أثر أبي حنيفة ومآل مذهبه من بعده
قوة هذا الأثر
لا تزال كلمة الإمام الشافعي خالدة على الزمان، ولها دويُّها دائمًا في الأسماع، وهي: «الناس عيال على خمسة؛ من أراد أن يتبحَّر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق. ومن أراد أن يتبحَّر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة. ومن أراد أن يتبحَّر في الشعر فهو عيال على زهير. ومن أراد أن يتبحَّر في التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان. ومن أراد أن يتبحَّر في النحو فهو عيال على الكسائي.» ثم لا زلنا نذكر هذه الكلمة الأخرى أيضًا: «من أراد أن يعرف الفقه، فليلزم أبا حنيفة وأصحابه؛ فإن الناس كلهم عيال عليه في الفقه.»
وقد يرى البعض أن في هذا مبالغة من الشافعي في تقدير أبي حنيفة وفقهه وأثره على من جاءوا بعده ولكن يبقى مع ذلك أنه يعبِّر عن الواقع إلى حد كبير؛ فإن أثر أبي حنيفة على تلاميذه المباشرين — وما أكثرهم! — وعلى من تلاهم من الفقهاء، وعلى كل من جاءوا بعدهم حتى اليوم، أثر واضح غير منكور. وهذا الأثر نلمسه من أقوال تلاميذه أنفسهم التي أُثِرت عنهم في هذه الناحية، ثم نلمسه بالرجوع إلى تراثهم الفقهي الذي وصلنا عنهم، ثم نلمسه في التراث الذي وصلنا عن الفقهاء المتأخرين عنهم في الزمن.
أثره في أبي يوسف
يقول أبو حنيفة: إذا غنم جند من المسلمين غنيمة في أرض العدو فلا يقتسمونها حتى يخرجوها إلى دار الإسلام ويحرزوها. وقال الأوزاعي: لم يقفُل رسول الله من غزوة أصاب فيها مغنمًا إلا خمَّسه وقسمه قبل أن يقفُل؛ ومن ذلك غزوة بني المصطلق، وهوازن، ويوم حُنين، ويوم خيبر.
ثم لم يزل المسلمون على ذلك بعده، في خلافة عمر بن الخطاب وخلافة عثمان رضي الله عنهما في البر والبحر، ثم هلمَّ جرًّا، فلم يخرج جيش منهم من أرض الروم إلا بعدما يفرغون من قسم غنائمهم.
وبعد أن ذكر أبو يوسف هذين الرأيين المتعارضين، نراه يردُّ على استدلال الأوزاعي بقوله: إن الرسول ﷺ في غزوة بني المصطلق افتتح بلادهم وظهر عليهم فصارت بلادهم دار إسلام، حتى لقد بعث إليهم من يأخذ صدقاتهم وهو الوليد بن عقبة (كما رُوي). وعلى هذه الحال كانت خيبر حين افتتحها المسلمون وعامل أهلها على نخيلهم، وكذلك الأمر في حُنين وهوازن على أنه لم يقسم في حنين إلا بعد منصرفه عن الطائف.
ثم يقول: فإذا ظهر الإمام على دار وأثخن (أي: أوهن وأضعف) أهلها، وجرى حكمه عليها، فلا بأس أن يقسم الغنيمة فيها قبل أن يخرج، وهذا قول أبي حنيفة، رضي الله عنه أيضًا. وإن كان مُغِيرًا فيها، ولم يظهر عليها، ولم يجرِ حكمه فيها، فإنا نكره أن يقسم فيها غنيمة أو فيئًا. وذلك، من قِبل أنه لم يحرزه، ومن قِبل أنه لو دخل جيش من جيوش المسلمين مددًا لهم شركوهم فيما استولوا عليه سابقًا، ومن قِبل أن المشركين لو استنقذوا ما في أيديهم ثم غنمه جيش آخر من المسلمين بعد ذلك لم يُرَدَّ على الأولين منه شيء.
نعرض أخيرًا في هذه الناحية، ناحية تأثر أبي يوسف، في أكثر آرائه بإمامه، إلى مسألتين نرى فائدة كبيرة هذه الأيام في ذكرهما، هما مسألة نصيب المرأة أو الرجل من أهل الذمة من الغنيمة إذا اشتركا في بعض الأعمال الحربية، فالأولى تُبيِّن لنا نظرة الإسلام للمرأة، وتكشف عن مشاركتها في كثير من الأعمال للرجل؛ والثانية تُظهرنا على مقدار سماحة الإسلام مع أهل الذمة، وتسويته إياهم بالمسلمين في أن لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات.
ويُعقِّب أبو يوسف على هذا بقوله: ما كنت أحسب أحدًا يعقل الفقه يجهل هذا! ما نعلم أن رسول الله ﷺ أسهم للنساء في شيء من غزوه، ثم يروي أن ابن عباس رضي الله عنهما كتب إلى نجدة الخارجي جوابًا عن سؤال له عن حضور النساء الحرب مع الرسول: كان النساء يغزون مع رسول الله ﷺ، وكان يرضخ لهن من الغنيمة، ولم يكن يضرب لهن بسهم.
ويقول أبو يوسف ردًّا على هذا: ما كنت أحسب أحدًا من أهل العلم يجهل هذا ولا يشك! ويروي بعد ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: استعان رسول الله ﷺ بيهود قينقاع، فرضخ لهم ولم يُسهِم. ثم يقول أبو يوسف: والحديث في هذا مشهور، والسنة فيه معروفة.
يرى أبو حنيفة أن للفارس سهمين: سهمًا لنفسه وآخر لفرسه، وللراجل سهم واحد. ويرى الأوزاعي أن رسول الله أسهم للفرس بسهمين ولصاحبه بسهم، وأن المسلمين أخذوا بذلك بعده إلى اليوم لا يختلفون فيه.
ويقول أبو يوسف: إن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يكره أن تُفضل بهيمة على رجل مسلم، ويجعل سهمها في القَسم أكثر من قسمه! ومع هذا الذي يشعر بأنه مع إمامه، فإنه يقول بعده: بلغنا رسول الله ﷺ، عن غيره من أصحابه، أنه أسهم للفارس بثلاثة أسهم وللراجل بسهم، ثم ينتهي بقوله: وبهذا نأخذ.
- (أ)
فساد بيع عبد مثلًا على أن يعتقه المشتري، أو يبيعه، أو يهبه إلى فلان.
- (ب)
عدم جواز أن يبيع الرجل على ابنه وهو كبير دارًا أو متاعًا له، من غير حاجة ولا عذر.
- (جـ)
إذا باع رجل متاعًا لآخر وهو حاضر، فسكت، كان ذلك البيع غير جائز عليه ولا يعتبر سكوته إقرارًا بالبيع ورضًا به.
- (د)
إذا استهلك الرجل مالًا لولده، وولده كبير والأب غني، يكون دينًا عليه.
- (هـ)
لا شفعة لأحد في جزء أخذته امرأة صداقًا لها.
- (و)
إذا اشترى رجل دارًا وبنى فيها بناء ثم جاء الشفيع يطلبها بالشفعة وحكم له بها، يأخذ الشفيع الدار ويأخذ صاحب البناء الأنقاض.
- (ز)
إذا كانت الشفعة ليتيم، فإن لوصيه أخذها عنه، وإن لم يكن له وصي يكون للصبي أخذها متى بلغ، فإن لم يطلب الوصي الشفعة بعد علمه فليس لليتيم طلبها متى أدرك وبلغ.
- (ﺣ)
إذا صالح الرجل الرجل، أو باع بيعًا، أو أقرَّ بدين، فأقام البينة على أن الطالب أكرهه على ذلك، كان ذلك كله جائزًا، ولا تقبل البيِّنة على أنه أكرهه.
ففي هذه المسائل، وكثير جدًّا غيرها، يتبع أبو يوسف آراء إمامه أبي حنيفة؛ ولهذا نجده بعد عرض مذهبه يقول: وبه نأخذ، ثم يعرض بعد ذلك رأي محمد عبد الرحمن بن أبي ليلى.
أثره في محمد بن الحسن
- (أ)
يقول إبراهيم النخعي بأن شهادة النساء مع الرجال جائزة في كل شيء ما عدا الحدود، ويقول محمد: ما خلا الحدود والقصاص، وهو قول أبي حنيفة.
- (ب)
يرى القاضي شريح أن أربعة لا تجوز شهادة بعضهم لبعض؛ المرأة لزوجها والزوج لامرأته، والأب لابنه والابن لأبيه، والشريك لشريكه، والمحدود حدًّا في قذف. ويقول محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة، إلا أنَّا نقول: لا تجوز شهادة الشريك لشريكه في غير شركتهما.
- (جـ)
يرى إبراهيم النخعي أن الزوج وزوجته بمنزلة القرابة، أيهما وهب لصاحبه ليس له أن يرجع في هبته، ويقول محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة.
- (د)
يرى أبو حنيفة أنه لا يجوز أن يبيع الإنسان ما اشتراه ولم يقبضه، إلا في العقار فله بيعه قبل قبضه لأنه لا يتحول عن موضعه، ويقول محمد: وهذا عندنا لا يجوز، وهو كغيره من الأشياء.
- (هـ)
ويرى إبراهيم أنه يكره أن يرد المقترض ما اقترضه مع شيء من الزيادة. ويقول محمد: ولسنا نأخذ بهذا، لا بأس بهذا إن لم يكن شرطًا اشترطه عليه، فإن كان شرطًا اشترطه فلا خير فيه، وهو قول أبي حنيفة.
- (و)
ويرى أبو حنيفة ومحمد مثله أن للوصي أن يصنع بمال اليتيم ما يراه خيرًا له، فله أن يودعه، أو يتَّجر به، أو يدفعه لآخر مضاربة.
- (ز)
وكذلك يرى محمد مع إمامه أنه ليس في مال اليتيم زكاة.
- (ﺣ)
ويخالفه فيما ذهب إليه من عدم تجويز عقد إعطاء المالك أرضه مزارعة لآخر بنسبة معلومة من الناتج منها، ويقول: لا نرى بذلك بأسًا.
- (ط)
وإذا أصاب العدو لبعض أموال المسلمين، ثم انتصر هؤلاء عليه، فإن وجد صاحب المال ماله قبل قسمة الغنيمة كان أحق به بعينه، وإن وجده بعد القسمة كان أحق بقيمته. قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة.
فضل الصاحبين على المذهب
هكذا كان لأبي حنيفة فضل على صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن في تكوين آرائهما، وفي طريقة استنباط هذه الآراء والأحكام الفقهية، مثلهما في ذلك مثل سائر تلاميذه وما أكثرهم! ولكن كان لكل منهما أيضًا فضل على المذهب وصاحبه من نواح كثيرة؛ فهما اللذان وطَّئا للمذهب ونشراه، وذلك بما ألَّف كل منهما من كتب جمعت آراء الإمام وأذاعتها بين الجميع شرقًا وغربًا.
ومن الخير أن نُلقي شيئًا من الضوء على هذا الحكم لنعلم مقدار صدقه، ولنتعرف أيضًا أسبابه، وهو حكم، وإن كان منصبًّا فيما نقلناه آنفًا على أبي يوسف وحده؛ إلا أنه يتناول كذلك محمد بن الحسن.
إننا لا نعرف عن أبي حنيفة كتابًا كتبه في الفقه، ولكن مذهبه مع هذا خلد على الزمن، ولم يندثر كما اندثرت مذاهب كثيرة أخرى، وذلك بفضل تلاميذه وأتباعه، وخاصة صاحبيه: أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، فبفضل هؤلاء التلاميذ والأتباع دوِّن المذهب في كتب تعزُّ على الإحصاء، وهذه الكتب هي التي حفظت لنا أقوال صاحبه وآراءه وأصوله.
ومن هذه الكتب التي ذكرنا منها الكثير فيما سبق من بحوث في هذا الكتاب ومن الأخرى التي حفظ لنا ابن النديم أسماءها، نرى أن أبا يوسف هو حقًّا صاحب الفضل الأول في نشر مذهب إمامه أبي حنيفة، كما نرى أن هذا حكم يستند إلى أسباب صحيحة ملموسة بين أيدينا.
أما محمد بن الحسن، فهو الذي وصلت إلينا مؤلفاته كاملة، هذه المؤلفات التي تُعتبر المراجع الأصلية الأولى للمذهب، وقد اشتغل بها الفقهاء فيما بعدُ شرحًا وتعليقًا، وأهم هذه الكتب هي: الأصل، والجامع الكبير، والجامع الصغير، والسير الكبير، والسير الصغير، والزيادات.
وهذه الكتب نجدها مجموعة في كتاب «الكافي» للحاكم الشهيد أبي الفضل المروزي المتوفى عام ٣٤٤ﻫ، بعد أن حذف المكرر من المسائل فيها، ثم عُني شمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي، وهو من رجال القرن الخامس، بشرح هذا الكتاب الضخم في كتابه المشهور «المبسوط» وهو في ثلاثين جزءًا، فصار الكتاب بشرحه أهم الكتب الأصلية في المذهب.
- (أ)
ازداد المذهب قوة على قوته بما دخله في أصوله من الأحاديث التي اعتمدها كل من أبي يوسف ومحمد، كما كان من شأن ذلك كسب أنصار له من المحدثين والفقهاء الذين تغلب عليهم نزعة أهل الحديث.
- (ب)
كان من اتصال كل من الصاحبين بالإمام مالك وفقه أهل المدينة، أن حصل ما قد يكون لنا أن نسميه «عملية تطعيم» بين فقه أهل الرأي بالكوفة وبغداد والعراق بعامة، وبين فقه أهل الحجاز، إذ يُعتبر هذا العمل حلقة اتصال بين الجهتين المتقابلتين، وفي هذا خير لكل منهما وللفقه بصفة عامة.
ومع ذلك كله، فقد أفاد المذهب من أبي يوسف بخاصة من ناحية أخرى، نعني ناحية القضاء الذي وليَ أمره زمنًا طويلًا. فإن الفقيه النظري يعمل على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها التي يراها ويعتمدها أصولًا للفقه حسب مذهبه، ولكن القاضي تعرض عليه الحياة ومشاكلها العملية، فتظهر له جوانب لا يفطن إليها من يقتصر في بحثه على النظر وحده، كما لا يفطن إليها كذلك المفتي الذي يستفتي في هذه المسألة أو تلك.
ومن ثَمَّ، كان القضاء مغذيًا تمامًا للفقه، ويمده بحلول عملية لمشاكل الحياة، وكان لعمل القاضي أهمية كبيرة في جعل الفقه ذا حيوية خصبة، وكانت آراؤه أجدر بالتقدير والعمل بها في باب القضاء من آراء من ينظر في المسائل وهو محصور في غرفته أو في المكان الذي يجلس للتعليم أو الإفتاء فيه.
فضل غيرهما
هذا، ومما لا ريب فيه أن «المذهب» أفاد أيضًا من عمل التلاميذ والأتباع الآخرين غير الصاحبين، ولكنا خصصنا هذين بالذكر لأنهما كانا أشهر تلاميذ الإمام، ولأنهما كانا صاحبَي الفضل الأول على المذهب وتدوينه ونشره.
ومن باب التمثيل للتلاميذ والأتباع الآخرين، نذكر زُفَر بن الهُذَيل بن قيس الكوفي المتوفى عام ١٥٨ﻫ، فقد كان في أول أمره من أصحاب الحديث، ثم غلب عليه «الرأي» لصلته بإمامه، ومهر في القياس حتى صار أقيَس تلامذة الإمام وأصحابه، ومن المعروف أن القياس مصدر خصب لحيوية الفقه ونموه.
انتشار المذهب وتغيره
وبفضل أولئك التلاميذ والأتباع، أخذ مذهب أبي حنيفة في الانتشار في العراق أولًا، إذ كان هذا القطر الكبير مهده ومهد رجاله، وكان هذا المذهب باعتماده على الرأي والقياس — حين لا تسعف النصوص الصحيحة — أقدر على حل المشاكل التي تعرض في الحياة العملية، وبخاصة أمور الزراعة والتجارة وسائر المعاملات، كما أخذ في الوقت نفسه في التغير بعض الشيء، وتلك طبيعة الحياة، وكان هذا التغير وليد عوامل مختلفة.
ونشير من هذه العوامل إلى ظهور أحاديث صحَّت عند هؤلاء الرجال، فكان طبيعيًّا أن يرجعوا إليها تاركين آراء إمامهم، وقد كان هذا صنيع الإمام نفسه حين يصح حديث عنه يعارض رأيًا سبق أن رآه قبل أن يعرف هذا الحديث، وقد عرضنا لشيء من هذا من قبل، وكان من ذلك أن ضاقت منطقة الأخذ بالقياس، وأن ضاقت مسافة الخلف بين رجال المذهب وبين رجال الحديث وفقه الحديث، حين قوي الاتصال بين هؤلاء وأولئك جميعًا.