أولًا: من الإمامة إلى التاريخ عند الشيعة
(التاريخ تجاوزًا صوريًّا)
إذا كان الخلاف الأعظم بين الأمة هو خلاف الإمامة فيما يتفق
الأشاعرة أنفسهم، فإن جانبًا كبيرًا من هذا الخلاف إنما يرتبط — لا
شك — بما بدا أنه السعي — أو حتى التواطؤ
٧ — على إبعادها عن الإمام عليٍّ والاستبداد بها دونه؛
وهو الاستبداد الذي بدا أنه لا يستند على شيءٍ إلا منطق المغالبة
وتميُّز المكانة الاجتماعية؛ الأمر الذي رأى فيه الإمام تكريسًا
لواقع ما قبل الإسلام. ومن هنا قوله يخاطب عالمًا جاء الإسلام
يقهره: «ألا إن بليَّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث نبيکم». وإذ
يبدو هكذا، أن ما تحقَّق في حقل السياسة (والدين بالتالي)، يمثل —
حسب عبارة الإمام — نكوصًا إلى جاهلية ما قبل الإسلام، فإن في ذلك
ما يُحيل إلى أن «المتحقق» قد بات هكذا، قرين الجاهلية ورديفها؛
الأمر الذي يعني أن الإسلام الحق قد انسحب — حسب هذا التصور — من
دائرة «المتحقق» ليسكن الدائرة النقيض، أعني دائرة «الممكن»
بالطبع. ومن هنا — لا شك — ذلك السعي الشيعي إلى زحزحة «المتحقق»
ونفيه، والتعلق «بالممكن»، الذي بات، هكذا، يرادف الإسلام الحق
ويتوحَّد معه.
وهكذا فإنه إذا كان يمكن التمييز في التشيع بين حقبةٍ سياسية
ثورية (كانت الزيدية ذروتها)، وأخرى (ابتدأَت مع الإمام جعفر الصادق)،
٨ وتميَّزَت، بتأثير الإخفاق الثوري، بالانكفاء على الإنتاج
المعرفي النظري حول الإمامة، فإنه يمكن القول إن كلا الحقبتَين
تنطويان على السعي إلى زحزحة المتحقق في الإمامة، من أجل الممكن
غير المتحقق فيها، الذي بات يرادف الإسلام الحق عند الشيعة؛
فالمتأمل في كافة ثورات الشيعة يراها جميعًا قد اتخذَت من أحد أفراد
آل البيت مثلًا أعلى أو «نموذجًا ممكنًا» تلتفُّ حوله، وتُناهِض به ما
تراه انحرافًا وتدهورًا في الواقع.
٩ ومن جهةٍ أخرى فإن الإنتاج النظري حول الإمامة الشيعية،
قد تبلوَر بدوره حول السعي نفسه إلى مناهضة المتحقق فيها، إنْ من
خلال تبلور هذا الإنتاج النظري حول قول الزيدية (بكافة فِرقها)
بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل والذي ينطوي على التمييز في
الإمامة — وكما سبق القول — بين المتحقق (المفضول)، والممكن
(الأفضل)، أو من خلال تبلوره حول القول (من الإثني عشرية
والإسماعيلية) «بالنص والوصية»، وبكل ما يترتَّب على هذا القول من
بناء للإمامة على نحوٍ بعينه؛ إذ الحق أن هذا القول «بالنص
والوصية»، إنما ينطوي على التفكير في الإمامة خارج حقل التفضيل
(وهو قرين المتحقق، وذلك من حيث يبدو أن الأفضل هو كذلك لمجرد أنه
قد تحقَّق) بالكلية.
١٠
لقد كان القول «بالنص» سبيل الشيعة إلى تجاوز التفضيل والتفكير
خارجه، وذلك من حيث بدا لهم أن المتحقق في الإمامة (المراد تكريسه
بالتفضيل) إنما يرتبط بتواطؤ البشر الذين حالوا دون إمامة عليٍّ؛
١١ الأمر الذي تآدى إلى الإحساس باليأس الشامل من البشر،
جعلهم (أي الشيعة) يتعالَون بأمر الإمامة إلى النص من الله، وليس
اختيار البشر. وهكذا فإنها «لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على
لسان النبي أو لسان الإمام الذي قبله، وليست هي بالاختيار
والانتخاب من الناس، فليس لهم إذا شاءوا أن يُنصِّبوا أحدًا نصَّبوه،
وإذا شاءوا أن يعيِّنوا إمامًا لهم عيَّنوه، ومتى شاءوا أن يتركوا
تعيينه تركوه.»
١٢ إذ الإمامة «ليست قضية مصلحيه تناط باختيار العامة
وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضيةٌ أصولية، وهي ركن الدين»،
١٣ أو أنها — وبتعبيرٍ صريح — «أصل من أصول الدين لا يتم
الإيمان إلا بالاعتقاد بها، ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل
والمربِّين مهما عظموا وكبروا، بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في
التوحيد والنبوة.»
١٤ وإذ تبدو الإمامة، هكذا، قرين النبوة
١٥ والتوحيد، فإن هذا الاقتران قد راح يتجاوز مجرد
التوازي بينهم جميعًا، إلى انطواء الإمامة في جوفها على جوهر
النبوة والألوهية أيضا؛
١٦ وهو الأمر الذي كان لا بد أن يترك أثَره، لا على وضع
الإمامة في النسَق الشيعي فقط، بل وعلى بناء طبيعتها الباطنية
الخاصة، وهو الأهم.
فقد اكتسبت الإمامة في النسق الشيعي وضعًا مركزيًّا يتناقض
بالكلية مع وضعها الهامشي في النسق الأشعري؛ فإذ الإمامة في النسق
الأشعري «من الفروع، وإنما ذكرناها تأسيًا بمن كان قبلنا»،
١٧ فإنها في النسَق الشيعي «أصل من أصول الدين لا يتم
الإيمان إلا بالاعتقاد بها»،
١٨ ويترتَّب على ذلك أنه بينما كان «النظر في الإمامة ليس —
حسب الأشاعرة — من المهمَّات، وليس من فن المعقولات، بل من الفقهيات،
«حتى إن» المعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض»،
١٩ فإنه «يجب — حسب الشيعة — النظر فيها كما يجب النظر في
التوحيد والنبوة … [حتى إن] من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية.»
٢٠ والحق أن مركزية الإمامة في النسق الشيعي قد بلغَت
حد المصير — في حديث شيعي — إلى أن الإسلام قد «بُني على خمس:
الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية [يقصد الإمامة]، وما
نودي بشيءٍ مثل ما نودي بالولاية.»
٢١
لكنه يبقى أن التحول الأهم الخاص بالإمامة الشيعية، والمترتب
أيضا على القول بالنص،
٢٢ إنما يرتبط بالبناء الباطني لهذه الإمامة؛ فإذ الإمامة
«لا تكون إلا بنصٍّ من الله سبحانه وتوقيف»،
٢٣ فإنها تغدو — بذلك — كالنبوة «التي ترجع [بدورها] إلى
قول الله [أو نصِّه] وتوقيفه.»
٢٤ ولأن «حكمها في ذلك [هو] حكم النبوة بلا فرق»،
٢٥ فإن ذلك قد صار بالشيعة إلى القطع بأن «دفع الإمامة
كُفر، كما أن دفع النبوة كُفر؛ لأن الجهل بهما على حدٍّ واحد؛ لأن
منطلق الإمامة هو منطلق النبوة، والهدف الذي لأجله وجبَت النبوة هو
نفس الهدف الذي من أجله تجب الإمامة، واللحظة التي انبثقَت بها
النبوة هي نفسها اللحظة التي انبثقَت بها الإمامة … واستمرَّت الدعوة
ذات لسانَين؛ النبوة والإمامة، في خطٍّ واحد، وامتازت الإمامة على
النبوة أنها استمرَّت بأداء الرسالة بعد انتهاء دور النبوة … إن
النبوة لطفٌ خاص، والإمامة لطفٌ عام.»
٢٦ ولقد تطوَّر الأمر — عند الغُلاة بالطبع — إلى حدِّ تصوُّر
«الأئمة ينسخون الشرائع ويهبط عليهم الملائكة، وتظهر عليهم الأعلام
والمعجزات، ويُوحى إليهم.»
٢٧ وهكذا «لا تكتفي الإمامة بوظيفتها العملية في قيادة
الأمة وتطبيق شريعتها، ولكنها تأخذ منحنًى نظريًّا، وتصبح تشريعيةً
بدورها، ثم يتجاوز دورُها إلى أن تصبح استمرارًا للنبوة ومفسرًا لها
وكاشفًا عن أسرارها. وقد يصل الأمر أخيرًا إلى أن تتجاوز النبوة
إلى الألوهية، فيصبح الإمام إلهًا»؛
٢٨ الأمر الذي يعني أن مهام الإمام، عند الشيعة، لم تعُد
«من مصالح الدنيا، ليس فيها إلا اجتلاب نفعٍ عاجل، أو دفع ضررٍ عاجل،
دون الثواب والعقاب … [بل أصبحَت كبرى مهامه] أن تُعلَم من قِبَلِه
الأمور كما تُعلم من قِبَل الرسل.»
٢٩
ولهذا فإن الإمام الشيعي هو، كالنبي أو الرسول، «حُجة لله تعالى
على خلقه، لا يخلو الزمان من حجة هو نبي أو إمام، فإذا لم يجز خلو
المكلفين من الأنبياء لكونهم حجة، فكذلك الأئمة.»
٣٠ وهكذا يئول كون الإمام — كالنبي — حجة لله على خلقه
إلى ضرورة حضور الإمامة أبدًا (كاستمرار للنبوة وتفسيرًا وكشفًا
لحقائقها)، حيث «لا يخلو الزمان من حُجة هو نبي أو إمام.»
٣١ وبعبارةٍ أخرى فإنه يبدو أن فكرة الإمامة المستمرة
تنبثق عن القول بضرورة «إثبات حجةٍ قاطعة [للخلاف] في الكتاب والسنة.»
٣٢ أو «قيِّم على الكتاب [القرآن] يخلف النبيَّ الناطق»،
٣٣ وذلك لأن «نص القرآن وحده لا يكفي؛ لأن له معنًى
مستورًا وأعماقًا باطنة، وتناقضاتٍ واضحة، فهو ليس كتابًا يمكن
استخراج علمه بالفلسفة المشتركة، بل لا بد من أن نؤَوِّل النص، وأن
نعود به إلى مستوًى يكون فيه معناه حقيقيًّا، وتلك ليست مهمة الجدل
الكلامي؛ لأننا لا ننشئ هذا المعنى بالقياس، وإنما نحتاج في ذلك إلى
رجلٍ مُلهَم ذي إرثٍ روحي يمسك بالظاهر وبالباطن معًا. وهذا هو حجة
الله وقيِّم الكتاب والإمام.»
٣٤ ولقد كان ذلك هو ما برهَن عليه جعفر الصادق، حين نظر في
القرآن، فإذا هو يُخاصم به المرجئ والقدَري والزنديق الذي لا يؤمن
به، حتى يغلب الرجال بخصومته [فعرف] أن القرآن لا يكون حجة إلا
بقيِّم، فما قال فيه من شيء كان حقًّا.
٣٥ وهكذا يجري اختزال الإمامة في ضرب من التأويل يقصد إلى
تجاوز النص الظاهر (الذي لا يكفي وحده، بل لعله يثير الالتباس عند
الشيعة)، إلى المعاني المستورة والأعماق الباطنة (وهو المستوى الذي
يكون فيه معنى النص حقيقيًّا). وبالرغم من الوعي بحدود هذا التأويل
(قرين الإمامة وجوهرها) الذي استحال من إنتاجٍ واعٍ لمعرفة، تنفتح
على العالم، وتتجاوز السائد والمهيمن، إلى «حديثٍ صعبٍ مستصعب، لا
يحتمله ملكٌ مقرَّب، ولا نبيٌّ مرسل، ولا مؤمن ممتحَن»؛
٣٦ الأمر الذي جعله، لا حديثًا للعامة والدهماء (وكان
منهم — وللمفارقة — جمهرة مشايعي الإمام علي)، بل حديثًا «مخصوصًا،
لا يصلُح إلا للخصوص، والخصوص قليل.»
٣٧
وهكذا فإن التأويل الشيعي الذي «لم يظهر إلا معارضة لتأويلٍ خاص
يخدم مصلحةً سياسية.»
٣٨ وذلك حين راح معاوية «يستأجر المؤَولين ليستغل القرآن
في تثبيت أمره ومقاومة عليٍّ ودعوته، فكان من الطبيعي أن يردَّ الشيعة
على هذا [التأويل] بالمثل»،
٣٩ ثم تعدَّى ذلك إلى استغلال التأويل أيضًا في تكريس أوضاعٍ
اجتماعيةٍ معينة،
٤٠ قد تحوَّل (أي التأويل الشيعي)، عن هذه الطبيعة السياسية
والاجتماعية، ليصبح ضربًا من «العلم الباطن» الذي يكون من طبيعةٍ
مفارقةٍ ومتعالية.
٤١ ولعله سبق التنويه بأن هذا التحول الشيعي من «السياسي
والاجتماعي» إلى «المفارق والمتعالي»، إنما يرتبط بالتراجع السياسي
للشيعة مع جعفر الصادق، حين «انسحب الأئمة من ميدان السياسة
والكفاح، وانزوَوا في بيوتهم في المدينة، فاهتبل الغُلاة هذه الفرصة
في الكوفة وتمسَّكوا بالتأويل، وأسبَغوا القدسية والإلهية على الأئمة.»
٤٢ ولعل ذلك يعني أن التحول داخل الثقافة التراثية في
حقلي التاريخ والسياسة، إنما كان يؤسِّس للتحول في مجالي الأفكار والعقائد.
٤٣
وبالرغم من أن هذا التحول في طبيعة التأويل الشيعي. قد انطوى —
وكان ذلك لازمًا — على تحول في تصور المعنى الخاص بالنص المُؤَوَّل …
(تحولًا صار فيه المعنى، أدنى إلى المعطى المطلق، منه إلى التكوين
التاريخي الناتج عن تجربة في العالم)،
٤٤ فإنه يبقى أن هذا التأويل يحيل، من حيث هو كذلك، إلى
تصور للنص «حمَّال أوجه»، أو منطوٍ على ضروب من المعاني
والدلالات الممكنة، التي يسعى التفسير السائد للنص إلى التغطية
عليها تكريسًا لهيمنته.
وهكذا يستهدف التأويل زحزحة المهيمن والمستقر، وتجاوزه إلى
الممكن، في حقل المعاني، وذلك كسبيل إلى زحزحة ما ينبني عليه في
حقل الممارسة التاريخية؛ إذ التأويل، في جوهره، هو السعي إلى تحرير
النص، أي نص، من أحادية التفسير وواحدية المعنى، وتفجير ما ينطوي
عليه من دلالات ومعانٍ كامنة، وذلك توطئةً لتحرير الواقع من ثباته
وجموده، الذي يجد ما يؤسِّسه في إهدار الثراء الدلالي للنص، والإلحاح
على واحدية معناه. ولعل ذلك يعني أن الجوهر التأويلي للإمامة عند
الشيعة إنما يتكشَّف عن كونها قرين الإمكان وصنوه، وذلك من حيث أن
التقابل في الإمامة بين المتحقق (المفضول) والممكن (الأفضل)،
يستحيل، على صعيد المعاني، إلى ضرب من التقابل بين المعنى القائم
أو المتحقق من جهة، والمعنى الممكن من جهة أخرى. وليس من شك في أن
ذلك يؤكِّد على أن الإمامة الشيعية — إنْ من حيث جوهرها التأويلي، أو
حتى من حيث تبلورها، مع الزيدية، حول تجويز إمامة المفضول مع وجود
الأفضل — إنما تنبني على الأولوية المطلَقة للممكن على صعيد الواقع
والمعنى معًا.
والحق أن هذا الانبناء للإمامة الشيعية على نقيض ما تنبني عليه
الإمامة عند الأشاعرة (وذلك من حيث تنبني على الأولوية المطلقة
للممكن في مقابل انبنائها على الأولوية المطلقة للمتحقق عند
الأشاعرة)، كان لا بد أن ينعكس على تصور التاريخ الذي يرتبط بها
وينبثق عنها؛ وبمعنى أن التصور الشيعي للتاريخ قد جاء معاكسًا
بالكلية ونقيضًا للتصور الأشعري للتاريخ؛ فإذ التاريخ الأشعري
يتكشَّف — كما سبق التفصيل — عن تصور ينقسم فيه التاريخ إلى لحظة
مركزية هي اللحظة-النموذج (أو لحظة الفضل)، التي تتلوها لحظاتٌ
لاحقة من الانهيار والتدهور الذي يتزايد مع البعد الدائم عن هذه
اللحظة النموذج، فإن التاريخ الشيعي ينطوي — وخصوصًا في أكثر صورة
نضجًا عند الإسماعيلية — على لحظته المركزية، وهي أيضًا لحظته-النموذج، التي تكون نتاجًا،
أو بالأحرى تتويجًا، للحظاتٍ تسبقها من
الخلل والاضطراب الذي يتضاءل ويتلاشى تمامًا مع تحقُّق حضور هذه
اللحظة-النموذج (أو ما يطلق عليه عند الشيعة رجعة الإمام من
غيبته). والحق أن الوحدة البنيوية لكلا التصورَين (الأشعري والشيعي)
إنما تلوح من وراء هذا التباين الظاهر بينهما، والذي ينتج عن مجرد
التباين في تحديد موضوع اللحظة-النموذج وتعيين وضعها في كلا
التصورَين؛ ذلك أنه فيما يقف الأشاعرة بحدود اللحظة-النموذج — في
تصورهم التاريخي — عند حقبتَي النبوة والخلافة، وبما يُحيل إلى أن
هذه اللحظة-النموذج تقوم في الماضي المتحقق على نحوٍ جوهري، فإن
الشيعة قد صاروا إلى تصور اللحظة المركزية في تاريخهم — بل وفي
نسَقهم العقائدي بأَسْره — تقوم في الإمامة التي كادت أن تكون «بديلًا
عن النبوة، وليس فقط استمرارًا لها، أو مفسِّرة إياها، بل تكون هي
النبوة الوحيدة.»
٤٥
ولعل هذا التصور للإمامة استمرار للنبوة، بل وبديل عنها، وليس
انهيارًا لها كما تصورها الأشاعرة، قد آل إلى إحالة اللحظة
المركزية في التاريخ الشيعي من لحظة تحقَّقَت واكتملَت (النبوة)، إلى
لحظة، أو بالأحرى فعل تحقُّق واكتمال (الإمامة). لقد استحال المركزي
في التاريخ الشيعي، إذن، من «تحقق» إلى «صيرورة»، أو إلى حضورٍ دائمٍ
متجدِّد لا ينقطع؛ الأمر الذي يعني أنه يتجاوز حدود الماضي، بل إنه
قد راح يتوحَّد مع المستقبل، وخصوصًا مع تحول الإمامة الشيعية إلى
ضرب من «المهدوية» الذي جعل منها «رؤيا يختمر فيها انتظار مستقبل
يبقى مفتوحًا.»
٤٦ وهكذا فإنه فيما يتموضع المركزي (أو النموذجي) في
التاريخ الأشعري في الماضي محددًا كل ما يليه ويلحقه بأنه انهيار
وتدهور بالنسبة إليه، فإن المركزي (أو النموذجي) في التاريخ الشيعي
يتموضَع، على العكس، في المستقبل محددًا كل ما يسبقه بأنه سعيٌ
وتعالٍ إليه (وعلى أي حال فإن هذا السابق يمثِّل تدهورًا بالنسبة إلى
النموذجي في التاريخ الشيعي أيضًا).
٤٧
وهكذا يتبدَّى التباين بين التاريخَين (الأشعري والشيعي) في مجرد
وضع اللحظة-النموذج في كلٍّ منهما، وبما يترتب على ذلك من تبايُن وضع
لحظات الانهيار والتدهور في كلٍّ منهما أيضًا. ولعله يبدو — ورغم هذا
التباين — أنهما يتوحَّدان بنيويًّا، وذلك من حيث ينطويان على ذات
التمايز في التاريخ بين لحظة نموذجية، وبين أخرى (تكون لاحقةً عند
الأشاعرة، وسابقةً عند الشيعة) تمثِّل انهيارًا وتدهورًا بالنسبة
لها، والحق أن التوازي بين كلا التاريخَين (الأشعري والشيعي) يبلغ
حد تصور (الوحدة) هي السمة الجوهرية للحظة-النموذج (وهي النبوة
أشعريًّا، والإمامة شيعيًّا)، وذلك فيما الاختلاف والفُرقة من أهم
علامات التاريخ اللاحق على هذه الوحدة (عند الأشاعرة) والسابق
عليها (عند الشيعة). وهكذا فإنه فيما يكون التاريخ الأشعري سقوطًا
من هذه الوحدة إلى الاختلاف اللاحق عليها، فإن التاريخ الشيعي
يكون، في المقابل، صعودًا من الاختلاف إلى الوحدة اللاحقة
عليه.
والحق أن هذا التصور للتاريخ الشيعي صعودًا إلى ضرب من الوحدة
(التي تكاد تشمل الإنسانية بأَسْرها)، إنما يتبدى خاصة، وعلى نحوٍ لا
خفاء فيه، في فلسفة الأكوار والأدوار عند الشيعة الإسماعيلية؛
والتي يبدو فيها التاريخ صعودًا، لا في خطٍّ مستقيم، ولكن عَبْر دوائر
(نبوية وتأويلية) تنفتح الواحدة منها على الأخرى؛ فإذ صار
الإسماعيلية إلى «أن معنى اسم الدور على نوعَين؛ دور كبير ودور
صغير، وأن الدور الكبير يبتدئ من آدم عليه السلام إلى القائم سلام
الله عليه. أما الدور الصغير فهو بين كل ناطق وناطق، ويتخلَّل الدور
سبعة أئمةٍ مستقرِّين إلا في الفترات [أي أوقات الفتور وانقطاع مدد
الإمامة] التي تحدث لعللٍ وأسباب»،
٤٨ فإن ذلك يُحيل إلى أن ثمَّة دورةً تاريخيةً كبرى تنطوي على
— أو بالأحرى تتحقق عَبْر — دوراتٍ تاريخيةٍ صغرى،
٤٩ تبتدئ كل منها بناطق (أو رسول)، «يأتي لينسخ شريعة ما
قبله بإظهار شريعةٍ جديدة، ويكون معه [صامت] يأتي لنسخ التأويل الذي
قبله، ذلك أنه لا بد للناطق من صامت يكون قريبًا وأساسًا له.»
٥٠
وبالرغم من أن هذه الدورات (صغرى وكبرى) تبتدئ (نبوية أو
تنزيلية) وتنتهي (إمامية أو تأويلية)، فإنه يُلاحظ أن كل واحدةٍ من
الدورات الصغرى تمثل، داخل الدورة الكبرى، صعودًا وتقدمًا بالنسبة
لتلك السابقة عليها، لا من حيث «أن كل رسول يُفضَّل على الذي تقدَّمه
بدرجة أو درجات»،
٥١ بل ومن حيث إن الأمر نفسه يسري على الإمامة؛ فإنه
«لمَّا كانت الإمامة متولدة من النبوَّة، ثم وجدَت الإمامة تزداد
عند كل إمام شرفًا وفضلًا، ويظهر لك ذلك عند بلوغ الإمامة إلى
السابع من الأئمة، فإنه يصير ناطقًا، فلو لم يكن فيه من الفضل
والشرف [ما] ليس في الأئمة الذين تقدَّموه لم يبلغ إلى مرتبة
الناطقية، وإذا كان للسابع من الأئمة الفضل والشرف على من تقدَّمه
ظاهرًا، كان للسادس أيضًا الفضل على من تقدمه، وللخامس كذلك الفضل
على من تقدَّمه، إلى أن ينتهي الأمر إلى أول الأتمَّاء.»
٥٢ ومن غير شك فإن صعود الفضل في الأئمة لا يقف عند حدود
كل دورة صغرى، بل يتعداه إلى الدورة التاريخية؛ وبمعنى أنه يمكن
القطع بأن «هارون» أساس موسى أفضل من «شيث» أساس آدم، ولكنه أقل
فضلًا — لا شك — من «الإمام عليٍّ» أساس محمد.
وهكذا يمضي التاريخ صعودًا في أدوار (تنزيلية وتأويلية) ينفتح
الواحد منها على الآخر، وحتى إذا ما حل الانقطاع والفترة (من
الفتور) بينها … ويقصد بذلك «إعياء وملالة تلحق النفوس الجزئية من
العالم الجسداني، فتعجز عن قبول التأييد … [فإن ذلك لا يدوم، بل
سرعان ما] يزول ذلك العَياء، فتظهر نفسٌ زكية يتصل بها التأييد»؛
٥٣ الأمر الذي يعني تواصل الأدوار وتصاعُدها حتى يبلغ
التاريخ ذروته (أو بالأحرى نهايته)، مع القائم الذي هو «نهاية الكل
من الرسل، وهو يجمع بين النواميس المختلفة المتفرقة المتباينة
بالكشف عن حقائقها، فتصير مجموعة كأنها شريعةٌ واحدة، وكأن أممها واحدة.»
٥٤ ولعله يبدو، هكذا، أن التاريخ الشيعي (الإسماعيلي)
إنما يئول إلى ما يكاد أن يكون «وحدة الإنسانية»؛ وهي وحدة تجد
أساسها في التأويل (الذي يختص به القائم)، والذي يرفع التنازع
والخصومة بين الأديان (وبالتالي بين الأمم) … فإذ «المخاصمات إنما
تكون بين أهل الشرائع فيما ينتحلونه ويتقلدونه من الديانات فيكفر
بعضهم بعضًا، وترى كل فرقة منهاجها وصاحبتها، فإذا بلغَت الخصومات
والمنازعات إلى غايتها ونهايتها ظهر القائم بالحق، فيفصل بين أهل
الأديان بالكشف عن حقائق ما ينتحلونه، ولا يبقى لهم خصومة ومنازعة»،
٥٥ وهكذا فإنه فيما يكون «التكفير» — كخطاب إقصاء ونبذ،
لا من الدين الواحد للآخر فقط، بل داخل الدين الواحد نفسه — هو
العلامة المصاحبة لتاريخ التشتُّت والتفرق اللاحق للحظة النبوة (لحظة
الوحدة النموذجية) عند الأشاعرة، فإن رفع التكفير وتجاوزه
بالتأويل، وبما ينطوي عليه ذلك من تكريس لوحدة الأديان والأمم، هو
ما يئول إليه التاريخ عند الإسماعيلية.
ولعل ذلك يئول إلى إكمال دائرة التضاد بين كلا التاريخَين
(الأشعري والشيعي)؛ حيث الفضل يتصاعد مع الإمامة في أحدهما
(الشيعي)، فيما يتضاءل معها في الآخر (الأشعري)؛ الأمر الذي يترتب
عليه صيرورة أحدهما (الشيعي/الإسماعيلي خاصة) إلى تجاوز خطاب
التكفير وتخطيه إلى ضرب من الوحدة الإنسانية، واحتفاظ الآخر
(الأشعري) بخطاب التكفير منتجًا لضروبٍ شتى من التآكل والتمزق.
ولعله يلزم التنويه، أخيرًا، بأن هذا التضاد إنما يجد ما يؤسِّسه في
الانتقال من بناء الإمامة، حسب الأشاعرة، على نحوٍ تمثل فيه تدهورًا
للفضل وانهيارًا له، إلى بنائها — عند الشيعة — على نحوٍ تكون فيه
استمرارًا للفضل وتصاعدًا له؛ وأعني الانتقال، بعبارةٍ أخرى، من
الإمامة كانقطاع للنبوة، بل ونكوصًا عنها، إلى الإمامة كاستمرار
للنبوة، بل وتجاوزًا لها، وهو ما يعني في حقل التاريخ الانتقال من
التاريخ (نكوصًا) إلى التاريخ (تجاوزًا) وصعودًا.
لكنه يبدو أنه، وبرغم هذا التضاد بين كلا التاريخَين (الأشعري
والشيعي)، فإنهما معًا قد آلا إلى نفي الإنسان وتهميش فاعليته
تمامًا. وهنا فإنه إذا كان خلو التاريخ الأشعري من الفاعلية
الإنسانية يتأتى — كما سبق التفضيل — من تصوره حقل «تكرار» لنماذج
متعالية خارجية للكفر والفضل، فإن غياب الفاعلية الإنسانية في
التاريخ الشيعي، إنما يتأتى من تصوره فضاء «انتظار» لذلك المهدي
الآتي أيضًا من خارجه ليملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئَت جورًا
وظلمًا. وهكذا فإن قصد التاريخ وغايته لا يتحققان، حسب الفكرة
المهدوية، كنتاجٍ لنشاط الإنسان (وعيًا وممارسة) في مواجهة عالمه
وبفضله؛ وهي مواجهة يضع فيها العالم عقباته أمام الإنسان، الذي
يتجاوزها عَبْر المزيد من الوعي والفعل الخلَّاق، محققًا عَبْر هذا
التجاوز تاريخًا ينتسب إليه حقًّا، بل يتحققان (أي قصد التاريخ
وغايته) بمجرد ظهور المهدي المخلص، وبدون أي جهدٍ من الإنسان الذي
لا حضور له، ضمن هذا السياق «فاعلًا» بل الحضور له «منتظرًا» أن
يتحقق وعد الله «وشاهدًا» على وقوعه. والملاحظ أن هذا الظهور
للمهدي لا يرتبط بأي شروطٍ تاريخية؛ الأمر الذي يعني أن ظهوره لا
يتوقف على فعلٍ من الإنسان أبدًا،
٥٦ بقَدْر ما يتوقف على إرادةٍ متعالية هي التي تعيِّن ظهوره
بفعلٍ خارق، حيث «الرجعة [رجعة المهدي وظهوره] دليل القدرة البالغة
لله تعالى كالبعث والنشر، وهي من الأمور الخارقة للعادة التي تصلح
أن تكون معجزةً لنبينا محمد وآل بيته صلى الله عليه وعليهم.»
٥٧ ولعل ذلك يعني أن الفكرة المهدوية إنما تتكشَّف عن
الحضور الفاعل «للمطلق»، وذلك في مقابل الغياب الشامل للتاريخ؛ حيث
القصد التاريخي تبعًا لهذه الفكرة لا يمثِّل تكونيًّا إنسانيًّا
متناميًا في الزمان، بل ظهورًا فجائيًّا لمعطًى مطلَق، مشروطًا فقط
بإرادة الله وقدرته.
٥٨
وإذا كان ذلك قد حدا بأحد مؤلِّفي الشيعة إلى القول — تجاوزًا لهذا
المأزق — «إنه ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ [المهدي]، أن يقف
المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحق من دينهم»،
٥٩ فإنه يبدو أن حدود الفاعلية — ضمن هذا السياق — لا
تتجاوز إطار العمل «بما أُنزل من الأحكام الشرعية، والسعي لمعرفتها
على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة إليها حقيقة، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ما تمكَّن المسلم من ذلك وبلغَت إليه قدرته»؛
٦٠ وهو ما يعني أن فاعلية الإنسان لا تتجاوز حدود
«الشرعي» إلى «التاريخي».
٦١
والحق أن ثمَّة من مجتهدي الشيعة من راح يتأول «الانتظار» — في
عقيدة المهدي — على نحوٍ لا يلغي الفاعلية الإنسانية؛ حيث
«الانتظار، نتيجة لهذا المعتقد، هو انتظارٌ إيجابيٌّ فعَّال، هو تَهيؤ
واستعداد، هو كدحٌ دائم ومستمر يجب أن يطبع حركة تاريخ الإنسان
المسلم نحو توفير أفضلِ الشروط التي تُهيِّئ لهذا الأمل العظيم أحسنَ
ظروف النجاح والتحقق.»
٦٢ ولكنه يبقى أن هذا التأويل لم يمنع المتأوِّل نفسه من
الإقرار بأنه «قد ارتكز في أذهان الكثيرين ممن عالجوا موضوع
المهدي والمهدوية أن هذا المعتقد عاملٌ سلبي في حركة التقدم والنمو
يعوقها، ويبعث على السكون، ويقعد بالناس عن الحركة والسعي نحو
التكامل المادي والمعنوي في انتظار أملٍ آتٍ ينقذ البشر بالمعجزة،
ينقذ البشر بغير جهد البشر … [ثم يُردِف] وربما تكون بعض المظاهر في
تاريخ عالم الإسلام تعزِّز هذا الاتهام.»
٦٣ وهكذا فإن ثمَّة ما هو سلبي في انتظار المهدي، لكنه يبقى
«أمرًا تاريخيًّا» يتعلق ببعض المظاهر في تاريخ الإسلام. أما كونه
«مشكلة راهنة» تتعلق بحاضر الفكر الشيعي، فإن ذلك ما صار إليه أحد
أكبر مجتهدي الشيعة الذي يوافق على أن «الإيمان بإمام الزمان
[المهدي المنتظر] والخلاص القطعي والسقوط الجبري للظلم، والذي
ضمنَته الإرادة الإلهية يمكن أن يعطي الأمل [في انتصار التاريخ] …
لكن الناحية السلبية في هذه العقيدة [هكذا يضيف] هي إلغاء
المسئولية الفردية، والسقوط في التواكل، وتقويض الإرادة الإنسانية،
وهي المشكلة التي نواجهها»؛
٦٤ وهي مشكلةٌ ضاغطةٌ اقتضت منه إعادة بناء الإيجابي في هذه
العقيدة على النحو الذي سمح لجماهير الشيعة بالاندفاع إلى شوارع
طهران وغيرها، تصنع تاريخها بنفسها، متخطية عهودًا طويلة من
الانتظار العاجز لمن يصنع لها تاريخها.
وحتى بالتجاوز عن السلبي أو الإيجابي في عقيدة «المهدي المنتظر»
بالنسبة للتاريخ الشيعي، فإن هيمنة «الإمام» وحضوره الطاغي في
النسَق الشيعي، إنما يتكفَّل بالقضاء على أي تاريخ لسواه.
٦٥ ولعل ذلك يتبدَّى فيما يئول إليه هذا الحضور الطاغي
للإمام من سلب الأمة بأَسْرها وعيها التاريخي؛ فإذ الوعي التاريخي
للأمة قد راح يتجلى من خلال بعض الآليات المعرفية المتداولة في
علمَي الحديث والفقه خاصة؛ كالتواتر والإجماع، فإن الشيعة قد صاروا
إلى سلب الأمة هذه المهام وإضافتها إلى الإمام لا سواه. وهكذا فإنه
إذا كان «التواتر» هو أداة الأمة في حفظ الأخبار الشرعية وتصحيحها
(ثم تطور إلى أن يكون أداتها في إنتاج معرفتها التاريخية بأَسْرها)،
فإن الشيعة قد صاروا إلى نقضه،
٦٦ ابتداءً من «أن أهل التواتر، وإن كانوا حجة، فقد يصح
عليهم السهو عما ينقلون في بعض الأحوال، أو في كل حال، فلا بد من
حافظ يزيل سهوهم، وينبه على كتمانهم، ولا يجوز عليه ما يجوز عليهم.»
٦٧ وإذ «الإجماع» يتكشَّف عن الثقة في الخبرة التاريخية
المتراكمة للأمة، وذلك من حيث كان، بدوره، أحد الطرق المعتبَرة في
نقل الشرع وحفظه؛ لأن ثمَّة من الشرع «ما يصير محفوظًا بالإجماع، وقد
علمنا بالدليل أنه لا يجوز على الأمة فيه الخطأ، ولا يجوز عليهم
الذهاب عن الحق، ولا بد من كون الحق محفوظًا فيهم، حتى لا يخلو
الزمان ممن يحفظ الشرع والحق»،
٦٨ وكذا من حيث كون الإجماع هو نفسه، دليلًا شرعيًّا
يتساوى مع القرآن والسنة، حتى ليبدو أنه أحد درجات الوحي الذي هو:
«وحيٌ مباشر من الله وهو الكتاب [القرآن]، ووحيٌ تفصيلي من الرسول
بتوجيه من الله [السنة]، ووحيٌ جماعي من الأمة، فالأمة خليفة الله [الإجماع].»
٦٩ وإذ يبلغ الأمر هكذا حد اعتبار الإجماع، أو الخبرة
التاريخية للأمة في كل عصر، أحد أشكال الوحي ودرجاته، فإن الشيعة
يردوُّن بأن «الأمة يجوز عليها السهو والنسيان، وارتكاب الفساد،
والعدل عما علمَته، وأن ما جاز على آحادها جائزٌ على جميعها، من حيث
لم يكن إجماعها أكثر من انضمام آحادها بعضِها على بعض، وإذا كانت
العصمة مرتفعةً من كل واحد على انفراد، فيجب أن تكون مرتفعة عن الكل.»
٧٠
وهكذا يئول الأمر إلى تجريد الأمة من الثقة التي تؤهلها لحمل
أمانة حفظ الدين ورواية الشريعة؛ وهو ما يعني — بعبارةٍ أخرى —
تجريدها من الوعي التاريخي ومصادرته لحساب الإمام على نحوٍ تام. وإذ
تكتمل بذلك دائرة نفي الأمة (فعلًا ووعيًا)، فإن ذلك يئول إلى أن
النسق الشيعي لا ينطوي، من حيث لا مكان فيه إلا للإمام وحده، على
أي حضور للتاريخ أو الوعي به. ومن هنا ضرورة التجاوز إلى المعتزلة؛
حيث الحضور المهيمن للإنسان (وعيًا وفاعلية)، يؤسِّس لحضور التاريخ
والوعي به أيضًا.
ثانيًا: من الإمامة إلى التاريخ عند المعتزلة …
(التاريخ تجاوزًا خلَّاقًا)
إذا كان قد بدا، فيما سبق، أن وضع الإمامة في كلا النسقَين
الأشعري والشيعي («هامشية» في الأول و«مركزية» في الثاني)، يُعَد
شيئًا له تأثيره الحاسم على بناء تصور التاريخ المرتبط بكلٍّ منهما،
فإنه يمكن البدء، من هنا، في تحديد وضع الإمامة في النسَق المعتزلي
باعتباره التوطئة الضرورية لرصد التصور المعتزلي عن التاريخ وكشف
بنيته الباطنية. والحق أن الإمامة تترتب في النسق المعتزلي بكيفية
يمكن منها المصير إلى تاريخ يجاوز كلا التاريخَين (الأشعري
والشيعي)؛ ذلك أنه إذا كان كلا التاريخَين قد استحالا إلى تاريخَين
متعاليَين يغيبُ عنهما الإنسان بفاعليته في العالم، وكان ذلك نتاجًا
لتهميش الإمامة، وإلى حدِّ الغياب أحيانًا، عند الأشاعرة،
ومركزَتها إلى حدٍّ لا يحضر فيه سوى الإمام (مبتلعًا في جوفه لكل
مهام الأمة والنبوة وحتى الألوهية) عند الشيعة، فإن وضعها (أي
الإمامة) كجزءٍ جوهري من أحد الأصول الخمسة التي يتميَّز بها المعتزلة
عمن سواهم؛ وأعني الأصل الخامس عن «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»،
٧١ إنما يجعل التاريخ المرتبط بها تاريخًا للإنسان غير
متعالٍ عليه، وذلك من حيث يُحيل هذا الوضع إلى الجمع المعتزلي بين
جوهرية الإمامة ومركزيتها من جهة (وذلك من حيث تُعَد جزءًا من أحد
الأصول المؤسِّسة)، وبين كونها نشاطًا للإنسان في العالم (وذلك من
حيث إن الأصل الخامس بأَسْره، وهي جزء منه، يتعلق بفاعلية الإنسان
وقدرته على خلق عالمٍ يخلو من الظلم والجور).
٧٢
وحتى بالتجاوز عن كون ظروف نشأة الاعتزال بأَسْره قد ارتبطَت، على
نحوٍ صميمي، بما يتعلق بمسائل الإمامة، فإنه يمكن القول إن الوضع
المؤسِّس للإمامة يتجاوز هذا السياق العملي، ليتبدَّى، على نحوٍ أعمق،
في اعتبار المعتزلة للأصل الخامس — والإمامة جزء منه — قابلًا
للاندراج ضمن مسائل الأصل المؤسِّس نظريًّا وبنيويًّا، للنسق
المعتزلي بأَسْره؛ وأعني به أصل «العدل».
٧٣
ولعل الدور التأسيسي لأصل «العدل» (وبكل ما ينطوي عليه من مسائل)
يتأكد، على نحوٍ حاسم، من مجرد ملاحظة أسبقيته في الكتابة والتسمية
(أهل العدل والتوحيد) على أصل التوحيد؛ وهي الأسبقية التي استقرَّت
في الرسائل والمؤلفات المعتزلية الأولى. ولعله بدا، تبعًا لذلك، أن
أهم ما يتميَّز به قطب المعتزلة المتأخر، القاضي عبد الجبار، هو تبني
الأسبقية النقيض للتوحيد على العدل؛ سواء في الكتابة (شرح الأصول
الخمسة، حيث الكتابة في «التوحيد» تسبق الكتابة في «العدل») أو في
التسمية (المغني في أبواب «التوحيد» و«العدل»). وهكذا فإن ثمة من
تنبه إلى أن «ثمة خلاف — عند القاضي عبد الجبار — من جهة التوحيد
والعدل؛ فالقاضي عبد الجبار مستقر في اعتبار التوحيد أسبق من
العدل، وهذا السبق إنما جاء؛ لأن التوحيد أولى وآثر وأحرى
بالتقديم؛ لأن قيمته أعلى من قيمة العدل.»
٧٤ والحق أنه، وبصرف النظر عن وضع «التوحيد» سابقًا على
«العدل»، عند القاضي عبد الجبار، فإنه يُلاحَظ أن الكيفية التي
ينبني بها «التوحيد» في النسَق المعتزلي؛ وعلى نحو يستحيل معه فهمه
أو تفسيره إلا بواسطة العدل، إنما تئول إلى أن ثمَّة أسبقيةً بنيوية
أو باطنية للعدل على التوحيد عند المعتزلة على العموم، وذلك على
العكس تمامًا من الحال في النسَق الأشعري الذي تتضافر فيه الأسبقية
الخارجية «للتوحيد» على كافة مسائل النسق، مع الأسبقية البنيوية أو
الباطنية له عليها أيضًا.
والحق أن الإمامة هكذا (أعني من خلال أسبقية «العدل»، وهي جزءٌ
جوهري منه، على «التوحيد» (أسبقية بنيوية أو خارجية وبنيوية
معًا))، تكتسب طابعًا تأسيسيًّا بالنسبة للنسَق المعتزلي بأَسْره، وهو
ما يُحيل إلى دورٍ تأسيسي للتاريخ (وهو جزء من الإمامة) بالنسبة
للنسَق ذاته.
٧٥ والحق أن الحضور الفاعل للتاريخ في النسق المعتزلي لا
يتدعم فقط من خلال الوضع التأسيسي للإمامة في النسَق (وذلك من خلال
كونها جزءًا من العدل)، بل ومن خلال جملة أفكار انطوت عليها
الإمامة، وتم فيها استبدال مفهوم «الموازنة» — بما ينطوي عليه من
السعي إلى بلورة أداةٍ منهجيةٍ لقراءة الوقائع التاريخية — بمفهوم
«التفضيل» الذي بدا أدنى إلى حكم القيمة المفروض على الوقائع من
خارجها، والذي يعيق لذلك إنتاج تاريخ حق لها. وهكذا يتدعم التاريخ،
لا من خلال شكل وضع الإمامة في النسَق فقط، بل ومن خلال المضمون
الذي انطوت عليه أيضا، تمامًا بمثل ما إن الوضع الهامشي للإمامة في
النسَق الأشعري لا يئول وحده إلى تغييب التاريخ وتهميشه، بل وكذا ما
انطوى عليه مضمونُها من أفكار التفضيل والتكفير.
٧٦
فإذا انتهت الإمامة عند المعتزلة، وكالحال عند الأشاعرة، إلى درس
في التفضيل، فإنه يبدو أن التفضيل المعتزلي قد راح يتأسَّس ضمن سياقٍ
مغاير تمامًا للسياق الذي تأسَّس فيه عند الأشاعرة؛ فإذ الأشاعرة قد
صاروا إلى أن التفضيل يتأسَّس على النص
٧٧ أو «الوضع من الله»،
٧٨ فإن المعتزلة قد صاروا، في المقابل، إلى تأسيسه على
«الطاعة والتقوى لا غير»،
٧٩ أو — بعبارة أخرى — على الفعل أو «الوضع من الإنسان».
ولعل هذا التباين بينهما ينطوي على ضربٍ من التبايُن الأعمق في تصور
الشيء موضوع التفضيل (فعلًا أو شخصًا أو عصرًا … إلخ)؛ حيث التأسيس
الأشعري للتفضيل على «النص» يحيل إلى تصورٍ للشيء موضوع التفضيل، لا
ينطوي في ذاته على ما يجعله الأفضل أو الأقل فضلًا، بل الوصف له
بأيٍّ منهما يبدو مجرد إضافة تلحق به من خارجه. وفي المقابل فإن
التأسيس المعتزلي للتفضيل ينطوي على تصورٍ للشيء، موضوع التفضيل،
ينطوي في ذاته على ما يجعله الأفضل أو الأقل فضلًا، وبحيث يكون
الوصف له بأيٍّ منهما، لا إضافة تلحق به من خارجه، بل إخبار عما
ينطوي عليه في باطنه.
وإذا كان ذلك يحيل إلى التباين، في حقل الأخلاق، حول التحسين
والتقبيح في الأفعال (حيث يُضافان إليها من الخارج حسب الأشاعرة،
وباطنان فيها حسب المعتزلة)، وإلى التباين، في حقل الأنطولوجيا،
بين العَرَض — والجوهر بالتالي — لا يبقَى زمانَين فيضيف الله إليه
الوجود حسب الأشاعرة، وبين القول بطبائعَ ذاتيةٍ ثابتة للأشياء حسب
المعتزلة، فإنه يئول، في حقل التاريخ، إلى التباين بين تصور الخبر
— موضوع الكتابة التاريخية — لا ينطوي في ذاته، عند الأشاعرة، على
ما يتعيَّن به صدقه أو كذبه، بل يلحقانه بالإضافة من سندٍ خارجي
(الأمر الذي جعل الكتابة التاريخية ذات طابعٍ إسنادي)، وبين تصوُّره
(أي الخبر) ينطوي في ذاته، عند المعتزلة، على ما يتعيَّن به صدقه أو
كذبه؛ ولذلك فإن صدق الخبر أو كذبه لا يتوقف أبدًا على أي إضافةٍ
خارجية، بل يرتبط بمجرد الفحص الباطني النقدي له (الأمر الذي كان
يمكن أن يتطور إلى كتابةٍ تاريخية ذات طابعٍ تركيبيٍّ نقدي).
٨٠
ولعله يرتبط بذلك ما صار إليه المعتزلة من زعزعة الأساس «النصي»
للتفضيل عند الأشاعرة، وذلك عَبْر تضعيف طُرق نقل الأخبار الخاصة
بالفضل والمفاضلة من جهة، وإظهار التضارب بين مضامينها من جهةٍ
أخرى؛ فإذ «المشهور من الخلاف فيه [أي التفضيل] قول من يفضِّل أمير
المؤمنين عليه السلام [يقصد الإمام عليَّا] على غيره، وهم على
فرقتَين؛ من يفضِّله قطعًا للنصوص الواردة أو لظنه أن وجوه الفضل
أكثر؛ ومنهم من يقول بذلك على ما يقتضيه الظاهر من الأمارات
والأفعال، وقول من يقول إن أبا بكر هو الأفضل، والغالب من حالهم
أنهم يسلكون في كونه أفضل هاتَين الطريقتَين؛ لأن أدلتهم تدُل على ذلك
من حيث يستدل بعضهم بالنصوص، وبعضهم بذكر وجوه الفضائل»؛
٨١ وبما يعني أن ثمَّة طريقَين للاستدلال على الفضل، إحداهما
الأخبار والنصوص (بمعنى النص على فضل الشخص)، والأخرى الأمارات
والأفعال (وبمعنى أفعال الشخص وملكاته الخاصة)،
٨٢ فإن من المعتزلة من صار إلى أنه «ليس لأحدٍ أن يتعلق
بالأخبار [والنصوص] في هذا الباب»،
٨٣ لأنها جميعًا أخبار آحاد، «واعلم أن أخبار الآحاد
المروية في هذا الباب لا يمكن الاعتماد عليها؛ لأن القطع بصحتها
إذا لم يمكن، فكذلك القطع بمدلولها … [وكيف ذلك وهي] أخبارٌ
متعارضة؛ حيث فيها ما هو كالنص المصرِّح في أن أمير المؤمنين أفضل،
وفيها [ما هو] كالنص المصرِّح في أن أبا بكر أفضل.»
٨٤
وهكذا فإنه وبعد أن يورد «القاضي» من «الأدلة أقوى ما استدلوا
بها على أن أمير المؤمنين أفضل؛ لأن ما عداها لم يُشتهَر كشهرتها،
وإن كان فيما عاداها ما هو أقوى في الدلالة … [فإنه يُعقِّب
قائلًا] لكنها أخبارُ آحادٍ ويعارضها الأخبار المروية في فضل أبي بكر.»
٨٥ وليس من شك في أن الأمر هو كذلك بالنسبة للأخبار
المروية في فضل أبي بكر؛ ولذلك فإنه «لا يمكن لمن يفضِّل أبا بكر أن
يحتج بتلك الأخبار، وهذه الأخبار أجمع نعارضها، وإنما يجب أن نرجع
في ذلك إلى ما ثبت في النقل [وسيُلاحَظ أنه غير متوافر أبدًا في باب
التفضيل] وليس في جملة ما رُوي في فضل أبي بكر أشهَر [لا يقول:
أثْبَت] في النقل مما روي عن أمير المؤمنين.»
٨٦ وكذا فإنه «قد رُوي عنه [أي النبي] عليه السلام في
العباس ما شاكَل في دلالة الفضل ما قدَّمناه، فلِم صار بأن يُجعل
الأفضل بعد رسول الله عليه السلام أبو بكر لتلك الأخبار أولى من
العباس لهذه الأخبار، [وإذ بدا أنه يمكن الاحتجاج هنا بكثرة روايات
الفضل في أبي بكر عنها في العباس، فإن القاضي يقطع بأنه] لا يمكن
أن يُجعل كثرة الأخبار مرجحًا … إذ ليس للإكثار في هذا الباب
معنًى؛ لأن الآية الواحدة [أو النص الواحد] في دلالة الفضل کالآيات
[أو النصوص].»
٨٧
وإذ بدا، هكذا، أن كافة النصوص والمرويات في باب التفضيل، هي —
حسب المعتزلة — أخبارُ آحاد لا يمكن أن تكون طريقًا لحصول العلم
القطعي؛ وبحيث انتهوا إلى أنه «ليس لأحد أن يتعلق بالأخبار في هذا
الباب»، فإنه لم يعُد من سبيل أمام المعتزلة إلا الاستدلال على
الفضل من «الأمارات والأفعال»؛ الأمر الذي يعني تجاوز «النص، كأداة
لإنتاج الفضل إلى «الموازنة»
٨٨ بين الأعمال والفضائل.
والملاحظ أن هذا التجاوز من «النص» إلى «الموازنة»، إنما ينطوي
على السعي المعتزلي إلى بناء «التفضيل» على أساسٍ عيني قابل
للإدراك. ومن هنا ما صاروا إليه من «أن ما له مدخل في هذا الباب
[باب الموازنة] ليس إلا خصال الفضل، وهي على ضربَين؛ أحدهما علم،
والآخر عمل، ويتبع العلم التحرُّز مما يضاده وينافيه، أو يجري هذا
المجرى كالجهل والشُّبه وما شاكلَها، ويتبع العمل التحرُّز من القبيح،
والأعمال التي لها مدخل في هذا الباب قد تكون من أفعال القلوب
والعزم وتوطين النفس وما شاكلها. وقد تكون من أفعال الجوارح، وهي
على ضربَين؛ أحدهما نطاق العلم، وذلك كالتعليم والدعاء إليه
واستدعاء المبطلين وما شاكل ذلك. والآخر أفعال الجوارح، وذلك
كالجهاد وما يتصل به … وما يدخل تحته من الرأي والسياسة وما يجري
هذا المجرى، ولكل ذلك وجوهٌ يقع عليها نحو السبق إليه والتقدم،
وامتداد الزمان، وكثرة المشقة فيه، وكثرة النفع فيه فيما يعود على
الدين [والدنيا بالطبع]، وفيما يتعلق بالتأسي والاقتداء، فعلى هذه
الوجوه يُبنى الكلام في الموازنة.»
٨٩ وإذ تتعلق «الموازنة»، هكذا، بمجمل النشاط الإنساني
(وعيًا وممارسة) في العالم، فإن عناصرها لا بد أن تتباين باعتبار
ما بين هذا النشاط (سواء على مستوى الأفراد أو العصور) من تباين
واختلاف حينًا، ووحدة وشراكة حينًا آخر. ومن هنا ضرورة العلم بأن
«جميع ما ذكروه في الموازنة لا يخرج عن أقسام؛ منها ما فيه اختلاف،
ومنها ما لا خلاف في بيانه ومنها ما حصل فيه طريقة الشركة»؛
٩٠ وبمعنى أن موازنة بين شخصَين أو عصرَين إنما تئول إلى أن
ثمَّة عناصرَ مشتركةً بينهما، وعناصرَ أخرى لا يكون معها خلافٌ في فضل
أحدهما وتقدُّمه على الآخر، ثم أخيرًا عناصر تثير الاختلاف فيما
يتعلق بتعيين الأفضل أو الأكثر تقدمًا منهما.
ولعل المعتزلة قد أرادوا من وراء هذه العناصر موضع الاختلاف، في
الموازنة، إفساح المجال أمام قراءةٍ للتاريخ أكثر ثراءً وخصوبة، وذلك
من حيث لا تتقيد بأي أحكام أولى أو مطلقة على وقائع التاريخ
وأحداثه، بل تراه — ومن حيث هو موضع اختلاف — قابلًا لأحكامٍ
متباينة، بحسب تبايُن منظور التقييم وزمانه من جهة، وأدوات القراءة
وركائز التحليل من جهةٍ أخرى. وأخيرًا فإنه يمكن القول في هذا
السياق أن تصور «الموازنة» (بين الأشخاص والعصور) تنطوي على عناصر
اشتباه، وعناصر وحدة وشراكة، إنما يتكشَّف عن تاريخ ينطوي على ضربٍ
من الوحدة، لا تقدر عناصر الاختلاف والاشتباه على طمسها. ولعله
يلزم التنويه بأن الاختلاف المشار إليه في هذا السياق، يتباين
بالكلية عما يئول إليه التاريخ الأشعري من الاختلاف والتفرُّق، وذلك
من حيث يبدو الاختلاف الذي يئول إليه التاريخ الأشعري علامة
انهيارٍ وتدهور، فيما الاختلاف، في التاريخ المعتزلي، علامة ثراءٍ
وتطور. وهنا فإنه إذا كان الاختلاف في «الموازنة» يتكشَّف عن التطور
في التاريخ، فإن ما فيها من شراكة وتماثل يئول — لا جدال — إلى ما
يمكن اعتباره وحدة العنصر الإنساني في التاريخ؛ الأمر الذي يئول
إلى أن التاريخ المعتزلي يمثِّل، على هذا النحو، لحظة التأليف بين
التاريخ الأشعري (وذلك من حيث ينطوي على الاختلاف في صميم بنائه)
وبين التاريخ الشيعي (وذلك من حيث ينطوي، رغم الاختلاف في بنائه،
على شكل من أشكال الوحدة الإنسانية).
والملاحظ أن المعتزلة قد ركزوا في تحليلهم للأفعال الإنسانية
(موضوع الموازنة) على وضعها في إطار سياقاتها التاريخية من جهة،
وعلى الوعي بالنتائج والتداعيات التي تترتَّب عليها في حقبٍ لاحقةٍ من
جهةٍ أخرى. وعلى هذا فإن تعيين الفضل والتميز في فعل أو نشاطٍ ما لا
يكون بتحليله وتناوله في عزلة عن تاريخه الذي ينتجه، وعن المستقبل
الذي يتطور فيه. ولقد تبدَّى ذلك، على نحوٍ جلي، في سياق مفاضلة
المعتزلة بين الإمام عليٍّ وبين أبي بكر؛ إذ صاروا إلى «أن أمير
المؤمنين اختُص من باب العلم بما ليس لأبي بكر؛ لأن الذي أُخذ عنه
من العلم لا يساويه غيره فيه؛ لأن أصول التوحيد والعدل إليه تُضاف
وعنه أخذَت، على ما ثبت عن واصل بن عطاء أخذه عن محمد بن علي [ابن
الحنفية] وأبي هاشم، ثم قد ثبت عنه عليه السلام من دقيق الكلام في
أصول الدين نحو إنكاره الرؤية، ونحو تأديبه على تجويز الحجاب على
الله تعالى، ونحو نفيه المكان عن الله، ونحو إضافة العدل إليه،
ونحو ما رُوي في المنزلة بين المنزلتَين حتى رُوي عنه في باب العوض
ما يُبنى عليه ذلك، [وفي المقابل] فإنه لا يفي بهذا الوجه شيءٌ من
علم غيره؛ لأن الذي يُروى أن أبا بكر دعا إلى الدين حتى أسلم
بدعائه الجماعة المذكورة في هذا الباب، هو يخصُّهم [أي الجماعة] ويخص
الوقت، وليس كذلك النفع الذي ذكرناه [بالنسبة لعلم عليٍّ].»
٩١ وهكذا فإنه في مقابل المحدودية التاريخية لعلم أبي بكر
التي جعلَته مخصوصًا بوقته، فإن علم الإمام علي قد راح يتجاوز أسوار
عصره، متطورًا إلى ما يمكن اعتباره جملة أصول المعتزلة في «العدل والتوحيد»؛
٩٢ الأمر الذي يعني أن ثمَّة تحليلًا للفعل يتجاوز إطار
تحقُّقه إلى تتبُّع ما يتطور إليه لاحقًا (ولعل ذلك أحد تجليات نظرية التوليد).
٩٣ وحين يصير المعتزلة إلى أنه «أمَّا مَا يتصل بالزهد
والورع فيهما، وإن كانا قد اشتركا فيه، فلأمير المؤمنين التقدُّم
والسَّبق من جهات منها [أنه] مع اتساع الأحوال فيما يخص ويعم من
الأموال؛ وكان عليه السلام يلبس أدوَن الثياب، ويأكل أخثَن الطعام،
حتى كان يقطع من أطراف كُمِّه ما لا تقع الحاجة إليه ويرقع
سراويله، ويتحرَّز التحرُّز الشديد في هذا الباب»،
٩٤ فإن ذلك يحيل إلى تحليل للفعل في إطار جملة السياقات
التاريخية التي تحقق فيها. وإذ تئول «الموازنة» هكذا إلى ضرب من
التحديد الصارم للفعل، بسياق تحقُّقه وإنتاجه أولًا، وسياق تطوره
وإثماره ثانيًا، فإن ذلك يؤكد على كونها تمثل تأسيسًا للتاريخ، لا
تعاليًا عليه.
ولعله يمكن القول، تبعًا لذلك، بأن التفضيل الذي يتأسَّس من خلال
«الموازنة» يمثل تجاوزًا (بالمعنى المعرفي) كليًّا للتفضيل الذي
يتأسس على «النص». فإذ بدا، فيما سبق،
٩٥ أن التفضيل عَبْر النص (وهو التفضيل الأشعري) أدنى إلى
حكم القيمة المفروض على الواقع من خارجه قصدَ تقييم الماضي وتوجيهه،
بإسقاط العديد من التصورات المتخيَّلة عليه، على نحو يدعم سياسة الحاضر،
٩٦ وهو ما تبدَّى في الإصرار على ترتيب الخلفاء الأربعة
في الفضل بحسب ترتيبهم في الإمامة، باعتبار «أنه يتعيَّن للإمامة
أفضل أهل العصر»؛
٩٧ فإن التفضيل عَبْر الموازنة قد بدا أداة تحليل، لا أداة
تقييم وتوجيه؛ وأعني أداةً عقليةً منهجية لتحليل الواقع على نحو
يتجاوز إخضاعه لأي أحكام قيمة، وذلك قصدَ تحريره من سطوة التوجيه
السياسي وطغيانه، وهو ما تبدَّى جليًّا في رفض «التعلُّق بالتقدم في
الإمامة على التقدُّم في الفضل»؛
٩٨ وبما يعني رفض ترتيب الأئمة في الفضل بحسب ترتيبهم في
الإمامة، حيث «ليس من شرط الإمام كونه الأفضل.»
٩٩
وهكذا فإنه إذ التفضيل، عند الأشاعرة ينبني على القول بالأولوية
المطلقة للمتحقق ابتداءً من أن السابق في التحقُّق أفضل على الدوام
من كل من يليه، فإن المعتزلة قد صاروا إلى الزعزعة الدائمة لهذا
التصوُّر، وذلك من خلال فك الارتباط بين السبق في التحقق والسبق في الفضل،
١٠٠ وبحيث يصبح — تبعًا لذلك — تصوُّر الانتقال من السابق
إلى اللاحق، بمثابة انتقال من الأقل فضلًا إلى الأفضل،
١٠١ وذلك على العكس تمامًا من الحال عند الأشاعرة، الذين
يستحيل عندهم تصوُّر الانتقال من السابق إلى اللاحق إلا انتقالًا من
الأفضل إلى الأقل فضلًا. ولعل ذلك ينطوي على تصور الفضل عند
المعتزلة أفقًا مفتوحًا لا يقبل الانحصار في نقطةٍ ما، وبما يعني
أنه ليس — كالحال عند الأشاعرة — واقعةً نهائيةً مكتملة، أو معطًى
مطلقًا، لا يقبل التجاوز والتخطي، بل صيرورة وممارسة يمكن في سياقها
التخطي والتجاوز إلى الأكثر فضلًا على الدوام. ولعل ذلك يُحيل إلى
تصور للتاريخ يقبل التجاوز والتخطِّي، وذلك من حيث لا ينطوي، في صميم
بنائه، على لحظةِ اكتمال نموذجيةٍ مطلقة يكون مساره ابتداء منها
انهيارًا وتدهورًا متلاحقًا؛ الأمر الذي يستحيل معه أي تجاوز؛ لأن
التاريخ لا يعرف أبدًا أي سبيل للانفلات من هذا التدهور، إلا
الإلحاح على تكرار «النموذجي» فيه، وليس تجاوزه بعد استيعابه
واحتوائه بالطبع.
والحق أن ذلك يتفق تمامًا مع تصور التاريخ المعتزلي، من خلال
الموازنة، نشاطًا خلَّاقًا يحقِّقه الإنسان بعلمه وعمله؛ إذ الموازنة
تعني أن شيئًا ما يكون «الأفضل» من غيره، لانطوائه على خصائصَ
ذاتية تجعله كذلك، وليس لأمرٍ عارض يُضاف إليه من خارجه. ومن هنا
فإن لحظة في التاريخ ليست أفضل من أخرى، لإضافة تلحقها من الخارج
(كأن يقال مثلًا: إنها الأفضل لقربها من عصر النبوة)؛
١٠٢ بل لما تنطوي عليه من خصائصَ ذاتية تحدَّدَت عند المعتزلة
بالعلم والعمل خاصة.
وإذ العلم والعمل يخضعان، في صميم بنائهما، للتجاوز والتخطي، فإن
ذلك يحيل إلى تصور «للنموذجي» في التاريخ المعتزلي، ليس معطًى
مطلقًا ينحصر في إطار لحظةٍ ما تقع في الماضي (كما هو الحال عند
الأشاعرة)، بل صيرورة تحقُّق مستمرة يغدو معها التاريخ نزوعًا دائمًا
إلى ما لم يكنه بعدُ. ليس التاريخ، إذن، حركة انهيارٍ وسقوطٍ مستمرة،
بالنسبة لماضيه «النموذجي» المكتمل، بل هو سعيٌ دائب إلى الإمساك
بهذا «النموذجي» الذي يبدو أنه لا يكتمل أبدًا، بل يبقى، على
الدوام، في طور التحقُّق والاكتمال بفاعلية الإنسان ووعيه
الخلَّاق.
وإذ ينطوي ذلك على تصور «النموذجي» في التاريخ، لا موضوع تكرار،
بل صيرورة تحقُّق واكتمال، فإنه يدُل — فيما يتعلق بعلاقة التاريخ
بالوحي — على إمكان تصوُّر الوحي ضمن التاريخ المعتزلي، خطابًا
مفتوحًا يتحقق اكتماله عبر الإغناء المتنامي بضروبٍ شتى من الخبرة
والتطور، وليس مقولةً مغلقةً صماء لا تقبل شيئًا إلا مجرد الاجترار
والتكرار، ولا تنفتح البتة على شيءٍ خارجها. والحق أن تصوُّر الوحي
هكذا؛ أعني بناء يسع العالم خارجه ويتسع به في آنٍ معًا؛ وبما يعني
ضربًا من الإحالة المتبادلة بينهما، هو ما يحفظ للوحي وجوده الفعَّال
وحياته الحقَّة؛ لأنه يستحيل حال كونه مقولةً مغلقة تُحيل فقط — ومن
دون أن يُحال إليها — إلا اضمحلاله ومواته. وهكذا يتكشَّف التصور
المعتزلي للتاريخ، لا عن الحضور الفعال للإنسان (ممارسة ووعيًا)
فقط، بل وللوحي كذلك. وضمن هذا السياق، فإن التاريخ يكون جزءًا من
بناء «الوحي»، وذلك باعتباره (أي التاريخ) الفضاء الذي يتكشَّف فيه
(الوحي) عن سائر ما ينطوي عليه من ممكنات يستحيل انبثاقها إلا عَبْر
الفاعلية الخلاقة للإنسان (وعيًا وممارسة) في العالم. والحق أن ذلك
يُحيل إلى الطابع الإحالي (أو التعالقي) بين كلٍّ من التاريخ والإنسان
والوحي، وذلك على العكس تمامًا مما بدا — فيما سبق — أن النسق
الأشعري يصير إليه، ابتداء من نظامه البنيوي القائم على الانفصال
وفك الروابط بين مقولاته؛ حيث التاريخ بلا إنسان، والإنسان بلا
فعل، والوحي يفتقر إليهما معًا (أي الإنسان والتاريخ).
والمُلاحَظ أنه إذا كان التاريخ الأشعري قد آل — ابتداء من تصوره
اغترابًا عن الوحي وتدهورًا له — إلى أن يكون مسيرة تدهور يميزها
«التكفير»، فإن التاريخ المعتزلي يبدو — ابتداءً من تصوره جزءًا من
بناء الوحي — صيرورة تطوُّر ينجزها «التأويل»؛ الأمر الذي يعني أن
التاريخ المعتزلي هو، في جوهره، تجاوز «للتكفير». فإن تكشَّف الوحي
عن جملة الممكنات الكامنة فيه هو مما يستحيل، لا شك، إلا عَبْر
ممارسة تأويلية، لا ترى «المعنى» في الوحي «معطًى مطلقًا» لا يتجاوز
إطار اللغة، بل «تكوينًا تاريخيًّا» يتجاوز الوحي بما هو بنيةٌ
لغوية إلى العالم خارجه؛ الأمر الذي يعني أن دلالة «التأويل» ليست
معرفيةً فقط، تتعلق برفع التناقض حال ظهوره بين نص الوحي وبين ما
تقرَّر في العقل من أصول، بل هي أيضًا دلالةٌ تاريخية تتعلق بإعادة
بناء المعنى في سياق تطوراتٍ مستجدة.
ولعل ذلك يُستفاد مما صار إليه القاضي عبد الجبار، في تبرير وجود
المحكم والمتشابه — وهو أساس التأويل — في أصل الوحي، من «أن ذلك
ربما يكون أصلح وأقوى في المعرفة، وفي رغبة كل الناس في النظر في
القرآن إذا طلبوا آيةً تدل على قولهم»،
١٠٣ فإذ يبدو الوحي، هكذا، أفقًا مفتوحًا على نحوٍ يحقق
رغبة البشر، على مدى التاريخ، في النظر فيه إذا طلبوا آيةً تدل على
قولهم في شيءٍ ما، فإن ذلك يعني تصورًا لدلالة الوحي يتجاوز إنتاجها
إطاره اللغوي إلى التاريخ الذي يطويه داخله.
وإذ التأويل، هكذا، يحيل إلى ضرب من التجاوز (التاريخي والمعرفي)
في بناء المعنى، فإنه — وحسب طبيعته الخاصة — ينطوي أيضًا على
الإقرار بالتعدُّد، بل إنه يفترضه ويتأسس عليه، حتى ليبدو وكأن لا
معنى للتأويل بلا حضور للتعدُّد (الاجتماعي والتاريخي) في صميم
بنائه. وهكذا يئول التأويل إلى تصوُّر التعدد والاختلاف، لا انحرافًا
لا بد من رفعه (كما هي الحال عند الأشاعرة)، بل واقعة ينطوي عليها
العالم في بنائه، ويتسع لها الوحي بطبيعته. وضمن هذا السياق من
الإقرار بالتعدُّد، فإنه يُلاحَظ الغياب التام لآلية التكفير (وبما
تنطوي عليه من إقصاء التعدُّد ونفي الاختلاف) من النسَق المعتزلي.
ولعل ذلك يتضح من صياغتهم للحديث المشهور عن افتراق الأمة، حيث
يتجاوزون ما استقرَّت عليه الصياغة الأشعرية للحديث، من تكفير كافة
الفرق والاجتهادات الأخرى وإدانتها، إلى الاكتفاء بتخصيص فرقتهم
بأنها خيرُ الفرق وأبرُّها وأتقاها، ومن دون أن تكون وحدها «الناجية»،
وما عداها هالكون في النار.
١٠٤ ولهذا فإنهم (أعني المعتزلة) في تمييزهم لأنفسهم عن
الفرق الأخرى لا يتجاوزون حدود القول إن أسانيد مذاهب هذه الفرق لا
ترقى أبدًا إلى صحة أو قوة السند المعتزلي الذي يجتهدون في
الارتداد به إلى الإمام عليٍّ.
١٠٥ وهكذا فإنه ليس ثمَّة من تكفير أو تأثيم للآخر، بل ثمة
الاختلاف معه ضمن حدود نفس الثقافة أو الدين؛ وهو اختلافٌ لم يمنع
المعتزلة من السعي إلى التماس عناصر الاتفاق بينهم وبين هذا الذي
يختلفون معه.
١٠٦ ولعل ذلك يكشف، لا عن الإقرار بالاختلاف فقط، بل وعن
السعي إلى استيعابه أيضًا؛ إذ الاختلاف هنا، هو دالة السعي الدائب
للفاعلية الإنسانية الخلاقة إلى تحقيق اكتمال الوحي (من حيث هو
ثقافة) وإغنائه بشتى ضروب الخبرة والتطور، على نحوٍ يسمح بتحقيق ما
ينطوي عليه من ممكنات في صورٍ وأشكال وجود لا يتوقف معها الوحي عن
النماء والتجدد.
وأخيرًا، فإن تحقُّق الفاعلية الإنسانية وحضورها في التاريخ
المعتزلي، إنما يتجاوز هذا الضرب من التحقُّق النظري، في إثراء الوحي
وكشف ممكناته، إلى ضرب من التحقُّق العيني في أنماط الممارسة
التاريخية بين البشر؛ فإذ «العدل»، حسب المعتزلة، لا مجرد اعتقاد
فقط، بل تحققٌ في العالم أيضًا، فإن ذلك قد جعل النسَق المعتزلي
يتسع لقضايا من قبيل الآجال والأرزاق والأسعار؛ أو ما يسمَّى بأفعال
«الوعي الاجتماعي»
١٠٧ التي تتعلَّق بأنماط من العلاقات بين الأفراد ذات طابعٍ
عينيٍّ ملموس.
١٠٨ وهنا يُلاحظ أنه إذا كان «العدل» يمثل إطار التحقق
النظري للفاعلية الإنسانية على صعيد القدرة والإرادة والاستطاعة
وغيرها من المسائل النظرية (والتي تبدو بمثابة التعيُّن الأول للذات
قبل تخارُجها في موضوع)، فإن مسائل الآجال والأرزاق والأسعار تمثِّل
إطار التحقُّق العيني لهذه الفاعلية، وذلك على مستوى السعي إلى بناء
عالم لا مكان فيه لكل ضروب القبح، من الموت المجاني، إلى الظلم
والتعسُّف من توزيع الثروات، إلى احتكار السلع استغلالًا لحوائج
الناس. ومن هنا ما صار إليه المعتزلة (في الآجال) من أن المقتول
ليس ميتًا بأجله، بل انقطع عليه أجلُه بفعل قاتله.
١٠٩ ولهذا «فرَّق الله بين القتل والموت، فكان القتل من
عباده فعلًا، والموت، عز وجل، منه حتمًا. وقال: «ومن قُتل مظلومًا
فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف في القتل، إنه كان منصورًا»،
فقال: «قُتل مظلومًا»، فأخبر بقوله «مظلومًا» أن له قاتلًا ظلومًا
عنيدًا، «وما ربك بظلام للعبيد»، فإن كان قُتل بأجله، فأين الظلم
ممن استوفى كل أمله وفنيَت حياته، وجاءت وفاتُه.»
١١٠ وهكذا فإنه ليس بالوسع التخفي خلف القول «بالأجل
والقضاء» فرارًا من الوعي بالمسئولية عن ضروب الموت الظالم الذي
يتعرض له البشر (الذين لا صوت لهم خاصة) على مدى التاريخ، إنْ من
خلال جرائم الأفراد أو جرائم السلطة وإهمالها في توفير شروط الحياة
الآمنة، أو حتى من خلال الحرب العدوانية؛ حيث المعتزلة «لا يفرقون
في ذلك بين العدد الجم الغفير والعدد اليسير إذا أتى القتل عليهم.»
١١١
ولعل هذا الوعي بالمسئولية تجاه الموت الذي يحيق بالبشر ظلمًا أو
تقصيرًا، هو الذي دفع المعتزلة إلى التحفُّظ على الموت حين يتعلق
بقضيةٍ سامية، كقضية الثورة على أئمة الجور التي اشترطوا لها، أن
يكونوا جماعة تحت قيادة إمام، ويحتمل النصر لهم، وبعبارتهم فإن
الثورة لا تجوز إلا «إذا كنا جماعة، وكان الغالب عندنا أنَّا نكفي
مخالفينا، عقَدنا للإمام، ونهَضنا فقتلنا السلطان وأزلناه (وهكذا
فإنهم) أوجبوا على الناس الخروج على السلطان على الإمكان والقدرة
إذا أمكنَهم ذلك وقدروا عليه»،
١١٢ وذلك حتى لا يكون موتهم مجانيًّا لا أثر له في تغيير
الواقع وإصلاحه؛ وأعني أن يكون موتًا تاريخيًّا، لا
طبيعيًّا.
وفيما يتعلق «بالأرزاق»، فإن المعتزلة — وعلى العكس تمامًا من
الأشاعرة — قد صاروا إلى أن «الرزق هو المِلك، أو ما انتُفع به من
المِلك، [لأن] صرف الرزق إلى الانتفاع من غير رعاية المِلك [وهو مذهب
الأشاعرة]، يلزم أن يكون الغَصْب رزقًا للغاصب إذا انتفع به، ثم لا
وجه لمنعه من رزقه ودفعه عما رزقَه الله تعالى، وتوجيه اللائمة عليه فيه.»
١١٣ وإذن فقد بدا للمعتزلة أن صرف الرزق إلى مجرد
الانتفاع، كما يفعل الأشاعرة، مما يُمكِن معه أن يكون الغَصْب رزقًا
للغاصب إذا انتفع به؛ الأمر الذي يعني إمكان التخفي خلف مقولة
«الرزق» والتغطية بها على كل ضروب النهب والاغتصاب لأموال الآخرين
(وخصوصًا الضعفاء) … ومن هنا اشتراطهم المِلك مع الانتفاع في الرزق
تمييزًا له عن الاغتصاب الذي يقتضي مجرد الانتفاع دون المِلك. والحق
أن التناول المعتزلي لمسألة «الأرزاق» يكاد أن يكون بأَسْره مكرَّسًا
للتمييز بين الرزق والاغتصاب من جهة، والتأكيد — في ارتباط هذا
التمييز — على إثبات فاعليةٍ للإنسان في مجال الأرزاق. ولعل السعي
المعتزلي إلى مناهضة الاغتِصاب والظلم والتعسُّف في توزيع الثروات،
وتمييزه عن الرزق يتبدَّى، جليًّا، فيما صاروا إليه من أن الله «يُبيِّن
ذلك بما قسم بين عباده من الأرزاق ورفق عليهم من الإرفاق، ومن ذلك
ما حكم في الغنائم والصدقات، وما جعل من ذلك لذوي المسكنة
والفاقات، فقال سبحانه:
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ، فحكَم بذلك (أي بالصدقات) لمن سُمي
من أولئك (أي الفقراء والمساكين)، فحرمَهم ذلك الفاسقون، وأكلَه
دونهم الظالمون، فكيف يُقال إن الله سبحانه رزقَ هؤلاء الظالمين
هذا، وقد حكَم به في كتابه للفقراء والمساكين.»
١١٤ فليس رزقًا ذلك دون شك، بل اغتصابٌ وتعدٍّ، وإذا كان
الله سبحانه وتعالى يقول:
مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ
أَهْلِ الْقُرَى فَلِلهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا
يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ، فخالَف على ذلك
الفاجرون، ورفضوا ما جاء به خاتم النبيين من الله، فجعلوه دُولةً بين
أغنيائهم، وحرموه مَن جعله الله له من فقرائهم، عمايةً وصممًا،
ومجاهرة لله وظلمًا، فأخذوا ما جعل الله لغيرهم، فكيف يُقال إن
الله رزَق هؤلاء الظالمين المعتدين الفاسقين إلا أن يُقال، إنه جعله
لمن حكم له به من ضعفة المسلمين، ثم انتزعه منهم فجعله رزقًا
للأغنياء الفاسقين دونهم؟! [ولكن] كيف يكون ذلك والله سبحانه يقول:
كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ.
١١٥ وهكذا أيضًا، فإن ذلك ليس رزقًا، بل ظلمٌ وتعسُّف من
الأغنياء في توزيع الثروات والأموال بأن يجعلوها دولةً بينهم من دون
الفُقراء والضعفاء.
وإذا كان هذا التمييز للرزق عن الاغتصاب قد بدا جوهريًّا لتقويم
سلوكٍ فردي راح يتخفَّى خلف (الرزق) لتبرير اغتصابه لحقوق الآخرين،
فإن له دلالةً أعمقَ تتجاوز مجرد الطموح إلى تقويم السلوك الفردي إلى
نقد الأساس الاقتصادي للدولة الخراجية القائمة آنذاك وتقويمه؛ فتلك
الدولة لم تعرف — حسب التحليل الخلدوني الأوفى لها — إلا أن «تجمَع
أموال الرعية وتُنفقها في بطانتها ورجالها، فيكون دخل تلك الأموال
من الرعايا [الضعفاء بالطبع]، وخَرجُها في أهل الدولة ثم فيمن تعلق
بهم من أهل المصر، وهو الأكثر [والأقوى]، فتعظُم لذلك ثروتهم، ويكثُر غناهم.»
١١٦ وإذن فإنها دولة «الخَراج» من جهة، و«العَطاء» من جهة
أخرى، وفيما تكون صارمةً في جمع خَراجها من رعاياها، فإنها تكون سخيةً
في صرف عطاياها لبطانتها وحاشيتها.
١١٧ ومن غير شك فإنها (أي الدولة) لم تكُن ترى، في هذا
الجمع من الرعية، والإنفاق في الحاشية والبطانة، أي نوع من
الاغتصاب، بل هو الانتفاع بما تراه حقًّا ورزقًا. وإذ الأمر هكذا
يتجاوز حدود نقد «الفرد» إلى نقد «الدولة»،
١١٨ فإن في ذلك ما يدُل على كونه يتجاوز دائرة التقويم
«الأخلاقي» إلى التأسيس «التاريخي».
وأخيرًا فإن بحث المعتزلة في «الأسعار» يتجاوز مجرد هذا النقد
للدولة، إلى تأكيد دورها في كسر الاحتكار ومنع الاستغلال. هنا
أيضًا فإنه لا سبيل للتخفِّي خلف القول إن: «الأسعار غلاءً ورخصًا
من قِبل الله تعالى»،
١١٩ لإطلاقها بمعزلٍ عن أي سيطرة، حيث «أطلقَت المعتزلة
القول بأن السعر من أفعال العباد»؛
١٢٠ وبما يعني إمكان السيطرة عليه والتحكُّم فيه. ومن هنا ما
صاروا إليه من تجويز «أن يرى الإمام المصلحة في تسعير بعض الأمتعة
عليهم على التعديل، من حيث لا يلحقهم مضرَّة، وبتراضٍ منهم، أو بكُرهٍ
على ذلك إذا رأى أن ما يجري من التسعير أنشأه بعض الظلمة، أو يؤدي
إلى فسادٍ يعُم الفقراء وغيرهم. فإن له إذا كان الحال هذه أن يُجبِر
على ضربٍ من السعر لا يُتعدَّى، ويكون وجهُ الصلاح فيه غيرَ خفي.»
١٢١ والحق أن هذا الانتقال المعتزلي بالأسعار من كونها
خارج أي هيمنة، إلى كونها تخضع للتحكم والسيطرة، لا يحيل فقط إلى
دور للدولة، بل يحيل، وهو الأهم، إلى الانتقال بها (أي الأسعار) من
كونها مسألة «طبيعية» تحدِّدها آلياتٌ لا تخصُّ الإنسان، إلى كونها
مسألة «تاريخية» تتحدد ضمن شروطٍ إنسانيةٍ خالصة.
والحق أنه يبدو، هكذا، أن البناء المعتزلي لأفعال الوعي
الاجتماعي (أو الآجال والأرزاق والأسعار)، إنما يتكشَّف عن السعي
إلى الانتقال بها من سياق ما هو «طبيعي» أو ما لا هيمنة للإنسان
عليه (وهو مذهب الأشاعرة دومًا)، إلى ما هو «تاريخي»، مما يخضع
لهيمنة الوعي؛ فقد بدا ذلك في «الآجال»، حيث السعي إلى مناهضة
الموت المجَّاني والارتفاع به، في حالة الثورة تحديدًا، إلى أن يكون
موتًا تاريخيًّا، لا طبيعيًّا فقط؛ أي موتًا تترتب عليه نتائجُ
مضمونة في إصلاح العالم وتغييره نحو الأفضل. وليس من شك في أن
التحوُّل نفسه يتبدَّى، وعلى نحوٍ أظهر، في «اشتراط المعتزلة في الرزق
أن يكون بحيث يصح تملُّكه، [حتى إن] ما لا يُمتلَك عندهم لا يُسمَّى رزقًا.»
١٢٢ إذ الحق أن التصور الأشعري للرزق (وهو ما بلور
المعتزلة تصورهم في مقابله)، يتعلق بأن «كل من أكل شيئًا أو شرب،
فإنما تناول رزق نفسه، حلالًا كان أو حرامًا»،
١٢٣ هو مما يتلاءم وحالة الوجود الطبيعي، لا التاريخي
للإنسان؛ فحيث الوجودُ الإنساني لم يتشكل بعدُ في هياكلَ تاريخية من
صنع الإنسان، فإن كل شيء يكون في حالة الطبيعة التي لا يكون
مخصوصًا بأحد بعينه، «فيَدُ الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما
جعل الله له من الاستخلاف، وأيدي البشر منتشرة فهي مشتركة في ذلك»،
١٢٤ ولهذا فإن كل من تناول شيئًا فإنما تناول رزقه
بالفعل. وأما في إطار وجودٍ تاريخيٍّ دخل فيه العالم بأشيائه في حيِّز
«الملك» الإنساني، فإنه يستحيل القول إن كل من تناول شيئًا فإنما
تناول رزقه، لأن كل شيء في العالم صار يخُص إنسانًا بعينه؛ أعني أنه
انتقل من وجوده «الطبيعي» إلى وجود «تاريخي» تصنعُه علاقتُه مع الإنسان.
١٢٥ وهكذا فإن اشتراط المِلك في الرزق، بوصفه ضربًا من
العلاقة بين الإنسان والشيء، يكشف عن انتقال الإنسان والأشياء في
العالم إلى طور الوجود التاريخي.
والحق أنه إذا كان يمكن القول، هكذا، إن ثمَّة صياغةً أشعرية لمسائل
«الآجال والأرزاق والأسعار»، تتناسب مع تصور الوجود الإنساني في
حالة الطبيعة، في مقابل صياغةٍ معتزليةٍ للمسائل ذاتها تتفق مع تصور
هذا الوجود على نحوٍ تاريخي، فإن ذلك يتكشَّف عن ضربٍ من التمايز في
تصور العلاقات الاجتماعية بين البشر؛ فهي وضعية وطبيعية ولا هيمنة
للإنسان عليها، حسب الأشاعرة، فيما هي تاريخية أنتجَها الإنسان
وأخضعَها لوعيه، حسب المعتزلة. وإذ تُحيل طبيعتها ووضعيتها إلى
سكونها وجمودها؛ الأمر الذي يعكس نمط وجودٍ اجتماعيٍّ استاتيكي وثابت،
فإن تصوُّرها، في المقابل، على نحوٍ تاريخي يُحيل إلى كونها تقبل
التجاوز والتخطي؛ الأمر الذي يعكس نمط وجودٍ اجتماعيٍّ حركي ومتطور.
وهكذا يئول الأمر، أخيرًا، إلى التقابل بين الثبات في المجتمع
والتاريخ، حسب الأشاعرة، وبين التغيُّر والتطوُّر فيهما حسب المعتزلة.
ومن غير شك فإنه إذا كان هذا التقابل يتبدَّى عن التصادم على صعيد
الأيديولوجيا، فإنه لا بد أن ينطوي على التبايُن على صعيد المعرفة
أيضًا. ولعل ذلك يقتضي تحليلًا لما يؤسِّس التاريخ المعتزلي
معرفيًّا.