لعله بدا أن التاريخ المعتزلي يمثِّل، من خلال استبدال الموازنة
بالتفضيل، تجاوزًا كليًّا ونقيضًا للتاريخ الأشعري؛ وبمعنى أنه
يتكشَّف عن جملة مفاهيم تغاير تمامًا تلك المتداولة في سياق التاريخ
الأشعري وتتضاد معها بالكلية؛ إذ ثمَّة المغايرةُ والتضادُّ بين التاريخ
الأشعري (تدهورًا) من لحظة فضلٍ قصوى إلى لحظات سقوطٍ أدنى، وبين
التاريخ المعتزلي (تطورًا) من لحظةٍ ما إلى لحظاتٍ أخرى تتواصل معها
وترتبط بها، وثمَّة التضاد، أيضًا، بين التاريخ الأشعري الذي لا يعرف
إلا «التكرار» للنموذجي المتعالي خارجه، وبين التاريخ المعتزلي
بوصفه «تمثلًا واكتمالًا» للنموذجي الذي هو جزء منه. وأخيرًا فإن
هناك التضاد بين التاريخ الأشعري يُختزل لما فيه من التكرار إلى
مجرد الصراع بين الله والشيطان، وبين التاريخ المعتزلي يتكشَّف عن
جهد وفاعلية الإنسان. والحق أن هذا التغاير بين كلا التاريخَين،
إنما يرتبط جوهريًّا بنقل محور الارتكاز في تأسيس التفضيل من
«النص» إلى «الفعل»، وذلك عبر الانتقال المعتزلي من التفضيل إلى
الموازنة.
وإذا كان يبدو، هكذا، أن تأسيسًا معرفيًّا لتصور التاريخ
المعتزلي، يقتضي أولًا رصدًا لما يؤسِّس هذا التجاوز المعتزلي — فيما
يخص التفضيل — من «النص» إلى «الفعل» داخل نسَق العقائد، فإن هذا
التأسيس يكتمل حقًّا، إذا ما تم ثانيًا رصد الأساس المعرفي، داخل
نسَق العقائد أيضًا، لجملة الأفكار الجزئية التي ينبني منها تصوُّر
التاريخ المعتزلي، ثم الانتقال، أخيرًا، إلى حد العلاقة بين النظام
البنيوي لتصوُّر التاريخ المعتزلي، وبين النظام البنيوي لنسَق العقائد
ذاته.
أولًا: من «النص» إلى «الفعل»
إذا كان قد بدا — فيما سبق — أن رد التفضيل إلى «النص» يعني
تصورًا له كمجرد حكم قيمة يُضاف من الخارج؛
١ الأمر الذي يتفق مع نظام النسق الأشعري في تصوُّر ما
تتقوَّم به كافة الأشياء في العالم يقوم خارجها (وهو الله)، فإن
تأسيس التفضيل، من خلال الموازنة، على «الفعل»؛ وبما يعني تصورًا
له عبارة عن ضرب من التحليل لما هو قائم على نحوٍ موضوعي في باطن
الفعل، لا بد أن يجد بدوره ما يؤسِّسه معرفيًّا في نظام النسَق
المعتزلي. وبالفعل فإن النسَق المعتزلي يكاد أن ينبني بأَسْره على
تصوُّر كل ما في العالم تقريبًا ينطوي في باطنه على ما يتقوَّم به
ذاتيًّا؛ وهو الأمر الذي يتبدَّى، مثلًا في حقل «الأنطولوجيا» (حيث
القول بالطبائع الذاتية للموجودات)، وفي حقل الأخلاق (حيث الحُسن
والقُبح صفتان قائمتان في الأفعال على نحوٍ موضوعي)، وكذا في حقل
المعرفة (حيث «العقل عندهم هو العلم»؛
٢ وبما يعني أنه ينطوي على بعضٍ من العلوم الاضطرارية
والضرورية التي يتقوَّم بها ذاتيًّا، وليس صفحةً بيضاءَ يخط الله عليها
من العلوم والمعارف ما يشاء فيما يرى الأشاعرة). وهكذا فإن التباين
بين كلٍّ من النص والفعل يتجاوز مجرد إنتاجهما — كأساسَين للتفضيل —
لتصوُّرَين مختلفَين للتاريخ، إلى كونهما، يُحيلان إلى بناءَين معرفيَّين
متغايرَين.
وهكذا فإنه إذا كان قد بدا أن القول الأشعري «بالنص» في حقل
التفضيل، إنما يجد ما يؤسِّسه في أنطولوجيا يكون فيها التقوُّم
خارجيًّا؛ حيث العالم جملة جواهرَ فردةٍ مفكَّكة يضيف الله إليها
الأعراض من خارجها في كل آنٍ،
٣ فإن تصوُّر الفضل ينبني، عند المعتزلة على «الفعل» إنما
يجد سنده المعرفي في أنطولوجيا نقيضة يكون فيها التقوُّم ذاتيًّا؛
إذ ثمَّة — حسب المعتزلة — «مقوِّمٌ ذاتيٌّ باطني في الأجسام يجعلها تفعل
من تلقاء ذاتها أو بموجب طبيعتها.»
٤ ومن هنا ما صاروا إليه (أو بعضهم) من «أن هيئات
الأجسام (هي) فعلٌ للأجسام طباعًا.»
٥ … أو القول — بعبارةٍ أخرى — إن «الأعراض من اختراعات
الأجسام، إما طبعًا كالنار التي تُحدِث الإحراق، والشمس التي تُحدِث
الحرارة، وإما اختيارًا كالحيوان يُحدِث الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق.»
٦ وهكذا فإنه إذا كانت الأجسام تتآلف من جواهر وأعراض
فإنه «لا يُوصَف القديم — حسب المعتزلة — بأنه قادر إلا على الجواهر،
وأما الأعراض فلا يجوز أن يُوصف بالقدرة عليها، وأنه ما خلق حياة
ولا موتًا ولا صحة ولا سقمًا، ولا قوة ولا عجزًا ولا لونًا ولا
طعمًا ولا ريحًا، وأن ذلك أجمع فعل الجواهر بطبائعها.»
٧ وهكذا بلغ الأمر حدَّ اعتبار الحياة والموت من فعل
الجوهر (أو الجسم) بطبعه؛ وبما يعني تجاوزًا كاملًا للحضور السالب
للجوهر، الذي جعله الأشاعرة يكتفي بأن «يقبل من الخارج بالطبع من
كل جنسٍ من أجناس الأعراض عرضًا واحدًا»،
٨ إلى تصوُّره «يفعل في نفسه ما يحلُّه [أو يحلُّ فيه] من الأعراض.»
٩ وبالرغم من أن المعتزلة قد صاروا إلى أن «فعل الجوهر
للأعراض في نفسه»، إنما يكون من الله بإيجاب الخلقة؛ لأن «كل ما
جاوز حد القدرة من الفعل، فهو — على قول النظَّام — من فعل الله
تعالى بإيجاب الخلقة، أي إن الله طبع الحجر طبعًا، وخلقه إذا دفعتَه
اندفع، وإذا بلغَت قوة الدفع مبلغَها عاد الحجَر إلى مكانه طبعًا.»
١٠ وعلى قول «معمر»، فإن ذلك يكون «على معنى أن الله هيأها
[أي الأجسام والجواهر] بحيث تفعل هيئاتها [أعراضها] طباعًا.»
١١
وإذن فالأمر لا ينطوي على أي «تعجيز لله» بحسب ما أدرك الأشاعرة،
١٢ بل هو فقط تصوُّر المعتزلة للجواهر والأجسام لا تُضاف
إليها أفعالُها من خارج، بل تنبثق عن طبيعتها الخاصة، وذلك بأن
«أثبتوا لها أفعالًا مخصوصةً بها»،
١٣ هيأها الله لفعلها من خلال طبائعها الخاصة. ولعل ذلك
يعني أن الأثر الإلهي في الطبيعة يكون — حسب المعتزلة — لا
مباشرًا، بل من خلال ما تنطوي عليه من طبائعَ وقوانينَ ثابتة تنتظم
كل ما يصدُر عنها من أفعال؛ الأمر الذي يكشف عن كون التقوُّم الذاتي
للطبيعة لا يتناقض مع الأثَر الإلهي فيها، بل إنه يبدو أن المعتزلة
قد بلغوا حد تصوُّر ضربٍ من التماهي بين قوانين الطبيعة وبين علم
الله؛ فإذ الطبائع والقوانين هي «أفعال الله» بإيجاب الخلقة في
الجواهر والأجسام، فإن ثمَّة من المعتزلة من صار إلى أن هذه
«الأفعال» إنما تصدر عن «علمه» لا عن «إرادته»، لأن «الباري تعالى
ليس موصوفًا بالإرادة على الحقيقة، سواءٌ لأفعاله أو لأفعال عباده.»
١٤ … حيث الإرادة لا بد فيها من خاطرَين يأمر أحدُهما
بالإقدام والآخر بالكف، والفعل الإلهي لا يكون — حسب المعتزلة —
عرضةً للخاطرَين، بل يكون، بسبب عدل الله وحكمته، على جهةٍ واحدة هي
الأصلح. ومن هنا كونه ليس موصوفًا بالإرادة على هذا المعنى، لكن
الإرادة تبقى على معنى العلم … وذلك من حيث إنه «إذا وُصف الله
بالإرادة شرعًا في أفعاله فالمراد بذلك أنه خالقُها ومنشئُها على حسب
ما علم.»
١٥ وهكذا فإن معنى كون الله مريدًا لأفعاله (ومنها طبائع
الأشياء وقوانينها)، أنها تكون على حسب ما علم، أو أنها تكون —
بالأحرى — هي علمه. وليس من شك في أن ذلك يئول إلى أن قوانينَ
الطبيعية تكاد تتماهى، عند المعتزلة، مع علم الله ذاته.
وإذا كان ذلك يكشف عن ثبات قوانين الطبيعة ورسوخها، فإنه يكشف،
وهو الأهم، عن أسبقية العلم على الإرادة، بل وعن ابتلاعه لها في
جوفه، وهو أمر له دلالتُه القصوى في حقل التاريخ؛ إذ يبدو أن أسبقية
الإرادة على العلم تتكشَّف، في حقل التاريخ، عن تاريخ تحكُمه الأهواء،
وتتغلغل فيه التحيُّزات، وهو ما أخذه ابن خلدون على كل التاريخ
السابق عليه، الأشعري في معظمه،
١٦ في حين تحيل أسبقية العلم على الإرادة، في المقابل،
إلى تاريخٍ يحكمه العقل ويتقيَّد بالموضوعية. والملاحظ أن هذا السبق
للعلم على الإرادة يتفق مع تصوُّر المعتزلة للتفضيل يتأسَّس على
«الفعل» تحليلًا وموازنة لا يكونان إلا بالعلم، فيما يتفق تصور
الأشاعرة للتفضيل يتأسس على «النص» بما يُحيل إليه من حضور للقصد
والإرادة مع القول بأسبقية الإرادة على العلم.
١٧
وهكذا تؤسِّس الأنطولوجيا للتاريخ عند المعتزلة، إنْ من خلال كونها
تتكشَّف عن ضرب من التقوُّم بالذات لتجاوزهم «المفاضلة» إلى «موازنة
الأفعال» التي تنبني على تصورٍ للفعل ينطوي في ذاته على ما يتعيَّن
به كونه الأفضل أو الأقل فضلًا، أو من خلال كونها (أي الأنطولوجيا
المعتزلية) تتكشَّف عن أسبقية العلم على الإرادة، وهو ما يتفق مع
تصوُّر الفعل موضوعًا للتحليل والموازنة أو العلم أولًا.
وبدورها تتضافر الأخلاق مع الأنطولوجيا في تأسيس التاريخ عند
المعتزلة، وذلك من حيث تتكشَّف، أيضًا، عن الانبناء طبقًا لمبدأ
التقوُّم بالذات؛ إذ الأنطولوجيا تنطوي — وكما سبق القول — على تصور
«الجوهر يفعل بذاته ما يحلُّ فيه من الأعراض.» وبدورها تنبني الأخلاق
المعتزلية على تصوُّر للفعل ينطوي في ذاته على ما تتعيَّن به أخلاقيته؛
أعني حُسنه أو قُبحه؛ حيث الأخلاقية ليست، عند المعتزلة، «مُعطًى»
(أو نص) يفرض نفسه على الفعل من خارجه، بل «وجودًا موضوعيًّا»
قارًّا في الفعل ذاته، ولهذا فإن الأفعال لا تقع — حسب المعتزلة —
خارج نطاق التداول الأخلاقي، كالحال عند الأشاعرة، بل إنها تنطوي
على كل عناصر التقويم الأخلاقي.
١٨ ومن هنا فإن «الأفعال إنما تُوصَف بالحسن والقبح (أو
تتقوَّم أخلاقيًّا) لصفاتٍ تخصُّها»؛
١٩ بمعنى أن ثمَّة صفاتٍ موضوعيةً باطنة تختص بها الأفعال
وتبرِّر أخلاقيتها. ومن هنا فإن الفعل القبيح، مثلًا، «لا بد من أن
يفارق غيره لأمرٍ يختص به، فلا بد من شيءٍ يقتضي كونه كذلك، لولاه لم
يكن بأن يكون قبيحًا أولى من أن يكون حسنًا، ولا بأن يكون هو
القبيح أولى من أن يكون غيره بهذه الصفة، ولا بد من أن يكون ما له
قُبِّح معقولًا … لأنه لا فضل بين أن يقال إنه قبيحٌ لأمرٍ لا
يُعقل، وبين أن يُقال إنه قبيح لا لمعنًى أصلًا.»
٢٠ واللازم — تبعًا لذلك — أنه «لا يجوز أن يكون ما له
يُقبَّح القبيح منَّا النهي [من الله]، ولا أنا نتجاوز به ما حُدَّ
به ورُسِمَ لنا [أيضا من الله]، ولا يجوز أن يكون ما له حَسُن الحسن
الأمر [من الله]، وأنا لم نتجاوز به ما حُدَّ ورُسم لنا»،
٢١ حيث الأمر يتعلق بمعانٍ قائمة بالأفعال، لا مُضافة
إليها من الخارج. ومن هنا فإن «الحكم على الفعل أنه حسنٌ أو قبيحٌ
إنما يرجع إلى وجوهٍ عائدةٍ إلى الفعل [ذاته]»،
٢٢ وليس إلى شيءٍ خارجه؛ ولهذا فإن «الظلم [مثلًا] قبيح
لأنه ينطوي على ضررٍ لا نفع فيه،
٢٣ وليس لمجرد نهي الله عنه؛ حيث النهي مجرَّد كاشفٍ
للدلالة، لا منتجًا لها.» والمُلاحَظ، على العموم، أنه «إذا ورد
الشرع [بحكم أو دلالة] فإنه يكون مخبرًا عنها، لا مثبتًا لها.»
٢٤
ولقد صار المعتزلة إلى الاحتجاج على مباطنة المعاني للأفعال إلى
أنا «لو رفعنا الحسن والقبح من الأفعال الإنسانية ورددناها إلى
الأقوال الشرعية بطلَت المعاني التي نستنبطها من الأصول الشرعية،
حتى لا يُمكن أن يُقاس فعلٌ على فعل، وقولٌ على قول، ولا يمكن أن يُقال
لِمَ ولأنَّه؛ إذ لا تعليلَ للذوات ولا صفات للأفعال التي هي عليها
حتى يُربَط بها حكمٌ مختلف فيه، ويُقاسَ عليها أمرٌ متنازع، وذلك رفعٌ
للشرائع بالكلية من حيث إثباتها وردُّ الأحكام الدينية من حيث قبولها.»
٢٥ وهكذا يئول تصور المعاني مضافةً إلى الأفعال من خارجها،
في حقل الأخلاق، إلى إبطال جملة الآليات التي يُنتِج عَبْرها الوحي
دلالاتِه المتجدِّدة في التاريخ؛ إذ ثمَّة إبطال «المعاني المستنبطة من
الأصول الشرعية»، وثمَّة إبطال «القياس»، وثمَّة، أخيرًا، إبطال
«التعليل»، وهي الأصول التي يئول غيابها إلى اضمحلال الوحي وجموده؛
وذلك من حيث يعجز عن التكشُّف عما ينطوي عليه من إمكاناتٍ يتحقق بها
وحدها حضوره الفاعل في التاريخ.
والحق أن ذلك يعني أن تصوُّر الفعل، في حقل الأخلاق، ينطوي على ما
يتقوَّم به، إنما يؤسِّس لبناء التاريخ المعتزلي، سواء من حيث يؤسِّس
لتصور الوحي ينطوي في باطنه على معانٍ ودلالات تسمح له بالتجدُّد
والنماء، وبحيث يبدو — تبعًا لذلك — بناءً تاريخيًّا يتسع لكل ضروب
الخبرة والتطور، أو من حيث يؤسِّس للمفهوم المؤسِّس في التاريخ
المعتزلي؛ وأعني به مفهوم «الموازنة بين الأفعال والفضائل»، الذي
يستحيل إلا عَبْر حضور الاجتهاد والقياس والتعليل؛ وهي الأصول التي
بدا حضورها مشروطًا بتصوُّر الفعل ينطوي في ذاته على ما يتقوَّم به من
المعاني والدلالات.
والحق أن هذا التصوُّر للأفعال ينطوي على معانٍ يدركها العقل من دون
الحاجة إلى «النص»، إنما يتسق مع الأولوية التي يضعها المعتزلة،
على العموم، للعقل على النقل.
٢٦ ولعل ذلك يعني أن الأولوية المعتزلية، في حقل التفضيل،
«للفعل»، بما ينطوي عليه من معنًى يُدرِكه العقل، على «النص»، إنما
تكشَّف عن تاريخٍ يضع الأولوية للعقل في بنائه، والحق أن العقل بما
ينطوي عليه، عند المعتزلة، من مفاهيم الاستحقاق، والصلاح والأصلح،
والغائية يكاد أن يكون قانونًا للتاريخ بالفعل؛ وبحيث يبدو التاريخ
محكومًا بالقصد والغاية، وليس العبث والتشتُّت. ولعله يُلاحَظ — تبعًا
لذلك — أنه إذا كانت الأولوية «للنص» في حقل التفضيل قد آلت
بالتاريخ الأشعري إلى التشتت والتبعثر، فإن الأولوية «للعقل» عند
المعتزلة، تئول — في المقابل — إلى القصد والغاية يحكُمان مسار
التاريخ وحركته؛ وذلك من حيث إن قوانين العقل، كالاستحقاق والغائية
… إلخ، لا تؤسِّس لعلاقة الله بكلٍّ من الإنسان والعالم في لحظةٍ ما، بل
تنتظم هذه العلاقة على مدى التاريخ عمومًا. وإذن فإنه ليس «العالم»
فقط، هو الحقل الذي يتبدَّى فيه القصد والغاية، بل «التاريخ» أيضًا
يتكشَّف عن نفس القصد والغاية.
ولعل هذا التصور للتاريخ، موضوعًا للقصد والغاية، يتبدَّى جليَّا،
داخل نسَق العقائد المعتزلي، في بناء النبوة وتطورها … حيث النبوة،
في النسَق المعتزلي، تتجاوز وضعها في النسق الأشعري كمجرد خطابٍ في
المطلَق لا يتعلق بشيء خارجه، بل بمطلَق الإرادة الإلهية فقط، لتصبح
خطابًا قصديًّا؛ وذلك من حيث تبدو — عند المعتزلة — خطابًا من الله
حقًّا، ولكنه يحيل دومًا إلى شرطٍ إنسانيٍّ يرتبط به. وإذن فإنها خطاب
يقصد شيئًا خارجه، هو «المصالح المختصة بالمبعوث إليهم»،
٢٧ ولا يرتبط بمطلق الإرادة فقط، وإلا كان أدخل في باب
العبث. ومن هنا ما صار إليه المعتزلة، على العموم من «أن ما يصدر
عن الله هو فعلٌ واحد، فعل ما هو أصلح»؛
٢٨ وبمعنى أن الفعل الصادر من الله ليس — كما بدا
للأشاعرة
٢٩ — مختصًّا بضروب من الجواز لا يتميز بعضها عن بعض (إلا
بمطلق الإرادة بالطبع)، بل إنه يختص، بالأحرى، بضرب من الوجوب أو
الضرورة يستمد من كونه «الأصلح» للعباد بالطبع؛ لأن الأصلح «إنما
يجب من حيث أدى إلى غرضٍ محمود»،
٣٠ وهذا الغرض يستحيل عوده إلى الله، لأن النقص «إنما
يلزم لو كان الغرض عائدًا إليه»،
٣١ ولهذا فإن «عوده — أي الغرض — إنما هو إلى المخلوق.»
٣٢ ولعل ذلك يعني أن الأصل في وجوب الفعل الإلهي إنما
يكمن في ارتباطه بالوضع الإنساني، وذلك من حيث يُستفاد وجوب الفعل
من كونه «الأصلح» للعباد.
وإذ يبدو، هكذا، أنه لا بد من غَرض (أو قصد) «له يفعل الفاعل
أفعاله»، حتى ولو كان الله نفسه،
٣٣ فإن ذلك يئول إلى تصور «الفعل الإلهي» لا يتسم —
كالحال عند الأشاعرة — بالإطلاق واللاتحدد، بل إنه يتحدَّد ويتخصَّص
بالوضع الإنساني في لحظةٍ تاريخيةٍ ما؛ وبمعنى أنه لا يجد تبريره في
ذات الله، حيث مطلق القدرة والإرادة، بل في وضع الإنسان، حيث مقتضى
الحاجة. والملاحظ أن هذا التصور الإلهي قد ارتبط، عند المعتزلة،
بإثبات الحكمة لله على نحوٍ جوهري.
٣٤ وضمن هذا السياق، فإن فعل الوحي أو النبوة لا بد أن
ينطوي على القصد والغاية، أو الأصلح للعباد؛ وبمعنى أنه يجد ما
يبرِّره في الوضع الإنساني في العالم، وليس في مطلق الإرادة
فقط.
فإذ «الوعي» — حسب المعتزلة — هو جملة علومٍ مخصوصة؛
٣٥ فإن هذه العلوم المخصوصة تكون كامنة أو مُجملة في
العقل، وليس التاريخ إلا ساحةً ينكشف فيها العقل عن هذه العلوم
المجملة فيه على نحوٍ تفضيلي، فيحقِّق اكتماله ويبلغ غايته. ورغم أن
الوعي يقدر بنفسه على التكشُّف عن مضمونه الباطني الخاص، إلا أنه
يبدو — في لحظاتٍ محددة — في حاجة إلى عون وسند من الوحي، فيبلغ
بهذا العون درجةُ أرقى من درجات تطوره واكتماله. وهنا فإنه يُلاحَظ
أن «الوحي» إنما يكشف عما ينطويه «الوعي» في صميم بنائه الخاص على
نحوٍ مجمل،
٣٦ ومن دون أن يفرض عليه شيئًا من خارجه؛ ولذلك فإنه يمكن
القول: إن الوحي هو شكلٌ من أشكال الوعي، وبمعنى أنهما لا يمثلان
بناءَين نقيضَين أو متغايرَين، بل بناءً واحدًا يحدِّد التاريخ وحده
حضور أحد أشكاله. وليس من شك في أن غائية فعل الوحي، على هذا
النحو، إنما تكشف عن تاريخ يوجِّهه القصد وتنتظمه الغاية، التي هي
صلاح الوجود الإنساني.
وإذا كانت غائية «النبوة» إنما تكشف — هكذا — عن دورها في بناء
التاريخ، فإن تطورها (عَبْر النسخ) إنما يكشف عن حضور التاريخ في
صميم بنائها الخاص. والملاحَظ، هنا، أنه إذا كان في غائية النبوة
إضافةٌ للحكمة إلى الله، فإن في تطوُّرها نفس الإضافة للحكمة إليه؛ إذ
الحق أن تضافر الإلهي والإنساني، في عملية التطور النبوي، هو ما
يؤسِّس «النسخ» — حسب المعتزلة — ويميِّزه عن «البداء» بما هو إضافةٌ
للجهل إليه؛ فالبداء إنما يتكشَّف عن تصور التغيُّر في النبوات
يرتبط بالإلهي فقط، وأما في حضور الإنساني كذلك، فإنه لا مجال
للبداء؛ حيث «الشرائع ألطاف ومصالح، وما هذا سبيله، فإنه يختلف
بحسب اختلاف الأزمان والأعيان، فلا يُمتنع أن يعلم القديم تعالى،
أن صلاح المكلفين في زمانٍ [ما] في شريعةٍ [بعينها]، وفي زمانٍ آخر في
شريعةٍ أخرى.»
٣٧ وهكذا يكون المعتزلة قد أثبتوا النَّسْخ في الشرائع على
أساس تغيُّر مصالح العباد وتطوُّرها في التاريخ، واستنادًا كذلك إلى
تطوُّر وعيهم وترقِّي مداركهم.
ولعل هذا التصور للوحي تطورًا في التاريخ يكون مشروطًا بتطور وعي
البشر وترقي مداركهم، قد تجلى على وجه الخصوص عند واحدٍ من أهم
رواد الحركة الإصلاحية الحديثة، والذي يُعد امتدادًا للاعتزال في
معظم جوانب تفكيره.
٣٨ فقد «نصَّ الكتاب على أن دين الله تعالى في جميع
الأزمان هو إفراده بالربوبية، والاستسلام له وحده بالعبودية،
وطاعتُه فيما أمر الله به ونهى عنه، مما هو مصلحة للبشر وعماد
سعادتهم في الدنيا والآخرة، وقد ضمَّنه كتبه التي أنزلها على
المصطفَين من رسله، ودعا العقول إلى فهمه منه، والعزائم إلى العمل
به، وأن هذا المعنى من الدين هو الأصل الذي يُرجع إليه عند هبوب
ريح التخالف، وهو الميزان الذي تُوزن به الأقوال عند التناصُف، وأما
صور العبادات وضروب الاحتفالات مما اختلفَت فيه الأديان الصحيحة،
سابقها مع لاحقها، واختلاف الأحكام متقدمها مع متأخرها، فمصدره
رحمة الله ورأفته في إيتاء كل أمة وكل زمان ما عُلم فيه الخير
للأمة والملاءمة للزمان، وكما جرت سنَّته — وهو رب العالمين —
بالتدريج في تربية الأشخاص، من خارج من بطن أمه لا يعلم شيئًا إلى
راشد في عقله، كامل في نشأته، يمزق الحُجب بفكره، ويواصل أسرار
الكون بنظره، كذلك لم تختلف سنته، ولم يضطرب هديه في تربية الأمم.»
٣٩
وإذ يبدو — هكذا — أن الأستاذ الإمام يتصور الوحي تربية للبشر،
٤٠ فإن مبدأ «التربية» يقوم على تصوُّر الوعي البشري صيرورة
تخضع لكل ضروب النماء والتطور؛ حيث «لم يكن من شأن الإنسان في جملته
ونوعه أن يكون في مرتبةٍ واحدةٍ من العلم وقبول الخطاب [أو من الوعي]
من يوم خلقه الله إلى يوم يبلغ من الكمال منتهاه، بل سبق القضاء
بأن يكون شأن جملته في النمو قائمًا على ما قرَّرَته الفطرة الإلهية
في شأن أفراده.»
٤١ وابتداءً من هذا التطور في بناء «الوعي» وارتقاء
مراحله، يتأسس التطور في بناء «الوحي» الذي يلزم — والحال كذلك —
أن يتجاوب، في ارتقاء مراحله، مع المدى الذي بلغه الوعي الإنساني؛
وبما يعني أن التباين بين أول مراحل الوحي وبين آخر هذه المراحل،
إنما يجد ما يؤسِّسه بين «الوعي» في أكثر صوره سذاجةً وبدائية، وبين
الوعي حال بلوغ العقل رشدَه واكتماله.
وهكذا فإنه إذا كانت قد «جاءت أديان، والناس من فهم مصالحهم، بل
والخاصة، في طورٍ أشبه بطَور الطفولة للناشئ الحديث العهد بالوجود،
لا يألف منه إلا ما وقع تحت حسه، ويصعُب عليه أن يضع الميزان بين
يومه وأمسه، وأن يتناول بذهنه من المعاني ما لا يقرب من لمسه، ولم
ينفث في روعه من الوجدان الباطن ما يعطفه على غيره من عشيرته أو
ابن جنسه، فهو من الحرص على ما يقيم بناء شخصه، في همٍّ شاغل عما
يُلقى إليه فيما يصله بغيره، اللهم إلَّا يدًا تصل إلى فمه بطعام، أو
تسنده في قعود وقيام، [فإنه] لم يكن من حكمة تلك الأديان أن تخاطب
الناس بما يلطف في الوجدان، أو يرقى إليه بسُلم البرهان، بل كان من
عظيم الرحمة أن تسير بالأقوام — وهم عيال الله — سير الوالد مع
ولده في سذاجة السن، لا يأتيه إلا من قِبل ما يُحسُّه بسمعه أو ببصره،
فأخذتهم بالأوامر الصادعة، والزواجر الرادعة، وطالبَتْهم بالطاعة،
وحملَتهم فيها على مبلغ الاستطاعة، كلفَتهم بمعقول المعنى، جلي
الغاية، وإن لم يفهموا معناه، ولم تصل مداركهم إلى مرماه، وجاءتهم
من الآيات، بما تطرف له عيونُهم، وتنفعل به مشاعرُهم، وفرضَت عليهم من
العبادات ما يليق بحالهم هذه.»
٤٢
وإذا كان يبدو، هكذا، أن ما يخالط اليهودية من نزعةٍ حسيةٍ فظة،
إنما هو نتاج ارتباطها بوعيٍ حسيٍّ ساذج، فإن تجاوز الوعي لحسيته
الغليظة، عَبْر ضروب الخبرة والنشاط في العالم، لا بد أن يئول إلى
وحيٍ جديد؛ لأنه بمثل ما إنَّ وحيًا أرقى يستحيل بالنسبة لوعيٍ أدنى،
فإن وحيًا أدنى هو مما يستحيل لا ريب بالنسبة لوعيٍ أرقى. ومن هنا
فإنه إذا كانت قد «مضت على [الوحي اليهودي] أزمانٌ علَت فيها
الأقوام وسقطَت، وارتفعَت وانحطَّت، وجربَت وكسبَت، وتخالفَت واتفقَت،
وذاقت من الأيام آلامًا، وتقلبَت في السعادة والشقاء أيامًا … فإن
ذلك قد آل إلى أن وجدَت الأنفس بنفث الحوادث، ولقن الكوارث، شعورًا
أرق من الحس، وأدخل في الوجدان لا يرتفع في الجملة عما تشعُر به
قلوب النساء أو تذهب معه نزعات الغلمان.»
٤٣ ومن هذا الاكتشاف لعالم الباطن، وبما يعنيه من ارتقاء
الوعي وتخطيه لحسيَّته الفجة، «جاء دين يخاطب العواطف، ويناجي
المراحم، ويستعطف الأهواء، ويحادث خطرات القلوب، فشرع للناس من
شرائع الزهادة ما يصرفهم عن الدنيا بجملتها، ويُوجِّه وجوههم نحو
الملكوت الأعلى، ويقتضي من صاحب الحق ألَّا يطالب به ولو بحق،
ويُغلق أبواب السماء في وجوه الأغنياء، وما ينحو نحو ذلك مما هو
معروف، وسنَّ الناس سننًا في عبادة الله تتفق مع ما كانوا عليه،
ودعاهم إليه، فلاقى من تعلُّق النفوس بدعوته ما أصلح من فاسدها،
وداوى من أمراضها.»
٤٤ لكنه يبدو أن الوحي المسيحي كان ردَّ فعلٍ متطرف على حسِّية
اليهودية وفظاظتها، ولهذا فإنه «لم يمضِ عليه بضعة أجيال حتى ضعفَت
العزائم البشرية عن احتماله، وضاقت الذرائع عن الوقوف عند حدوده،
والأخذ بأقواله، ووقَر في الظنون أن اتباع وصاياه ضربٌ من المحال،
فهبَّ القائمون عليه بأنفسهم لمنافسة الملوك في السلطان، ومزاحمة أهل
الترف في جمع الأموال، وانحرف الجمهور الأعظم عن جادَّته بالتأويل،
وأضافوا عليه ما شاء الهوى من الأباطيل.»
٤٥ بل إنه بدا أن المسيحية قد آلت خلال الصراع الطويل
داخلها إلى حصار العقل وتقليصه، حيث «حرمان العقول من النظر في
الدين، بل وفي غيره من دقائق الأكوان، والحظر على الأفكار أن تنفُذ
إلى شيء من سرائر الخلقة، فصرَّحوا بأنْ لا وفاقَ بين الدين والعقل،
وأن الدين من أشد أعداء العلم.»
٤٦ كما أنها آلت أيضًا إلى تقويض قوانين الاجتماع البشري،
حيث «جدَّ [كل واحد] في حمل الناس على مذهبه بكل ما يملكُ من حول
وقوة، وأفضى الغلو في ذلك بالأنفس إلى نزعة كانت أشأم النزعات على
العالم الإنساني، وهي نزعة الحرب بين أهل الدين للإلزام ببعض قضايا
الدين، فتقوَّض الأصل، وتخرَّمَت العلائق بين الأهل، وحلَّت القطيعة محل
التراحُم، والتخاصُم مكان التعاون، والحرب محل السلام.»
٤٧ وتبعًا لذلك، فإن المسيحية قد أصبحت حجر عثرة أمام
تطوُّر الوعي الذي بات على أعتاب مرحلة العقل، وهكذا «جاء الإسلام
يخاطب العقل، ويستصرخ الفهم واللب، ويشركه مع العواطف والإحساس في
إرشاد الإنسان إلى سعادته الدنيوية والأخروية، وبيَّن للناس ما
اختلَفوا فيه، وكشف لهم عن وجهِ ما اختصموا عليه، وبرهَن على أن دين
الله في جميع الأجيال واحد، ومشيئته في إصلاح شئونهم وتطهير قلوبهم
واحد … وعامل الإنسان في مواعظه معاملة الناصح الهادي للرجل الرشيد.»
٤٨
وليس من شك في أن الإنسانية تكون، ببلوغ الوعي مرحلة العقل
واكتمال دائرة الوحي بالتالي، قد بلغَت سن الرشد الذي كان لا بد أن
يئول بالإسلام إلى «تعنيف النازعين إلى الخلاف والشقاق [بين
الأديان] على ما زعزعوا أصول اليقين، والنص على أن التفرُّق بغي
وخروج عن سبيل الحق المبين، ولم يقف في ذلك عند حدِّ الموعظة
بالكلام والنصيحة بالبيان، بل شرع شريعة الوفاق وقرَّرها في العمل»،
٤٩ وإذن فإن «وحدة الإنسانية» هي ما يحقِّقه الوحي في أرقى
مراحله؛ مرحلة العقل التي بلغها الإسلام، الذي انتهى لذلك إلى أن
«رفع كل امتياز بين الأجناس البشرية، وقرَّر لكل فطرة شرف النسبة إلى
الله في الخِلقة، وشرف اندراجها في النوع الإنساني في الجنس والفصل
والخاصة، وشرف استعدادها بذلك لبلوغ أعلى درجات الكمال الذي أعده
الله لنوعها، على خلاف ما زعمه المنتحلون من الاختصاص بمزايا حُرِم
منها غيرهم، وتسجيل الخسَّة على أصناف زعموا أنها لن تبلغ من الشأن
أن تلحق غبارهم، فأماتوا بذلك الأرواح في معظم الأمم، وصيَّروا أكثر
الشعوب هياكل وأشباحًا.»
٥٠ وهكذا فإن ما ابتدأ به الوحي في أول مراحله، حيث الوعي
ساذجًا وأنانيًّا، من تقرير الامتياز والخصوصية لشعب الله المختار،
قد ارتفع في آخر مراحل الوحي، حيث الوعي أكثر رشدًا وعقلانية.
والحق أن ذلك يُحيل إلى أن تصور التاريخ عند المعتزلة، وبتطوره عند
الأستاذ الإمام خاصة، قد انتهى إلى ما يكاد أن يكون «وحدة
للإنسانية»، وهي وحدة تجد أساسها في بلوغ الوعي خلال تطوُّره مرحلة
العقل الذي «يُبيِّن للناس ما اختلفوا فيه، ويكشف، لهم عن وجه ما
اختصموا عليه، ويُبرهِن على أن دين الله في جميع الأجيال
واحد.»
ومن هنا اختلافها عن تلك الوحدة التي آل إليها التاريخ الشيعي —
وعند الإسماعيلية خاصة — والتي تجد أساسها في التأويل الذي يختص به
«القائم»، حيث «المخاصمات إنما تكون بين أهل الشرائع فيما ينتحلونه
ويتقلدونه من الديانات فيكفر بعضهم بعضًا، وترى كل فرقة منهاجها
وصاحبتها، فإذا بلغَت الخصوماتُ والمنازعاتُ إلى غايتها ونهايتها ظهر
القائم بالحق، فيفصل بين أهل الأديان بالكشف عن حقائقِ ما ينتحلونه،
ولا يُبقي لهم خصومة ومنازعة»؛
٥١ وأعني أنه التبايُن بين الوحدة يؤسسها «العقل في
التاريخ» عند المعتزلة، وبين الوحدة يؤسِّسها «التأويل المتعالي»،
عند الشيعة الإسماعيلية بالطبع. ولعله التباين في العمق بين كلٍّ من
التاريخ والميتافيزيقا.
ولعل قيمة هذه «الوحدة» تتأتى من أنها لا تنطوي على أي ضرب من
النفي أو الاستبعاد، بل إن وجود الأديان الأخرى يتأكد، داخلها،
باعتبارها مراحل في المسار الطويل لتطور الوحي والوعي؛ وبما يعني
أنها ليست ضروبًا من الانحراف عن الدين الحق ينبغي استبعادها
ونفيها؛ إذ «الدين الحق» يمثل — بحسب هذه الوحدة — هويةً واحدة
تتنوَّع داخلها صور الوحي وأشكاله، وذلك بحسب المدى الذي بلغه الوعي
في تطوره، وهكذا تئول الهوية التي يفترضُها المعتزلة بين كلٍّ من
الوحي والوعي
٥٢ إلى خطابٍ تاريخي يتجاوز كل ضروب النبذ والإقصاء التي
يكرِّسها الخطاب التاريخي الأشعري من خلال آلية التكفير، التي هي —
في جوهرها — آلية نبذ واستبعاد. وليس من شك في أن ذلك يتجلى على
نحوٍ عملي في قراءة الأستاذ الإمام (المعتزلة في جوهرها) لكلٍّ من
اليهودية والمسيحية، لا ابتداءً من كونهما مجرد شكلَين دينيَّين
زائفَين ومنحرفَين عن صحيح الدين، بل ابتداء من كونهما مراحل للوحي
تتفق، في حينها، مع ما بلغه الوعي الإنساني من نماء وتطور. ومن هنا
اختلاف قراءته لهما عن قراءة أصحاب «المِلَل والنِّحَل»
٥٣ الذين اكتفَوا بمجرد رصد ضروب الانحراف والقصور في كلٍّ
منهما، والتي تبعدهما لا محالة عن الجوهر الحق للدين الذي يمثِّله
الإسلام وحده.
وإذا كان يبدو هكذا أن افتراض هذه الهوية بين كلٍّ من الوحي والوعي
يُعد أمرًا جوهريًّا للاحتفاظ لكل دين بمكانه في المسار العام
لتاريخ الإنسانية، فإن إدخال مفهوم التطوُّر على هذه الهوية كان غاية
في الجوهرية لتسويغ الانتقال من دينٍ إلى آخر بوصفه تطورًا، لا
انحرافًا أو تغيرًا. وهنا يلزم التمييز بين مفهوم التطور من جهة،
وبين كلٍّ من الانحراف والتغير من جهةٍ أخرى؛ إذ بينما الانحراف
والتغير يفترضان أصلًا نقيًّا في كل دين، لا سبيل إلا للاحتفاظ به
كليًّا أو تجاوزه كليًّا، فإن التطور ينبني، في المقابل، على
التمييز في الدين بين ما لا سبيل إلا للاحتفاظ به، وبين ما لا سبيل
إلا لتجاوزه، أو بين «جوهرٍ ثابت»، وأشكالٍ متغيرة.
والملاحظ أن الآليات التي يتحقق بها التطور، على هذا النحو، إنما
تتكشَّف من خلال تحليل مفهوم النسخ عند المعتزلة، في اللغة
والاصطلاح؛ فإذ النسخ يجري، حسب المعتزلة، على قانون المصلحة، أو
«الاقتضاء الإنساني»، وليس «الاقتضاء الإلهي» فقط، فإنهم صاروا إلى
أنه لا يعني النفي التام من اللاحق للسابق عليه، بل إنه يستبقي منه
ما تقتضيه المصلحة. والملاحظ أن في تعريف النسخ لغةً ما يؤكد ذلك،
حيث «النسخ، في اللغة، لفظٌ مشترك، فربما ترد، والمراد بها «الإزالة
والتمحيق»، وقد يُطلَق النسخ، ولا يُراد به حقيقة «الإزالة»، ولكن
يُراد به «النقل»، وذلك نحو قولهم: نسخ فلان كتابًا.»
٥٤ وهكذا ينطوي النسخ — بحسب اللغة — على دلالتَين
متناقضتَين تمامًا؛ فثمة دلالة «الإزالة» أو المحق والإفناء، وثمَّة
دلالة «النقل» أو الحفظ والإبقاء؛ وذلك من حيث إن من ينقل كتابًا
أو ينسخه، فإنما يستهدف حفظه وإبقاءه. ولعل ذلك يئول إلى إمكان
البدء من اللغة، في صياغة تصوُّر للنسخ من طبيعةٍ جدلية؛ وبمعنى تصوره
تأليفًا جدليًّا ينطوي على السلب والإيجاب، أو الإفناء والإبقاء في
وحدة معًا. وضمن هذه الوحدة الجدلية التي تنطوي التناقُض في جوفها،
فإن النسخ لا يكون إفناءً تامًّا من شريعة لشريعة، بل إفناء تحتفظ
فيه الشريعة اللاحقة من السابقة عليها بكل ما يستحق الإبقاء
والحياة. ولعل هذه الصياغة الجدلية للنسخ، ابتداءً من اللغة، كانت
الأساس النظري الذي أمكن للمعتزلة الانطلاق منه في بناء النسخ على
قانون الاقتضاء الإنساني، لا الإلهي؛ وبمعنى أن الوجود التاريخي
للإنسان قد أصبح، وليس مطلق الإرادة الإلهية، هو ما يؤسِّس النسخ عند
المعتزلة. وإذ الوجود التاريخي للإنسان إنما ينبني على آليتَي
الاستيعاب (لضروب الخبرة السابقة) والتخطي لها إلى خبراتٍ أخرى، فإن
النسخ بدوره، قد راح ينبني على نفس الآليتَين، وذلك من حيث يتكشَّف
عن استيعاب الشريعة اللاحقة لما يستحق الإبقاء من الشريعة السابقة،
ثم يتخطاه إلى ما يناسب صلاح المكلفين في زمانٍ آخر. وهكذا فإنه إذا
كان «حد النسخ — حسب المعتزلة — هو النص الدال على أن «مثل» الحكم
الثابت بالنص المتقدم، زائل على وجه لولاه لكان ثابتًا»،
٥٥ فإن ذلك يُحيل إلى تمييز المعتزلة في الشريعة، أي
شريعة، بين «عين الحكم الثابت» وبين «مثل الحكم الثابت»، «وأن
النسخ لا يتناول «عين» ما كان حقًّا … وإنما يتناول «مثل» ما كان حقًّا»،
٥٦ لأن تعلقه ﺑ «عين» الحكم الثابت «يقتضي أن يصير الحق
باطلًا والباطل حقًّا»،
٥٧ وأما تعلقه ﺑ «مثل» الحكم الثابت، فإنه لا يمتنع، وذلك
من حيث إنه «لا يُمتنع في المثلين أن يكون أحدهما حقًّا والآخر باطلًا»،
٥٨ أو أنه لا يمتنع أن مثل ما كان «صالحًا» في وقت لم يعُد
كذلك في وقتٍ آخر. وإذ النسخ، هكذا، ينصرف إلى «مثل» الحكم الثابت،
لا إلى «عينه»، فإنه قد أصبح لذلك «لا يرفع حكمًا ثابتًا، بل يبيِّن
انتهاء مدة الشريعة.»
٥٩
وبالطبع فإن ما يبيِّن النسخ انتهاءه في شريعةٍ ما، إنما هو «مثل
الأحكام الثابتة» التي تكون صالحة في وقت، ولا تكون كذلك في وقتٍ
لاحقٍ عليه، وليس «عين» الأحكام الثابتة التي تتخطى من شريعة إلى
أخرى. وإذن فالنسخ، في بيانه لانتهاء مدة شريعة، لا يعني الإفناء
لها فقط، بل الإفناء والإبقاء معًا. ولعل هذا التصور للنسخ (إفناءً
وإبقاءً) معًا، إنما يتسق مع تصوره — حسب المعتزلة — عبارة عن
«تبيين معنَى لفظ لم يُحط به أولًا، وتنزيل له [أي النسخ] منزلة
تخصيصِ صيغةٍ عامة»؛
٦٠ ذلك أن تصور النسخ «تبيينًا لمعنى لفظ لم يُحط به
أولًا» لا يمكن أن يتحقق إلا عَبْر استيعاب كافة المعاني التي أمكن
الإحاطة بها أولًا واستبقائها دون إفنائها، ثم تخطيها إلى ما لم
يُحط به بعدُ، وكذا فإن تصوره «تخصيصًا لصيغةٍ عامة» لا يمكن أن يعني
«نفيًا» لكل ما تنطوي عليه هذه الصيغة العامة، بل يعني «نفيًا»
للثانوي وغير الجوهري فيها من جهة، واستبقاءً للكلي والجوهري فيها
من جهةٍ أخرى.
وليس من شكٍّ في أن هذا البناء المعتزلي للنسخ، إنما يُحيل إلى تصور
التاريخ تطورًا وتجاوزًا لكل ضروب الجزئي والثانوي وغير الجوهري في
الخبرة البشرية؛ وبحيث يبدو التاريخ المعتزلي — تبعًا لذلك —
تاريخًا مفتوحًا يتجاوز ما ينطوي عليه نقيضُه الأشعري من الإقصاء
والنفي لكل ضروب الآخرية، إلى استيعابها في جوفه وإدماجها في بنائه
ثم تخطيها إلى ما يناسب وجودًا أكثر جدةً وثراء. وهكذا فإنه فيما لا
يعرف التاريخ الأشعري إلا النفي والاستبعاد للآخر فإن التاريخ
المعتزلي ينبني، في المقابل، على تمثُّل الآخر واستيعابه ثم تجاوزه
بعد ذلك. والحق أنه إذا كان قد بدا أن النسخ هو ما يتكشَّف عما ينطوي
عليه التاريخ المعتزلي من آليات الاستيعاب والتجاوز، فإن النسخ
أيضًا هو ما يتكشَّف عما ينطوي عليه التاريخ الأشعري من الحضور
الطاغي لآلية النبذ والاستبعاد فقط؛ إذ النسخ، في المصطلح الأشعري،
«هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بخطابٍ آخر، على وجهٍ
لولاه لاستمر الحكم المنسوخ، ومن ضرورة ثبوت النسخ على التحقيق،
رفع حكم بعد ثبوته.»
٦١ وهكذا فإنه لا بد من حكمٍ ثابت يرفعه حكمٌ آخر رفعًا
ينصرف إلى عينه (وذلك بالطبع على افتراض أن له «عينًا» يتقوَّم بها
عند الأشاعرة)؛ وبمعنى أنه رفعٌ «صوري» يُفني ويستبعد فقط، وليس
رفعًا جدليًّا يُفني ويُبقي ويستوعب في آنٍ معًا. فإن «إبراهيم،
ﷺ،
مأمورٌ عندنا وعند أصحابنا بالذبح أولًا، ونُسِخ
ذلك عنه آخرًا وعينُ المأمور به هو الذبح، ولم يكن أفعالًا تمتد
وتتعدَّد، حتى يُصرف الأمر إلى الشيء، والنسخ إلى غيره.»
٦٢ وهكذا ينصرف النسخ، بالتعبير الأشعري الصريح، إلى
«عين» المأمور به (أي الحكم)، لا إلى «مثله» كالحال عند المعتزلة.
ومتى انصرف النسخ، هكذا، «إلى عين المأمور به، كان رفعًا للحكم على التحقيق»؛
٦٣ يعني نفيًا وإزالة له فقط. ومن غير شك، فإن هذا البناء
الأشعري للنسخ «يُفني ولا يُبقي»، إنما يُحيل إلى تاريخ لا يعرف،
بالمثل، إلا مجرد النفي ينتظم بناءه كله.
والمُلاحظ أن الواحد من هذَين التصورَين للنسخ، والتاريخ بالتالي،
إنما يجد ما يؤسسه في «نظرية الأفعال»؛ أعني في تصور الحكم صفةً
ذاتية للفعل يتقوَّم بها (عند المعتزلة)، أو في تصوُّره شيئًا يُضاف
إلى الفعل من خارجه (عند الأشاعرة). وهكذا فإن ما صار إليه
المعتزلة من «أن النسخ لا يتناول «عين» ما كان حقًّا، حتى لا يجب
انقلاب الحق باطلًا، والباطل حقًّا، وإنما يتناول «مثل» ما كان حقًّا»،
٦٤ إنما يقوم على التمييز في الأحكام بين «عين ما كان
حقًّا»، وهو ما يكون صفةً ذاتية للأفعال تتقوَّم بها، ويستحيل أن
يتناولها النسخ حتى لا تنقلب الحقائق، وبين «مثل ما كان حقًّا»،
الذي لا يكون صفةً ذاتية للأفعال، بل لواحق خارجية ترتبط بالظروف
والمصالح. ومن هنا إمكان تعلق النسخ بها، لأن تبدُّلها وتغيرها لا
يعني انقلابًا للحقائق، بل تبدلًا في الظروف والأحوال بات معه «مثل
ما كان صالحًا» في وقت، ليس كذلك في وقتٍ آخر، ومن هنا وجوب نسخه.
وأما الأشاعرة، فقد صاروا — في سياق تجويزهم للنسخ — إلى أنه «ليس
في تجويزه خروج صفة من الصفات الإلهية عن حقيقتها، فإن الحكم ليس
بصفةٍ نفسية [ذاتية] للفعل كما قدَّرناه، وليس في تقدير النسخ ما
يُفضي إلى تغيُّر العلم والإرادة.»
٦٥ وهكذا فإنه إذا كان ثمَّة من منع النسخ، احتجاجًا بأن
«ما أوجبه الله تعالى، فقد أخبر عن كونه واجبًا، فلو حظره، وأخبر
عن كونه محظورًا، لانقلب الخبر الأول خُلفًا واقعًا على خلاف
مخبره، وذلك مستحيل»،
٦٦ فإن الأشاعرة يردُّون بزيف هذا الاحتجاج وتهافُته، وذلك
من حيث يقوم على تصوُّر الحكم صفةً ذاتية للفعل، وليس ذلك صحيحًا على
أصلهم؛ حيث «الوجوب ليس بصفة للواجب على أصلنا»،
٦٧ بل الوجوب عندهم مجرد خبر عن الواجب. وهكذا فإن
«المعنى بكون الشيء واجبًا، أنه الذي قيل فيه «افعل»، فإذا أخبر
الرب تعالى عن وجوب الشيء، فمعناه أنه أخبَر عن الأمر به، فإذا نهى
عنه أخبر عن النهي عنه.»
٦٨
وإذ يكون الوجوب، هكذا، لا صفةً ذاتية للفعل، بل خبرًا عنه يُضاف
إليه من خارجه، فإن ذلك يعني حيادية الفعل، وإمكانية اكتسابه،
بالتالي، لأي حكم يتعلق به الخبر (أمرًا ثم نهيًا أو العكس)، ومن
دون أن يعني الأمر انقلابًا في طبيعة الفعل أو تناقضًا؛ ولذلك فإنه
«ليس بين الإخبار عن الأمر به [أي بالفعل] تحقيقًا، وبين الإخبار
عن النهي عنه، تناقُض. ولا يتصف واحدٌ من الخبرَين [رغم تناقضهما
وكونهما يتعلقان بفعلٍ واحد] بالخروج عن كونه صدقًا حقًّا.»
٦٩ إذ الإخبار، هنا، لا يصدر عن طبيعةٍ ذاتية للفعل، بل عن
ذاتٍ خارجية تضيف إلى الأفعال ما تشاء من الأحكام، ومن دون أن يكون
في الأمرِ تناقض، حتى إذا حدث وأضافت الذات إلى الفعل «الأمر»
أولًا، ثم نسخته وأضافت إليه «النهي» ثانيًا؛ حيث الأمر يتعلق فقط
بطبيعة هذه الذات؛ وهي «الله تعالى [الذي] يفعل ما يشاء، كيف يشاء،
وعلى أي وجه شاء. وإن ذلك كله تصرُّف في مملكته، لا يُسأل عما يفعل،
وهم يُسألون. فإذا تقرَّر ما قلناه ثبت جواز النسخ لا محالة.»
٧٠ وهكذا يجد النسخ ما يؤسسه — حسب الأشاعرة — في تصور
الحكم مجرد خبرٍ يُضاف إلى الفعل من ذاتٍ خارجية، وليس في كونه صفةً
ذاتية يتقوَّم بها الفعل، والخبرُ كاشفٌ عنها، لا مثبت لها كالحال عند
المعتزلة.
وإذا كان هذا التصور للحكم كخبرٍ يضاف إلى الفعل من خارجه، هو ما
يؤسس — فيما بدا آنفًا — لإبستيمولوجيا الخبر في حقل التاريخ عند
الأشاعرة؛ وبحيث بات صدق الخبر أو كذبه يُستفاد من مجرد الشهادة
عليه من الخارج (أو الإسناد)، فإن تصوُّر الحكم صفةً ذاتية للفعل،
يكشفها الخبر دون أن يثبتها، هو ما يؤسِّس، في المقابل،
لإبستيمولوجيا الخبر التاريخي عند المعتزلة، وبحيث بات صدق الخبر
أو كذبه غير مُستفادٍ من إسناده الخارجي، بل من تحليل طبيعته
الخاصة. والحق أن هذه الإبستيمولوجيا الخاصة بالخبر التاريخي، تُعَد
جزءًا من إبستيمولوجيا معتزلية شاملة تتكشَّف بدورها عن بناء للمعرفة
تتقوَّم بذاتها، ومن دون الحاجة إلى عونٍ خارجي؛ إذ العقل — حسب
المعتزلة — هو «عبارة عن جملة من العلوم المخصوصة، ومتى حصل في
الإنسان هذه العلوم المخصوصة حصَل عاقلًا، وإن فقَد غيرها، ومتى وجد
فيه سواها، ولم تُوجَد هذه العلوم لم يكن عاقلًا، فعلمنا بأنها العقل
دون غيرها. وبهذه الطريقة نعلم تغايُر المعاني واختلافها، وكون
المعنى واحدًا، وإن اختلفَت العبارات.»
٧١ فهذه العلوم التي ينطوي عليها العقل في ذاته (وإلى حد
التماهي بينهما، فتكون هي هو)، ويتقوَّم بها (وإلى حد أنه متى لم
تُوجَد هذه العلوم، لم يكن عقلًا)، هي أدنى إلى البديهيات، أو أوائل
العقول، التي تجعل أي معرفةٍ ممكنة، والتي لا تُستفاد من أي مصدرٍ
خارجي. فإن «هذه العلوم [أو البديهيات] كثيرة، منها [علم] اضطرار،
وأنه يمكن أن يدركه الإنسان قبل تكامُل العقل فيه، بامتحان الأشياء
واختبارها، والنظر فيها، وفي بعضِ ما هو داخل في جملة العقل، كنحو
تفكُّر الإنسان إذا شاهَد الفيل أنه لا يدخل في خرق إبرة بحضرته،
فنظر في ذلك وفكَّر فيه حتى علم أنه يستحيل دخوله في خرق إبرة، وإن
لم يكن بحضرته، فإذا تكاملَت هذه العلوم في الإنسان كان بالغًا، ومن
لم يمتحن الأشياء فجائزٌ أن يُكمِل الله سبحانه له العقل، ويخلقه فيه ضرورة.»
٧٢ وهكذا فإن استفادة المعرفة من مصدرٍ خارجي ليست موقفًا
طبيعيًّا للإنسان، حسب المعتزلة، بل حالةٌ استثنائية ترتبط فقط بعدم
قدرة الإنسان على امتحان الأشياء واختبارها، والنظر فيها، وفي بعض
ما هو داخل في جملة العقل. ولعل هذا التقوُّم الذاتي للمعرفة، يتجلى،
مثلًا، فيما صار إليه المعتزلة من «وجوب أن يرجع العاقل، مع كمال
عقله، في مصالح دنياه، إلى أن يعرف بالتجارب حال السموم القاتلة،
والأدوية النافعة والأغذية التي بها يقوم البدن، ومفارقتها لغيرها،
ولا يتم كل ذلك إلا بما يحل محل الأخبار؛ لأن التجاربَ تضمن ذلك وتقتضيه.»
٧٣ وهذا على العكس مما صار إليه الأشاعرة من أن «الناس
يحتاجون — في كل ما يخص الدنيا — من تمييز الأغذية عن الأدوية
والسموم القاتلة إلى سمعٍ وتوقيف، وأن الواجب أيضًا أن يكون العلم
بأصل الطب موقَّفًا عليه، ومأخوذًا من جهة الرسل عليهم السلام»؛
٧٤ وبما يعني أن المعرفة عندهم لا تتقوَّم بالذات، بل من
مصدرٍ خارجي؛ هو الله بالطبع.
٧٥
وهكذا، إذن، تتضافر مباحث الوجود والمعرفة والأخلاق في بناء
الخطاب التاريخي عند المعتزلة، وذلك من حيث تتكشَّف عن الانبناء
طبقًا لمبدأ التقوُّم بالذات، وهو المبدأ الحاكم لبناء كلٍّ من الفعل
والخبر في خطاب التاريخ المعتزلي، والمؤسِّس — بالتالي — للتجاوز
المعتزلي من «النص» إلى «الفعل» أو من «المفاضلة» إلى «الموازنة»؛
فإذ «النص»، كأساسٍ للتفضيل عند الأشاعرة، لا إطارًا يسع العالم
ويتسع به في آنٍ معًا، بل بنية تفرض نفسها قسرًا على العالم من
خارجه — ولهذا فإنه يجد ما يؤسِّسه في رؤيةٍ للعالم وتصورٍ للعقل
يفتقران إلى ما يتقوَّمان به إلا من خارجهما — فإن تصوُّر «الفعل» —
كأساسٍ للموازنة عند المعتزلة — ينطوي على ما يتقوَّم به ذاتيًّا،
إنما يجد ما يؤسِّسه في رؤية للعالم وبناء للعقل يتقوَّمان بالذات
طبعًا. وليس من شك في أن ذلك يعني أن ثمَّة، داخل نسَق العقائد
المعتزلي، لا ما يؤسِّس فقط للانتقال من النص إلى الفعل، في حقل
التفضيل، بل وما يجعل هذا الانتقال ضروريًّا ولازمًا.
وبالرغم من أن هذا الانتقال يمثِّل الأساس الأكثر مركزية لتصور
التاريخ المعتزلي، وبكل ما ينطوي عليه من أفكارٍ جزئية، إلا أنه
يمكن القول إن ثمَّة داخل الأفكار الجزئية التي يتألف منها البناء
الخاص لنسَق العقائد المعتزلي، ما يؤسِّس على نحوٍ مباشر لتلك الأفكار
الجزئية التي ينطوي عليها تصوُّر التاريخ، وهو ما يقتضي بعض
التفصيل.
ثانيًا: الأساس المعرفي لما ينطوي عليه التصوُّر من أفكارٍ
جزئية
لعله بدا، مما سبق، أن ثمَّة تصورًا معتزليًّا للتاريخ، ينبني على
رؤيته «تطورًا» من لحظةٍ ما — أو تطورًا لها — إلى ما يتجاوزها، وأنه في
تطوُّره ينطوي على تمثُّل هذه اللحظة واستيعابها أولًا، ثم تجاوزها إلى
ما يتخطاها؛ وهو ما يعني أنه يمثِّل حقل تحقُّق واكتمال هذه اللحظة،
وأنه أيضًا إطار لتكشُّف وتجلي الفاعلية الإنسانية في العالم، والتي
يستحيل دون حضورها أن يتحقق أي تجاوز أو اكتمال. وتبعًا لذلك فإنه
يمكن التمييز في التصوُّر المعتزلي للتاريخ، وكالحال في التصور
الأشعري للتاريخ، بين جملة أفكارٍ وعناصرَ جزئية يتألف منها بناؤه
الخاص؛ فثمَّة الفكرة الجزئية الخاصة بتصوُّر اللحظة المركزية في
التاريخ موضوعًا للتمثُّل والاستيعاب، وليس التكرار. وثمَّة الفكرة
الخاصة بتصوُّر التاريخ ابتداء من هذه اللحظة «تطورًا» يتحقق عَبْر
آليتَي الاستيعاب والتجاوز، وثمَّة أخيرًا ما يرتبط بهذا التطور من
الحضور المؤثِّر للفاعلية الإنسانية في العالم. والحق أن كل واحدةٍ من
هذه الأفكار الجزئية التي يتألف منها بناء التاريخ المعتزلي، إنما
تجد ما يؤسِّسها في البناء المعرفي لعناصر النسق الجزئية.
ولعل نقطة البدء في التأسيس المعرفي لهذه الأفكار الجزئية، تنطلق
من البناء المعتزلي للنبوة التي تبدو عند المعتزلة، وكالحال عند
الأشاعرة تمامًا، نقطة البدء في بناء التصور التاريخي بأَسْره. والحق
أن ذلك يُحيل إلى أن تبايُن كلا التصورَين للتاريخ (تدهورًا عند
الأشاعرة، وتطورًا عند المعتزلة)، إنما يجد ما يؤسِّسه في تبايُن
الكيفية التي تنبني بها النبوة عند الفريقَين؛ فإذ يئول النسَق
الأشعري — وكما سبق القول — إلى تصوُّر النبوة خطابًا من طبيعةٍ
مثاليةٍ متعالية ولاتاريخية، ولا يقبل — لذلك — إلا مجرد التكرار،
فإن ذلك قد تأدَّى إلى أن كل تاريخٍ لاحق عليها، قد بات محكومًا بأن
يكون إما تكرارًا لها أو تدهورًا بالنسبة إليها. ولأنه لا يملك أن
يكون تكرارًا لاستحالته، فإنه يكون مجرد تدهور.
وأما النسَق المعتزلي فإنه يئول إلى تصور النبوة خطابًا عينيًّا
يسع العالم خارجه ويتسع به في آنٍ معًا. وأما إنها خطابٌ يسع
العالم، فلأن الأصل فيها هو «المصالح المختصة بالمبعوث إليهم»،
٧٦ ومن جهةٍ أخرى فإنها تتسع به، «لأنها ألطاف ومصالح، وما
هذا سبيله فإنه يختلف بحسب اختلاف الأزمان والأعيان.»
٧٧ وإذن فإنها ليست خطابًا متعاليًا يفرض نفسه قسرًا على
العالم من خارجه؛ حيث المعتبَر فيها هو «الوضع الإنساني» بما ينطوي
عليه من تاريخية ونسبية، وليس «الإرادة الإلهية» بما تنطوي عليه من
الإطلاق والتعالي. والحق أن ذلك يحيل إلى تصورٍ للنبوة، لا من
طبيعةٍ مثاليةٍ متعالية، بل من طبيعة تكاد أن تكون تاريخية، ولكن من
دون أن تعني هذه التاريخية انحصارها عند حدود لحظةٍ ما؛ لأنها تمثِّل
تجاوزًا لحدود كل لحظة؛ وذلك من حيث يُفترض في النبوة — كخطابٍ
مفتوحٍ خاصة — ضرورة أن تتخطى فاعليتها حدود أي لحظةٍ ما. والمُلاحظ
أنه إذا كان تصور النبوة من طبيعةٍ مثاليةٍ ومتعالية على التاريخ قد
آل إلى تبدِّيها — في التاريخ الأشعري — نموذجًا أو لحظة اكتمالٍ
مطلقة، لا يملك الوعي — بإزاء اكتمالها المطلَق — إلا تكرارها أو
الانهيار منها، فإن تصوُّرها عند المعتزلة من طبيعة تكاد أن تكون
تاريخية يئول، في المقابل، إلى جعلها موضوعًا لفعلٍ معرفي مغاير
ينطوي على كل ضروب التمثُّل والاستيعاب والتجاوز للمباشر فيها إلى ما
تنطوي عليه في أعماقها الباطنة؛ وبحيث تبدو بمثابة نقطة بدء للوعي
يستطيع، بسبب انفتاحها على العالم، أن يرتكز عليها في سعيه إلى
إبداع أشكال وجود تناسب تطور الوضع الإنساني. وهكذا فإنه، وبمثل ما
كان البناء المعرفي للنبوة في نسَق العقائد الأشعري هو نقطة البدء
إلى تصور التاريخ «تدهورًا»، فإن بناءها معرفيًّا في نسَق العقائد
المعتزلي هو ما يؤسس، في المقابل، لتصور التاريخ «تطورًا».
وبدوره فإن هذا «التطور» إنما يجد ما يؤسِّسه في بناء أنطولوجيا
«الطبائع» المعتزلية، تمامًا بمثل ما كان «التدهور» يجد ما يؤسِّسه
في بناء أنطولوجيا «الجوهر والأعراض» الأشعرية. وهكذا فإنه إذا كان
تصور التاريخ «تدهورًا» ينطوي على تصور الواحدة من لحظتَيه
الجوهريتَين (أعني لحظة الفضل وما يتلوها من لحظات تدهور) من طبيعةٍ
مغايرةٍ للأخرى بالكلية — وذلك من حيث تكون المثالية والتعالي سمةً
للأولى، فيما التدهور والسقوط سمة للأخرى — فإن ذلك قد أحال إلى
تصوُّر الانقسام والتمايز يسري في صميم بناء هذا التاريخ؛ الأمر الذي
راح يجد ما يؤسِّسه في أنطولوجيا الانفصال والتفكُّك الأشعرية؛ وأعني
خاصة في بناء الحركة والفعل والزمان، والتي تنبني جميعًا على
التقطُّع والانفصال، وليس التداخُل والاتصال. وفي المقابل فإن تصوُّر
التاريخ «تطورًا» إنما ينطوي على تصور لحظاته من طبيعةٍ متماثلة
(وذلك من حيث لا تمايُز للحظةٍ فيه عن الأخرى، بل جميعها من طبيعةٍ
تاريخيةٍ واحدة)، ولعل ذلك يُحيل إلى أن التواصل والتداخل هو ما يسري
في صميم بنائه؛ الأمر الذي يجد ما يؤسِّسه في أنطولوجيا «الطبائع»
التي تنبني على تماسُك العالم واتصال أجزائه وتداخُلها، وأعني خاصة
في بناء الحركة والفعل التي تنبني على التداخُل والاتصال، وليس
التقطُّع والانفصال.
ومن هنا فإنه إذا كانت الحركة، مثلًا — حسب نظرية الأعراض
الأشعرية — مجرد عَرَض يلحق بالجوهر من خارجه، ويبطل، ككل الأعراض،
في ثاني حال وجوده؛ الأمر الذي يعني أنها ليست فعلًا واحدًا
ممتدًّا ومتصلًا، بل فعلًا متقطعًا تتجدد أجزاؤه، التي يفصل بينها
السكون في كل آنٍ، فإنها — حسب «الطبائع» المعتزلية
٧٨ — تكون فعلًا للأجسام طباعًا؛ أي صادرةً عن الطبيعة
الذاتية للشيء أو الجسم؛ الأمر الذي يعني أنها فعلٌ متصلٌ وباقٍ
ببقاء الطبيعة الذاتية التي يصدر عنها؛ ولهذا فإنه لا ينقطع
بالسكون، بل إنه يبدو أن السكون نفسه لا وجود له في الحقيقة، حيث
الأجسام «كلها متحركة في الحقيقة، وساكنة في اللغة.»
٧٩ وهكذا فإنه لا وجود إلا للحركة، وذلك إلى حد اعتبار
السكون مجرد واحدٍ من ضروبها.
٨٠ وليس من شك في أن هذا النفي «للسكون» إنما يمثِّل
تكريسًا لامتداد الحركة وتواصلها، لا في حقل الأنطولوجيا فقط، بل
وفي حقل التاريخ؛ حيث التطوُّر يستحيل إلا مع تصور الحركة تتواصل
وتمتد، والسكون أو الثبات يتلاشى وينفد.
ومن جهةٍ أخرى فإنه إذا كان معنى الحركة — حسب الأعراض الأشعرية —
أنها انتقال الجوهر الفرد في الخلاء من مجاورة جوهرٍ فرد إلى مجاورة
جوهرٍ فرد آخر؛ وبما يعني أنها حركة أجزاءٍ منفصلة، فإن معناها — حسب
القول بالطبائع — هو «معنى الكون»،
٨١ وذلك «بالمعنى الأرسطوطالي القائل بإن الكون هو تحوُّل
جوهرٍ أدنى إلى جوهرٍ أعلى؛ فالكون يظهر عندما يصل الجوهر إلى كمالٍ
أكبر مما كان عليه؛ أعني أن الكون يظهر في الحالة الثانية من تغيُّر الشيء.»
٨٢ ولهذا كانت الحركة «مبدأ تغيُّرٍ ما»،
٨٣ وليست مجرد تجاوُر أجزاءٍ منفصلة.
وليس من شك في أن معنى الحركة، في الأنطولوجيا الأشعرية، مجرد
تجاور أجزاءٍ منفصلة، إنما يتسِق مع تصوُّر التاريخ تدهورًا، وذلك من
حيث ينبني هذا التاريخ على تصوُّر الحركة فيه، مجرد تجاور لحظاتٍ
منفصلة (فلحظاته أدنى إلى الوحدات المغلقة التي لا تنفتح البتة على
بعضها؛ ولذلك فإنها لا تعرف إلا التجاور شكلًا لحركتها). ولعل ذلك
هو ما يؤسِّس لحضور الحدث في الكتابات التاريخية الأشعرية، منفصلًا
عن غيره، ومتجاورًا معه؛ وبحيث بات المؤرخ لا يعرف، ابتداءً من هذا
التقطع والانفصال، إلا جملة أحداثٍ منفصلة يسعى إلى مجرد تجميعها،
الأمر الذي أحال التاريخ في معظمه إلى عملٍ فقير، ولا حضور فيه
البتة لمبدأ باطني أو روحٍ كامنة يسعى إلى التعرُّف عليها خلف
الأحداث. وفي المقابل فإن معنى الحركة، في الأنطولوجيا المعتزلية،
أنها هي «مبدأ تغيُّر ما»، أو هي «الكون»، وبما يعنيه من تحول الجسم
من حالٍ إلى حال أكمل، إنما يتسق مع تصور التاريخ تطورًا من حالٍ
أدنى إلى حالٍ أعلى أو أكمل. ولعل ذلك كان يمكن أن يكون أساسًا لنمط
كتابةٍ تاريخية يحضُر فيها الحدث في اتصال وترابُط مع غيره، وبحيث
ينطلق المؤرخ من هذا الترابط والاتصال، إلى إدراك المبدأ الباطني،
أو حتى الطبائع الذاتية الكامنة خلف ركام الأحداث تربط بينها
وتهبها المعقولية.
٨٤
والحق أن ما تنطوي عليه الحركة من التواصل والاستمرار (وليس
التقطع والانهيار)، إنما يتجلى على نحوٍ أظهر خلال بحث المعتزلة في
«المتولدات»؛ إذ التوليد ينبني على تصورٍ للفعل، لا انقطاعًا، بل
دوامًا واتصالًا، وإلى حد «أن الأحياء القادرين على الأفعال يفعلون
في حال حياتهم وصحتهم وسلامتهم وقدرتهم أفعالًا تتولد عنها أفعال
بعد موتهم، فيُنسب ما يتولد عن أفعالهم بعد موتهم إليهم؛ إذ كانوا
قد سنُّوه في حياتهم، وفعلوا ما أوجبه.»
٨٥ وهكذا يدوم الفعل وينتج أثره حتى مع غياب فاعله؛ «بل
إن كثيرًا من الأفعال لا يظهر أثرها الإيجابي أو السلبي إلا بعد
انتهاء حياة فاعلها، وهذا هو معنى الحضارة الإنسانية؛ إذ الحضارة
تراكُم أفكار البشر وأفعالهم بعد انتهاء حياة قائليها وفاعليها.»
٨٦
وهكذا يبدو الفعل منطويًا في جوفه على ممكناتٍ وآثارٍ يستنفدها
التوليد خلال التاريخ؛ حيث المتولدات لا تستنفد كلها في الحال.
ولهذا «قسَّمَت المعتزلة المتولد إلى ما [يكون] توليده في ابتداء
حدوثه دون حال دوامه، وإلى ما [يكون] توليده حال حدوثه ودوامه.»
٨٧ وليس من شك في أن الاتصال والدوام في التوليد، إنما
يفترض اتصالًا ودوامًا في الزمان والتاريخ.
وإذا كان يبدو، هكذا، أن التوليد ينطوي على تصور الفعل، لا
مستمرًّا فقط، بل ومنتجًا أيضًا، فإن ذلك يُحيل إلى تصور التاريخ
المعتزلي خطاب إنتاج واستمرار، وليس خطاب تكرار وانهيار كالحال عند
الأشاعرة. وهنا فإنه إذا كان ما ينطوي عليه التاريخ الأشعري من
التكرار، إنما يجد ما يؤسِّسه في نظرية «الكسب» في مجال خلق الأفعال،
فإن تصور التاريخ المعتزلي خطاب إنتاج وإبداع، كان لا بد أن يجد ما
يؤسِّسه فيما صار إليه المعتزلة من أن «أفعال العباد كلها مخلوقاتٌ
للعباد، والعبد هو الذي يخلق فعل نفسه، خيرًا أو شرًّا؛ لأن العبد
عندهم مُستطيع باستطاعة نفسِه قبل الفعل، ولا يحتاج إلى الاستطاعة
والقوة من الله تعالى، وإذا كان العبد مستطيعًا باستطاعة نفسِه قبل
الفعل، فأفعاله مخلوقةٌ من جهته.»
٨٨
والحق أن هذا التصور للإنسان فاعلًا وحرًّا على الحقيقة، ليُمثل
حجَر الزاوية في البناء المعرفي، لا للتاريخ المعتزلي فقط، بل ولأي
تاريخ على العموم، وذلك من حيث يستحيل، دون هذا التصور للإنسان،
الحديث عن أي تمثُّل أو استيعاب لأي خبرةٍ بشريةٍ ماضية توطئة
لتجاوزها إلى خبرةٍ أرقى، بل الحديث يمكن، مع غياب الإنسان، عن مجرد
تكرار التجارب والخبرات الماضية، فلا يعرف الوعي إلا الثبات عندها.
وبالجملة فإنه لا مجال للحديث، مع غياب الإنسان، عن تاريخ للتطور،
بل بالأحرى عن تاريخ للثبات والتدهور.
وإذ يبدو، هكذا، أن كل واحدة من الأفكار الجزئية التي يتألف منها
البناء المعرفي لتصور التاريخ المعتزلي، إنما تجد ما يؤسِّسها داخل
البناء المعرفي لأفكار نسَق العقائد الجزئية، فإن دائرة التأسيس
المعرفي، من النسَق للتصور، تكتمل تمامًا مع الوعي بأن النظام
البنيوي الذي ينطوي عليه نسَق العقائد المعتزلي ينعكس بأَسْره في
النظام البنيوي الذي ينطوي عليه تصوُّرهم للتاريخ؛ وبمعنى أن نظام
النسق في ترتيب العلاقة بين عناصره ومقولاته، يكاد أن يكون هو نفسه
نظام التصور التاريخي في ترتيب العلاقة بين عناصره ولحظاته.
ثالثًا: من النظام البنيوي للنسَق إلى النظام البنيوي
للتصوُّر
كالنسَق الأشعري تمامًا، يتحدَّد نظام بنية النسَق المعتزلي ابتداءً
من ترتيبه للعلاقة بين المقولات المركزية الثلاث في أي نسق؛ وأعني
بها الله والعالم والإنسان، ولكن فيما يرتِّب النسق الأشعري — فيما
سبق القول — هذه العلاقة على نحوٍ من الانفصال الذي تتنابذ في إطاره
المقولات وتتباعد، فإن النسق المعتزلي يُرتِّب هذه العلاقة في
المقابل على نحوٍ من الاتصال والتعالُق الذي تحيل في إطاره كل مقولة
إلى الأخرى، فتحدِّدها وتتحدَّد بها في آنٍ معًا. وإذا كان قد سبق
القول إن النسَق الأشعري قد انطلق في ترتيبه للعلاقة بين هذه
المقولات، على هذا النحو من الانفصال، ابتداءً مما يكرِّسه الوحي من
الانفصال بين الله من جهة، وكلٍّ من العالم والإنسان من جهةٍ أخرى،
فإن هذا الانفصال الذي يكرِّسه الوحي ليس انفصالًا مطلقًا يستبعد أي
اتصال ويلغيه، بل إنه فقط يستبعد — وكما سبق القول — الاتصال
المهدِّد للهوية الإلهية (ممثلًا في الشرك)، وأما الاتصال على
العموم، فإن ذلك ما لا يمكن تصوُّر الوحي يلغيه ويستبعده، وإلا فإنه
— والحال كذلك — يكون نافيًا لنفسه ولاغيًا لماهيته؛ حيث الوحي
يقصد، في جوهره، إلى استعادة الاتصال بين كلٍّ من الله والعالم
والإنسان، وتجاوز ما قام بينهم من الانفصال؛ ولهذا فإن ما يكرِّسه
الوحي بين هذه المقولات في الظاهر، إنما يُخفي خلفه ضربًا من
الاتصال الجوهري بينها في العمق. ولعل النسَق المعتزلي يرتِّب العلاقة
بين مقولاته، طبقًا لهذا الضرب من الاتصال الجوهري العميق بين
مقولاته المركزية الثلاث.
ولعل طابع الاتصال والتعالق بين هذه المقولات يُحيل إلى أن كل
مقولةٍ منها تتحدَّد بالأخرى وتحدِّدها في آنٍ معًا، أو أنها تدخل في
تركيب الأخرى، وتكون جزءًا من ماهيتها والعكس، وبحيث يمكن القول —
تبعًا لذلك — أن «الله» يدخل في تركيب «العالم» من خلال كون
قوانينه (أي العالم) هي علمه (أي الله).
٨٩ وكذا فإن الله يكون جزءًا من ماهية الإنسان (من خلال
إرادته الحرة)، بمثل ما إن الإنسان يلعب دورًا في تحديد ماهية الله
(بإبراز عدله). وأخيرًا فإن العالَم يدخل في تركيب ماهية الإنسان
(من خلال كونه مجال تبلور وعيه وترقِّيه) بمثل ما إن الإنسان يلعب
دورًا جوهريًّا في تركيب العالم (من خلال عمله فيه).
وليس من شك في أن ذلك التحدُّد المتبادل يعيِّن طبيعة هذه
المقولات من جهة، وطبيعة العلاقة بينها من جهةٍ أخرى؛ حيث تبدو
المقولات منطوية في باطنها على ضربٍ من المضمون، الذي يؤكِّد ثراءها
وفاعليتها، بقَدْر ما ينفي صوريتها وتجردها؛ الأمر الذي يئول إلى
علاقة ذات طابعٍ جدلي يستوعب ضروب التفاعل والتأثير فيما بينها.
وهكذا فإن اتصال المقولات وتعالقها (أ) وانطوائها على مضمونٍ باطني
وعدم صوريتها (ب)، وجدلية العلاقة بينها (ﺟ)، وتبدِّيها لذلك في شكل
علاقة تفاعُل بينها جميعًا (د)، هي أهم ملامح نظام البنية
المعتزلية.
وإذ يبدو — هكذا — أن التعارض بين كلٍّ من النسقَين الأشعري
والمعتزلي، يكاد أن يكون كاملًا على صعيد البنية المعرفية العميقة،
٩٠ فإن التعارض نفسه يتبدى على صعيد الوظيفة الأيديولوجية
لكلا النسقَين، فإذ بدا أن سعي النظام البنيوي الأشعري إلى تكريس
سيادة إحدى المقولات وهيمنتها على المقولتَين الأخريَين، لم يكن غير
قناع يُخفي قصد النسق إلى تأكيد سيادة «المطلق السياسي» في عالم بدا
أنه لا مجال فيه لوجودٍ حق إلا للمطلق (إلهًا في المجرد وحاكمًا في
المتعين)؛ وبما يعني أن «الإطلاق الإلهي» — تبعًا لذلك — لم يكن
إلا مقدمة «للإطلاق السياسي»، فإن النظام البنيوي المعتزلي كان
يقصد، عَبْر استيعابه لمقولاته واحتفاظه بها في حالة تفاعُل وتبادُل
للتأثير فيما بينها، إلى ترسيخ نظامٍ لا مجال فيه لأي تسلط أو هيمنةٍ
مطلقة؛ الأمر الذي يتسق، بالطبع، مع سعي المعتزلة إلى صياغة عالم
يكون فيه الإنسان أكثر حضورًا وفاعلية .
ولعله بدا أن هذا السعي يمثِّل القصد العميق لتصور التاريخ
المعتزلي؛ الأمر الذي يعني أن ثمَّة ضربًا من ضروب التماثل، على
المستوى الوظيفي، بين نسَق العقائد المعتزلي من جهة، وبين التصور
التاريخي الذي يتضمنه هذا النسَق من جهةٍ أخرى. وليس من شك في أنه
يمكن الانتقال من هذا التماثل بينهما، على المستوى الوظيفي، إلى
تماثلهما أيضًا على مستوى البنية المعرفية العميقة … لكن ذلك
يقتضي (أولًا) اختبارًا لنظام بنية النسَق المعتزلي من خلال بعض
عناصره الجزئية؛ وأعني بذلك النظر فيما إذا كانت هذه البنية الكلية
للنسَق، تنتظم جملة مسائله الجزئية، وتهبها المعقولية والتفسير …
أم لا؟
والحق أن اختبارًا لبنية النسق المعتزلي من خلال عناصره الجزئية،
ليكشف عن فاعلية هذه البنية وكفاءتها التفسيرية؛ فإن كل واحدٍ من
عناصر النسَق الجزئية يتكشَّف — ولكن في مجاله الخاص — عن نفس ملامح
البنية الكلية من الاتصال والتفاعل وتبادل الإحالة؛ وبما يعني أنه
يفقد طابعه الجزئي، وينتمي إلى كليٍّ يمنحه المعقولية والتفسير. وإذ
يبدو — هكذا — أن تحليلًا لمسائل الصفات أو خلق الأفعال أو النبوة
أو أيٍّ من مسائل النسق الأخرى، لن يفعل إلا التأكيد على انتظام كلٍّ
منها — رغم الخصوصية — في إطار نفس البنية، فإنه يمكن الاكتفاء —
والحال كذلك — بتحليل واحدةٍ فقط من هذه المسائل الجزئية، كمسألة
الصفات مثلًا. وهنا فإنه إذا كان يمكن التمييز، فيما يتعلق بقضية
الصفات عند المعتزلة، بين جانبيَن، يتعلق «أولهما» بنفي كون الصفات
قديمة وزائدة على الذات، وينصرف «ثانيهما» إلى إثبات أن الصفة هي
عين الذات، فإنه يبدو أن كلا الجانبَين يتكشَّف عن ملامح البنية
الكلية للنسق.
فقد صار المعتزلة إلى نفي كون الصفات قديمةً وزائدةً على الذات،
وذلك «لأنه لو شاركَته الصفات في القِدَم الذي هو أخص الوصف لشاركَته
في الإلهية»،
٩١ وعلى قول «واصل» فإن «من أثبت معنًى وصفةً قديمة فقد
أثبت إلهَين.»
٩٢ وهكذا فإنه فيما مضى الأشاعرة إلى أن «اسم الله تعالى
لا يصدُق على ذاتٍ قد أخلَوها عن صفات الإلهية»،
٩٣ فإن المعتزلة قد صاروا، في المقابل، إلى أن اسم الله
تعالى لا يصدُق حقًّا إلا على ذاتٍ بسيطة تخلو من أي صفةٍ قديمة وزائدة
عليها، وذلك إبعادًا لشبهة التركيب، والتعدُّد بالتالي.
وإذن فإن نفي الصفات، إنما يرتبط بالتصور المعتزلي للذات الإلهية
على نحوٍ من الوحدانية المطلقة التي تستلزم بساطة الذات وخلوَّها من
التركيب، لكنه لا يقف عند حدود هذا الارتباط فقط، بل يتجاوزه إلى
الارتباط، في العمق، بنظام البنية العميقة للنسق المعتزلي؛ حيث
ارتبط النفي المعتزلي لكون الصفات قديمةً وزائدة على الذات بتصورٍ
بعينه لكلٍّ من الإنساني والطبيعي، أحال إلى هذا التصور بعينه
للإلهي؛ وبمعنى أن السعي إلى إثبات ضربٍ من الفاعلية لكلٍّ من الإنسان
والعالم، هو ما أحال، فيما يتعلق بالصفات، إلى نفي كون الصفة قديمةً
وزائدة على الذات؛ ولهذا فإن هذا النفي هو نتاج الانتظام في بنيةٍ
تقوم على تبادل الإحالة بين المقولات وجدلية العلاقة فيما
بينها.
ولعل هذا النظام البنيوي يتجلى في مسألة الصفات، على نحوٍ ظاهر،
في مسألة العلاقة بين «الصفة والوصف»؛ فقد صار المعتزلة إلى أن
«الصفة ليست بمعنًى أكثر من الوصف الذي هو قول القائل وإخبار المخبر
عمن أخبر عنه بأنه عالمٌ قادر.»
٩٤ وهكذا يوحِّد المعتزلة بين الصفة والوصف، في مقابل ما
سبق الإلماح إليه من التمييز الأشعري بينهما. وإذ التمييز الأشعري
بينهما كان يقصد إلى تكريس تبعية الوصف (الإنساني)، للصفة
(الإلهية)، فإن التوحيد المعتزلي بينهما، يستهدف التأكيد، في
المقابل، على قيام الصفة (الإلهية) مع الوصف (الإنساني) في آنٍ
معًا. حيث «الله تعالى كان — حسب المعتزلة — في أزله بلا صفة، ولا
اسم من أسمائه وصفاته العليا؛ لأنه لا يجوز أن يكون في القِدَم
واصفًا لنفسه [لاعتقادهم خلقَ كلامه] ولا يجوز أن يكون معه في القِدَم
واصفٌ له مخبرٌ عما هو عليه، فوجب أنه لا صفة لله سبحانه قبل أن
يخلُق خلقه، وأن الخلق هم الذين يجعلون لله الأسماء والصفات؛ لأنهم
هم الخالقون لأقوالهم التي هي صفاتُ الله سبحانه وأسماؤه.»
٩٥ وهكذا فإن السعي إلى تأكيد فاعلية الإنسان، حتى في
مجال الصفات، هو ما أحال إلى نفي كون الصفات قديمةً وزائدة، وذلك
لأن كون الخلق أو البشر هم الخالقون لأقوالهم التي هي أسماء الله
وصفاته العليا، يؤدي إلى استحالة أن تكون هناك صفاتٌ في القِدَم؛ لأنه
لم يكن هناك خلقٌ أو بشرٌ يخلقونها أو يجعلونها «لله» في القِدَم.
وبعبارةٍ أخرى، فإن كون الإنسان خالقًا لفعله وقوله، هو ما أحال إلى
نفي الصفات قديمة وزائدة؛ وبما يعني أن الإحالة المتبادلة بين كلٍّ
من الله والإنسان هي ما آل إلى هذا النفي.
وبدوره يتجلى إثبات الصفة هي عين الذات، عن نفس النظام البنيوي
للنسق؛ حيث أثار «إثبات [المعتزلة] صفةً هي بعينها ذات»،
٩٦ مسألة التبايُن والتمايُز بين صفة وأخرى، وهنا فإن ثمَّة
من المعتزلة مَن صار إلى أنه «إنما اختلفَت الأسماء والصفات لاختلاف
المعلوم والمقدور.»
٩٧ وهكذا تتمايز الصفات، فيما بينها، ابتداء من متعلَّقاتها
في الخارج؛ أو أنَّ تحدُّد الصفة يأتيها من الخارج؛ أعني من «العالم»
الذي هو محل هذه المتعلقات (من حيث هي أشياؤه وموضوعاته). وإذن
فإنه العالم، هذه المرة، هو ما يدخل في تركيب الصفات مميزًا بينها
ومحددًا لماهية كلٍّ منها الخاصة. وهكذا فإنه (الإنسان) مرة،
و«العالم» مرةً أخرى يدخل في بناء قضية الصفات الإلهية عند
المعتزلة، إنْ من حيث نفي كونها قديمة (إثباتًا لفاعلية الإنسان في
خلقه لها)، أو من حيث إثباتها عينًا للذات، لا زائدةً عليها (وبما
يقتضيه ذلك من إثبات دورٍ للعالم في التمييز بينها وتحديد
ماهيتها).
وإذ يبدو، هكذا، أن جانبَي النفي والإثبات في الصفات يتكشَّفان عن
نفس النظام البنيوي، فإن ذلك يئول إلى انتظام مسألة الصفات عند
المعتزلة بأَسْرها، في إطار البنية الكلية للنسَق؛ وهو الانتظام الذي
يتكشَّف عنه تحليل سائر عناصر النسق الجزئية الأخرى.
٩٨ وبقَدْر ما يؤكد ذلك على شمول البنية وكليتها، فإنه يؤكِّد
أيضًا على سلامتها وكفاءتها التفسيرية. ولأن تصوُّر التاريخ هو أحد
عناصر النسَق الجزئية، فإنه لا بد أن يتكشَّف بدوره — ولكن بكيفية
تناسب مجاله الخاص بالطبع — عن الانتظام في نفس البنية. وهنا فإن
الأمر سيتجاوز مجرد إثبات الكفاءة التفسيرية للبنية إلى التأكيد
على انتماء هذا التصور التاريخي للنسَق.
والحق أن تحليلًا لتصور التاريخ المعتزلي يتكشَّف، بالفعل، عن
انتظامه طبقًا للبنية الكلية للنسَق؛ حيث يستحيل اتصال المقولات
وتعالُقها في النَسق، إلى تصور التاريخ المعتزلي خطابَ تواصُل
واستمرار، لا خطاب تقطُّع وانفصال. وليس من شك في أن تصوُّر التاريخ
على هذا النحو، يبدو غايةً في الجوهرية، لتفسير ما ينطوي عليه من
التطور، وذلك من حيث يستحيل التطور — وهو جوهر التاريخ المعتزلي
فيما سبق القول — إلا عَبْر افتراض أن تكون لحظات التاريخ على نحوٍ من
التواصل والاستمرار؛ إذ لا تطوُّر البتة في سياق تاريخ ليس بين
لحظاته إلا التقطُّع والانفصال. وهكذا فإنه إذا كان انفصال المقولات
وانقسامها في النسَق الأشعري قد تبدى، في حقل التاريخ، عن الانقسام
والتباعُد بين لحظاته؛ أعني بين اللحظة-المثال (لحظة النبوة)، وبين
ما يتلوها من لحظات تدهور وانهيار، فإن اتصال المقولات في النسَق
المعتزلي، يتبدى، في حقل التاريخ، عن تواصل لحظاته في صيرورة
تطورية تستحيل منها «لحظة النبوة» من لحظة-مثال متعالية يسقط
بعدها التاريخ، إلى لحظة من طبيعة تكاد أن تكون تاريخيةً يبدأ منها
التاريخ؛ وبما يعني أنها تستحيل من مثالٍ ينفصل عنه ما بعده إلى
نقطة بدءٍ لما بعدها.
وضمن هذا التواصل للحظات التاريخ، فإنه يبدو أن الواحدة من هذه
اللحظات إنما تجد ما يؤسِّسها في الأخرى؛ حيث اللحظة، هنا، ليست لحظةً
مقطوعةً لا علاقة لها بما قبلها أو بعدها، بل اللحظة تقوم في سياق
تبدو فيه نتاجًا لما قبلها وأساسًا لما بعدها. ولعله سبق الإلماح
إلى جوهرية فكرة السياق في التاريخ المعتزلي؛ حيث الموازنة (وهي
بديل التفضيل وأساس التاريخ عندهم) تفترض لكي تتحقق وضع الفعل في
سياقٍ يصله بشروط إنتاجه من جهة، وبإمكانيات تطوُّره من جهةٍ أخرى؛
الأمر الذي يعني أنه ليس فعلًا مقطوعًا، بل فعلا منتجًا يستمر
تأثيره في العالم عَبْر التوليد. ولعل ذلك يُحيل إلى أن تصور المقولات
في النسَق تدخُل الواحدة منها في تركيب الأخرى إنما يتكشَّف، في
التاريخ، عن تصور أن لحظاته (والأفعال فيها) إنما تجد الواحدة منها
ما يؤسِّسها في الأخرى.
وإذا كان هذا التصور للفعل أو «اللحظة» يحيل — من جهة — إلى أنه
ليس فعلًا صوريًّا خاويًا، بل ينطوي على مضمونٍ باطني يبرِّر موازنته
مع فعلٍ (أو لحظة) آخر. وإذا كانت «الصورية» في التاريخ قد تأدَّت عند
الأشاعرة — من جهةٍ أخرى — إلى قراءةٍ إسقاطية له، تُهدِر ما ينطوي
عليه من حياةٍ حقَّة، فإن ثراءً لحظاته وعدم صوريتها يتأدى عند
المعتزلة، في المقابل، إلى قراءة أكثر ثراءً وخصوبة، وذلك من حيث
لا تتقيد بأي أحكامٍ أولى أو مطلقة تُسقِطها على وقائع التاريخ
وأحداثه، بل تراه — ومن حيث هو حائزٌ لمضمون — قابلًا لأحكامٍ
متباينة بحسب تبايُن منظور التقييم وزمانه، وأدوات القراءة وركائز
التحليل. وهكذا فإنه فيما تُحيل صورية المقولات وخواؤها عند
الأشاعرة، إلى تصور لحظات التاريخ، لا كوقائع وأحداثٍ حية، بل
كأنماط وصور لا تتبلور إلا عَبْر إهدار ما تنطوي عليه من حياةٍ حقة،
فإن ثراء المقولات وامتلاكها لمضمونٍ باطني، في النسَق المعتزلي،
يُحيل، في التاريخ، إلى تصور لحظاته كوقائع وأحداثٍ حية، وليس كأنماط
وصور لا حياة فيها.
وأخيرًا، فإنه إذا كان ما ينطوي عليه النسَق الأشعري من نزوع إلى
الإطلاق (بمعناه الإلهي والسياسي)، قد آل، في حقل التاريخ، إلى
«نمذجة» لحظاته؛ بمعنى تحويلها إلى نماذجَ متعاليةٍ مطلقة، ولا يمكن
أن تكون — ككل نموذج — إلا معطياتٍ نهائيةً مكتملة لا سبيل بإزائها
إلا للتكرار والاجترار، وذلك من حيث يتم الاحتفاظ بها، في اكتمالها
المطلق، عصيةً على أي تجاوز، فإن ما ينطوي عليه النسَق المعتزلي، في
المقابل، من السعي إلى زحزحة الإطلاق (بمعناه السياسي) خاصة قد آل
في التاريخ إلى أنسنة لحظاته، لا نمذجتها؛ وأعني بذلك اعتبارَها،
تكويناتٍ إنسانيةً تقبل التجاوز والتخطي. وإذ يبدو، هكذا، أن التوازي
يكاد أن يكون كاملًا بين النظام البنيوي للنسَق المعتزلي من جهة،
وبين النظام البنيوي للتصور التاريخي المتضمن فيه من جهةٍ أخرى، فإن
ذلك يعني اكتمال دائرة التأسيس المعرفي من النسَق للتصور، وذلك من
حيث بدا — في فقرةٍ سابقة — أن عناصر النسَق الجزئية تلعَب هي الأخرى
دورًا جوهريًّا في التأسيس المعرفي لعناصر التصور … الأمر الذي
يعني أن تصور التاريخ المعتزلي إنما يجد ما يؤسِّسه (سواء كبنية أو
كعناصرَ جزئية) في بناء نسَق العقائد المعتزلي.