حياة أبي حنيفة وترجمته
كلمة عامة
أبو حنيفة عَلمٌ من أعلام المسلمين، وإمام من أكبر أئمة الفقه الإسلامي، ما في ذلك من ريب، فعلى هذا يُجمع المؤرخون من تناولوا نواحي تفكيره وثقافته الواسعة بالبحث والتحليل والتمحيص، على أن القارئ لما كتبه المؤرخون عنه — وما أكثره! — لا يعدم أن يجد من يتناوله بشيء من التجريح والذم، وتلك سُنَّة الزمن مع كل عظيم؛ فإنه لَيوجد دائمًا حول العظماء من يُفرِطون في التعصب لهم، ومن يُفرِطون في التعصب عليهم؛ ولكن يظهر بين هذين الطرفين الغاليين وجه الصواب لعين الباحث المدقق المتثبِّت الذي ينشُد الحقيقة وحدها.
مولده ونشأته
وعلى كل، فقد عاش في ظل الدولة الأموية ثم في ظل الدولة العباسية، وشهد ما كان لانتقال الخلافة والسلطان من بيت إلى بيت من نتائج وآثار على الإسلام بعامة؛ وفي حياة كثير من الناس بخاصة. إلا أنه — كما سنعرف من سيرته — ثابت الخُلق، قوي الشخصية، ماضٍ قُدُمًا في سبيل تحقيق رسالته التي أعدَّ نفسه لها، وكان في تحقيقها خير للإسلام والمسلمين وشريعة الله ورسوله.
ولذلك يحسُن بنا — قبل التعرُّض لفقهه وآرائه في التشريع ومذهبه الذي عُرف به — أن نستعرض سيرته ونشأته في إجمال، وأن نعرف بيئته الخاصة التي اضطرب في أرجائها، والعوامل التي كان لها أكبر الأثر في توجيهه الوجهة الطيبة التي اختارها.
ويذكرون عنه (البغدادي ص٣٥٨) أنه وكل إلى شريك له، وهو حفص بن عبد الرحمن، متاعًا ليبيعه، وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا منه عيبًا، وطلب منه أن يُبيِّن هذا العيب للمشتري؛ ولكن هذا الشريك نسي أن يُظهر المشتري على العيب، ولم يعلم به من باعه، فما كان من أبي حنيفة إلا أن تصدَّق بثمن المتاع كله.
اتجاهه للعلم
كان لا بدَّ أن يتجه النعمان للعلم، ويأخذ منه بنصيب كبير؛ فقد نشأ بالكوفة وكانت ثاني المصرين العظيمين بالعراق في ذلك العصر، وكان العراق قطرًا يموج موجًا بأصحاب المقالات الدينية والفلسفية والآراء والنحل المختلفة، كما كان يزخر بالعلماء والفقهاء وأصحاب المعارف الإسلامية على اختلاف ضروبها.
وكان صاحبنا فتى طُلَعة متصلًا بالناس، راغبًا في المعرفة، يسعفه استعداد طيب، وطبْع مُواتٍ، فما لبث أن أخذ من تلك الثقافات بقدر محمود، ومال إلى مجالس العلماء يأخذ عنهم وينظر معهم ويجادل أحيانًا.
اتجاهه للفقه
وقد أراد الله له أخيرًا أن يُقبل على علم الفقه، وأن يجعله همه من حياته، فكان أن انصرف إليه بكلِّيته، واتصل بشيوخ الفقهاء يأخذ عنهم وبعض المؤرخين له يروون أنه قصد إلى اختيار الفقه عن علم بعظيم جدواه، وذلك بعد أن نظر فيما يمكن أن يكون من خيرٍ في دراسة العلوم الأخرى.
هكذا يروي أولئك المؤرخون. ونحن إن استطعنا أن نصدِّق هذا النقل الثاني، فإننا لا نستطيع أن نؤمن لما رووه أولًا على النحو الذي نقلوه؛ وهذا لأمور تحيك في النفس وتقف دون اليقين به.
فإنه من المستبعد أن يكون أبو حنيفة نفعيًّا إلى هذه الدرجة، فيرفض الاشتغال بغير الفقه، كالقرآن والحديث والنحو؛ لأنه لا جدوى تعود عليه منها، ولأن لبعضها مغبَّة يخشاها كذهاب رياسته إن اشتغل بالقرآن وحفظه وخرج من تلاميذه من يفوقه في الحفظ أو يساويه فيه، مع أنهم قد أجمعوا على تقواه وورعه وزهده وانصرافه عن الرياسات.
ثم نراه يقرر في هذا الحديث الانصراف عن النحو وعلم الكلام، مع أنه قد اشتغل بالأول ولم يصرفه عنه — كما روينا في نقل سابق — إلا أنه لم يرَ القياس جائزًا فيه، كما اشتغل بعلم الكلام حتى صار من أعلامه، وحتى بلغ فيه مبلغًا يشار إليه فيه بالأصابع.
وبعد هذا وذاك، نرى أن ذلك الحديث الأول يفترض أن أبا حنيفة كان عنده استعداد لكل هذه العلوم حتى أخذ يختار لنفسه منها حتى الشعر، مع أنه لمُ يؤثر عنه مطلقًا شيء منه مهما كان قليلًا؛ والمعروف أن من كان شاعرًا بطبعه واستعداده لا بدَّ أن يقرض شيئًا من الشعر مهما كانت حرفته، ومهما كان العلم الذي أخذ نفسه به.
نزعته الفقهية وشيوخه
عُرف أبو حنيفة فيما بعدُ بأنه «إمام أهل الرأي» لكثرة اجتهاده وعمله بالقياس فيما لا نص ثابتًا لديه فيه، ونعتقد أن هذه النزعة كانت أصيلة فيه؛ فقد رأيناه ينصرف، كما يقولون، عن الاشتغال بالنحو لما رآه من أن القياس لا يجري فيه.
ولذلك نراه يلازم من بين شيوخ الفقهاء الذين أخذ عنهم حماد بن أبي سليمان الذي انتهت إليه في عصره رياسة الفقه في العراق، وقد تلقى هذا فقهه عن إبراهيم النخعي، وكلاهما من مشيخة فقهاء الرأي في مقابل فقهاء الحديث والأثر.
وإن الذي يتصفح ما كتبه تلاميذ أبي حنيفة المباشرون. يرى أن الواحد يذكر رأي الإمام في المسائل التي يتناولها، وأنه يذكر مع ذلك شيوخه الذين أخذ عنهم، وكثيرًا جدًّا ما يكون هؤلاء هم: حماد بن أبي سليمان، ثم شيخه إبراهيم النخعي اللذين ذكرناهما آنفًا، واللذين يذكرهما محمد بن الحسن الشيباني في كتابه «الآثار» مثلًا.
وليس معنى هذا وذاك، أنه لم يأخذ في الفقه إلا عن حماد بخاصة، أو عن فقهاء أهل الرأي بعامة، بل إنه من الثابت تاريخيًّا بلا ريب، أنه قد اتصل كثيرًا بفقهاء ذوي نزعات مختلفة، وربما أفاد من غير قليل منهم في تكوين آرائه وبناء مذهبه.
جلوسه للتعليم
هكذا اتجه أبو حنيفة للفقه، وهكذا جَدَّ في طلبه عن شيوخه المبرزين، فمتى رأى نفسه أهلًا لأن يكون أستاذًا له حلقة خاصة به؟ ومتى كان ذلك؟ ذكرنا من قبل ونحن نتكلم عن اتجاهه للفقه، أنه اتصل بحماد بن أبي سليمان يأخذ عنه الفقه، وأنه ظل مصاحبًا له حتى مات. والآن نتكلم عن كيف جلس للتعليم بعد وفاة شيخه، وكيف خلفه حقًّا بعد أن لحق بربه.
فما هو إلا أن خرج حتى وردت عليَّ مسائل لم أسمعها منه، فكنت أجيب وأكتب جوابي، فغاب شهرين، ثم قدم، فعرضت عليه المسائل، وكانت نحوًا من ستين مسألة، فوافقني في أربعين منها وخالفني في عشرين، فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت، فلم أفارقه حتى مات.»
ويروي الخطيب البغدادي أيضًا بعد ذلك، أن أبا حنيفة قال: قدمت البصرة فظننت أني لا أُسأل عن شيءٍ إلا أجبت فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ألا أفارق حمادًا حتى يموت، فصحبته ثماني عشرة سنة.
هكذا، رأينا أبا حنيفة يرى حينًا أنه صار أهلًا للإجابة عن كل ما قد يُوَجَّه إليه من سؤال في شريعة الله ورسوله، وتنازعه نفسه حينًا أن يعتزل شيخه، ويستقلَّ بحلقة يكون شيخها وإمامها؛ ولكنه لا يلبث أن يعرف أنه لا زال في حاجة لشيخه، وأن من الخير أن يتأنَّى ولا يتعجل الأيام التي يكون فيها إمامًا بلا منازع.
ثم تمر الأيام، ويموت شيخه حماد رضي الله عنه عام ١١٩ﻫ، وحينئذٍ لا يرى أصحابه وتلاميذه غير أبي حنيفة أهلًا للجلوس مكان الشيخ، فيقبل كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
ثم جاء بعدهم كثير غيرهم، أمثال: أبو يوسف، وزفر بن الهذيل، وأبو بكر بن الهزلي، والوليد بن أبَان، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وداود الطائي، ومحمد بن الحسن الشيباني، ثم كان أن جعل أمره يزداد علوًا، وكثر أصحابه حتى كانت حلقته أعظم حلقة في المسجد، وصار هو أوسعهم في الجواب، ولم يزل كذلك حتى استحكم أمره، واحتاج إليه الأمراء، وذكره الخلفاء.
محنته
على أن هذه المنزلة الرفيعة التي بلغها أبو حنيفة في العلم، والتي جعلت منه إمامًا في الفقه، لم تشفع له عند الأمويين، كما لم تشفع له من بعدُ عند العباسيين؛ فقد ناله من هاتين الأسرتين والدولتين أذًى كثير. وهذا شأن العلماء ذوي الخُلق والصلابة في الحق في كل عصر، العلماء الذين لا تلين قناتهم لكل غامز، ولا يسيرون في ركاب كل صاحب سلطان، كما نرى اليوم.
هذا في زمن بني أمية، وكذلك كان الأمر في زمن العباسيين، وفي أيام أبي جعفر المنصور نفسه، هذا الخليفة الذي أُعجب — كما رأينا — بعلم الإمام وأظهر له عرفانه بقدره.
ولعل من دلائل هذا الذي نرى، قولة الخليفة أبي جعفر العباسي له، وهو يجادله أو ينازله: أترغب عما نحن فيه! هذا فضلًا، عما عُرف به من الورع ويسر الحال إلى درجة القدرة على صلة إخوانه وأصحابه بالمال الكثير، فلا حاجة له إذًا لعون ذوي السلطان في أمرٍ يلابسه كثير من الشبهات.
أخلاقه وسجاياه
تطيل كتب التاريخ وكتب «المناقب»، وبخاصة هذه الأخيرة، في الثناء على الإمام أبي حنيفة، وفي بيان ما فُطر عليه من السجايا الفاضلة، وما أخذ به نفسه من الأخلاق الحميدة، فهو ورع عظيم الخشية لله، وهو صبور على ما يَلقى من الأذى في ذات الله، وهو صُلب في الحق يستهين بكل ما يلقى في سبيله، وهو عظيم البر بوالديه وأستاذه، وهو شديد العناية بأصحابه وتلاميذه، وعظيم في مواساتهم وصِلَتهم، وهو فطن وألمعي في ذكائه، وهو … إلى آخر ما يذكرون، حتى لتكاد تتمثله أكمل الناس في زمنه أو غير زمنه، حاشا رسول الله ﷺ وأصحابه رضوان الله عليهم.
ونحن هنا، لا نجد ضروريًّا أن نستقصي كل ما ذكره في هذه النواحي، ولا نجدنا في حاجة لتحقيق كل ما جاءوا به؛ لنعلم مداه من الصدق والدقة وتحري ما كان واقعًا فعلًا.
- (١)
صلته بأصحابه وتلاميذه ومواساته لهم.
- (٢)
ورعه وخشيته لله.
- (٣)
صلابته في الحق، أو فيما يعتقد أنه حق.
فعن صلته بتلاميذه، نرى كل من كتبوا عنه يُجمعون على أنه كان شديد الكرم، حسن المواساة لإخوانه، وقد قدمنا صنيعه في شراء حوائج الأشياخ المحدِّثين وأقواتهم وكسوتهم سنة بعد سنة. وأشرنا فيما سبق أيضًا، ونحن نتحدث عن جلوسه للتعليم، إلى حسن مواساته لإخوانه، وفي هذا يقول المكي في مناقبه: «وأسبغ على كل ضعيف منهم، وأهدى إلى كل موسر.» كما يقول في موضع آخر: «وكان … معروفًا بالإفضال على كل من يطيف به.»
وهذ خُلق يرجع، فيما نعتقد، إلى ما كان من صلة وثيقة بين علم أبي حنيفة وعمله؛ فالعالم الحق بدين الله وشريعته يرى في العلم لذة لا تدانيها لذة المال، كما يرى في بذله من جاهه وماله لإخوانه فضلًا لا يدانيه أي فضل، وهكذا كان أبو حنيفة رضوان الله عليه.
وعن ورعه وخشيته الله تعالى، فلاحظ أولًا أن الأصول التي لا بدَّ للفقيه من الرجوع إليها معروفة؛ ومن هذه الأصول اثنان نَقْليَّان؛ وهما: الكتاب والسنة. ومع هذا لا بدَّ للفقيه من استعمال عقله غاية الجهد، ليصح له أن يوصف بأنه فقيه من أهل الاجتهاد.
ثم هناك مسائل — وما أكثرها — تُحيِّر الفقيه في إيجاد حلول فقهية لها، ومن ثَمَّ، فهو في حاجة ماسَّة إلى عون الله وحسن توفيقه للحق.
ومما يجعل الإنسان حَرِيًّا بهذا العون الإلهي، أن يكون قلبه عامرًا بالله وخشيته وتقواه، بعيدًا كل البعد عن المعاصي ومظانِّها، مراقبًا لله في سره وعلنه؛ أي أن يكون ورِعًا؛ فإن القلب متى كان فارغًا من الاشتغال بما لا ينبغي، كان مستعدًّا لقبول فيض الله وعلمه كما يقول المتصوفة؛ ولهذا نراهم يجعلون ذلك طريقًا للوصول للمعرفة والعلم الحقيقيين.
وقد كان أبو حنيفة وافر الحظ من ذلك كله، حتى لو بالغنا في الحذر من إفراط أصحاب المناقب وأمثالهم؛ فإن المؤرخين يكادون يتفقون على أنه كان حسن الليل يقطعه بالصلاة وقراءة القرآن، حتى ليقول يحيى بن أيوب الزاهد: كان أبو حنيفة لا ينام الليل. كما يقول عنه أبو الجُوَيرية: لقد صحبته أشهرًا فما منها ليلة وضع فيها جنبه: وبلغ من خوفه لله تعالى وخشيته له أنه قام ليلة بهذه الآية: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أدْهَى وَأمَرُّ يرددها ويبكي ويتضرع؛ ولهذا يقول عبد الله بن المبارك: «ما رأيت أحدًا أورع من أبي حنيفة، وقد جُرِّب بالسياط والأموال.»
وقدَّمنا أنه حين باع شريكٌ له متاعًا، ولم يُبيِّن للمشتري عيب ثوب معين منه نسيانًا، ثم لم يعلم بعدُ لمن باعه، تصدَّق بالثمن كله، حتى لا يدخل شيءٌ فيه شبهة في ذمته.
أما عن صلابته في الحق، أو فيما يرى أنه حق، فنرى هذا الخلق ينبع أيضًا من العلم الحق الذي تحقق به الإمام، فالعالم الذي يطلب الحق لذاته. يرى نفسه سعيدًا متى هُدِي إليه، ومن هنا يستمسك به استمساكًا شديدًا، ولا يبالي في ذلك غضب السلطان وأصحاب السلطان، ويتحمل في هذا السبيل كل ما يلقى من عنتٍ وأذًى وبلاء؛ لأنه يؤثِر رضا الله عنه في كل ما يأتي ويذر.
ألمعيته وفطنته
وأخيرًا كان أبو حنيفة ذكيًّا ألمعيًّا فطنًا، وهذه سجيةٌ فُطِر عليها، لا خُلُق اكتسبه، وهي سجية كانت من العوامل الفعالة فيما بلغه من علمٍ صار فيه إمامًا في عصره، وإلى يومنا هذا، بعكس الأخلاق التي ذكرناها من قبل؛ فقد كانت نتيجةً لهذا العلم وتحققه به.
- (١) الحادثة الأولى يرويها يحيى بن معين فيقول: دخل الخوارج مسجد الكوفة، وأبو حنيفة وأصحابه جلوس، فقال أبو حنيفة (لأصحابه): لا تبرحوا، فجاءوا حتى وقفوا عليهم، فقالوا لهم: ما أنتم؟ فقال أبو حنيفة: نحن مستجيرون: فقال أمير الخوارج: دعوهم وأبلِغوهم مأمنهم.٢٩
- (٢) والثانية: كانت مناظرة بين أبي حنيفة وبين الضحاك الشاري، وكان من الخوارج أيضًا؛ فقد قدم الكوفة، ولقي أبا حنيفة وقال له: تُبْ. فقال: ممَّ أتوب؟ قال: من قولك بتجويز الحكَمَين. فدعاه للمناظرة؛ ولما أقبل الشاري، قال أبو حنيفة: فإن اختلفنا في شيء مما تناظرنا فيه، فمن بيني يحكم وبينك؟ قال الضحاك: اجعل أنت من شئت. فقال أبو حنيفة لرجل من أصحاب الضحاك: اقعد فاحكم بيننا فيما نختلف فيه إن اختلفنا. ثم قال للضحاك: أترضى بهذا بيني وبينك؟ قال: نعم. فقال أبو حنيفة: فأنت قد جوَّزت التحكيم! فانقطع الضحاك.٣٠
- (٣) وأما الثالثة فقد دخلها عنصر السياسة، وبهذا العنصر الذي فطن له أبو حنيفة انتصر على خصمه، ويرويها أبو يوسف.٣١ فيقول: دعا المنصور أبا حنيفة، فقال الربيع حاجب الخليفة وكان يعادي الإمام: يا أمير المؤمنين! هذا أبو حنيفة يخالف جدك؛ كان عبد الله بن عباس يقول: «إذا حلف على اليمين ثم استثنى بعد ذلك بيوم أو يومين جاز الاستثناء.» وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاستثناء إلا متصلًا باليمين! فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين! إن الربيع يزعم أن ليس لك في رقاب جندك بيعة، قال: وكيف؟ قال: يحلفون لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون، فتبطل أيمانهم. فضحك المنصور وقال: يا ربيع! لا تعرض لأبي حنيفة!
- (٤) والرابعة يرويها ابن شُبْرُمة الفقيه.٣٢ فيقول: كنت شديد الإزراء على أبي حنيفة (وهذه حالة تُرى كثيرًا بين الزملاء المتعاصرين) فحضر الموسم وكنت حاجًا يومئذٍ، فاجتمع عليه قوم يسألونه، فوقفت من حيث لا يعلم من أنا، فجاءه رجل خراساني، فقال: يا أبا حنيفة، قصدتك أسألك عن أمرٍ قد أهمَّني وأعجزني. قال: ما هو؟ قال: لي ولد ليس لي غيره، فإن زوَّجته طلَّق وإن سرَّيته أعتق، وقد عجزت عن هذا، فهل من حِلَّة؟ فقال له للوقت: اشترِ لنفسك الجارية التي يرضاها هو ثم زوِّجها منه؛ فإن طلَّق رجعت مملوكتك إليك، وإن أعتق أعتق ما لا يملك. وهنا يقول ابن شُبْرُمة: فعلمت أن الرجل فقيه، فمن يومئذٍ كففت عن ذكره إلا بخير.
- (٥)
وأخيرًا، هذه حادثة تكشف لنا أيضًا عن فطنته لما يراد منه، وسرعة خاطرة في التخلص، وقد وقعت بينه وبين فقيه معاصر، وكان بينهما ما يكون عادةً بين المتعاصرين الزملاء في العمل، وهو محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى الفقيه، قاضي الكوفة، المتوفى عام ١٤٨ﻫ وهو على القضاء.
ويروي هذه الحادثة يوسف بن خالد السَّمتي في حديث طويل، يذكر فيه قدومه على أبي حنيفة من البصرة، إلى أن يقول:٣٣ خرجنا مع أبي حنيفة في نزهة إلى ناحية بالكوفة، وأمسينا فرجعنا، فإذا نحن بابن أبي ليلى راكبًا على بغلته قد أقبل، فسلَّم علينا وساير أبا حنيفة، فمررنا ببستان فيه قوم متنزهون، ومعهم مغنِّيات وعوَّادات وغير ذلك، وهن مقبلات، حتى حاذيناهن فسكتن، فقال أبو حنيفة: قد أحسنتن، ومضينا إلى مفرق الطرق فتفرقنا.فأضمر ابن أبي ليلى في نفسه أنه وجد فرصة في أبي حنيفة؛ يقول للمغنيات: أحسنتن! فبعث إليه في شهادة عنده، فأتاه وأقام الشهادة على ما ينبغي، فما كان من ابن أبي ليلى إلا أن قال له: شهادتك ساقطة، فقال أبو حنيفة: لم؟ قال: لقولك للمغنيات أحسنتن؛ لأن هذا رضا منك بمعاصي الله تعالى. فقال أبو حنيفة: متى قلت لهن: أحسنتن، حين غنَّين أو سكتن؟ فقال لا، بل حين سكتْن. فقال: الله أكبر، إنما أردت بقولي: أحسنتن، في السكوت، لا في الغناء! فسكت ابن أبي ليلى وأثبت شهادته. ثم قرأ أبو حنيفة هذه الآية: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بِأهْلِهِ.قال: فكان ابن أبي ليلى يحذر أبا حنيفة بعد ذلك حذرًا شديدًا، وكان إذا وقعت له مسائل غلاظ شداد دَسَّ بها إلى أبي حنيفة، فكان يفطنُ لها ويقول:
وإذا تكونُ عظيمةٌ أُدْعَى لهاوإذا يُحاسٌ الحَيسٌ يُدعى جُندُب
وهذه الخلال التي اجتمعت له، كانت حَرِيَّة حقًّا أن تجعل منه عالمًا فذًّا، ومفكرًا سليم التفكير، وطالبًا للحق لا يعدوه إلى غيره، وهكذا كان رضوان الله عليه. وقد بلغ من إخلاصه للعلم، ومن طلبه للحق فيما ينظر فيه، أنه لم يكن بالرجل الذي يُفتن برأيه فلا يرى الحق إلا فيه، فيعمل على أن يفرضه على غيره فرضًا. وقد عبَّر هو نفسه عن هذا المعنى، بهذه القولة المأثورة عنه، وهي: «قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا.»
علينا بعد ذلك أن نتكلم عن طريقته وفقهه، لنعرف إن كان له مذهب خاصٌّ واضح للعالم، وماذا يقوم عليه هذا المذهب إن كان.