خاتمة البحث ونتائجه

وبعدُ، هذا هو الإمام أبو حنيفة في عصره وبيئته، وفي نشأته وحياته وسيرته، وفي ثقافته واتجاهه للفقه عن تروٍّ وقصد واستعداد فطريٍّ له، وتلك هي طريقته ومذهبه في الفقه، هذا المذهب الذي خلد إلى اليوم، والذي يتعبد به عشرات الملايين من المسلمين في جنبات العالم وأقطاره المختلفة.

وقد وصلنا من دراسة العصر الذي كان يعي فيه، إلى أن الفقهاء لم يكونوا يعيشون على هامش الحياة كما نعيش اليوم، بل كانوا يعرفون من الخلفاء والولاة وينكرون، وكان من هؤلاء من يقبل النصح والتوجيه، ومن يصدُّ عنه ويضيق به، ومن ثَمَّ، رأينا من الفقهاء عددًا غير قليل أوذي في سبيل بيان الحق ورفع الصوت به، وسواء في ذلك عهد الدولة الأموية، وعهد الدولة العباسية.

وعرفنا أيضًا أنه لم يكن في ذلك العصر ما عرفنا فيما بعدُ من الإجازات والدرجات العلمية تُمنح للمستحقين لها، ولكن لم يكن الأمر في هذه الناحية فوضى بلا ضابط؛ فهذا أبو حنيفة نفسه لم يجلس للتعليم بعد وفاة شيخه إبراهيم النخعي إلا بعد أن أجمع على ذلك أصحابه وصاروا يختلفون إليه للإفادة منه، ثم لم يزل أمره في صعود حتى احتاج إليه الأمراء وذكره الخلفاء وأجمع الكل على إمامته في الفقه.١
ثم رأينا الإمام مالك بن أنس يقول: «وليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفُتيا جلس، حتى يشاوَر فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد، فإن رآه أهلًا لذلك جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني موضع لذلك.»٢
ومسألة استحقاق أبي حنيفة للمذهب الذي يُنسب إليه، من المسائل التي كانت موضع جدل بين بعض الباحثين من المسلمين ومن المستشرقين، وقد وصلنا إلى أنه كان له مذهب خاص يتميز ببعض أصوله التي قال بها وبنى عليها طريقته في الفقه واستنباط أحكامه وحلِّ مشاكله، وذلك رغم ما يزعمه بعض المستشرقين ومن قلَّدهم في هذا من الباحثين المسلمين المعاصرين.٣

وقديما اتهم أبو حنيفة بكثرة قوله «بالرأي» وإعراضه عن النصوص من أحاديث الرسول ، وقد وصلنا إلى براءته من هذه التهمة، وذلك بعد البحث والتنقيب والموازنة بين الآراء والأقوال التي اختلفت في هذه المسألة اختلافًا شديدًا؛ فإن كتب أصحابه، وعماد الكثير منها آراؤه الخاصة التي أثروها عنه، مملوءة بالمسائل التي تركوا العمل فيها بالقياس وأخذوا بالآثار الواردة فيها، وبعض هذه الآثار كانت عن الصحابة رضوان الله عليهم، لا أحاديث للرسول نفسه .

والأمر أنه كان كما يقول أبو حنيفة نفسه: «مثَل من يطلب الحديث ولا يتفقه مثل الصيدلاني، يجمع الأدوية ولا يدري لأي داء هو حتى يجيء الطبيب، هكذا طالب الحديث لا يعرف وجه حديثه حتى يجيء الفقيه.» إذًا، غاية ما في الأمر أن أبا حنيفة كان بصيرًا بالأحاديث والآثار، وكان له أصول وقواعد في «فقه الحديث» كان يرجع إليها فيما يأخذ ويدع لسبب يقتضي هذا وذاك.٤
وقد عُنينا عناية شديدة بمسألةٍ رأينا ضرورة بحثها، ونعتقد أننا لم نُسبق إليها، وبخاصة من أحد الباحثين المعصرين، وهي مسألة «الاتجاهات العامة لفقه أبي حنيفة» فقد حاولنا أن نتعرف هذه الاتجاهات أو النزعات، وذلك بواسطة استقراء آراء الإمام في كثير من المسائل، موازنين بين هذه الآراء وبين آراء غيره من أئمة الفقه وأعلامه، ووصلنا من ذلك إلى أن جماع هذه الاتجاهات هي:
  • (أ)

    التيسير في العبادات والمعاملات.

  • (ب)

    رعاية جانب الفقير والضعيف.

  • (جـ)

    تصحيح تصرفات الإنسان بقدر الإمكان.

  • (د)

    رعاية حرية الإنسان وإنسانيته.

  • (هـ)

    رعاية سيادة الأمة ممثلة في الإمام.

وكان لا بد أن يختلف الفقهاء في ذلك العصر، عصر الاجتهاد، وقد عرفنا لِمَ كانوا يختلفون، وفيم كانوا يختلفون، مع تقدير كل منهم لرأي مخالفه، وأنهم جميعًا كانوا طلَّاب حق، وإن اختلفت بهم السُّبل والأدلة، وفي ذلك عبرة لنا وقدوة صالحة؛ فبهذا الاختلاف عن اجتهاد يتقدم الفقه، وبهذا وحده يرجع صالحًا حقًّا لحل مشاكل هذا العصر الذي نعيش فيه وكل عصر يجيء في المستقبل من الزمان.

وأخيرا رأينا مقدار أثر الإمام في أصحابه وتلاميذه وأتباعه، وفضل هؤلاء جميعًا على المذهب من ناحية أخرى، وكيف بدأ المذهب يأخذ طريقه للتطور والانتشار، حتى غدا على ما نعرف الآن قبل أن يقف به الجمود الذي مُنينا به منذ قرون، والذي نرجو ونلحُّ جاهدين أن نتخلص منه تمامًا بفضل الله تعالى.

رضي الله عن الإمام وأصحابه وتلاميذه وأتباعه، وعن سائر الأئمة الذين بينوا شريعة الله ورسوله، وقاموا على صيانتها وتثبيتها وتأييدها وأثابهم الله خير الجزاء.

١  [راجع: عصر أبي حنيفة: الفقهاء وأصحاب السلطان] مما تقدم.
٢  [راجع: عصر أبي حنيفة: الموالي والفقه] مما تقدم.
٣  [راجع: حياة أبي حنيفة وترجمته: ألمعيته وفطنته.]
٤  راجع فيما سبق: [طريقة أبي حنيفة وفقهه: دفاع بعض المحدثين.]

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤