إذ يبدو أن مجرد الوعي بالتصوُّر يبقى مجرد خطوةٍ أولى لا بد من
تجاوزها إلى ما بعدها؛ وأعني إلى ضربٍ من التحليل يستهدف الوعي بما
يؤسِّس هذا التصور معرفيًّا؛ لأن الوعي يبقى، دون بلوغ الجذر المعرفي
المؤسِّس للتصور، عاجزًا إلا عن إنتاج ذات التصور؛ ولكن في صورٍ
وتشكلاتٍ تُوهِم — بتباينها — الوعي بما قد يُخفي الوجود الكامن لذات
التصور؛ وأعني أن الوعي يبقى، دون بلوغ الجذر المعرفي المؤسس لهذا
التصور للتاريخ، عاجزًا تمامًا عن تجاوزه وتخطيه؛ لأنه يظل
مُستلبًا في أحبولة نظامه الباطن. ومن هنا فإنه يُلاحَظ أن فاعلية
هذا التصور للتاريخ قد راحت تتجاوز حدود النسق الأشعري، إلى بنية
الخطاب العربي المعاصر؛ حيث الانقسام ذاته — الذي ينطويه تصوُّر
التاريخ الكامن في النسق الأشعري — بين واقعٍ متدهور، وبين لحظةٍ
نموذجيةٍ خارجه يجد فيها اكتماله. ولعل هذا التصوُّر — ورغم التباين
الظاهر بين النسق الأشعري الذي تأسَّس فيه، وبين الخطاب المعاصر الذي
استمر يفعل فيه — قد ظل فاعلًا في الخطاب المعاصر؛ لأنه لم ينجز
وعيًا بما يؤسِّس هذا التصور معرفيًّا بالطبع.
من نظام البنية إلى نظام التصور
يبدو أن تحليلًا لجملة الأنساق النظرية، في محيط ثقافةٍ ما، يئول
إلى أن بنياتها الأعمق هي نتاج صياغة على نحوٍ ما للعلاقة بين
المقولات المركزية الثلاث — التي تؤسس لأي بناءٍ حضاريٍّ
١٩ أو ثقافي — وأعني بها الله، والعالم، والإنسان. ومن
هنا فإنه يبدو وكأن التباين، داخل ثقافةٍ ما، بين أنساقٍ نظريةٍ شتَّى
إنما يجد تفسيره في تباينها الأعمق في ترتيبها لنظام العلاقة بين
هذه المقولات. والملاحظ أن ترتيبًا لنظام العلاقة بين هذه المقولات
قد لا يجاوز تصورها في إطار وحدةٍ تُحيل فيها الواحدة من هذه
المقولات إلى الأخرى (وهو ما يعكس علاقة اتصال وتفاعل تتحدَّد فيها
كل مقولة بالأخرى وتتعيَّن بها)، أو في إطار ضربٍ من الانقسام تتباعد
فيه الواحدة منها عن الأخرى (وهو ما يعكس علاقة انفصال وتجاور
تحتفظ فيها كل مقولةٍ بحدود تمايزها عن الأخرى).
وضمن هذا السياق فإنه وحتى إذا كان قد بدا — أحيانًا — وكأن ثمَّة،
داخل ثقافةٍ ما، ضربًا من الغياب النسبي للواحدة من هذه المقولات،
فإنه يلزم التأكيد على أن هذا الغياب يُعَد هو ذاته، نظامًا في ترتيب
العلاقة بين هذه المقولات؛ إذ الحق أنه ليس ثمَّة من غيابٍ مطلق لأي
من هذه المقولات عن أي نسقٍ حضاري، بل ثمَّة التباين فقط في أشكال
حضورها؛ والذي يبدو — في بعض الأحيان — حضورًا عَبْر الغياب.
٢٠ والملاحظ أنه بينما يُحيل ترتيب العلاقة بين هذه
المقولات في إطار نظام «وحدة وائتلاف» إلى تصورها على نحوٍ من
التلازم لا تكون فيه الواحدة منها أقل قيمةً وجوهريةً من الأخرى، فإن
ترتيبها في إطار نظام «الانقسام» إنما يستهدف — في المقابل — تصوُّر
إحداها أكثر قيمةً وجوهريةً من الأخرى. ومن هنا فإنه إذا كان نظام
العلاقة بين هذه المقولات يتجسَّد، مثلًا، في ضروبٍ من الممارسة
التاريخية، فإنه فيما يُحيل نظام الانقسام والتباعد بينها — على
صعيد الممارسة — إلى تكريس نظامٍ للتسلط؛ وذلك من حيث ينطوي هذا
النظام على ما هو أعلى وأكثر جوهرية في مقابل الأدنى والأقل
جوهرية، فإن تصوُّر هذه المقولات على نحوٍ من الوحدة يُحيل — في
المقابل — إلى ممارسةٍ أكثر تسامحًا؛ وذلك من حيث لا وجود، في هذا
النظام، لما هو أكثر جوهرية وعلوًّا من غيره، بل ثمَّة التكافؤ
والإحالة المتبادلة بين مقولاته.
وأما على صعيد الممارسة النظرية فإنه يبدو وكأن تصور هذه
المقولات على نحو من الوحدة والائتلاف يحيل إلى رؤية أو نسق تنسرب
الوحدة في بناء عناصره؛ وبحيث يبدو «العالم» تركيبًا من ظواهر
تتداخل وتترابط في وحدة ينتظمها قانون؛ ولهذا فإن «المعرفة» به
تكون إدراكا للقانون أو الروابط بين هذه الظواهر. وبدوره يصبح
الدين — حسب هذه الوحدة بين مقولات الرؤية — شعورًا، لا شعائر،
والأخلاق التزامًا باطنيًّا، لا إلزامًا قسريًّا. وفي المقابل، فإن
ترتيب هذه المقولات في إطار نظام من الانقسام والتباعد، يحيل إلى
نسق أو رؤية يبدو فيها «العالم» ظواهر منفصلة متجاورة لا يحكمها
القانون، بل مجرد الاقتران المُشاهَد. ولهذا فإن «المعرفة» به تكون
رصدًا لمجرد الاقتران الخارجي المُشاهد بين ظواهره. وبدورها تصبح
«الأخلاق» إلزامًا وقهرًا خارجيًّا، و«الدين» مجرد طقوس وشعائر،
لأن «الله» يكون، ضمن هذا النظام، مجرد مقولةٍ خارجية.
والمُلاحَظ أن النسق الأشعري قد انطلق في ترتيبه للعلاقة بين
مقولاته المؤسِّسة الثلاث (الله، والعالم، والإنسان)، من تصورها على
هذا النحو من الانقسام والتباعد. وقد ارتبط ذلك — فيما يبدو — بوضع
النسق لهذه المقولات بحسب الوضع المباشر لها في الوحي؛ إذ يبدو وكأن الوحي الإسلامي قد
تبلور بأَسْره — وكعقيدة في التوحيد أساسًا
٢١ — من السعي إلى تكريس ضربٍ من الانفصال والتمايز المطلق
بين الله من جهة، والعالم والإنسان من جهةٍ أخرى؛ وذلك بمعنى أن
هويته (أي الله) تتحدَّد في انفصالٍ مطلقٍ عنهما، وليس بمعنى أنه غير
مؤثِّر فيهما. ولقد بدا ذلك ضروريًّا في مواجهة «الشرك» السائد،
والقائم — في المقابل — على افتراض ضربٍ من الاتصال، عَبْر وسائطَ
ماديةٍ أو روحانية، بين الله وبين العالم والإنسان. ولعله يلزم
التنويه، هنا، بأن مأزق هذا الضرب من الاتصال يتأتَّى من أنه كان
مصدر تهديد — لا تحديد — للهوية الإلهية؛ إذ «القوم لمَّا عكفوا على
التوجُّه إليها [أي هذه الوسائط] كان عكوفهم ذلك عبادة، وطلبهم
الحوائجَ منها إثباتُ إلهيةٍ لها.»
٢٢ وهكذا بدَت الهوية الإلهية الحقَّة مهدَّدة بهذه الوسائط
التي جاءت تنوب عنها،
٢٣ فحلَّت محلَّها. ومن هنا إلحاح الوحي على تكريس الانفصال
والتمايز بين الله وما عداه. لكنه يبقى أن هذا التكريس للانفصال،
والإلحاح على دحض الاتصال والتفاعل بين المقولات لم يأتِ من كونه
محدِّدًا للهُوية الإلهية، بل من كونه مهدِّدًا لها؛
٢٤ الأمر الذي يعني أنه ليس كل اتصال وتفاعُل بين هذه
المقولات، هو مما يستحق الإنكار لذاته، بل هو فقط ما يكون مُهدِّدًا
للهوية الإلهية.
والحق أنه إذا كان الانفصال في الوحي قد جاء نتاجًا لضربٍ من
الاتصال تبدو فيه الهوية الإلهية موضوعًا لتهديد؛ الأمر الذي لا
تنتفي معه إمكانية كل اتصال،
٢٥ فإن النسَق الأشعري قد انطلَق من هذا الانفصال بما هو كذلك؛
٢٦ أعني بوصفه واقعةً أوليةً مطلَقة وغير مشروطة، وتنتفي
معها إمكانية أي اتصال، فبدا وكأن النسَق (الأشعري بالطبع) يقف
بوعيه عند حدود ما يقدِّمه الوحي مباشرة، عاجزًا عن تجاوز هذا
الإدراك المباشر
٢٧ لمسائل الوحي إلى ما يجعلها، لا وقائع مطلقة تتعصي على
التجاوز، بل وقائع مشروطة تقبل الفهم والتخطي.
وهكذا فإنه فيما الانفصال (بين الله والعالم) في الوحي يتبلور
بوساطة ذلك الضرب من الاتصال المهدِّد للهوية الإلهية (وهي الوساطة
التي يمكن ابتداءً منها تجاوز الانفصال؛ لأنها تجعله واقعةً لا
معزولة عن غيرها، بل متوقفة عليه)، فإن هذا الانفصال ذاته يكون في
النسق الأشعري مباشرًا، وليس نتاج وساطةٍ ما
٢٨ (وهو ما يجعله يستعصي على أي تجاوز، وذلك من حيث يبدو
واقعةً معزولةً لا تتوقف على شيء). ولعل ذلك يعني أنه لا يمكن تصوُّر
أن الوحي هو نقطة البدء في إلحاح النسق على تكريس الانفصال
والتمايز المطلَق بين الله والعالم، وذلك لأن نقطة البدء الحقَّة
تتمثَّل، بالأحرى، في عجزَ النسَق عن الوعي بالسياق (التاريخي
والمعرفي) الذي اقتضى من الوحي صياغة العلاقة بين الله والعالَم على
هذا النحو من الانفصال، وعجزه بالتالي عن تجاوز الطابع المباشر
للانفصال في الوحي. وهكذا يبدو وكأن ما يؤسِّس لانفصال المقولات
(الله، والعالم، والإنسان) وتباعُدها في النسق الأشعري، ليس الوحي،
بل إنه العجز، بالأحرى، عن الوعي به وبجملة السياقات التي انبثَق
فيها (تاريخيًّا ومعرفيًّا).
٢٩
والملاحظ أن انفصال المقولات وتباعدها قد آل إلى تصوُّرها،
والعلاقة بينها، صورية مجردة. والحق أن المقولات الثلاث (الله،
والعالم، الإنسان) تبدو — طبقًا للنسق — أدنى إلى أن تكون مقولاتٍ
صورية مجردة؛ لأنها تخلو من أي تعيُّن أو تحديد للمقولة منها
بالأخرى؛ وهو الضرب من التعيُّن الذي يعني أن كل مقولةٍ منها لا تدخل
في تركيب الأخرى، ولا تكون جزءًا من طبيعتها؛ إذ ليس ثمَّة، في هذا
النسق، من مقولة تتحدَّد بالأخرى، وتتعيَّن بها في حضورها والتفاعُل
معها، بل المقولة منها تتحدَّد بذاتها، وتضع نفسها على حساب الأخرى،
وعَبْر محوها والتأكيد على التمايُز عنها. «فالله»، وهو المقولة
الأكثر جوهرية في النسق، يتحدَّد بذاته وبمعزل عن أي مقولةٍ أخرى،
٣٠ وأما «العالم والإنسان»، فرغم أنه قد يُصار إلى أنهما
يتحدَّدان، في النسق، لا بذاتهما، بل بالله (وذلك من حيث استحالا
ابتداءً من تصوُّرٍ ما لله إلى مجرد حقلَين للافتقار والعوَز)، فإنه
يبدو، في العمق، وكأنهما لا يتحدَّدان به، بل لعلهما — بالأحرى —
يتلاشيان بواسطته (وذلك من حيث يتبلوران على نحوٍ من الافتقار إلى
أي إمكانية للتقوُّم والتعيُّن بذاتهما).
وهكذا فإن ما يلحق بالمقولات الثلاث من التعيُّن، لا يكون — ضمن
هذا السياق — نتاجًا لعلاقة تفاعُل تحدِّد فيه المقولة الأخرى وتتحدَّد
بها في آنٍ معًا حسبما يقتضيه نظام التفاعُل، بل نتاجًا لعلاقة
إلغاءٍ ومحوٍ يتعيَّن فيها الواحد المطلق (الله) بذاته، مُلغيًا كل ما
يقوم بإزائه من مقولاتٍ أخرى لا تُوجد — والحال كذلك — إلا كظلالٍ
فارغةٍ هشة ليس لها من حضور أو قوام. ولعله يلزم التنويه بأن هذا
التحدُّد للمقولات أحاديٌّ لا تبادليٌّ؛ أعني من الله إلى العالم
فقط ودون العكس، لا يئول فقط إلى تلاشي (العالم والإنسان) — كمقولتَين — بل وإلى تلاشي
المضمون الجوهري الحق للهوية الإلهية
ذاتها؛ وذلك من حيث يتكشَّف تحدُّدها بذاتها، وفي عزلة عنهما، عن هوية
يعتريها العبث وانتفاء الحكمة والغاية (وهو ما يعني تلاشي مضمونها
الحق الذي هو القصد والغائية والحكمة). وبعبارةٍ أخرى فإن التحدُّد
الأحادي للمقولات الثلاث، لا يئول فقط إلى إفقار كلٍّ من «العالم
والإنسان»، بل وإلى إفقار المضمون الحق لله أيضًا، وليس من شك في
أن هذا الإفقار للمقولات إنما يُحيل إلى ما تنطوي عليه من صورية
وتجريد، وبمعنى أن هذه المقولات في انفصالها وتباعُدها تفتقر إلى
الحياة الحقَّة
٣١ التي لا تتبدَّى إلا في صميم ائتلافها وتفاعلها.
وهكذا يبدو أن المضمون الصوري للمقولات، إنما يرتبط — داخل النسق
— بتصوره للعلاقة بينها على نحوٍ صوريٍّ مجرد؛ إذ الحق أن علاقةً صورية
بين طرفَين لا يعني إلا أنها علاقةٌ خارجيةٌ محضة؛ وذلك من حيث تتخذ
فقط شكل إكراهٍ خارجيٍّ يهيمن فيه طرف على آخر؛ لأنهما — أو هكذا يكون
تصورهما على الأقل — يفتقران معًا لمضمونٍ باطنيٍّ يحدِّد علاقة كلٍّ
منهما بالآخر. ثمَّة الارتباط الجوهري، إذن، بين الشكل الصوري
الخارجي للعلاقة بين المقولات من جهة، وبين المضمون الصوري
للمقولات من جهةٍ أخرى؛ وبما يعني أنه يستحيل — في إطار علاقةٍ
خارجيةٍ صورية — تصوُّر أطراف (أو مقولات) فاعلة حقًّا، وذلك لأن
المضمون الخاص بمقولات نسَقٍ ما يتبلور — لا شك — بحسب طبيعة العلاقة
بينهما. وإذ العلاقة صوريةٌ مجردة فإن المضمون، بدوره، يكون صوريًّا
مجردًا. ولعله يمكن أن يُصار، من هنا، إلى أن المضمون الخاص
بمقولاتٍ بعينها يتباين تبعًا لتبايُن المجال المنطقي الذي يتبلور
ضمنه الإطار الناظم للعلاقة بينها.
وهكذا فإن المقولات تكون — مثلًا — في إطار المنطق الصوري (وهو
منطق انقسام وهيمنة)،
٣٢ صورية فارغة لا تختص بمضمونٍ باطنيٍّ محدد؛ لأنها ترتبط
بتصور للعلاقة ذي طابعٍ صوريٍّ مجرد (وذلك من حيث يكون الجوهر — وهو
أساس كل علاقة — مفارقًا لسائر المقولات والأعراض التي لا تُوجد إلا
بوصفها مجرد كيفيات أو محمولات له أقل منه قيمة بالطبع؛
٣٣ ولهذا فإن العلاقة الوحيدة الممكنة بين الجوهر وسائر
المقولات هي في سيادة الجوهر واستيلائه عليها جميعًا.
٣٤ وفي المقابل، فإن المقولات في إطار المنطق الجدلي (وهو
منطق التفاعل) تمتلك مضمونًا باطنيًّا ثريًّا تفعل به كل واحدةٍ
منها في الأخرى، الأمر الذي يرتبط بتصوُّره للعلاقة بينها؛ حيث
الأعراض، هنا، لا تكون محمولاتٍ للجوهر أقل منه قيمة، بل صورًا
للوجود يُخرِجها الجوهر من نفسه. وهذا الذي يُخرِجه الجوهر من نفسه —
وإن كان يضعه على أنه عرَض — إلا أنه حقًّا جوهر آخر؛ لأن ما يُخرِجه
الجوهر من داخله هو ذاته. وهكذا يكون ما يضعه الجوهر على أنه عرَض
هو جوهرٌ آخر.
٣٥ وهنا تُصبِح العلاقة الممكنة هي علاقة التفاعُل بين
جوهرين يتحدَّد كلٌّ منهما بالآخر. ولعله يلزم التنويه — في هذا السياق
— بأنه في حين يبدو أن التاريخ — كنسقٍ مغلَق — يتبلور بدءًا من
الفهم الصوري للعلاقة بين المقولات المؤسِّسة في نسقٍ ما (وذلك من حيث
يتكشَّف عن ممارسة ذات طابعٍ ثابت، يسعى فيها أحد أطرافه إلى تكريس
هيمنته واستبعاد الآخرين … إنه — في كلمةٍ واحدة — هو تاريخ
العبودية، حيث الحرية، هنا، للطرف المهيمن فقط)، فإن التاريخ —
كنسقٍ مفتوح — يتبلور، في المقابل بدءًا من الفهم الجدلي للعلاقة
ذاتها (وذلك من حيث يتكشَّف عن ممارسة تسعى فيها مقولاته، كلٌّ في
مواجهة الأخرى، إلى تحقيقِ مضمونِها الذاتي في ضروبٍ من الممارَسة الفعَّالة).
٣٦ ولعلَّ ذلك ما يؤكِّده التبايُن بين التاريخ الأشعري المغلَق
(المؤسَّس على فهمٍ صوري للعلاقة بين مقولات النسَق)، وبين كل تاريخٍ
مغاير راح يؤسِّس انفتاحه على جدلية العلاقة ذاتها.
ولعله الآن يلزم تركيز القول في نظام بنية النسَق الأشعري، فيُشار
إلى أنه نظام انقسام وتجاور تفتقر فيه المقولات الثلاث (المؤسِّسة
للنسق) إلى المضمون الباطني الحق، وذلك لأن الشكل الوحيد الممكن
للعلاقة بينها — في سياق انقسامها وتجاورها — يكون شكل إكراهٍ وقهرٍ
خارجي تهيمن معه الواحدة منها على الأخرى. وعلى نحو أكثر تحديدًا،
فإن انقسام المقولات وتجاورها أولًا، وخواءها الباطني ثانيًا،
وصورية العلاقة بينها ثالثًا، وتُبديها لذلك في شكل علاقة هيمنة
ﻟ «المطلق» واستبعاد ومحو ما عداه رابعًا هي أهم ملامح نظام البنية
الأشعرية. والمُلاحظ أن هذا النظام قد ارتبط — فيما يبدو — بقصد
الأشاعرة إفساح المجال ﻟ «سيادة المطلَقات» وهيمنتها داخل النسق.
وبالرغم من أنه قد يُصار — في هذا السياق — إلى أن إبراز سيادة
«المطلق الإلهي» على كلٍّ من «العالَم والإنسان» هو فقط غاية النسق
وعلة وجوده — ولهذا فإنه قد جاء بأَسْره مجرد اجترار لمفهوم الله،
حتى ليلوح أنه لا يقدِّم شيئًا غير تصورٍ لعالم يخلو إلا من الله —
٣٧ إلا أنه يبدو — وانطلاقًا من الإقرار بدورٍ وظيفي لأي
نظامٍ بنيوي — أن سعي النسق إلى تكريس سيادة المطلق الإلهي، لم يكن
غير قناع يخفي القصد الأصيل؛ وأعني به تأكيد سيادة «المطلق
السياسي» في عالم بدا أنه لا مجال فيه لوجودٍ حق إلا للمطلَق فقط
«كإله في المجرَّد وحاكم في المتعيَّن»؛ وأعني — إذن — أن «الإطلاق
الإلهي» لم يكن إلا مقدمة ﻟ «الإطلاق السياسي» لا غير.
٣٨ ولهذا كان النسق، ومنذ النشأة، هو النسَق الأثير لأي
سلطة.
والحق أن الدور الوظيفي لهذا النظام البنيوي — والذي يأتي من كون
«الإطلاق الإلهي» هو قناع ﻟ «الإطلاق السياسي» — يتبدَّى، على نحوٍ
أعمق، من خلال التعارض بين هذا الذي صار إليه النسَق من التضحية
بموضوعية العالم وضرورته وحرية الإنسان وفاعليته، إبرازًا لسيادة
«المطلق الإلهي»، وبين أحد تقريرات الله نفسه، الذي بدا أنه لم
يُوجِد كلًّا من العالم والإنسان ليلتمس لذاته سيادةً صوريةً لا معنى
لها، بل ليلتمس — كما أشار هو نفسه
٣٩ — معرفة بذاته، أو بعبارةٍ أخرى، ليحدِّد بهما جوهر ذاته.
وعلى هذا فإن المعرفة بالذات (من خلال التحدُّد بالآخر)، وليست
السيادة الصورية على هذا الآخر، هي المضمون الحق لعلاقة الله بكلٍّ
من العالَم والإنسان. ومن المفارقات أن ذلك يعني — وحسب تقرير الله
نفسه — أن الله يتعيَّن كمقولة عَبْر المقولتَين الأخريَين وبواسطتهما.
٤٠ وإذن فإنه التناقُض — مرةً أخرى — بين ما يقصد إليه
النسَق ويعلنه، وبين ما يئول إليه، بالفعل، من التصادُم غالبًا مع ما
يقرِّره الله بنفسه؛ وهو التناقُض الذي يتكشَّف عن كون النسق لا يكتسب
دلالته ومغزاه من ذلك الذي يقصد إليه على نحوٍ مباشر، (وأعني به
الإطلاق الإلهي المعلن)، بل من الدور الوظيفي الذي يؤدِّيه، على نحوٍ
غير مباشر، في العالم التاريخي (أو من الإطلاق السياسي المضمَر).
والمهم أنه يبقى أن الوعي بنظام بنية النسَق الأشعري قد اكتمل
بالوعي بوظيفته في العالم.
ولعل مما له دلالته، هنا، أن هذه الوظيفة، وبدلالة «الإطلاق
السياسي» التي تنطويها، إنما تقصد إلى تكريس ضربٍ من الثبات لما هو
قائم؛ وهو الثبات الذي يتَّسِق مع سمات الإطلاق فيها بالطبع. والمُلاحَظ
أن هذا «التكريس للثبات» يُعَد هو ذات القصد الذي يطويه تصوُّر التاريخ
الأشعري؛ الأمر الذي يعني أن ثمَّة ضربًا من التماثُل الوظيفي بين كلٍّ
من نسَق العقائد الأشعري من جهة، وبين تصوَّر التاريخ المُلحَق به من
جهةٍ أخرى. ولعله يمكن المصير من هذا التماثُل الوظيفي إلى إدراك ضربٍ
من التماثُل بينهما، على مستوى نظام بنيتهما العميقة، لكنه يبدو أن
اختبارًا تجريبيًّا لنظام بنية النسق الأشعري من خلال بعض مسائله
الجزئية، يبدو لازمًا، قبل المصير إلى التماس هذا التماثُل البنيوي
بينهما.
والحق أن اختبارًا — كهذا — يتكشَّف عن انتظام البنية لكافة
عناصر النسق الجزئية، وإلى حد أنه يتعذَّر فهم أي من هذه العناصر
الجزئية أو تفسيرها بمعزل عن هذا الانتظام في البنية.
٤١ ولعل ذلك يعني أن تحليلًا — معرفيًّا — لأيٍّ من عناصر
النسق الجزئية لا بد أن يئول إلى أن «الانقسام والتجاور والإطلاقية
والهيمنة» — وهي سمات النظام الباطن للبنية الأشعرية — هي بمثابة
الأفق المعرفي الخاص الذي انبثقَت فيه هذه العناصر جميعًا، والذي
يحدِّد كيفية تبلورها، ويُهيمِن على نظام اشتغالها وتحوُّلها. وبالفعل
فإنه يُلاحَظ أن تحليلًا لمسألة الصفات الإلهية، مثلًا يتكشَّف عن
التبلور والتحدُّد ضمن أفق هذا النظام المعرفي بكل ما ينطوي عليه
من سمات الانقسام والهيمنة والإطلاق. إذ الصفة — حسب الأشاعرة — هي
«الشيء الذي يُوجَد بالموصوف أو يكون له ويكسبه الوصف الذي هو النعت
… [أما الوصف فهو] قول الواصف لله تعالى بأنه عالمٌ حيٌّ قادر منعم
متفضِّل، وهذا الوصف غير الصفة القائمة بالله تعالى، التي لوجودها به
يكون عالمًا وقادرًا ومريدًا.»
٤٢ وهكذا يبدو «الانقسام» قائمًا بين الصفة — التي تمثل
كيانًا موضوعيًّا أوَّلانيًّا، قائمًا بالذات، وسابقًا على أي وصف،
بل ومستقلًّا عن أي مجال للخلق أو ممارسة الفعل بها إلى حد أنه من
الممكن مثلًا «أن تُوجَد قدرة القديم في الأزل وهو غير فاعلٍ بها»،
٤٣ وبين الوصف الذي يكون إذ «يصدُر عن هذه الصفة القديمة
والقائمة بالذات»
٤٤ فعلًا بَعْديًّا تابعًا للصفة وخاضعًا ﻟ «هيمنتها». ومن
هنا تترسَّخ ثانويته (أي الوصف) وهامشيته في النسق، بل وإمكان
استبعاده كلية؛ لأنه لا يلعب أي دور في تحديد الصفة، بل يتحدَّد بها
فقط. وهكذا فإنه، وكما يتكشَّف نظام البنية الأشمل عن وضعٍ للمقولات
تتحدَّد فيه أحاديًّا لا تبادليًّا (أعني من الله إلى العالم دون
العكس)، فإن هذه المسألة الجزئية — أعني مسألة الصفات — تعكس نمط
التحدُّد الأحادي ذاته؛ حيث الصفة تحدِّد الوصف، ولا تتحدَّد به.
وإذ يُحيل الوصف دائمًا إلى آخر، وذلك من حيث إن حضور الآخر يعد
جوهريًّا في بناء أي وصف على العموم — إذ قد يكون الآخر هو الذي
يمارسه وصفًا لذات، أو قد تكون الذات هي التي تمارسه بوصف نفسها
للآخر —،
٤٥ فإن ذلك يعني أن التصور الأشعري للوصف (الذي يستلزم
الآخر دومًا) تابعًا، أو حتى خاضعًا لهيمنة الصفة القائمة بالذات
لا تتعداها، يحمل معنى تبعية الآخر (وهو الإنسان بالطبع) وخضوعه
وهامشيته، وإلى حد إمكان استبعاده من نسقٍ تبدو فيه السيادة لمطلق
(إلها أو حاكمًا) لا يمارس فعاليته إلا بإلغاء الآخر وإفنائه؛
الأمر الذي يعني أن مسألة الصفات لا تتكشَّف فقط عن نظام بنية النسق،
بل وعن دوره الوظيفي أيضًا.
وبدورها تتكشَّف مسألة «خلق الأفعال» عن نفسِ النظام البنيوي الذي
يحدِّد بناءها، ويعيِّن أيضًا قصدها؛ ذلك أن الأشاعرة، ومنذ البدء، لم
يجدوا في العالم متسعًا لقدرتَين تفعلان كلٌّ في مجال، بل ليس ثمَّة
إلا قدرةٌ واحدة هي «صفةٌ قديمةٌ أزليةٌ قائمة بذات الرب تعالى، متحدة
لا كثرة فيها، متعلقة، بجميع المقدورات»،
٤٦ وإلى حد أنه «لا يمكن أن يُشار إلى حركةٍ ما، فيُقال إنها
خارجة عن إمكان تعلُّق القدرة بها.»
٤٧ ولا مجال هنا للوهم باستثناء الفعل الإنساني؛ لأن ثمَّة
«برهانًا قاطعًا على أن كل ممكنٍ تتعلَّق به قدرة الله تعالى، وكل حادثٍ
ممكن، وفعل العبد حادث؛ فهو إذن ممكن، فإن لم تتعلق به قدرة الله
فهو مُحال.»
٤٨ ومن هنا كان لا بد أن: «يزعم أبو الحسن الأشعري أنه لا
تأثير لقدرة العبد في مقدوره أصلًا، بل القدرة [الإنسانية]
والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى.»
٤٩ فبدا — هكذا — وكأنه ليس ثمَّة، عند الأشاعرة، إلا
الحضور المطلَق لقدرة الرب، والذي يلوحُ غير ممكنٍ إلا في إطار غيابٍ
تام لقدرة العبد. والحق أن كون حضور قدرةٍ منهما يستلزم غياب الأخرى
على هذا النحو،
٥٠ إنما يكشف عن طبيعة الانقسام القائم بينهما من جهة،
ويُحيل — وهو الأهم — إلى أن «القدرة» منهما لا تتحدَّد بالأخرى
وتتعيَّن بها في حضورها والتفاعُل معها، بل تتحدد بذاتها وتضع نفسها
على حساب الأخرى، عَبْر محوها والتأكيد على التمايز عنها، فتعكِس بذلك
نفس نمط تحدُّد المقولات في النسق الأشمل. وإذ ترتبط هيمنة القدرة
منهما (ضمن هذا التحدُّد) بتصوُّرها مطلقةً من أي تحديد،
٥١ فإن ذلك يعني أنه ليس الانقسام والهيمنة، هي فقط سمات
النظام البنيوي ﻟ «النسق» التي تتكشَّف عنها مسألة خلق الأفعال، بل
والإطلاق أيضًا؛ وهو الإطلاق الذي تتبدَّى دلالته الوظيفية على نحوٍ
أظهر في سياق هذه المسألة بالطبع.
وإذ القصد هنا، لا اختبار مدى انتظام عناصر النسق الجزئية كافةً،
في نظام البنية السابق تحديده، بل اختبار مدى تماسُك هذا النظام
وشموله وقدرته على تفسير كل ما ينتمي إليه، فإنه يمكن الاكتفاء —
خشية الإطالة والتكرار — بمسألتَي الصفات وخلق الأفعال كنموذجَين لا
غير — لا يُقال حتى إنهما أكثر دلالةً من غيرهما — يؤكِّدان كفاءة
نظام البنية، وقدرته على أن يهَب عناصره المعقولية والتفسير؛ إذ
يبدو أن تحليلًا لعناصر النسق جميعًا لن يفعلَ إلا التأكيد — ولكن
عبر التكرار بالطبع — على قدرة هذا النظام وكفاءته التفسيرية، وذلك
بحسب الطبيعة الخاصة لكل واحدٍ من هذه العناصر بالطبع. وإذا كان
تصوُّر التاريخ الملحق بالنسَق لا بد أن يتكشَّف بدوره، وكأي واحد من
عناصر النسق الجزئية، عن نظام البنية ذاته، فإن ذلك يعني أن
تحليلًا لهذا التصوُّر يتغيَّا إبراز تماسكه المعرفي، لا بد أن ينطلق
من بيان كيفية تحقيقه لنظام البنية في حقله الخاص، والحق أن ذلك
يبدو لازمًا، لا لتأكيد التماسُك المعرفي لتصوُّر التاريخ عَبْر ردِّه إلى
البنية التي تؤسِّسه، بل وتأكيد انتمائه إلى النسق (وهو المُهمَّش
فيه).
والحق أن تحليلًا لتصوُّر التاريخ الأشعري يتكشَّف، بالفعل، عن نظام
البنية المهيمنة على النسق، ولكن بكيفيةٍ تُناسِب طبيعة حقله الخاص …
حيث يستحيل انقسام المقولات وتجاورها داخل النسق، إلى الانقسام —
في التاريخ — بين لحظةٍ للفضل ولحظاتٍ من التدهور اللاحق تتلوها،
وكذا يُلاحظ أن تحدِّد المقولات، في النسق، عَبْر نفي الواحدة منها
للأخرى وتأكيد تمايُزها عنها، يستحيل في التاريخ إلى ضربٍ من النبذ
من اللحظة الأفضل للأقل فضلًا منها. وإذ يُحيل هذا التحدُّد — عَبْر
النفي والاستبعاد — إلى صورية مضمون مقولات النسق وخوائها، فإن
صورية المضمون تستحيل، ضمن التاريخ، إلى قراءة لحظاته، لا كوقائع
وأحداث، بل كأنماط ورموز لا تتبلور إلا عَبْر إسقاط ما تنطوي عليه
هذه اللحظات من حياةٍ حقَّة. وأخيرًا فإن النزعة إلى «الإطلاق» في
النسق تستحيل، في سياق التاريخ، إلى السعي إلى «نمذجة» لحظاته.
وهكذا يبدو وكأن التصوُّر التاريخي يحقِّق كافة السمات الجوهرية لنظام
بنية النسق.
وهكذا فإنه قد لُوحظ آنفًا أن التصور الأشعري للتاريخ إنما
ينبني، جوهريًّا، على تصوُّر لحظاته موضوعًا للانقسام والتمايز؛
وأعني أن ثمَّة ضمنه الانقسام — من جهة — بين «لحظة تفضيل»، ولحظة
(أو بالأحرى لحظات) تكفير أو ابتعاد عن الفضل على الأقل، وثمَّة — من
جهةٍ أخرى — تمايزُهما الشامل حتى ليبدو وكأنهما ينعكسان عن تاريخَين
يكون الواحد منهما من طبيعةٍ مغايرةٍ للآخر.
٥٢ فإذ تبلور التفضيل — وفي استعادة لما سبق الإلماح إليه
آنفًا
٥٣ — كإسقاطٍ متأخرٍ تُقرأ من خلاله أحداث حِقبتَي النبوة
والخلافة، اللتَين تصوَّرهما المخيال الأشعري يجسِّدان عصرًا
استثنائيًّا وفريدًا من الوحدة والسعادة، وذلك قصدَ نمذجتهما
وتحويلهما إلى لحظةٍ متعاليةٍ مطلقة ومن طبيعةٍ لا تاريخية،
٥٤ فإنه لم يكن ليصلُح البتة لقراءة أحداث حِقبٍ لاحقة (على
هاتَين الحقبتَين) رأى فيها المخيال الأشعري تجسيدًا لعصور من
الاختلاف والشقاوة، فراح — لذلك — يقرؤها من خلال نقيض التفضيل؛
أعني التكفير.
٥٥ وهكذا فإن الانشطار في التاريخ الأشعري بين لحظتَين تكون
الواحدة منهما من طبيعةٍ مغايرةٍ للأخرى، قد فرض تبلور منطقٍ للتفضيل
ينحصر تداوله في سياق لحظته-المثال، في مقابل منطقٍ للتكفير يستغرق
تاريخ الابتعاد المتزايد عن هذه اللحظة-المثال. والمُلاحَظ أن هذا
الانقسام بين منطقَين قد اقتضی انقسامًا، لا على صعيد الآلية
المنتجة لكلٍّ منهما فقط، بل وعلى صعيد المفردات المتداوَلة في فضاء
الواحد منهما أيضًا؛ فإذ ينبني منطق التفضيل على «وجوب الكف — فيما
يتعلق باللحظة-المثال — عن ذكر الاختلاف والسكوت عنه … أو حتى
إنكاره حسب البعض»،
٥٦ فإن منطق التكفير ينبني على الآلية النقيض، أعني آلية
الكشف والفضح، و«بيان الحديثِ المأثورِ في افتراق الأمة، وبيان فضائح
كل فرقة.»
٥٧ وأما فيما يتعلق بالمفردات المتداوَلة في سياق كلٍّ
منهما، فإنها مفرداتُ الفضل والاجتهاد وحُسن الخِلال تقترن باللحظة-المثال، فيما هي مفردات
الفضائح والأهواء وفِرق الضلال تقترن
بلحظات التدهور والانحدار. وهكذا ينسرب الانقسام في بناء التاريخ
الأشعري بأَسْره وذلك من حيث ينتظم بناء لحظاته من جهة، وآليات
إنتاجها ومفردات تداولها من جهةٍ أخرى.
ولعله بدا أن الشكل الأوحد للعلاقة بين لحظتَي «التفضيل والتكفير»
— ضمن هذا الانقسام والتمايز بينهما — هو النبذ من الأفضل للأقل
فضلًا؛ أو من اللحظة-المثال لما يتلوها لحظات الانحدار. وقد ارتبط
ذلك — فيما لاح آنفًا — بتصوُّر الأشاعرة ﻟ «الوحدة» تؤسِّس لحظة-المثال، في مقابل «الاختلاف»
الذي يؤسِّس لحظات الانحدار، ثم بتصوُّر
العلاقة بينهما — أعني الوحدة والاختلاف — على نحوٍ من النفي
والاستبعاد لا التفاعل والاستيعاب؛ إذ الاختلاف يمثِّل — حسب
الأشاعرة — نقيضًا خارجيًّا للوحدة يهدِّد وجودها الخاص ويقوِّضه، وليس
عنصرًا باطنيًّا يدخل في بناء طبيعتها الحقَّة من خلال ما يضفيه
عليها من تعدُّد وتنوُّع تحقِّق من خلاله ما تنطوي عليه من ممكناتٍ مضمَرة،
فتتجاوز فقر وجودها الخاص. وإذن فإنه الاختلاف المهدِّد للوحدة، لا
المحدِّد لها. ومن هنا ذلك السعي الأشعري الدائم إلى استبعاده
ونفيه، وليس استيعابه ورفعه. ولقد ترتَّب على ذلك أن بات المثل
التاريخي الأعلى قائمًا — حسب الأشاعرة — في مجرد النبذ الدائم
للاختلاف (علامة السقوط والانحدار)، سعيًا إلى بلوغ الوحدة (دالة
الفضل والمثال)؛
٥٨ وهي الوحدة التي لا شك في صوريتها بسبب استبعادها لأي
اختلاف.
إذ الحق أن تصور الموضوع، أي موضوع، في حالة وحدة تخلو من
الاختلاف، إنما يعني، جوهريًّا، خلوه من الحياة الحقَّة، وذلك من
حيث إن الاختلاف هو الأداة التي يحقِّق بها أي موضوع في حالة وحدة
حياته الحقة؛ لأنه يدفعه إلى التخارج من ذاته ليتحقَّق في العالم في
صور وأشكال وجود شتَّى، لا يمكن أن تكون بالطبع تكرارًا لهويته
الخاصة، بل استيعابًا لها وارتفاعًا بها إلى آفاقٍ أرقى تدرك فيها
نفسها حقًّا. وهكذا يئول تصوُّر الموضوع خلوًا من الاختلاف إلى
اضمحلاله ومواته؛ أي صوريته وخوائه. والحق أنه يبدو — تبعًا لذلك —
أن نفي الاختلاف عن اللحظة-المثال، وتصوُّرها على نحو من الوحدة
المغلقة، كان لا بد أن يئول إلى تصوُّرها خلوًا، بالتالي، من أي
حياة. ولعل ذلك ما تكشِف عنه القراءة الأشعرية لموضوع هذه اللحظة-المثال (أعني حقبتَي
النبوة والخلافة)، قراءةً تُهدِر ما ينطوي عليه
من مضمون حق، وتُسقط عليهما تصوراتٍ مثالية مفروضة من الخارج. والحق
أن أي قراءةٍ إسقاطيةٍ لا بد أن تئول إلى نفي الحياة الباطنية
للموضوع المقروء، وذلك من خلال ما تفرضه عليه من تصوُّراتٍ لا تنتمي
إليه، ويتلاشى الموضوع تمامًا تحت سطوتها.
٥٩ ولعل ذلك يتضح — على نحوٍ أظهر — من خلال ما سبق
الإلماح إليه، من التبايُن بين صورة هاتَين الحقبتَين (موضوع اللحظة-المثال) في كتابات
الإخباريين، وبين تصوُّرهما في نصوص المتكلمين
(الأشاعرة بالطبع)؛ إذ بينما تتجلى روايات الإخباريين — فيما يتعلق
بهاتَين الحقبتَين — عن الدور الحاسم ﻟ «القبيلة» في تحديد مسار
الأحداث، فإن تصوُّرات المتكلمين، بخصوصهما، لا تتكشَّف إلا عن الحضور
المُهيمِن للفضل والفضيلة. وإذ بدا أن تحليلًا يتجاوز روايات
الإخباريين، يتكشَّف عن أن جملة المعطيات الواقعية السائدة في هاتَين
الحقبتَين، لم تكن تسمح أبدًا بما يتجاوز إطار القبيلة كمحدِّد
للأحداث، لا فيما يتعلق بحقبة الخلافة فقط، بل وفيما يتعلق بحقبة
النبوة أيضًا،
٦٠ فإن ذلك يؤكِّد، بالطبع، على إهدار المتكلِّمين للمضمون
الحي لهاتَين الحقبتَين، وتصوُّرهم مضمونًا لا يمكن أن يكون، رغم
مثاليته، إلا فقيرًا وخاويًا … وصوريًّا بالطبع.
وإذا كان الأمر هكذا فيما يتعلق بصورية اللحظة-المثال، فإن
صوريةَ ما يتلوها من لحظات الانحدار تتأتى من تصوُّرها كمجرَّد تكرارٍ
مملٍّ وعقيم لكفرٍ أصلي مطلق، هو كفرُ إبليس، الذي يُعَد مثالًا لكل
كفر أو انحدار لاحق؛ إذ «من المعلوم الذي لا مرية فيه أن كل شبهةٍ
وقعَت لبني آدم، فإنما وقعَت من إضلال الشيطان الرجيم [إبليس]
ووساوسه ونشأَت من شبهاته، وإذا كانت الشبهات [الخاصة بإبليس]
محصورةً في سبع، عادت كبار البدع والضلالات [اللاحقة] إلى سبع، ولا
يجوز أن تعدُو شبهات فرق الزيغ والكفر والضلال هذه الشبهات، وإن
اختلفَت العبارات وتباينَت الطرق، فإنها [أي شبهات إبليس] بالنسبة
إلى الضلالات [الخاصة بالفرق] كالبذور.»
٦١
والحق أن هذا التصوُّر للحظات التكفير والانحدار التي تنتظم كل
التاريخ اللاحق للحظة التفضيل-المثال، لا تنطوي في باطنها إلا على
مجرد التكرار لمثال الكفر الأصلي السابق (كفر إبليس)، إنما يتكشَّف
عن أن الآلية الأشعرية في قراءة لحظات الانحدار، هي ذات الآلية
الخاصة بقراءة اللحظة-المثال؛ وأعني أنها أيضًا آلية الإسقاط،
التي تتبدَّى هنا في قراءة هذه اللحظات بتصوُّر من خارجها (هو كفر
إبليس)، وليس من خلال ما تنطوي عليه في باطنها. وهكذا أيضًا يغيب
المضمون الحي والحقيقي لهذه اللحظات ويتلاشى، وذلك من حيث إن الوعي
لا يقصد، هنا، إلى قراءة كل لحظةٍ منها من داخلها وبما تنطوي عليه
فعلًا، بل يقصد إلى مجرد الرصد الخارجي المحض لكل ما يجعل ممكنًا
إسقاط تصوُّر الكفر السابق على لحظةٍ ما. وإذ القصد هكذا لم يكن أبدًا
إنتاج معرفةٍ حقَّة بهذه اللحظات، بل السعي إلى التماس ما يكرِّس
إدانتها، فإنه ليس شيءٌ أكثر من ذلك كشفًا عن صورية هذه اللحظات
وخوائها، حسب هذه القراءة بالطبع.
لكنه يبدو أن هذا الإهدار للمضمون الحي للحظة (المثال أو حتى
الانحدار)، والاكتفاء بإسقاط مضمون مثالي مُتَخيَّل عليها من
الخارج، إنما يرتبط بقصد النسق الأشعري إلى أطْلقة هذه اللحظة
(اللحظة-المثال تحديدًا) ونمذجتها؛ أعني تحويلها إلى نموذجٍ مطلق
يستحيل إلا تكراره، لا تخطيه،
٦٢ وليس بالقصد إلى تكريس صوريتها وخوائها، وبما يعني أن
«الصورية والخواء» يُعَدَّان — هكذا — إلزامًا للنسق لا بد أن يئول
إليه بالضرورة.
٦٣ إذ الحق أن التصور التاريخي الأشعري قد راح يسعى إلى
انتزاع هذه اللحظة من تاريخها، عَبْر السكوت عنه تارةً أو التنكُّر له
وإخفائه تارةً أخرى،
٦٤ قصدًا إلى أطْلقَتها ونمذَجَتها، وذلك من خلال تحويلها
إلى بنية مثالية متعالية تحوز في تعاليها على تاريخها، على كل سمات
الإطلاق والقداسة. إذ الحق أن هذا التحوُّل (من التاريخي إلى
البنيوي) يعد آلية التصور الأشعري للتاريخ في تأسيس مركزية لحظته-المثال، وفرض هيمنتها
على نحو يستحيل تجاوزه؛ إذ اللحظة حين تفك
روابطها مع التاريخ (الذي أنتَجَها)، فإنها تسكُن خارجه في سكون وثبات
يستعصيان على أي تطور أو تجاوز، وبما يعني أنها تستحيل من «نقطة
بدء» للوعي (تشبه الكوجيتو) يرتكز عليها في سعيه إلى إبداع صور
للوجود تُلائِم حدود تطوره الذاتي، إلى «نموذج» لا يمكن أن يكون —
ككل نموذج بالطبع — إلا واقعًا نهائيًّا مكتملًا لا سبيل بإزائه
إلا التَّكرار والاجترار، والاحتفاظ به — في اكتماله المطلَق — عصيًّا
على التجاوز أو حتى الاستدماج في أشكال وجودٍ أرقى.
ولعل ذلك يرتبط، في العمق، بأن «النموذج» — وخصوصًا مع انفكاكه
عن التاريخ — لا يمكن أن يكون موضوعًا لموقف من طبيعةٍ معرفية، بل
من طبيعةٍ نفسية بالأحرى، وذلك لأنه يفرض على الوعي — وبلغة التحليل
النفسي — نوعًا من «التثبيت» عنده، وإذ يعني هذا «التثبيت» بقاء
الوعي أسير النموذج، وعلى نحوٍ لا يقدر فيه على السيطرة عليه وجعله
موضوعًا له، بل ولا يقدر — وهو الأهم — على الإفلات من هيمنته
وسطوته؛ وبما يعني أنه الموضوع — بالأحرى — للنموذج
٦٥ فإن ذلك يكشف عن كون النموذج موضوعًا لموقفٍ نفسي لا
معرفي؛ حيث المعرفة الحقَّة هي، في جوهرها، فعل جدلي؛ الأمر الذي
يعني أنها، في العمق، فعل هيمنة، وذلك من حيث تقصد — كفعل — إلى
استيعاب موضوعها واحتوائه وتجاوزه وتخطِّيه في آنٍ معًا. ولعل ذلك
يعني استحالة أن يكون «النموذج» موضوعًا لمثل هذا الضرب من
المعرفة، وذلك من حيث يتكشَّف، بدوره، عن السعي إلى
الهيمنة.
والحق أن هذا الضرب من المعرفة — الذي يناسب سعيه إلى الهيمنة —
إنما يتمثَّل في تلك المعرفة الاجترارية التي تقصد، لا إلى تجاوُز
موضوعها، بل إلى الاحتفاظ به في اكتماله المطلَق، احتفاظًا تسعى فيه
إلى التوحُّد معه، فتُلغي ذاتها كفعل خلاق وتبقى كفعل تكرار، لا
يكشف إلا عن الحضور الأبوي الطاغي لموضوعه، وهو ما يؤكِّد على
طبيعتها النفسية لا شك، ويؤكِّد — قبلًا — على أن قصد أي نمذجة أو
أطْلَقة ليس إنتاج معرفة، بل تكريس هيمنة، وأن الأمر حين يتعلق
بهيمنة لحظةٍ ما، في التاريخ، فإن القصد لا يكون إنتاج التاريخ، بل
الخروج منه بالأحرى.
وإذا كان قد بدا أن قصد التصور الأشعري للتاريخ من أطلَقَة لحظة
التأسيس ونمذَجَتها إنما يتمثَّل في فرض هيمنتها ومركزيتها، وذلك على
نحوٍ يستحيل معه إلا ثباتها واستقرارها، فإنه يُمكِن المصير من ذلك
إلى أن الدور الوظيفي لهذا التصوُّر هو نفسه الخاص بالنسق الأشعري
بأَسْره؛ فإذ بدا أن سعي النسق إلى تكريس سيادة المطلق الإلهي — وهو
قصده المعلن — لم يكن غير قناعٍ يُخفي قصده الأصيل إلى تكريس سيادة
المطلق السياسي، فإنه قد أمكن المصير من ذلك إلى أن الوظيفة القصوى
للنسَق تتبلور في مجرد السعي إلى تكريس كل ما هو قائم وتثبيته؛
٦٦ الأمر الذي يُعَد غاية كل إطلاقٍ سياسي ومبتغاه. ولقد بدا
أن هذا السعي ذاته إلى «تكريس الثبات» هو أيضًا قصد التصوُّر
التاريخي الأشعري ومبتغاه؛ وذلك من حيث بدا أن القصد المباشر من
التفضيل (وهو نقطة البدء في التاريخ الأشعري)، إنما ينحصر أساسًا
في ترتيب الخلفاء في الفضل على نحوٍ يدعم شرعية تراتُبهم في الخلافة
على ما تحقَّق.
٦٧ ومن هنا ما بدا اصطناع المتكلمين ضروبًا من الفضل
ينسبونها إلى المتقدِّم ليتفوق بها على من يليه، فيصبح تقدُّمه في
الخلافة، هكذا، مُبرَّرًا ومشروعًا، ذلك باعتبار فضيلته
بالطبع.
وإذ يتكشَّف التفضيل — هكذا — من مجرد السعي إلى تأسيس التراتُب في
الخلافة على التراتُب في «الفضيلة»، وذلك لإقصاء المتداوَل في روايات
الإخباريين، من أن التراتُب في الخلافة إنما جاء مستندًا فقط إلى
مفعول «القبيلة»، فإن ذلك يعني أنه قد تبلوَر، بالفعل، كإسقاطٍ متأخر
لقراءة أحداث هذه الحقبة. لكنه الإسقاط الذي لا يفرضُه مجرد
الإيمان، فيما قد يحسب المرء، ويموِّه المتكلمون، بل الإسقاط تفرضُه
السياسة؛ وذلك من حيث كان يقصد إلى ترسيخ سياسة الحاضر عَبْر ترسيخ
ما يؤسِّسها في الماضي؛ إذ في حين قد تئول — ولا بد أن تئول — قراءة
لما حدث في الماضي من خلال مفعول «القبيلة» إلى إعادة النظر فيه،
وعلى نحوٍ قد يتقوَّض معه ما يترتَّب عليه في الحاضر، فإن قراءةً لهذا
الماضي تراه ينبني على «الفضيلة»، لا تئول فقط إلى استبعاد إمكان
النظر فيه، بل وترى أن أي نظر فيه خروجٌ على صحيح الاعتقاد؛
وبما يعني دوامَ الحاضر وثباتَه من حيث هو مجرد امتداد لماضٍ يستحيل
النظر فيه، ناهيك بالطبع عن نقضِه. ومن جهةٍ أخرى فإن كون التفضيل قد
انبنى — حسب الجويني
٦٨ — على منع القول بإمامة المفضول مع وجود الأفضل، إنما
يحيل — وكما سبق التفصيل — إلى نظرية في أولية المتحقِّق على الممكن،
وبما يعني أنه ينطوي على تصوُّر للتاريخ لا يرى في الواقع إلا جانبه
المتحقِّق فقط، ومن دون قدرة على النفاذ إلى جملة المُمكِنات الكامنة
فيه. ومن هنا كونه يمثِّل تكريسًا للواقع القائم وتثبيتًا له،
ومناهضةً لأي سعي إلى تغييره؛ وهو ما يعني أن هذا التصوُّر التاريخي
إنما يتكشَّف عن نفس الدور الوظيفي الذي كان يقصد النسق الأشعري
بأَسْره إلى أدائه وتحقيقه. ولعل هذا التماثُل بين كلٍّ من النسق
والتصوُّر — لا من حيث قصدهما إلى أداء دورٍ وظيفيٍّ واحد، بل ومن حيث
تبدِّيهما عن نظامٍ بنيويٍّ واحد — ليكشف عن أن تصوُّر التاريخ الأشعري
إنما يجد أساسه المعرفي في نظام بنية النسَق الأشمل ووظيفته على نحوٍ
خاص. لكن ذلك لا يعني، بالطبع، أن التأسيس المعرفي من النسق
للتصوُّر، إنما يقف عند حدود التماثُل بينهما في نظام البنية والدور
الوظيفي؛ إذ الحق أن الأمر يتجاوَز ذلك إلى دورٍ تأسيسي لعناصر النسق
الجزئية في بناء التصوُّر؛ وأعني بناء عناصر التصوُّر الجزئية خاصة.
ولعل ذلك يعني أنه إذا كان نظام بنية التصور التاريخي إنما يجد ما
يؤسِّسه معرفيًّا في نظام بنية النسق العقائدي الأشمل، فإنه يبدو
بالمثل أن ما ينطوي عليه التصور «التاريخي» من عناصرَ جزئية، إنما
تجد ما يؤسِّسها، كذلك، في عناصرِ النسَق الجزئية، بل إنه يبدو أيضًا
أن جملة الآليات والأدوات المنطقية والمحدِّدة لعملية إنتاج التصور
للأعمال التاريخية وأشكال كتابتها، إنما تجد أساسَها المعرفي كله
قارًّا في بناءِ عناصرِ النسَق الجزئية أيضًا، وهكذا يبدو الانتقال
ضروريًّا من التأسيس المعرفي لنظام التصوُّر «التاريخي الأشعري» إلى
التأسيس المعرفي لعناصره الجزئية من جهة، ولآليات إنتاجه للتاريخ
وكتابته من جهةٍ أخرى، فتكتمل بذلك دائرة التأسيس المعرفي من نسَق
العقائد للتاريخ؛ لا تصورًا فقط، بل وعمليات إنتاج أيضًا.
من نظام بنية التصور إلى بناء عناصره
إذا كان قد بدا — فيما سبق — أن التصوُّر الأشعري للتاريخ إنما
ينبني بأَسْره على رؤيته انهيارًا وتدهورًا من لحظة فضل ومثال إلى
لحظاتٍ تتلوها من الكفر والانحدار، وأنه (في انهياره) مجرد تكرارٍ
للحظة كفر وسقوط أصلي تقوم خارجه (أعني كفر إبليس)، بمثل ما إنه
(في سعيه لقهر الانهيار) هو تكرار للحظة فضل ومثال تقوم خارجه
أيضًا (أعني لحظة النبوة)، وأنه يُختزل — حسب هذا التكرار — في
مجرد صراع لا دور للإنسان فيه بين نماذج الفضل ودواله (أعني الله
وأنبياءه)، وبين نموذج الكفر ومثاله (أعني الشيطان وخلفاءه)، فإنه
يمكن التمييز في هذا التصوُّر — تبعًا لذلك — بين جملة أفكارٍ وعناصرَ
جزئية يتآلف منها بناؤه الخاص؛ فثمَّة، من جهة، تلك الفكرة الخاصة
بلحظة الفضل (أو النبوة) التي يبتدئ منها التدهوُر، وتصوُّرها — لذلك
— من طبيعةٍ مثاليةٍ متعاليةٍ على التاريخ، وثمَّة الانهيار وتصوُّر
تجاوزه مشروطًا بفاعليةٍ إلهيةٍ مباشرة، وذلك عَبْر تكرار لحظة الفضل
المتعالي التي تجسِّد هذه الفاعلية، وثمَّة أيضًا تلك الفكرة الخاصة
بأن التاريخ، في انهياره وفي سعيه لقهر هذا الانهيار، لا ينطوي إلا
على مجرد التكرار العقيم للحظتَين متعاليتَين خارجه (لحظة الكفر-المثال/ولحظة الفضل-المثال)،
وثمَّة أخيرًا ما يرتبط بهذا التكرار
من اختزال التاريخ في مجرد الصراع — أو التضاد بالأحرى — بين الله
والشيطان. تلك إذن هي جملةُ الأفكار الجزئية التي يتألَّف منها بناء
التصوُّر، والتي يبدو أنها جميعًا إنما تجد ما يؤسِّسها معرفيًّا
قارًّا في البناء الجزئي لعناصر النسق.
فالحق أن مركزة لحظة الفضل-المثال حول النبوة،
٦٩ ثم تصورها من طبيعةٍ مثاليةٍ متعالية ولا تاريخية، وذلك
لتبرير تمايُزها عن التاريخ اللاحق عليها بما هو «تدهور وانهيار»،
فيما هي «فضل ومثال»، إنما يجد أساسَه المعرفي قارًّا في بناء نسق
العقائد الأشعري للنبوة؛ إذ النبوة — ضمن هذا النسق — لا تتكشَّف؛
إنْ بتعريفها (في اللغة والاصطلاح)، أو بتعيين جهة وقوعها، أو بما
يدُل على صدقها، إلا عن كونها مجرد خطاب في المطلَق غير مشروط بأي
وضع إنساني أو تاريخي، وبمعنى أنها تستبعد تمامًا أي حضور لما هو
إنساني أو تاريخي في بناء أي واحد من هذه العناصر، وتستبقي فقط
مجرد الحضور المطلَق لله، رغم أن ذلك قد آل بالنسق كثيرًا إلى مصاعبَ
ومفارقاتٍ شتى. وإذ يبدو، هكذا، أن الانبناء ضمن سياق المطلَق، وليس
التاريخي، يمثِّل ثابتًا بنيويًّا ينتظم العناصر الجزئية لما يمكن
اعتباره «نسقًا نبويًّا»،
٧٠ فإن القول في واحد فقط من العناصر الجزئية الخاصة
بالنبوة (كالتعريف من وجهة الوقوع … إلخ)، سوف يتجاوز — لا شك —
الحدود الخاصة بكونه مجرد عنصرٍ جزئي إلى كونه نموذجًا دالًّا على
بنية النبوة بأَسْرها. وعلى هذا فإن حقيقة كون النبوة مجرد خطاب في
المطلَق، لا التاريخي، يمكن أن تتأتى — مثلًا — من التعيين الأشعري
لوقوعها على جهة الإمكان والجواز،
٧١ بمثل ما يمكن أن تتأتى من أي عنصرٍ جزئي آخر.
إذ الحق أن التعيين الأشعري لوقوع النبوة على جهة الإمكان، إنما
يرتبط بما صار إليه النسَق، على العموم، من أن «الفعل الصادر منه
[الله] مختص بضروب من الجواز لا يتميَّز بعضها من البعض»؛
٧٢ وهو التصوُّر للفعل اللازم، على نحو جوهري، لإثبات
القدرة الإلهية مطلقةً من كل تحديد، وذلك باعتبار أن «المصحِّح
للمقدورية هو الجواز، ولو رفضناه لبقي إما الوجوب أو الامتناع،
وهما يمنعان من المقدورية.»
٧٣ وإذا كان قد بدا أن تصوَّر الفعل منطويًا، هكذا، على
ضروبٍ من الجواز لا يتميَّز بعضها من البعض، هو مما يقتضي حقًّا ضربًا
من التبرير العلِّي أو الغائي لاختصاص أحد وجوهه (الجائزة) بالوجود،
فإن النسَق قد صار إلى أن الله إنما يفعل ويُبدِع «لا لغاية يستند
الابداع إليها، ولا لحكمةٍ يتوقَّف الخلق عليها، بل كل ما أبدعه من
خير وشر ونفع وضر، لم يكن لغرضٍ قاده إليه، ولا لمقصودٍ أوجب الفعل
عليه، بل الخلق وأنْ لا خلق له جائزان، وهما بالنسبة إليه سيَّان.»
٧٤ والحق أن هذا الإبطال للقصد والغرض كان لازمًا بسبب
تصوُّر النسَق له مهدِّدًا للذات الإلهية عَبْر وصمها بالنقص والحاجة،
وذلك من حيث يكون «الفاعل بغرض مُستكمل بالغرض»؛
٧٥ الأمر الذي «يوجب افتقار الأشرف إلى الأخس في إفادة
كمالاته له، وأن يكون ناقصًا قبله.»
٧٦ وإذن فإن الثابت الملازم للنسق أبدًا، هو ما ألزمه
إبطال القصد والغرض؛ وأعني به إدراك كل ما يمكن تصوُّره عنصر تعيين
وتحديد (أو حتى كشف وتحقيق فيما بدا من الحديث القدسي عن الكنز
المدفون) للهُوية، باعتباره عنصر تهديدٍ لها، وبما يؤكِّد على كون
النسق لا يرى في أي تحديد (تاريخي أو إنساني أو حتى طبيعي)، لما
فيه من «الإطلاق»، إلا عنصر تهديد لا بد من نفيه ورفعه
٧٧ … ومن هنا نفي الغرض ورفع القصد.
وإذ بدا لازمًا — بعد هذا الإبطال للغرض والقصد — ضرورة فرض مرجِّح
يترجَّح به وجود أحد وجوه الفعل الجائز على عدمه، وذلك من حيث تبقى
معضلة اختصاص أحد وجوه الفعل الجائز على عدمه، قائمة دون تجاوز،
فإن النسق قد صار — وكعهده أبدًا — إلى تصوُّر هذا المرجِّح في إرادةٍ
مطلقةٍ غير محددة بشيء خارجها، هي فقط «ما يتأتى بها تخصيص الممكن.»
٧٨ وأما «ما يُقال من أن العلم بالمصلحة [أو الغرض] صالحٌ
لذلك [التخصيص] فممنوع؛ إذ قد تكون المصلحة في الفعل أو الترك متساوية.»
٧٩ وإذن فإن المطلَق هو ما يحدِّد ذاته وفعله بنفسه، ومن دون
أن يكون لشيءٍ خارجه أي دور في تحديده.
ولعله يُلاحَظ أن النسق، هنا، قد تطرف في استبعاد أي دورٍ لما هو
خارج ذاته في تعيين فعله،
٨٠ وإلى الحد الذي لا يكون فيه، حتى لعلمه هو نفسه
بالمصلحة (الإنسانية بالطبع) أي دور في تعيين فعله وتحديد ماهيته.
ومن هنا ما صار إليه من أنه «لا ينبغي أن يتوقَّف عاقل في أن علمه
[أي الله] بوجه المصلحة [أو الغرض] لا يكفي في فعله.»
٨١ إذ الفعل — أو بالأحرى أحد وجوهه الجائزة — يترجَّح
وقوعه بمجرد تعلُّق الإرادة المطلَقة به، وليس لصفة في ذاته، كمصلحةٍ
ينطوي عليها أو غرضٍ يقصد إليه، وذلك لأن الأفعال — حسب النسق — لا
تنطوي في ذاتها على ما تتقوَّم به، فيما سبق القول، بل تتقوَّم بما
يلحقُها ويتعلَّق بها من الخارج فحسب؛
٨٢ وهي هنا محضُ الإرادة المطلَقة.
ولعلَّه يمكن المصير من ذلك إلى أنه فيما يُحيل تصوُّر اختصاص أحد
الوجوه الممكنة للفعل بالوجود دون غيره، مبرَّرًا بالغرض والمصلحة
(الإنسانيَّين بالطبع) إلى تصوُّره يتحدَّد في سياقٍ إنساني وتاريخي، فإن
تصوره مُرجَّحًا بمحض الإرادة (المطلَقة) إنما يُحيل، في المقابل، إلى
تصوُّره يتبلور ضمن سياق المطلَق فقط. ولعل ذلك يعني أن تصوُّر النبوة،
وككل أفعال الله، «ممكن يستوي طرفاه»؛
٨٣ وبمعنى أنها «ليست واجبة أن تكون ولا ممتنعة أن تكون،
بل الكَوْن، وأنْ لا كَوْن بالنسبة إلى ذاتها وإلى مرجِّحها سيَّان»،
٨٤ وما يرتبط بذلك، بالطبع، من وقوعها بمطلَق الإرادة، لا
بالقصد والغاية، إنما يُحيل إلى أن المعتبَر لدى الأشاعرة، في
النبوة، هو «الخطاب الإلهي» بما ينطوي عليه من إطلاق، وليس «الوضع
الإنساني» بما ينطوي عليه من تحديد.
٨٥ وليس من شكٍّ في أن هذا الانبناء للنبوة في النسق.
الأشعري ضمن سياق «المطلق» لا «التاريخي»، هو — لا غيره — ما يؤسِّس.
معرفيًّا لما صار إليه التصور التاريخي الأشعري من بنائها كلحظةٍ
مثاليةٍ متعالية ومن طبيعة لا تاريخية، يبدأ منها التاريخ اللاحق
مسيرة سقوطه وانهياره، وكذا يؤسِّس للكيفية التي انبنى بها الوحي في
سياق هذا التصور التاريخي أيضًا، وذلك من حيث يتبلور، بدوره، كخطابٍ
في المطلَق لا ينطوي على أي تعدُّد أو اختلاف، فصار أدنى إلى الوحدة
المغلَقة التي لا تقبل شيئًا سوى التكرار، وبحيث استحال — وكما سبق
القول — إلى مجرد «نموذج» يستحيل إلا الاحتفاظ به — ككل نموذج — في
اكتماله المطلَق عَبْر الاجترار، وليس نقطة بدءٍ للوعي يرتكزُ عليها في
سعيُه إلى إبداع أشكال وجودٍ أعلى، وذلك مع الاحتفاظ بها في علاقة
تفاعُل وحوار. وفي كلمةٍ واحدة، فإنه قد استحالَ إلى أساسٍ للتاريخ بما
هو آلية «تكرار»، وليس مغامرة «حوار»، أو التاريخ بما هو تقليد
واتِّباع، وليس التاريخ بما هو خلق وإبداع.
٨٦
وإذ الأمر، هكذا، فيما يتعلق بلحظة الفضل-المثال (وأعني أنها
تجد أساسها المعرفي قارًّا في بناء نسَق العقائد للنبوة)، فإن ما
يلحقُها من الانهيار، وما يبدو من استحالة تجاوزه إلا بتدخلٍ إلهي
(عَبْر تكرار لحظة الفضل-المثال التي تجسِّد هذا التدخُّل)، إنما يجد
أساسه المعرفي قارًّا بأَسْره في سياق الأنطولوجيا الأشعرية؛ وأعني —
بالطبع — في سياق نظرية «الجواهر والأعراض»،
٨٧ وما ينبني عليها خاصة، من تصوُّرات للحركة والزمان
والفعل هي التي تؤسِّس لهذا الانهيار على نحوٍ مباشر.
فإذ ينطوي التاريخ الأشعري، انطلاقًا من بنائه للعلاقة بين
لحظتَيه الجوهريتَين على نحوٍ من الانقسام والتجاور والتمايز، على
تصورٍ للحركة التاريخية تبدو فيه انتقالًا حادًّا بين لحظتَين
منفصلتَين على نحوٍ قاطع، حتى لتبدو الواحدة منهما — وحسب بنائها في
التصوُّر الأشعري للتاريخ — وحدةً مغلَقة على طبيعةٍ مغايرة تمامًا للأخرى،
٨٨ حتى لقد لاح أنهما — وفيما سبق القول — ينعكسان عن
تاريخَين متمايزَين تمامًا، وليس تاريخًا واحدًا تتواصل لحظاته في
ترابُط وتداخُل تبدو فيه الواحدة منهما منطويةً على الأخرى ومنتجةً
لها، فإن هذا التصوُّر للتاريخ انتقالًا بين لحظتَين الواحدة
منهما منفصلة عن الأخرى، إنما يجد أساسه قارًّا في الحقل المعرفي الخاص
بتصور «الحركة» في النسق؛ وذلك من حيث تنبني (أعني الحركة) في سياق
ضربٍ من التفتُّت والانفصال إلى أجزاءٍ لا فعل للجزء منها في الآخر؛
وأعني — بالطبع — باعتبار كونها جزءًا من البناء العام لنظرية
«الجواهر والأعراض»، التي لا تتكشَّف البتة إلا عن الانفصال
والتفتُّت والتجاوُر ينتظم بناء العالم بأَسْره، فيما بدا ضروريًّا
لإطلاق القدرة وشمول العلم (الإلهيَّان بالطبع).
إذ الحركة، ضمن هذا البناء الأشعري للعالم، تُعَد أحد الأعراض
«التي لا يصحُّ بقاؤها، والتي تعرض في الجوهر والأجسام، وتبطل في
ثاني حال وجودها.»
٨٩ ذلك أنه «عندما يُخلق العرض يذهب ولا يبقى، فيخلق الله
عرضًا آخر من نوعه، فيذهب أيضًا ذلك الآخر، فيخلق ثالثًا من نوعه،
هكذا دائمًا.»
٩٠ وإذ الحركة — والحال كذلك — لا تبقى زمانَين، بل تبطُل —
ككل الأعراض — في ثاني حال وجودها، فإن ذلك يعني أنها لا تكون
فعلًا ممتدًّا ومتصلًا، بل فعلًا منقطعًا ومنفصلًا؛ وذلك من حيث إن
بطلانها في الحال الثاني لوجودها، إنما يعني خلو المتحرِّك (وهو
الجوهر أساسًا) منها في هذا الحال الثاني، وطروء السكون عليه،
٩١ إلى أن يخلق الله فيه عرَض الحركة من جديد، والذي يبطل
بدوره ليطرأ سكونٌ آخر … وهكذا أبدًا؛ الأمر الذي يعني أن السكون
(أو أجزاءه بالأحرى) تتخلَّل أجزاء الحركة،
٩٢ وأن كل واحد من أجزاء هذه الحركة هو، على هذا النحو،
منفصلٌ ومستقلٌّ بالسكون المجاور له عن جزء الحركة الذي يلحقه. وإذ
الحركة — والحال كذلك — لا يُمكِن أن تكون إلا قفزًا (أو طفرًا) من
جزء فيها إلى آخر يفصلهما السكون، فإن ذلك يعني أنها حركة انفصال،
٩٣ وليس اتصال.
وليس من شك في أن تصورًا للتاريخ هو انتقال من لحظة إلى أخرى
تُغايِرها وتنفصل عنها (كالحال في التاريخ الأشعري)؛ وبما يعني أنه
انتقال بالانفصال والتقطع، إنما يجد أساسه قارًّا في هذا التصور
للحركة انتقالًا بالانفصال لا بالاتصال؛ حيث الانتقال في التاريخ
من لحظة إلى أخرى لا يستلزم — كالحال في الحركة تمامًا — اتصالهما
على أي نحو، بل إنه وكما يكون الواحد من أجزاء الحركة منفصلًا ومستقلًّا
بالسكون المجاور له عن جزء الحركة الذي يلحقه، فإن لحظةً ما من
لحظات التاريخ (هي جزء من حركته) إنما تنفصل وتستقل (بالسقوط
المجاور لها) عن جزء حركته اللاحق؛ وأعني بالطبع لحظته اللاحقة.
وضمن سياق هذا التقطع والانفصال بين لحظاته، فإن الانتقال بينها
يكون — كما هو في الحركة — قفزًا أو طفرًا من لحظة إلى أخرى، وذلك
من حيث إنه لا سبيل للانتقال بين لحظاتٍ أو أجزاءٍ منفصلة ومتمايزة
إلا القفز أو الطفر.
٩٤ ومن هنا إمكان الانتقال أو الطفر (في التاريخ الأشعري)
من اللحظة-المثال إلى ما يتلوها من لحظات الانهيار، رغم الانفصال
والقطيعة الكاملة بينهما. وكذا الانتقال أو الطفر — ولكن في مسار
معاكس — من لحظات الانهيار إلى لحظة الفضل والمثال؛ حيث الأمر لا
يقتضي أي تمثُّل أو إعادة بناء لها، وبحيث تصبح عملية استعادتها
تواصلًا طبيعيًّا معها، بل الأمر يُختزَل في السعي إلى مجرد إعادتها
وتكرارها، وذلك بالقفز إليها (أو الطفر منها هي نفسها إلى الحاضر
المنهار)، فيما يبدو خلاءً تاريخيًّا لا مجال للانتقال فيه إلا
قفزًا أو طفرًا.
٩٥
وهكذا يبدو أن تاريخًا ينبني على انقسام لحظاته وتمايُزها إلى حد
المغايرة (كالتاريخ الأشعري)،
٩٦ إنما يجد أساسه المعرفي في تصورٍ للحركة، لا اتصالًا
تتداخل فيه اللحظة مع الأخرى، وبحيث يبدو وكأن الواحدة منها تنطوي
على الأخرى وتحيل إليها، بل انفصالًا وتقطعًا تتجاور فيه الواحدة
منها مع الأخرى؛ وبحيث تكون الواحدة منها وحدةً صمَّاءَ مغلقةً لا سبيل
للانتقال منها إلى الأخرى إلا قفزًا.
٩٧ وفي المقابل، فإن تاريخًا ينبني على تصور لحظاته من
طبيعة واحدة؛ وأعني من دون أي انقسام وتمايز بينها، إنما يجد أساسه
في تصورٍ للحركة تكون تواصلًا، لا تقطعًا.
٩٨ وهكذا يبدو بناء الحركة التاريخية مشروطًا، في كل حال،
ببناء للحركة ينطوي عليه سياق يقع خارج التاريخ؛ الأمر الذي يعني
أن التاريخ في إطار النسق، أي نسق، ليس وحدةً مغلقة على نفسها، بل
حقلًا ينفتح على غيره ليتأسَّس به ويؤسِّسه في آنٍ معًا، وذلك بحسب
انتمائه مع غيره إلى مجال بنيوي واحد يؤسِّسها جميعًا بالطبع.
وإذا كان الانتقال، في التاريخ الأشعري، من الفضل إلى الانهيار
(وبوصفه انتقالًا بين لحظتَين منفصلتَين ومتغايرتَين) إنما يجد ما
يؤسِّسه، هكذا، في البناء الأنطولوجي للحركة، فإن التصور الأشعري
للانهيار، إنما يرتفع لا بفعل من التاريخ، بل من خارجه (وأعني عَبْر
تكرار لحظة فضل ومثال تقع خارجه)،
٩٩ إنما يجد بدوره، ما يؤسِّسه معرفيًّا في البناء
الأنطولوجي للزمان (والذي هو أيضًا جزء من نظرية الجواهر
والأعراض). إذ الزمان، وبحسب بنائه وتعريفه، إنما يحيل إلى أن
التصدع والانهيار يلزمان أبدًا كل ما يقع فيه ويقارنه من فعل أو
حدث أو حتى موجود؛ وذلك من حيث إن التفتُّت إلى أجزاء، وبما يجاور كل
جزء من السكون أو العدم، هو — كالحال في الحركة، وفي كل ما ينتمي
إلى نظرية الجواهر والأعراض — المبدأ المحدد لبناء الزمان؛ الأمر
الذي يعني أن النسق سيفكِّر في الزمان بذات المفاهيم التي يفكِّر بها
في «الجواهر والأعراض». وبالفعل فإن تصوُّر الزمان — داخل النسق —
يتناهى إلى أجزاءٍ لا تتجزأ، أو «آناتٍ لا مدة لها»،
١٠٠ إنما ينبني — لا شك — على تصوُّر الأجسام تتناهى إلى
«أجزاءٍ صغيرةٍ جدًّا لا تقبل التجزئة لدقتها، لا للجزء الواحد منها
كمٌّ بشكلٍ عام.»
١٠١ وإذ يبدو أن «الكم» يلحق بالجواهر «إذا اجتمع بعضها
على بعض»
١٠٢ فإنه يمكن المصير إلى أن «المدة» تلحق بآنات «الزمان»
«إذا اجتمع بعضها على بعض» بالمثل. وهكذا تكون «المدة» — وهي جوهر
الزمان — لا من الآن نفسه (الذي يبدو كالجوهر، لا ينطوي في ذاته
على ما يتقوَّم به)،
١٠٣ بل من مجرد اجتماع الآنات إلى بعضها؛
١٠٤ والذي هو — ككل اجتماع داخل النظرية والنسَق بأَسْره —
اجتماع مجاورة فقط.
«ومن هنا كون الزمان الأشعري، هو مجموع ذراتٍ منفصلة أو آناتٍ يحدث
الواحد بعد الآخر، ولا صلة بين الواحد والآخر»؛
١٠٥ لأن كل ما يجمع الواحد منها بالآخر هو مجرد تجاوره
معه. وكالحال في الأجسام، فإن هذا التصوُّر للزمان الذي ينبني على
الانفصال والتجاور، كان لا بد أن ينتهي إلى افتراض المفهوم
المتضافر معهما في شبكةٍ مفاهيميةٍ واحدة؛ وأعني به الخلاء، كإطار
لحركة هذه الأجزاء أو الذرات المنفصلة، والتي يُلِح النسَق على أنها
تكون، ضمن هذا الخلاء — وفيما يتعلق بالزمان طبعًا — حركة انتقال،
أو طفرٍ بالأحرى، من الآن إلى آخرَ يجاوره، ولا يتداخل معه؛
١٠٦ الأمر الذي يعني أنها — وككل حركة تتبلور في إطار
نظرية الجواهر والأعراض الأشعرية — حركة انفصال، وليس اتصال. ولعل
هذا التصوُّر للزمان تتحرَّك آناته بالانفصال والتجاور، وليس الاتصال
والتداخل، إنما يُحيل إلى أن هُوةً من الفراغ أو العدم تقوم بين كل
اثنَين من هذه الآنات، وذلك من حيث إن كل آن، إنما ينفصل ويستقل
بهذا الفراغ أو العدم المجاور له، عن الآن الذي يلحقُه؛ وهو ما يعني
— بالطبع — أن أجزاء العدم تتخلل أجزاء الزمان تمامًا كما أن أجزاء
السكون تتخلل — فيما بدا آنفًا — أجزاء الحركة.
١٠٧
والحق أن هذا التصوُّر للعدم يتخلَّل أجزاء الزمان، كان بمثابة
الأساس المنطقي لما صار إليه النسَق من استحالة أن يبقى العرَض
زمانَين، أو بالأحرى آنَين؛ لأن ما بين كل آنٍ في الزمان وآخر هوة
من الفراغ أو العدم لا بد أن تطال العرَض؛ وأعني أن العدم الذي
يفصل آنًا عن آخر في الزمان، لا بد أن يطال العرَض، وكل ما هو وجود
في الزمان بالطبع، فينعدم بدوره، ثم يتجدَّد خلقه، مع تجاوز هذا
العدم (الكامن في صميم الزمان يفصل آناته)، والطفر إلى آنٍ آخر.
وهكذا، مثلًا، فإنه إذا كان الآن «أ» ينفصل عن الآن «ب» بعدمٍ يقوم
بينهما، فإن العَرَض الحادث في الزمان، سيُوجد في الآن «أ» ثم يتجدَّد
وجوده (وجودًا منفصلًا ومستقلًّا عن الوجود الأول) في الآن «ب».
وأما فيما بينهما فإنه سينعدم، لا محالة، بالعدم القائم بينهما.
وإذ يبدو أن عدم الأعراض وبطلانها في ثاني حال وجودها، إنما يُعَد —
تبعًا لذلك — مجرد نتاجٍ مباشر للبناء الأشعري للزمان انتقالًا أو
طفرًا من آنٍ إلى آخرَ يفصلهما العدم؛ وبما يعني أن انعدام الأعراض —
في النسَق — لا يكونُ من نفسها (حتى لا تكون لها أي قدرة أو فعل)،
ولا يكون من الله، بل من الزمان باعتبار بنائه، فإنه يُمكِن المصير
من ذلك إلى أن النسَق قد انتهى إلى استنباط الطابع العدَمي للعرَض
(وللجوهر بالتالي)، استنباطًا منطقيًّا من بناء الزمان. والملاحظ
أن هذا الاستنباط المنطقي لعدَم الأعراض والجواهر من بناء الزمان،
إنما يرتبط بتصوُّر القدرة الإلهية، في النسَق، ذات تعلقٍ وجودي فقط،
ومن دون أي تعلقٍ عدمي البتة؛ فإن «أثَر القدرة عندهم (يعني
الأشاعرة) لا بد أن يكون وجوديًّا، فلا تتعلق القدرة بالعدَم عندهم»،
١٠٨ ومن هنا تصوُّره (أي العدم) نتاجَ ضرورةٍ منطقية، لا
فاعليةٍ إلهية.
ولعله يبدو أن هذا التصور — في سياق الأنطولوجيا — لانعدام
الأعراض يكون من الزمان، في حين يكون تجدُّدها (وتكرارها) في الوجود
من الله، إنما يؤسِّس لتصور الانهيار في سياق التاريخ (الذي يوازي
انعدام الأعراض في سياق الأنطولوجيا) يكون من الشيطان أو بالأحرى
من التاريخ نفسه، في حين يكون رفع هذا الانهيار وقهره (الذي يوازي
تجدُّد الأعراض) من الله أيضًا؛ الأمر الذي يعني أنه فيما تتكشَّف
الأنطولوجيا عن فاعليَّتَين؛ إحداهما فاعلية إعدام (وتكون من الزمان)،
والأخرى فاعلية قهرٍ لهذا الإعدام ورفعه بالخلق المتكرِّر للأعراض (من
الله)، فإن التاريخ، بدوره، يتكشَّف عن ذات الفاعليتَين؛ وأعني بهما
فاعلية الانهيار (وتكون من التاريخ)، والأخرى فاعلية قهره وتخطيه
بتكرار اللحظة-المثال (وتكون من الله). ولعله يلزم التنويه، هنا،
بأن تصوُّر انعدام الأعراض يكون من الزمان، لا يعني أبدًا إثبات
فاعليةٍ حقَّة له؛ حيث الفاعلية الحقَّة إنما تتعلق — حسب النسَق
الأشعري — لا بالإعدام، بل بالإيجاد فقط.
ومن هنا فإن ما يُضاف إلى الزمان من الفاعلية في هذا السياق،
إنما هي — وككل فاعلية لما سوى الله في النسَق — فاعلية بالمجاز، لا
الحقيقة. وهكذا لا يكون انعدام الأعراض نتاج فعل الزمان، بل نتاج
مجرد بنائه على نحوٍ من انفصال آناته وتخلُّل العدم أجزاءها، تمامًا
بمثل ما إن تصوُّر الانهيار من التاريخ (أو حتى الشيطان)، لا يعني
إثبات فعلٍ له، بل يكون الانهيار — أيضًا — من التاريخ بحسب بنائه
على نحوٍ من الانفصال بين لحظة أولى (جوهرها الفضل)، ولحظاتٍ لاحقة
(جوهرها التدهور). وبالرغم من ذلك، فإنه يبقى أن ما يبدو — في
الأنطولوجيا — من كون فعل الله «خلقًا للأعراض» يكون مشروطًا بفعل
الزمان — ولو مجازًا — «إعدامًا لها»، إنما يتماثل تمامًا مع ما
يبدو — في التاريخ — من تصوُّر فعل الله «قهرًا للانهيار»، يكون
مشروطًا بفعل التاريخ أو الشيطان — ولو مجازًا أيضًا — «إنتاجًا
وتكريسًا له»؛ الأمر الذي يبدو معه أن البناء الأنطولوجي للزمان
يمارس هيمنةً معرفيةً شاملة على تصوُّر التاريخ الأشعري.
والمُلاحَظ أن هذه الهيمنة للزمان على التاريخ لا تقف عند حدود
انبنائهما بكيفية تكاد أن تكون واحدة فقط، بل تتخطى إلى تعريفهما
بما يُحيل إلى توحُّدهما، لا على صعيد إنتاج الدلالة فقط، بل وحتى على
صعيد المفردات المستخدمة أيضًا؛ فإذ الزمان على «مذهب الأشاعرة،
أنه متجدِّد يقدَّر به متجدد، وقد يتعاكس بحسب ما هو متصوَّر للمخاطب،
فإذا قيل: متى جاء زيد؟ يقال: عند طلوع الشمس، إن كان مستحضرًا
لطلوع الشمس، ثم إذا قال غيره: متى طلوع الشمس؟ يقال: حين جاء زيد،
لمن كان مستحضرًا لمجيء زيد. ولذلك اختلف بالنسبة إلى الأقوام،
فيقول القارئ: لآتينك قبل أن تقرأ أم الكتاب، والحرة: لبث فلان
عندي قَدْر ما تغزل كبة … وعلى هذا كلٌّ بحسب ما هو مُقدَّر عنده
يُقدِّر غيره»،
١٠٩ فإنه يبدو — حسب هذا التعريف — أن الزمان يُقارِن
المتزمن فيه ويُلازِمه، وإلى حدٍّ يُمكِن معه القطع، بأنه لا زمان البتة
من غير المتزمن فيه، بل إنه «يبطل ببطلان الموجود المتحرك (أي
المتزمَّن)، ويُوجَد بوجوده، إذ هو مُقدَّر بحركته.»
١١٠
والحق أن هذا الترابط بين الزمان والمتزمن فيه، إنما يرتبط —
جوهريًّا — بما صار إليه النسَق الأشعري من الرفض والإنكار ﻟ
«الزمان المطلق» يُمثِّل إطارًا للأحداث مستقلًّا ومتميزًا عنها؛ حيث
«الإحالة إلى مكان بدون متمكنٍ أو مكانٍ مطلَق يبقى إذا ارتفع
المتمكِّن، وكذلك الإحالة إلى مدةٍ مطلَقة (زمانٍ مطلق) هي الجوهر، لا
ترتفع بارتفاع العالَم (المتزمن)، كلاهما إحالةٌ على شيء، لا الإدراك
يُثبِته، ولا الوهم يتصوَّره.»
١١١ إذ بدا أن زمانًا — كهذا — هو «وجودٌ وجداني، مجرد عن
المادة، لا جسم مقارن لها، لا يقبل العدم لذاته، فيكون (أو لا يمكن
تصوُّره — بالأحرى — إلَّا) واجبًا بالذات»؛
١١٢ ويعني أنه لا يمكن تصور الزمان، حال كونه مطلقًا، إلا
إلهًا، أو كالله. ومن هنا ما صارَ إليه النسَق من ضرورة تصوُّره (أي
الزمان) يقارن المتزمن ويلازمه، فيبطُل ببطلانه، ويُوجَد بوجوده، وحتى
يتجدَّد بتجدُّده.
والحق أن هذه الدلالة القصوى لتعريف الزمان، على مذهب الأشاعرة
(وبما تنطوي عليه من تصوُّر الزمان، لا إطارًا عامًّا للحدث يستقل
ويتميز عنه، بل تراه والحدث في هويةٍ لا انفكاك فيها للواحد منهما
عن الآخر)، هي ذات الدلالة المستفادة من التعريف المتداول للتاريخ،
على مذهب الأشاعرة أيضًا؛ فإذ التاريخ «في اللغة [هو] الإعلام
بالوقت، يُقال أرختُ الكتاب وورختُه، أي بيَّنتُ وقت کتابته»،
١١٣ وفي الاصطلاح هو «تعريفُ الوقتِ بإسناده إلى أول حدوث
أمرٍ شائع»،
١١٤ وأنه — لذلك — «علم يُبحَث فيه عن الزمان وأحواله، وعن
أحوال ما يتعلق به من حيث تعيين ذلك وتوقيته»،
١١٥ فإنه يبدو — حسب التعريف — أن التاريخ، كالزمان، يقارن
الحدث المؤرَّخ له ويلازمه، إلى حدٍّ يُمكِن معه القطع بالمثل، بأنه لا
تاريخ البتة إلا بحدثٍ يُسند إليه. وإذ يبدو التاريخ والحدث — هكذا
— في هُوية لا انفكاك فيها للواحد منهما عن الآخر، فإن ذلك يُحيل إلى
تصوُّر التاريخ — كالزمان — لا إطارًا عامًّا للحوادث يستقل ويتميز
عنها، بل هو والحدث شيءٌ واحد، وذلك من حيث يجري اختزاله (أي
التاريخ) في مجرد تعيين موضع الحدث وتوقيته. وهكذا فإن تصورًا
للزمان لا ينفك عن الحدث المتزمن فيه، قد استحال إلى تصوُّر للتاريخ
لا ينفك — بالمثل — عن الحدث المؤرَّخ له. والحقُّ أنه يبدو أن توحدًا
— فيما يتعلق بالتعريف — بين كلٍّ من الزمان والتاريخ، هو أمر لا يقف
عند هذا الحد من وحدة الدلالة، بل يتجاوزه إلى وحدة المفردات
المستخدمة في الصياغة اللغوية لكلٍّ منهما تقريبًا. وهكذا فإن
تعريفًا للتاريخ هو «مدةٌ معلومة بين حدوث أمرٍ ظاهر وبين أوقاتِ
حوادثَ أُخَر»،
١١٦ إنما يتوحَّد — وبقاموس مفرداته تقريبًا — مع تعريف
للزمان (أو الوقت) «هو الفرق بين الأعمال، وهو مدى ما بين عملٍ وعمل.»
١١٧
وأخيرًا، فإنه إذا كان ما يفيده تعريف الزمان (الأشعري) من
التلازم بينه وبين المتزمَّن فيه، إنما يُحيل إلى أن ما يلحق
بالزمان من الانفصال لا بد أن يلحق بالمتزمَّن فيه أيضًا، فإن هذا
الانفصال ذاته كان مما لا بد أن يلحق بالتاريخ أيضًا، لا باعتبار
أن المتزمن (بوصفه حدثًا بالطبع) هو مادته، بل وباعتبار تعريفه
(حسب كلٍّ من السخاوي والكافيچي) «كبحث عن وقائع الزمان [وأحداثه] من
حيثية التعيين والتوقيت»؛ إذ المُستفاد من هذا التعريف أن غاية
الجهد التاريخي إنما تنصرف فقط إلى مجرد تعيين موقع الحدث وتوقيت
حدوثه، ومن دون الاهتمام البتة برصده في علاقته بما يسبقه أو يلحقه
من أحداث. ومن هنا — لا شك — ما طبع هذا الجهد التاريخي من هيمنة
الخبر كآلية لإنتاجه؛ حيث الخبر عن الحدث … «کل خبر [هو] تام
بنفسه، ولا يحتمل إشارة إلى أي نوع من المواد المكملة، [الأمر الذي
يعني أنه] لا يتيح تثبيت الصلة السببية بين حادثتَين أو أكثر …
[ولهذا فإنه] إذا تكوَّن الكتاب التاريخي من أكثر من خبرٍ واحد، كما
تقضي بذلك الحاجة، فإن الخبر الواحد يُوضَع بجانب الخبر الآخر [وضع
مجاورة بالطبع].»
١١٨ وبمعنى أن شكل الكتابة التاريخية قد انبنی، بدوره،
بحسب تصور للزمان والمتزمَّن فيه، والتاريخ بالتالي، على نحوٍ من
الانفصال والتقطع؛ الأمر الذي جعل هذه الكتابة مجرد حقلٍ للجزئي
(الخبر-الحدث) لا تتجاوزه إلى إطارٍ تركيبي أشمل ينطوي عليه مع غيره.
١١٩ ومن هنا ما لاحظه أحدُهم عن «ما يمتاز به مؤرخو العرب
الأقدمون من القدرة على إدراك الجزئيات إدراكًا دقيقًا غير أنهم لم
يقدروا على ربط الحوادث برباطٍ جامع.»
١٢٠ ولعله يبدو — هكذا — أن الزمان الأشعري، بتعريفه
وبنائه، إنما يمارس هيمنةً معرفيةً شاملةً على التاريخ، لا تعريفًا
وبناء فقط، بل وشكلًا كتابيًّا أيضًا.
وإذا كان قد بدا، هكذا، أن انهيار التاريخ، وتصوُّر هذا الانهيار
يرتفع، لا بفعل من التاريخ، بل من خارجه (فيما بدا أنه من الله)،
إنما يجد ما يؤسِّسه في البناء الأشعري للزمان، فإن اختزال هذا الفعل
(الذي يرتفع به الانهيار) في مجرد تكرار اللحظة-المثال (أعني
لحظة النبوة)، إنما يجد ما يؤسِّسه في نظرية الكسب الأشعري؛ إذ
التكرار للحظةٍ ما هو، في حقل التاريخ، أدنى إلى الكسب في مجال خلق
الأفعال، وذلك من حيث ينطوي التكرار على تصور هذه اللحظة-المثال،
أو موضوعها — بالأحرى — وهو الوحي، هويةً مغلقةً على نفسها لا تنفتح
على شيءٍ خارجها في العالم، وهو ما يرتبط بتصوُّرها على نحوٍ من
الاكتمال المطلق والنهائي، والذي يستحيل معه إلا الاحتفاظ بها عَبْر
التكرار فحسب. وإذ يعني ذلك استحالة كون هذه اللحظة (المراد
تكرارها) موضوعًا لفعلٍ معرفيٍّ خلَّاق؛ أعني فعل استيعاب وتجاوز — بل
موضوعًا لضربٍ من المعرفة الاجترارية الفقيرة التي تقصد، لا إلى
تجاوز موضوعها واستيعابه بالطبع، بل إلى الاحتفاظ به والتوحُّد معه،
فتُلغي ذاتها كفعلٍ خلَّاق، وتبقى فقط كفعل تكرار (وهو فعل بالمجاز لا
شك) — فإن ذلك يئول إلى الإقصاء الشامل لأي فاعليةٍ معرفيةٍ حقة
للإنسان بإزاء هذه اللحظة المراد تكرارها، وبحيث تبقى أي فاعلية
بإزائها هي فاعلية مجازية، لا حقيقية.
وليس من شك في أن مثل هذا التصور للفاعلية الإنسانية هي، في حقل
التاريخ، فاعليةٌ مجازية (وذلك بما هي مجرد فاعلية تكرار)،
١٢١ إنما يجد ما يؤسِّسه — في النسق — في تصوُّر أن الفاعلية
الإنسانية في مجال خلق الأفعال، هي أيضًا فاعليةٌ مجازية (وبما هي
مجرد فاعلية تكرار كذلك)، فإذ بدا للأشاعرة أن «في المصير إلى أنه
لا أثَر لقدرة العبد في فعله قطعٌ لطلبات الشرائع»،
١٢٢ فإن الأشعري قد صار إلى أن «الله تعالى أجرى سُنَّته بأن
يحقِّق عقب القدرة الحادثة، أو تحتها، أو معها: الفعل الحاصل إذا
أراده العبد وتجرَّد له، ويُسمَّى هذا الفعل كسبًا، فيكون هذا الفعل
خلقًا من الله تعالى إبداعًا وإحداثًا، وكسبًا من العبد: حصولًا
تحت قدرته.»
١٢٣ وهكذا فإن الأشاعرة قد اضطُروا للمخايلة بقدرة للعبد في
فعله، فرارًا مما يئول إليه نفي أي أثرٍ لها من «قطعٍ لطلبات
الشرائع» حسب الجويني. والحق أن الأمر لا يتجاوز مجرد المخايلة
بهذه القدرة؛ لأن تحليلًا لها يئول إلى أن حضورها، عند الأشاعرة،
ليس حضورًا بالحقيقة، بل هو حضورٌ بالمجاز؛ إذ ثمَّة اتفاقٌ بينهم على
أنها قدرةٌ حادثة (أعني مخلوقة للإنسان (العبد)، لا جوهرًا أصيلًا
فيه)، وأنه لا تأثير لها البتة في الإحداث والخلق (حيث لا يتجاوز
تأثيرها حدود كسب الفعل فقط)، وثمَّة أيضًا أنها — كالأعراضِ — لا
تبقى زمانَين؛
١٢٤ الأمر الذي يعني أنها ليست جزءًا من الطبيعة الأصيلة
الحقَّة للإنسان، بل مجرد عرَضٍ طارئ يلحق به في لحظة اكتسابه
الفعل، وتبطُل في ثاني حال وجودها. وهكذا فإنها — وفي كلمةٍ واحدة —
لا تُوجد في الإنسان حقًّا، بل مجازًا. ومن المفارقات أن مجازية
حضورها تتأتى من أنها تكون قدرةً على التكرار فقط؛ إذ يُحيل تصوُّر
الفعل «خلقًا من الله تعالى إبداعًا وإحداثًا، وكسبًا من العبد:
حصولًا تحت قدرته»، إلى التمييز في الفعل، بين مستوى خلقه من الله
(الذي يكون إبداعًا)، وبين مستوى كسبه من العبد (الذي لا يكون إلا
تكرارًا)، وحيث الكاسب لفعلٍ يكون مخلوقًا له سلفًا، لا يفعل بالطبع
إلا أن يكرِّره.
وهكذا تبدو القدرة، في مجال خلق الأفعال، هي قدرة على التكرار
لفعلٍ مخلوقٍ سلفًا، تمامًا بمثل ما كانت الفاعلية، في حقل التاريخ،
هي أيضًا فاعلية تكرار للنموذج الجاهز والمكتمل سلفًا. ولعل هذا
التوازي يؤكِّد على أن سلب الإنسان قدرته، في مجال خلق الأفعال، كان
التوطئة الضرورية التي انبنى عليها سلب الفاعلية في حقل التاريخ
أيضًا.
والحق أن التوازي بين الكسب في الأفعال، والتكرار في التاريخ،
يتبدى على نحوٍ أعمق في انكشافهما عن ثابتٍ بنيويٍّ واحد ينتظم بناءهما
معًا؛ وأعني به الانفصال بين عناصر بناء كلٍّ منهما.
١٢٥ إذ يُحيل «التكرار»، في التاريخ، إلى الانفصال بين
نموذج (يُراد تكراره) هو جاهزٌ ونهائيٌّ ومكتملٌ أبدًا، وبين فاعل
(يقوم بالتكرار)، ولا ينطوي بإزاء اكتمال النموذج ونهائيته، على أي
فاعليةٍ حقَّةٍ في مواجهته، بل لعله ينطوي على مجرد نقصه. وإذن فإنه
الانفصال بين النموذج بكماله، وبين الفاعل (مجازًا بالطبع) بنقصه
ودونيته، وهو الانفصال ذاته الذي ينطوي عليه الكسب، في الأفعال،
بين الفعل والفاعل؛ وأعني بين الفعل يكون من الله خلقًا، وبين
الفاعل (بالمجاز طبعًا) الذي يكون مجرد كاسبٍ للفعل بقدرةٍ ناقصة
كذلك، وهكذا يتكشَّف التوازي بين الكسب والتكرار، لا عن مجرد
الإقصاء الشامل لأي فاعليةٍ إنسانيةٍ من حقل التاريخ والأفعال، بل
وعن انبنائهما بكيفيةٍ واحدةٍ تقريبًا، وأعني على نحوٍ من الانفصال
والتمايز بين عناصر بنائهما.
والحق أن هذا الذي ينطوي عليه التاريخ الأشعري من التكرار أبدًا
— إنْ في انهياره (تكرارًا لنموذج الكفر الذي يجسِّده إبليس)، أو في
سعيه لرفع انهياره (تكرارًا لنموذج الفضل الذي تجسِّده النبوة) — وما
يرتبط بذلك من اختزال التاريخ، وخصوصًا مع الإقصاء الشامل لأي
فاعليةٍ إنسانيةٍ عن فضائه، إلى مجرد فضاء لدراما الصراع الأزلي بين
الله وأنبيائه (نموذج الفضل) وبين الشيطان وحلفائه (نموذج الكفر)،
إنما يعكس الصراع الجوهري بين النقل والعقل الذي يسري في ثنايا
النسَق الأشعري بأَسْره. ولعل ذلك يتأكد، على نحوٍ حاسم، من ملاحظة أنه
في حين يرادف النقل (كلام الله)، فإن النسق قد راح، في المقابل،
يرى في الرأي والعقل شيئًا يقارن الشيطان ويميِّزه، وذلك من حيث صار
إلى أن «أول شبهة وقعَت في الخليقة [هي] شبهة إبليس لعنه الله،
ومصدرها استبدادُه بالرأي في مقابلة النص.»
١٢٦ وإذ التاريخ الأشعري، هكذا، مجرد وجه لصراع العقل
والنقل في النسق؛ وبما يعني أنه لا ينعكس عن تصارع إراداتٍ وقوًى حية
(تُمارِس الفعل في العالم)، بل عن تصارُع مقولاتٍ تقوم خارجه، فإن ذلك
يؤكِّد على أنه ليس ثمَّة — عند الأشاعرة — أي حضورٍ للتاريخ الحق، بل
ثمَّة التنكُّر له والتعالي عليه فقط.
١٢٧
وإذا كان قد بدا — مما سبق كله — أن التأسيس المعرفي من نسَق
العقائد لتصوُّر التاريخ الأشعري يتجاوز نظام بنية التصور إلى بناء
عناصره وأفكاره الجزئية أيضًا، فلعله يلزم — إكمالًا لدائرة هذا
التأسيس المعرفي — بيان الكيفية التي راح يؤسِّس بها نسَق العقائد
ذاته للآليات التي راح يتحقَّق بها هذا التصور في الكتابات والأعمال
التاريخية. ويعني ذلك أنه يلزم الانتقال من تأسيس النسَق العقائدي
لتصوُّر التاريخ (بنية وعناصر جزئية) إلى التأسيس أيضًا لآليات
إنتاجه للتاريخ المكتوب فعليًّا.
من التصوُّر إلى آليات إنتاجه للتاريخ
يبدو أنه لا بد أن تكون للتصوُّر (أعني أي تصور في أي حقلٍ معرفي)
جملة أدوات وآليات يتحقق بها في حقل الكتابة، وإلا فإنه يبقى أسير
مجرد «النظر»، فلا يستحيل إلى «ممارسة» يتسع بها محيط الثقافة التي
تتضمَّنه. وإذ يعني ذلك أن آليةً ما هي مجرد وسيط يستحيل عَبْره التصور
— في حقلٍ معرفيٍّ ما — من بنيةٍ نظرية إلى ممارسةٍ كتابية، فإنه يلزم
التنويه بأنه «وسيطٌ» مشروط. وبمعنى أن هذا الوسيط لا بد، من جهة،
أن يحتفظ بنظام بنية التصور وخصائصها القارَّة، ومن جهةٍ أخرى، فإنه
لا بد أيضًا أن يخضع لقواعد وشروط الكتابة كفعل ينطوي على قوانينَ
تخصُّه. وإذا كان ذلك يعني أن الكتابة ليست فعلًا محايدًا يتحدد
بالآلية المنتجة له فقط، بل إنه يحدِّدها كذلك، فإنه يمكن المصير من
ذلك إلى أن آليةً ما — في حقلٍ معرفيٍّ ما — قد تتبلور في ارتباط مع
تطوراتٍ تخُص فعل الكتابة أساسًا، ولكن من دون أن يعني ذلك، بالطبع،
أنها لا تحقِّق نظام بنية التصور السائد في فضاء الحقل المعرفي؛ إذ
بالرغم من أنها قد تبدو، في الظاهر، غريبةً عن نظام بنية التصور، بل
وحتى على تعارُضٍ معه، إلا أن تحليلًا لبنائها العميق يئول إلى أنها
تحقِّق ذات التصور؛ ولكن على نحوٍ أكثر خفاءً.
١٢٨
والحق أنه يبدو أن «الإسناد» كان هو الآلية التي راح يتحقق بها
التصوُّر الأشعري للتاريخ في حقل الكتابة. ولعل ذلك يرتبط بأنه يحقِّق،
على نحوٍ نموذجي، ما ينطوي عليه التصور من هيمنة الانفصال، لا على
نظام بنيته فقط، بل وعلى بناء عناصره الجزئية أيضًا؛ إذ الإسناد
يُحيل، على صعيد الكتابة التاريخية، إلى ما يمكن اعتباره ضربًا من
الكتابة بالانفصال، لا بالاتصال، حيث الخبر — في سياق الكتابة
الإسنادية — لا ينطوي ذاتيًّا على ما يمكن أن يتقوَّم به (صدقًا أو
كذبًا)، ولذلك فإن التقوُّم يأتيه من الإسناد الخارجي؛ أعني من
مجرد الشهادة عليه. وإذ الأمُر كذلك، فإنه (أعني الخبر) لا ينطوي —
تبعًا لذلك — على ما يمكن أن يرتبط به مع خبرٍ آخر أو أكثر، بل إن
كل خبر يكون أدنى إلى «الجوهر الفرد» الذي يستقل ويتميز عن جوهرٍ
فرد، أو خبر، آخر. ومن هنا فإن العلاقة، دائمًا ضمن الكتابة
الإسنادية، بين خبرَين أو أكثر، هي علاقةٌ خارجية وطارئة، ولا تُحيل
إلى أكثر من وضع أحدهما إلى جانب الآخر، وضع مجاورة فقط؛ الأمر
الذي يعني كتابة الواحد منهما في انفصال كامل عن غيره، وبحيث يبدو
تصنيف جملة أخبار، في حقل الكتابة، أمرًا غير خاضع لمنطق باطني
يقتضي نظامًا في ترتيبهما على نحوٍ ما، بل يخضع لعواملَ خارجيةٍ
محضة. ولقد كان ذلك كله مما يقتضيه تصوُّر التاريخ انهيارًا
وتدهورًا، وذلك من حيث لاح — فيما سبق — أن هذا التدهور ينبني،
جوهريًّا، على تصور لحظات التاريخ موضوعًا للانفصال والتجاور
وخارجية العلاقة فيما بينها، لأنها لا تئول — والحال كذلك — إلى
خبرةٍ تتراكَم أو وعيٍ يتبلوَر، وكلاهما بالطبع ما يجعل نقيض التدهور؛
أعني التقدُّم ممكنًا.
وهكذا يبدو «الإسناد» الآلية الأكثر ملاءمةً من غيرها لتصور
التاريخ الأشعري، ومن هنا هيمنته (أي الإسناد) على دائرة العمل
التاريخي؛ الأمر الذي جعل نقد ابن خلدون لتقاليد الكتابة التاريخية
السابقة عليه، يكاد أن يكون بأَسْره مجرد نقد لنمط الكتابة الإسنادية
في حقل التاريخ، لا غير؛ إذ بدا له أن «كثيرًا مما وقع للمؤرخين
والمفسِّرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع، [كان]
لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًّا أو سمينًا»؛
١٢٩ ويعني — بالطبع — أنها نتاج مجرد اعتمادهم على
«الإسناد». حقًّا إن الإسناد — وكان ابن خلدون على وعيٍ بذلك — قد
انسرب إلى حقل الكتابة التاريخية من ميدان «الحديث النبوي» الذي
أثبت فيه (أي الإسناد) فعاليةً كبيرة. لكنه يبدو أن حدوده قد راحت
تتبدَّى في حقل التاريخ على نحوٍ لافت، وذلك من حيث بدا استحالة ضبط
سلاسل الإسناد بالنسبة للخبر التاريخي، على نحو ما كان ذلك ممكنًا
بالنسبة للأحاديث النبوية. ولقد كان ذلك هو الذي جعل المؤرخين
يكتفون، في الغالب، بذكر راوي الخبر أو الإشارة إلى مصدره، دون ضبط
سلسلة إسناده، ومعتذرين عما يُمكِن أن يكون هناك من كذب أو خطأ في
الخبر بأنا «إنما أدَّينا ذلك على نحوِ ما أُدي إلينا.»
١٣٠ والحق أنه بدا لابن خلدون أن الأخطاء والأكاذيب (أو
المغالط) في مثل هذا التاريخ، هي من الكثرة إلى حدِّ أننا «قد كدنا
أن نخرج عن غرض الكتاب [يعني المقدمة] بالإطناب في هذه المغالط،
فقد زلَّت أقدام كثيرٍ من الأثبات والمؤرخين الحفَّاظ في مثل هذه
الأحاديث والآراء [يعني الأخبار] وعلقَت بأفكارهم، ونقلَها عنهم
الكافة من ضَعَفَه النظر، والغفَلة عن القياس، وتلقَّوها هم أيضًا
كذلك من غير بحث ولا رويَّة، واندرجَت في محفوظاتهم، حتى صار فن
التاريخ واهيًا مختلطًا، وناظره مرتبكًا، وعُدَّ من مناحي العامة.»
١٣١ وهكذا آل الإسناد بالتاريخ — فيما يرى ابن خلدون — إلى
أن يكون مجرد ساحةٍ للاختلاط والتشويش والارتباك، فصار علمًا
مبتذلًا من مناحي العامة؛ حيث «استخف العوام ومن لا رسوخَ له في
المعارف مطالعته [أي التاريخ]، وحمله والخوض فيه والتطفُّل عليه،
فاختلط المرعيُّ بالهَمَل، واللُّباب بالقشر، والصادق بالكاذب.»
١٣٢ وهكذا فإن فاعلية الإسناد في «علم الحديث النبوي» لا
يمكن أن تكون البتة نتيجةً لفاعليته في علم التاريخ؛ الأمر الذي بدا
لابن خلدون مرتبطًا بطبيعة الخبر في كلا العِلْمين؛ حيث الخبر في
«علم الحديث» هو من قبيل «الأخبار الشرعية [التي] معظمها تكاليف
أوجب الشارع العمل بها متى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة
بالرواة بالعدالة والضبط [يعني التعديل والتجريح والإسناد].»
١٣٣ وأما الخبر في التاريخ، فإنه من قبيل «الإخبار عن
الواقعات [التي] لا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة؛ فلذلك
وجب أن يُنظر في إمكان وقوعه، وصار فيها ذلك أهم من التعديل [يعني
الإسناد أو الثقة في الرواة] ومقدَّمًا عليه.»
١٣٤ وبعبارة أخرى، فإن تمحيص هذا النوع من الخبر التاريخي
«إنما هو بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه، وأوثقها في تمحيص
الأخبار وتمييز صدقها من كذبها، وهو سابق على التمحيص بتعديل
الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يُعلم أن ذلك الخبر في نفسه
ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان مستحيلًا [بالنسبة لطبائع العمران]،
فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح.»
١٣٥ وهكذا يئول الأمر بابن خلدون إلى أن يستبدل بالإسناد
«طبائع العمران»، كآليةٍ جديدة تنتظم إنتاج التاريخ.
١٣٦
وبالرغم من أنه يبدو — هكذا — أن ابن خلدون قد بلور آليته
البديلة (أعني طبائع العمران) في سياق وعيٍ نافذ بقواعد وشروط
الكتابة التاريخية السابقة عليه، وبالطموح إلى تجاوزها، إلا أن هذه
الآلية راحت — وكالإسناد تمامًا — تحقِّق التصور الأشعري للتاريخ،
وذلك رغم ما يبدو — عند السطح على الأقل — من غربتها عن النسَق
الأشعري وتصادمها معه؛
١٣٧ وأعني أنها راحت تحقِّقه على نحوٍ أكثر دقة وخفاءً، فإذ
الإسناد يحقِّق التصور على نحوٍ مباشر؛ وأعني من خلال ما ينطوي عليه
بناؤه من الانفصال الذي ينتظم — وكما سبق القول — لا بنية التصور
فقط، بل وبناء عناصره الجزئية أيضًا، فإن مفهوم «طبائع العمران»
يحقِّق التصور ذاته، ولكن على نحوٍ أقل مباشرة؛ وأعني من حيث تبدو
وقائع العمران وأحواله — حسب هذا المفهوم — لا ظواهرَ تاريخيةً تتوقف
على شروط تقع ضمن حدود التجربة الإنسانية، بل أمورًا طبيعية لا
تتوقف البتة على أي عواملَ أو محدِّدات من خارج طبيعتها الخاصة. ومن
هنا فإن أمورًا من قبيل «التوحُّش والتأنُّس والعصبيات، وأصناف
التغلُّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من المُلك والدول
ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش
والعلوم والصنائع … [إنما هي جملة] ما يلحق [العمران] من الأحوال
لذاته وبمقتضى طبعه»،
١٣٨ وليس أبدًا بمقتضى الفاعلية الخلَّاقة للبشر؛ الأمر الذي
يعني أن أحوال العمران هذه، لا تتوقف على شروطٍ تاريخيةٍ إذا ارتفعَت
لأي سبب، استحال حدوثها، بل إنها (أي هذه الأحوال) تحدُث دومًا
وبصرف النظر عن أي عواملَ أو محدِّداتٍ تاريخية؛ لأنها نتاج دورةٍ
طبيعيةٍ جامدة لا تتوقَّف على شيءٍ خارجها.
والحق أن ذلك يكشف عن رؤية لطبائع العمران (وما تقتضيه من
الأحوال) من طبيعةٍ متعالية، وذلك من حيث تبدو مستقلةً تمامًا عن
مجال الفاعلية الإنسانية، ولعلها — حسب ابن خلدون — نتاج فاعلية
الله فقط، وذلك من حيث تكون — عنده — مجرد كيفيةٍ أجرى بها الله
العادة في العمران، وذلك رغم أنها قد استقرَّت بما يحول دون خرقها.
ولعل ذلك يعني أن مفهوم طبائع العمران يحقِّق تصور التاريخ الأشعري،
من خلال سلب الفاعلية الإنسانية عن التاريخ، وجعله إطارًا لفاعليةٍ
متعاليةٍ عليه، وبحيث يكون مثله تاريخ أنماطٍ صورية ومقولات، لا
تاريخًا للبشر؛ وعيًا وإرادات. وكذا فإنه يحقِّقه عبر تكريس الانهيار
والتدهور في التاريخ، وذلك من خلال تصوُّره (أي التدهور) لا نتاج
مجرد البعد عن اللحظة-المثال في التاريخ (كالحال في التاريخ
الأشعري)، بل من خلال تصوُّره «من الأمراض المزمنة التي لا يمكن
دواؤها ولا ارتفاعها، لما أنه أمرٌ طبيعي، والأمور الطبيعية لا تتبدل.»
١٣٩
وإذا كان يبدو، هكذا، أن «طبائع العمران» — كالإسناد قبلها —
تحقِّق تصور التاريخ الأشعري في حقل الكتابة التاريخية، ولكن بكيفيةٍ
مختلفة، فإنه يبدو كذلك أنها — وكالإسناد أيضًا — إنما تجد ما
يؤسِّسها معرفيًّا في بناء نسق العقائد الأشعري؛ الذي بدا — فيما سبق
— أنه يؤسس لبنية التصور، ولبناء عناصره الجزئية كذلك؛ إذ
«الإسناد» إنما يجد ما يؤسِّسه معرفيًّا في النظرية الأكثر مركزية في
نسَق العقائد الأشعري؛ وأعني بها نظرية الجواهر والأعراض، وعلى وجه
التحديد في تصوُّر «الجوهر» لا يتقوَّم بذاته، بل بالخلق المستمر من
الله للأعراض فيه في كل آنٍ من الزمان. وهو التصوُّر للجوهر الذي بلغ
حدًّا من الجوهرية بات معه يشكِّل أساسًا معرفيًّا للعديد من مسائل
النسَق وقضاياه؛ إذ ثمَّة التأسيس لأنطولوجيا وإبستيمولوجيا أشعريتَين،
لا مجال فيهما لأي تقوُّم بالذات، بل التقوُّم يأتيهما من الله (عَبْر
الخلق المستمر للعالم في سياق الأنطولوجيا، ومن خلال الضمان الإلهي
لصدق المعرفة (بل ومجرد وجودها) في الإبستيمولوجيا).
١٤٠
وثمَّة — وهو الأهم من حيث دلالتُه بالنسبة للتاريخ — التأسيس
المعرفي لتصوُّرٍ للفعل، على العموم، لا ينطوي في ذاته على ما يتقوَّم
به، بل التقوُّم يأتيه من خارجه. وإذا كان هذا التصوُّر للفعل قد
استحال، في سياق الأخلاق، إلى تصورٍ للفعل الأخلاقي لا ينطوي في
باطنه على ما يتعيَّن به حسنه أو قبحه؛ ولذلك فإن «الأحكام
[الأخلاقية] لا تثبت للأفعال إلا بالشرع [من الله]»،
١٤١ فإنه يئول، في سياق التاريخ، إلى تصوُّر الخبر (وهو خبر
عن فعل في الأغلب) لا ينطوي في ذاته على ما يتعيَّن به صدقه أو
كذبه، بل يأتيه هذا التعيين من خارجه؛ وأعني من الشهادة الخارجية
عليه من الرواة والناقلين والثقة بهم. وليس من شك في أن «الإسناد»،
إنما يجد أساسه ومعناه في مثل هذا التصوُّر للخبر بحيث يكون صدقه أو
كذبه بسندٍ خارجي، والذي ينبني بدَوره على تصوُّر للجوهر يكاد أن يكون
مؤسسًا للنسق الأشعري بأَسْره.
وأما «طبائع العمران»، فإن تصوُّرها — حسب ابن خلدون — مجرد كيفية
أجرى بها الله العادة في العمران؛ وهي عادة، وإن بدا لابن خلدون
أنها قد استقرت بما يحول دون خرقها، فإنها كانت — ومن حيث المبدأ —
تقبل الفوات والخرق، وهو ما يُستفاد من ملاحظة ابن خلدون نفسه، عن
أن «شأن العصبية المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العادة
لم يكن يومئذٍ [أي في حقبة النبوة والخلافة] بذلك الاعتبار؛ لأن أمر
الدين والإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه،
واستماتة الناس دونه؛ وذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في
حضور الملائكة لنصرهم، وتردُّد خبر السماء بينهم، وتجدُّد خطاب الله في
كل حادثةٍ تُتلى عليهم، فلم يُحتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس
من صبغة الانقياد والإذعان وما يستفزُّهم من تتابُع المعجزات الخارقة
والأحوال الإلهية الواقعة … فكان أمر الخلافة والملك والعهد
والعصبية وسائر هذه الأنواع مندرجًا في ذلك القبيل، كما وقع [يعني
من قبيل الخارق للعادة]، فلما انحسَر ذلك المدَد بذهاب تلك المعجزات،
ثم بفناء القرون الذين شاهدوها، فاستحالت تلك الصفة قليلًا قليلًا
وذهبَت الخوارق، وصار الحكم للعادة كما كان.»
١٤٢ وهكذا آلت المعجزات الخارقة والأحوال الإلهية الواقعة
(كدلائل على صدق النبوة وتأليف القلوب عليها)، إلى أن أصبح أمر
الخلافة والملك والعهد والعصبية (أي طبائع العمران) من قبيل الخارق
للعادة أيضًا؛ وبمعنى أن خرق العادة في نطاق الطبيعة (تأييدًا
للنبوة بالمعجزة) يوازيه خرق العادة في نظام التاريخ (تعظيمًا لها
وللخلافة أيضًا).
ولعل ذلك يئول إلى أن هذا التصوُّر لطبائع العمران (مجرد عادة تقبل
الخرق والفوات)، إنما يجد ما يؤسِّسه فيما ينطويه النسق الأشعري من
تصور للسببية، لا ارتباطًا ضروريًّا لا يتخلف بين ظاهرتَين، بل مجرد
اقتران يقع — حسب الغزالي
١٤٣ — في مجرى العادة بين ما يُعتقد (في العادة طبعًا)
سببًا، وما يعتقد مُسبَّبًا، وهو اقتران لا ينطوي على ضرورة، ومن هنا
قابليته للفوات والتخلف؛ الأمر الذي كان ضروريًّا — بالطبع — لبناء
المعجزة. ومن هنا فلعله كان يمكن لابن خلدون القول (في العمران)،
قياسًا على قول الغزالي (في الطبيعة)، أن الأمر في العمران هو
أيضًا مجرد اقتران يقع في مجرى العادة بين ما يُعتقد طبائع (أو
أسباب)، وبين ما يُعتقد أحوالًا (أي مسبَّبات)، وهو اقتران لا ينطوي
— كذلك — على أي ضرورة، ومن هنا قابليته للفوات والتخلف؛ الأمر
الذي كان ضروريًّا لنمذجة لحظة النبوة والخلافة. وأما تصوُّر هذه
الطبائع — انطلاقا من الانقلاب الذي طال مفهوم «الطبع»، مع
الغزالي، حين أصبح مما «لا يشتد نفور الطبع عنه، لأنه يبقى مجازًا»
١٤٤ — تفعل بالمجاز، لا بالحقيقة، فإنه يعكس حضورًا لنظرية
«الكسب الأشعري»، على أن يكون موضوعها «أحوال العمران»، وليس أفعال
العباد، وبحيث تكون هذه الأحوال هي لله خلقًا، وللعمران كسبًا؛
الأمر الذي يعني — بالطبع — أنها تُنسَب «لطبائع العمران» على
المجاز، لا الحقيقة، تمامًا كما تُنسب الأفعال إلى العباد مجازًا،
لا حقيقة، وذلك باعتبار كونهم، لا خالقين، بل مجرد كاسبين
لها.
وإذ يبدو — هكذا — أن دائرة التأسيس المعرفي من نسَق العقائد
لتصور التاريخ (بنية كلية، وعناصر جزئية، وآليات تحقق في حقل
الكتابة الفعلية) قد اكتملَت، فإن ذلك يعني تحقق واكتمال هيمنة
الوعي على هذا التصور؛ وهو ما يبدو لازمًا — بالطبع — لأي سعي إلى
تجاوزه إلى تصوُّرٍ آخر للتاريخ أكثر انفتاحًا وإنسانية.