الفاطمي وما يذهب إليه
الناس في شأنه، وكَشْف الغطاء عن ذلك.»
٢١٤ فإذ بدا لابن خلدون «أن المشهود بين الكافة من أهل
الإسلام على مَرِّ الإعصار، أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من
أهل البيت يؤيِّد الدين ويُظهِر العدل، ويتبعُه المسلمين، يستولي على
الممالك الإسلامية، ويُسمَّى بالمهدي، ويحتجُّون في هذا الشأن بأحاديثَ
خرَّجها الأئمة، وتكَّلم فيها المُنكِرون لذلك، وربما عارضوها ببعض
الأخبار، وللمتصوِّفة المتأخرين في أمر هذا الفاطمي طريقةٌ أخرى ونوعٌ
من الاستدلال، وربما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصلُ طرائقهم»،
٢١٥ فإنه — وانطلاقًا من الوعي بما ينطوي عليه هذا الحديث
من دلالةٍ تقدميةٍ تُناقِض تدهور تاريخه — لا يفعل إلا أن «يذكر
الأحاديث الواردة في هذا الشأن، وما للمنكرين فيها من المطاعين،
وما لهم في أفكارهم من المستند، ثم يتبعُه بذكر كلام المتصوفة
ورأيهم ليتبيَّن الصحيح من ذلك.»
٢١٦ وهكذا فإنه يمضي إلى «أن جماعة من الأئمة خرَّجوا أحاديث
المهدي، منهم الترمذي وأبو داود والبزَّار وابن ماجه والحاكم
والطبراني وأبو يعلي الموصلي [وليس بينها البخاري ومسلم على أي حال]،
٢١٧ وأسندوها إلى جماعة من الصحابة، بأسانيدَ ربما يعرض لها
المنكِرون كما نذكُره، [وإذ] المعروف عند أهل الحديث أن الجَرْح مقدَّم
على التعديل، فإذا وجدنا طعنًا في بعض رجال الأسانيد بغفلةٍ أو بسوء
حفظ أو ضعف أو سوء رأي تطرَّق ذلك إلى صحة الحديث وأوهَن منها.»
٢١٨
وابتداء من هذه القاعدة الخاصة بأن الطعن في بعض رجال الأسانيد،
يُوهن في صحة الحديث نفسه، فإن ابن خلدون راح يستعرض الأسانيد
الخاصة بالروايات المختلفة لهذا الحديث كاشفًا عن وجوه الطعن فيها.
وهكذا فإنه ليس ثمَّة في هذه الأسانيد إلا «المتهم الوضَّاع، رديء
الحفظ، سيِّئ المذهب، المجهول، الزائغ غير الثقة، المدلِّس، الضعيف،
الأحمق، ضعيف العقل، والمتَّهم بالكذب، والمتشيِّع.»
٢١٩ وإذا كان قد لوحظ أن مجرد تشيُّع أحد رجال السند، هو
من بين ما يُوهن روايته ويُضعف حديثه، فإن دلالة التشيُّع، كتهمة
تكفي بذاتها لإسقاط الحديث وإهداره كليًّا، سوف تبرُز بقوة مع
انتقال ابن خلدون إلى ذكر كلام المتصوِّفة ورأيهم في هذا
الشأن.
«وأما المتصوِّفة فلم يكن المتقدمون منهم يخوضون في شيء من هذا،
وإنما كان كلامهم في المجاهدة بالأعمال، وما يحصُل عنها من نتائج
المواجد والأحوال»،
٢٢٠ لكن تبلور المذاهب الشيعية الباطنية، بما تنطوي عليه
من القول بالإمام المعصوم والوصية والرجعة والحلول وانتظار عودة
الأمر في آل البيت من خلال عقيدة المهدي، كان لا بد أن يترك تأثيره
على التصوف، «فحدَث عند المتأخرين من الصوفية الكلام في الكشف وفيما
وراء الحس، وظهر من كثيرٍ منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة،
فشاركوا فيها الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة وحلول الإله
فيهم. وظهر منهم القول بالقُطب والابدال، وكأنه يحاكي مذهب الرافضة
في الإمام والنقباء، وأُشربوا أقوالَ الشيعة وتوغَّلوا في الديانة
بمذاهبهم، وامتلأَت كتبهم بمثل ذلك في الفاطمي المنتظر، مما يُفهم
منه ومن غيره مما تقدَّم دخولهم في التشيُّع، وانخراطهم في سلكه»،
٢٢١ وإذن فإنها آلية التضعيف بالتشيُّع هي ما يتبنَّاه ابن
خلدون في مواجهة متأخِّري الصوفية، لكنه يتجاوز ذلك إلى التعرُّض لما
يتطرَّقون إليه من «كلام يُعيِّنون فيه الوقت والرجل والمكان بأدلةٍ
واهية، وتحكُّماتٍ مختلفة، فينقضي الزمان، ولا أثَر لشيء من ذلك،
فيرجعون إلى تجديد رأيٍ آخرَ مُنتحَل كما تراه من مفهوماتٍ لغوية،
وأشياءَ تخيُّلية وأحكامٍ نجومية، وفي هذا انقضت أعمار الأول منهم والآخر.»
٢٢٢
وهكذا لا يتجاوز أمر المهدي، كما يتصوره الصوفية المتأخرون، مجرد
كونه أشياءَ تخيُّلية وأحكامًا نجومية. وهو كذلك لأن «الحق الذي ينبغي
أن يتقرَّر لديك أنه لا تتم دعوةٌ من الدين والمُلك إلا بوجود شوكةٍ
عصبيةٍ تُظهِره وتُدافِع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه. وقد قرَّرنا
ذلك من قبلُ بالبراهين القطعية التي أريناك هناك، وعصبية الفاطميين،
بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الأفاق»،
٢٢٣ ولهذا فإنه لا وجه البتة لظهور الفاطمي (أو المهدي)
المنتظَر. وهكذا يُمارِس ابن خلدون إقصاءً لا هوادة فيه لمفهوم
الفاطمي أو المهدي المنتظَر، وذلك ابتداءً من الطعن في أسانيد
الحديث (عن المهدي)، ثم الإيحاء بأنه من مُنتحَلات الشيعة التي
تداولها متأخِّرو الصوفية عنهم، إلى القطع باستحالة أي ظهورٍ له
لتعارُض ذلك مع طبائع العمران … وليس من شك في أنه كان إقصاءً
ضروريًّا، لتأكيد الاتساق في بنية المقدمة، عَبْر نفي كل ما يُناقِض
قانون التدهور ويدحضه.
وإذ التدهور هكذا، هو الثابت الذي ينتظم بنية المقدمة بأَسْرها
(وذلك من حيث ينتظم دورة العمران وكافة ما يلحق بها من أعراض)، فإن
ذلك يؤكِّد على أن ابن خلدون هو، كالأشاعرة، يُمارِس التفكير داخل نظام
التدهور والانحطاط.
٢٢٤ وبالرغم من ذلك فإنه يتميَّز، داخل النسَق الأشعري، بأن
راح يبحث في طبائع العمران ذاته عن العِلَل المباشرة لهذا التدهور؛
وبما يعني أن التدهور، عنده، يتميز بأنه نتاجُ عواملَ عينيةٍ ملموسة
(يمكن تحديدُها رغم استحالة رَفعِها لكونها من قبيل الطبيعي، لا
التاريخي)، وليس — كما هو عند الأشاعرة — نتاج مجرد البعد عن
اللحظة-النموذج (أعني لحظة النبوة). وإذن فالتدهور، عنده، لم يعُد
فقط نتاج تصوُّرٍ قبليٍّ محض (يقوم المؤرخ بإسقاطه على حقبةٍ ما)، بل
نتاج اختبارٍ محدَّد لتجربةٍ تاريخيةٍ ملموسة.
٢٢٥ ومن هنا فإنه يبدو وكأن ابن خلدون يتميَّز — ضمن النسَق
الأشعري — بالتطوير أو التنويع داخله، وليس أبدًا بالقطع معه.
حقًّا يمكن القول هنا، بأن ابن خلدون قد قطع مع الأداة (وذلك من
حيث لا يُسقِط تصورًا، بل يستقرئ تجربة)، ولكنه لم يقطع أبدًا مع
الرؤية (وذلك من حيث يبقى التدهور مهيمنًا على خطابه
التاريخي).
والحق أن الحضور الأشعري عند ابن خلدون، يتجاوز مجرد التفكير —
رغم التغايُر — داخل نظام التدهور والانحطاط، إلى التفكير في إطار
السعي إلى مَرْكزة ونَمْذجة اللحظة التي يبتدئ فيها التاريخ، وفي
التجربة الإسلامية خاصة، صيرورة تدهوره (وأعني لحظة النبوة
والخلافة بالطبع). وإذ الأشاعرة قد صاروا — وفيما سبقَت الإشارة —
إلى هذه النمذجة عَبْر تصوُّر هذه اللحظة خلوًا من أي وجهٍ للاختلاف
والتناقُض، فإن ذلك هو ما يفعله ابن خلدون بالضبط. ومن هنا فإنه إذا
كانت «العصبية» هي المفهوم المؤسِّس لخطابه التاريخي بأَسْره؛ وذلك من
حيث إن تحليلًا لتاريخ الدولة العربية الإسلامية لعهده لم يتكشَّف له
إلا عن هيمنة مفهوم العصبية على تاريخ هذه الدولة، حتى ليكاد أن
يكون قانونَ وجودها الأوحد، فإنه قد راح يستثني حقبتَي النبوة
والخلافة من هيمنة قانون العصبية الذي يُحيل إلى معاني القهر
والغلَبة بكل ما تنطوي عليه من اختلافٍ وتنازُع.
ﻓ «شأن العصبية المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العادة
لم يكن يومئذٍ [يعني إبَّان حقبتَي النبوة والخلافة] بذلك الاعتبار؛
لأن أمر الدين والإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليف القلوب
عليه، واستماتة الناس دونه؛ وذلك من أجل الأحوال التي كانوا
يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرهم، وتردُّد خبر السماء بينهم، وتجدُّد
خطاب الله في كل حادثةٍ تُتلى عليهم، فلم يُحتَج إلى مراعاة العصبية
لما شمل الناس من صبغة الانقياد والإذعان وما يستفزُّهم من تتابُع
المعجزات الخارقة والأحوال الإلهية الواقعة، والملائكة المتردِّدة
التي وجموا منها، ودهشوا من تتابُعها، فكان أمر الخلافة والملك
والعهد والعصبية وسائر هذه الأنواع مندرجًا في ذلك القبيل»؛
٢٢٦ يعني من قبيل الخارق للعادة.
٢٢٧
ولقد كان هذا الإقصاء لوقائع حقبتَي النبوة
٢٢٨ والخلافة، هو سبيل ابن خلدون إلى نمذجة اللحظة
الإسلامية الأولى (التي تطوي في جوفها هاتَين الحقبتَين)، وذلك عَبْر
إقصائه لأي اختلاف أو تنازُع لا بد أن تنطوي عليه العصبية (لكونها
لا تعرفُ إلا القهر والتغلب). ومن هنا فإن ابن خلدون لم يجد ما
يقوله في «شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة والتابعين»
إلا «أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية، وينشأ عن الاجتهاد في
الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبَرة. والمجتهدون إذا اختلفوا؛ فإن
قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفَين، ومن لم
يصادفه مخطئ، فإن جهته لا تتعيَّن بإجماع، فيبقى الكل على احتمال
الإصابة، ولا يتعيَّن المخطئ منهم، والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعًا
… [ولهذا] فإن غاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنه خلافٌ
اجتهادي في مسائلَ دينيةٍ ظنية.»
٢٢٩ وإذن فإنها الحروب يفسِّرها مجرد الاجتهاد.
والحق أنه إذا جاز أن يصادف المرء ذلك (وهو يصادفه بالفعل) عند
متكلمٍ كالأشعري
٢٣٠ يبدو حريصًا على تأسيس العقيدة، بأكثر من سعيه إلى
اكتناه الحقيقة، فإنه يبدو غريبًا حقًّا من مؤرخٍ في وزن ابن خلدون
ألَّا يرى مثلًا في وقائع ما عُرِف بأحداث الفتنة،
٢٣١ على خطورتها وما ترتَّب عليها من الانقسام في جسَد الأمة،
إلا ضربًا من التأويل يبقى الكُل فيه على احتمال الإصابة. إن ذلك من
الأمور الغريبة لأن العديد من المؤرخين الأسبق منه
٢٣٢ قد أفاضوا في تناول وقائع حقبتَي النبوة والخلافة بما
يدل على أن «العصبية القبلية» قد كانت أحدَ أهم المحدِّدات فيما دار
فيهما من وقائع؛ بل لعلها كانت أهمَّها جميعًا.
والمهم أن ابن خلدون — وعَبْر هذا الاقصاء للعصبية من جهة، وتصوُّره
من جهة أخرى أن الاجتهاد «هو الذي ينبغي أن تُحمل عليه أفعال السلف
من الصحابة والتابعين»
٢٣٣ — قد مضى يُمركِز لحظة التأسيس الأولى في الإسلام؛ حتى
لقد أحالها إلى نموذجٍ يستحيل تجاوزُه حين جعلها موضوعًا لخطابٍ
أخلاقي، لا معرفي؛ إذ الحق أن خطابه حول هذه اللحظة هو خطاب الأمر
والتحذير الذي يلخِّصه قولُه: «إياك أن تعوِّد نفسك أو لسانك التعرُّض
لأحدٍ منهم، ولا تشوِّش قلبك بالريب في شيءٍ مما وقع منهم، والتمِس
مذاهبَ الحق وطُرقَه ما استطَعت؛ فهم أولى الناس بذلك، وما اختلفوا إلا
عن بيِّنة، وما قاتلوا أو قُتِلوا إلا في سبيل جهادٍ أو إظهارِ حق.
واعتقِد مع ذلك أن اختلافهم رحمةٌ لمن بعدهم من الأمة، ليقتدي كل
واحدٍ بمن يختاره منهم، ويجعله إمامه وهاديه ودليله.»
٢٣٤ ويعني ذلك أنه ليس خطاب التحليل الذي هو «في باطنه
نظرٌ وتحقيق، وتعليلٌ للكائنات دقيق، وعلمٌ بكيفيات الوقائع
وأسبابها عميق.»
٢٣٥ وهكذا؛ من النهي عن التعرُّض لأفعال الصحابة، ليس فحسب
بالذم، بل بمجرد الفهم،
٢٣٦ ومن الأمر بقراءتها لا ضمن ما كانت عليه بالفعل، بل
ضمن سياقِ ما ينبغي أن تكونَ عليه، يكون ابن خلدون قد بلغ ذروة
المركَزة والنمذَجة للحظة التأسيس الأولى في الإسلام.
والملاحظ أن هذه النمذجة للحظةٍ ما يبتدئ منها التاريخ تدهوره، قد
استحالت — عند ابن خلدون — إلى نمطٍ عام للتاريخ ينطبق على كل دورةٍ
تاريخيةٍ جزئية؛ وبما يعني أن على رأس تاريخ كل واحدةٍ من هذه
الدورات الجزئية لحظةً نموذجية يبتدئ منها تدهوره الخاص. وإذ الدورة
التاريخية تستغرق — عند ابن خلدون — أربعة أجيال؛ أي مائة عام أو
أكثر قليلًا،
٢٣٧ فإن ذلك يشير إلى سعيه إلى أن يستوعب، داخل نظامه
التاريخي، مفهوم الحديث المتواتر عن النبي (
ﷺ) من «إن الله يبعث
على رأس أمتي كل مائة عامٍ من يجدِّد لها دينها.» وبمعنى أن ثمَّة عنده
داخل الدورة الكلية للتدهور، دوراتٍ جزئيةً محدودة تنطوي كل واحدة
منها — وعند قمتها — على نموذجٍ (أو مجدِّد) يبدأ منه الانهيار
اللاحق.
ولقد كان ذلك هو النمط الذي آرَخَ ابن خلدون بحسبه للدولة الأموية
التي ابتدأَت دورتَها التاريخية (وقد استغرقَت مائة عامٍ بالضبط) بمن
كانوا قائمين بمعاني الخلافة، «وإن كانوا ملوكًا، فلم يكن مذهبهم
في الملك مذهب أهل البطالة والبغي، إنما كانوا متحرِّين لمقاصد الحق
جهدَهم … ثم جاء خَلَفُهم واستعملوا طبيعة المُلك في أغراضهم
الدنيوية ومقاصدهم، ونسُوا ما كان عليه سلفُهم من تحرِّي القصد فيها
واعتماد الحق في مذاهبها. وكان ذلك مما دعا الناسَ إلى أن نعَوا
عليهم أفعالهم، وأدالوا بالدعوة العباسية منهم»؛
٢٣٨ وهي الدعوة التي تتحقق دورتُها التاريخية حسب هذا النمط
أيضًا. وبمعنى أنها تبدأ بدورها — ودائمًا حسب ابن خلدون — من
المُلك الذي يلتبِس مع الخلافة (وهو النموذج الأعلى) ثم تصير إلى
المُلكِ البحت الذي هو قرينُ التدهور والانحطاط.
٢٣٩
وأخيرًا فإنه إذا كان قد بدا — وفيما سبق — أن القصد الأشعري إلى
مركَزة لحظة التأسيس الأولى في الإسلام ونمذجتها، إنما يرتبطُ بالحرص
على ثبات الواقع القائم عَبْر تصوُّره مجرد امتدادٍ لها (وهي النموذج
المطلَق) في الحاضر؛ ذلك أن أي تفكير في اللحظة المؤسسة على نحوٍ
تبدو فيه بلا أي امتيازٍ أو فضلٍ خاص، كان لا بد أن يئول، لا إلى
مجرد إعادة النظر، أو حتى محاكمة كل ما ترتَّب عليها من أحداث في
الحاضر فحسب، بل وإلى السعي إلى تقويضه أيضًا. وفي المقابل، فإن
نمذجة لحظة التأسيس الأولى وأطلقَتَها، وتصوُّر الحاضر كمجرد امتدادٍ
لها، يجعله يحوز — لا شك — على بعض سماتها الخاصة؛ وبما يعني تكريسَ
حضوره بالطبع.
وبدوره فإن ابن خلدون كان يفكِّر ضمن سياق ذات الرؤية الوضعية
للتاريخ؛ وذلك من حيث يتكشَّف خطابه عن السعي إلى تبرير كل الوقائع
والأحداث، والتأكيد على لزوم وقوعها، وبالكيفية التي وقعَت بها،
باعتبار كونها مما اقتضَته طبائع العمران. ولعله يُلاحَظ أن هذا
المفهوم عن «طبائع العمران» إنما يتجلى، على نحوٍ أساسي، عن هيمنة
هذه الرؤية الوضعية على مجمل الخطاب التاريخي عند ابن خلدون؛ إذ
تبدو أحداث العمران ووقائعه — حسب هذا المفهوم — لا ظواهر تاريخية
تتوقف على شروطٍ تقع ضمن حدود التجربة الإنسانية، بل أمورًا طبيعية
٢٤٠ لا تتوقف البتَّة على أي عواملَ أو محدِّدات من خارج
طبيعتها الخاصة. وهكذا فإن أمورًا مثل «التوحُّش والتأنُّس والعصبيات،
وأصناف التغلُّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من المُلك
والدول ومراتبها، وما ينتحلُه البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب
والمعاش، والعلوم والصنائع … [إنما هي جملة] ما يلحق [العمران] من
الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه»،
٢٤١ وليس أبدًا بمقتضى الجهد والإرادة الواعية للبشر؛
الأمر الذي يعني أن هذه الأحوال العمرانية لا تتوقف على شروطٍ
تاريخية إذا ارتفعَت مثلًا، استحال حدوثها، بل إنها تحدث دومًا
وبقطع النظر عن أي عواملَ أو محدِّدات؛ لأنها نتاج صيرورةٍ طبيعيةٍ
جامدة. وإذ يكشف ذلك عن رؤيةٍ لطبائع العمران وأحواله من طبيعةٍ
متعالية، وذلك من حيث تبدو مستقلةً تمامًا عن الفاعلية الإنسانية،
فإنها تتفق تمامًا وجوهر الرؤية الوضعية التي استهدف من ورائها
كونت — فيما يرى ماركيوز — «تعليم الناس أن نظامهم الاجتماعي يندرجُ
تحتَ قوانينَ أزلية لا يجوز لأحدٍ أن يُخالِفها، وإلا كان مستحقًّا للعقاب.»
٢٤٢ ولعل هذا التصوُّر للنظام الاجتماعي أو لأحوال العمران
تقع في قبضة طبائعَ أو قوانينَ أزلية لا هيمنة للإنسان عليها، قد
يُحيل إلى تصوُّرها من طبيعة إلهية.
٢٤٣ والحق أنها كانت بالفعل كذلك عند ابن خلدون؛ ذلك أن
طبائع العمران هي — وكأي طبائعَ أخرى — من خلق الله في الحقيقة،
وإنما تُنسَب للعمران مجازًا. ولعل ذلك ما جعل أحدَهم يتصوَّرها «عبارة
عن المشيئة الإلهية كما تتجسَّم في حوادث الكون [أو التاريخ بالأحرى].»
٢٤٤ وإذن فإنها نظرية الكسب الأشعري مرةً أخرى، لكن موضوعها
العمران، لا الأفعال الفردية؛ وبمعنى أن أحوال العمران هي لله
خلقًا، وللعمران كسبًا. وإذ البشر — فيما يتعلق بالأفعال — لا
خالقين، بل مجرد كاسبين لها، فإنهم — وفيما يتعلق بأحوال العمران —
مجرد أدواتٍ لتحققها، وليسوا إراداتٍ واعية تُنتِجها؛ الأمر الذي يعني
ضرورةَ تقبُّل كل ما يلحق بالعمران من أحوال، بوصفها أوضاعًا لا سبيل
البتة إلى تجاوزها أو تغييرها؛ لأنها من طبيعة تنفلت من وعي البشر
ونشاطهم في العالم. وإذ النهاية القصوى لهذه الرؤية الخلدونية هي
الثبات لأي وضعٍ قائم
٢٤٥ (باعتبار أنه نتاج طبائع لا هيمنة للإنسان عليها)، فإن
ذلك يكشِف عن كون الحضور الأشعري داخل النص الخلدوني يتجاوز مجرد
البنية التي يتمحور حولها النظام التاريخي، إلى الوظيفة التي
تؤديها هذه البنية داخل هذا النظام أيضًا. لكنه الحضور من خلال
التميُّز؛ أعني تميز ابن خلدون بالطبع؛ إذ الحق أن فكر ابن خلدون
يندرج بتمامه ضمن بنية النسق الأشعري، ولكنه يندرج على طريقته
الخاصة التي تجعله يتميَّز بمجرد الأداة، وليس بالرؤية؛ وأعني أن
الرؤية التي تطوي داخلها نظامه التاريخي هي ذات الرؤية الأشعرية
(رؤية التدهور والانحطاط)، فيما الأداة عنده تتميَّز بما انطوت عليه
من السعي إلى بلورة جهازٍ مفهوميٍّ يتركب من مقولاتٍ ذات طبيعةٍ
استقرائيةٍ عينية، والطموح — بالتالي — إلى بناء نموذج لتركيبٍ
تاريخي يتجاوز الطابع الإسنادي المتداول في الأدبيات التاريخية
السابقة. ولقد راح البعض (وأعني الجابري خاصة)
٢٤٦ يعوِّل على هذا التميُّز للأداة في الإلحاح على قطيعةٍ
معرفيةٍ يقطع بها ابن خلدون (وغيره من مفكِّري المغرب والأندلس خاصة)
مع بنية النظام المعرفي السائد في المشرق، وضمنه النظام الأشعري
بالطبع.
والحق أنه يبدو وكأن ابن خلدون يقطع، بالفعل، مع النظام المعرفي
السائد؛ لكنه الانقطاع على صعيد مجرد الأداة، لا الرؤية؛ إذ يبدو
وكأن العلاقة بين الرؤية والأداة في خطاب ابن خلدون، هي التجاور،
وليس التفاعل. ومن هنا إمكان الفصل بينهما في خطابه؛ ذلك الفصل
الذي يتجسَّد، على نحوٍ لافت، في ممارسة ابن خلدون الدائمة لإقصاء
الأداة حين كان يبدو له أن حضورها قد يئول إلى زعزعة الرؤية (التي
ينطوي عليها خطابه) ودحضها، (وهنا مثلًا يُشار إلى إقصاء «العصبية»
عن حقبتَي النبوة والخلافة). وهكذا فإن العقلانية الظاهرة للأداة
تبدو مجرد قناعٍ لا يدحض تقليدية الرؤية، بل لعله يكرِّسها في الأغلب؛
وذلك من حيث يُمِدُّها بما يجعلها تُراوِغ من إمساك الوعي بها.
وإذ يبدو هكذا أن ابن خلدون لم يفعل إلا أن راح يفكِّر، على طريقته
الخاصة، ضمن سياق التصوُّر الأشعري عن التاريخ (تدهورًا وانحطاطًا من
الأفضل إلى الأقل فضلًا)، فإنه يُمكِن القول إن مشروعه التاريخي يكاد
يكتسب قيمته — وإن في أحد جوانبه على الأقل — من دلالته على هذا
التصوُّر للتاريخ الذي ظل مضمرًا في المصنَّفات العقائدية الأشعرية.
ويرتبط ذلك بأن أحدًا من المؤرِّخين السابقين لم يستطع أن يبلور
خطابًا عن التاريخ يجسِّد هذا التصوُّر المضمَر على نحوِ ما فعل ابن
خلدون. ولعله كان (وهو الذي ابتدأ بشرح المصنفات العقائدية
الأشعرية) ينقل — ولو من غير وعيٍ مباشر — هذا التصوُّر من سياق علم
العقائد الذي ظل فيه مضمرًا وخاويًا مجردًا يفتقر إلى مضمونٍ يؤكده،
إلى سياق التاريخ الذي أغناه بالطبع بما يفتقر إليه. ومن المفارقات
أن هذا التجسيد الخلدوني للتصوُّر الأشعري عن التاريخ قد أعجز الوعي
عن تجاوزه؛ وذلك من حيث أمدَّه بقناعٍ من العقلانية جعله يروغ — فيما
سبق القول — من الإمساك بطبيعته الخاصة. وهكذا فإنه بالرغم من أن
الخطاب الخلدوني قد انطوى على فجواتٍ وتعارضاتٍ بين قناع العقلانية
الطافي على سطحه، وبين التصوُّر الكامن خلفه؛ وعلى نحوٍ كان يمكن أن
يجعل تجاوزه واردًا، فإن كون هذا التصور قد انبثق أولًا — وكإطارٍ
نظري — في سياق نسَق العقائد يجعل الوعي لازمًا — كخطوةٍ أولى — بما
يؤسِّسه معرفيًّا في عناصر البنية الأشعرية ذاتها.