فقدان التوازن
(١) الجرائم المؤتمتة والعدالة المؤتمتة
في ديسمبر عام ٢٠٠٥ كانت تانيا أندرسن في بيتها تتناول العشاء مع ابنتها ذات الثمانية أعوام عندما طرق بابَها طارقٌ. كان مُحضرًا قانونيًّا يحمل دعوى قضائية رفعها ضدها اتحادُ صناعة التسجيلات الأمريكية، وهي منظمة تجارية تمثل ست شركات تعمل في مجال نشر الأغاني والموسيقى تملك معًا حصة تبلغ ٩٠٪ في سوق توزيع الأغاني والموسيقى في الولايات المتحدة، وقد طالب اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية تانيا التي تسكن في ولاية أوريجون — وهي أم معيلة تعيش على إعانات العجز — بدفع ما يقرب من مليون دولار بحجة أنها خالفت القانون بتنزيلها ١٢٠٠ أغنية من أغاني الراب وغيرها من أنواع الموسيقى محمية حقوق التأليف والنشر.
كان الأمر بين تانيا واتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية قد بدأ قبل ذلك بتسعة أشهر؛ إذ أرسلت إليها شركة قانونية في لوس أنجلوس خطاب مطالبة، وذكر الخطاب أن عددًا من شركات التسجيلات قد رفعت دعوى ضدها لتعديها على حقوق التأليف والنشر، وأن بوسعها تسوية الأمر مقابل دفع مبلغ يتراوح بين ٤٠٠٠ و٥٠٠٠ دولار أمريكي، وإلا فعليها أن تواجه عواقب ما اقترفت من جُرْمٍ في حق تلك الشركات. اشتبهت تانيا أن ذلك الخطاب كان مجرد عملية احتيال، واعترضت على ما ادعاه اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية، وقالت إنها لم تقم أبدًا بتنزيل أي موسيقى أو أغانٍ، وعرضت تانيا مرارًا أن تسمح لشركات التسجيلات بالتحقق بنفسها عن طريق تفتيش القرص الصلب الموجود في جهاز الكمبيوتر الخاص بها، لكن كان اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية في كل مرة يرفض ذلك. وحدث أن اعترف لها ممثل الاتحاد أنه يعتقد أنها على الأرجح بريئة من تلك التهمة المنسوبة إليها، لكنه حذرها، وقال إنه ما إن يرفع الاتحاد دعوى قضائية حتى يتشبث بها ولا يتنازل عنها مطلقًا؛ لأن ذلك من شأنه أن يشجع الآخرين على الدفاع عن أنفسهم ضد ما تدعيه الشركات العاملة في مجال التسجيلات.
ثم عثرت تانيا على محامٍ بعد تلقيها للدعوى في ديسمبر، ونجحت هي والمحامي في إقناع القاضي بأن يُصْدِر أمرًا بإجراء فحص للقرص الصلب لكمبيوتر تانيا، وقرر الخبير الذي انتدبه اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية أن جهاز الكمبيوتر الخاص بها لم يُستخدم مطلقًا في عمليات تنزيل غير مشروعة، وبدلًا من إسقاط الدعوى زاد اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية من ضغوطه على تانيا لتقْبَل بالتسوية، وطالب بأن يُسمح لمحاميه بأخذ شهادة ابنة تانيا الصغيرة، بل لقد حاول الاتحاد الوصول إلى الطفلة مباشرة عن طريق الاتصال بالشقة، كما اتصلت امرأة مجهولة بناظرة مدرسة الطفلة مدعية زورًا أنها جدتها وأنها تسأل عن مواظبة الصغيرة على الحضور إلى المدرسة، واتصل محامو اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية بأصدقاء تانيا وأقاربها، وأخذوا يخبرونهم بأنها لصة تجمع أغاني العنف والعنصرية. كانت تانيا التي تبلغ من العمر واحدًا وأربعين عامًا تعاني من مرض مؤلم ومشكلات عاطفية، فأجبرتها تلك الضغوط على أن تتخلى عن أملها في الدخول في برنامج العودة إلى العمل، وبدلًا من ذلك التمست مزيدًا من الرعاية النفسية، وأخيرًا، وبعد عاميْن، تمكنت تانيا من تقديم عريضة دعوى لاستصدار حُكْمٍ مستعجل يُلزم اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية بأن يقدم للمحكمة إثبات ادعاءاته، وعندما عجز عن ذلك رُفضت القضية، وحاليًّا تقاضي تانيا اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية بتهمة الاحتيال والادعاء المُغْرِض.
(١-١) ستة وعشرون ألف دعوى قضائية في خمس سنوات!
إنه نوع من العدالة المؤتمتة يناسب العصر الرقمي، لكن هناك أيضًا أنواع من الجرائم المؤتمتة، فعادة ما تُهيَّأ برامج مشاركة الملفات بحيث تبدأ وتعمل تلقائيًّا، ومِنْ ثَمَّ تتبادل الملفات دون تدخل بشري. بل لعل مالك الكمبيوتر لا يدرك أن البرنامج قد هُيئ لتحميل الملفات في الخلفية.
إنه أيضًا نوع عرضة للخطأ من العدالة، فالمطابقة بين أسماء الأفراد وعناوين بروتوكول الإنترنت لا يمكن الاعتماد عليها؛ فالعديد من أجهزة الكمبيوتر الموجودة على نفس الشبكة اللاسلكية تتقاسم نفس عنوان بروتوكول الإنترنت، وموفر خدمة الإنترنت قد يبدل عناوين بروتوكول الإنترنت فيعطي هذا ما كان لذاك والعكس، فعنوان بروتوكول الإنترنت الخاص بكمبيوتر ما اليوم قد يُعطى إلى غيره فيكون الكمبيوتر الذي قام بتبادل الملفات من هذا العنوان في الأسبوع الماضي ليس هو نفس الكمبيوتر الحالي، وحتى لو كان الكمبيوتر هو نفسه المستخدم في ذلك فليس هناك طريقة لإثبات هُوِيَّة الشخص الذي كان يستخدمه في ذلك الوقت، ولعل خطأ كتابيًّا يقع عند الإبلاغ عن الواقعة.
يعلم اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية أن الأمر معيب، لكن نظرًا لحرصه على إيقاف التنزيل غير الشرعي، فإن الاتحاد يرى أنه مضطر إلى ذلك، فالأمر لا يقتصر على أنه يرى منتجاته توزع مجانًا، بل إن هذا يعرضه للمساءلة القانونية عن طريق الدعاوى القضائية التي قد يرفعها الفنانون ضده متهِمين إياه بالتقصير في حماية حقوق التأليف والنشر التي تخصهم. توضح الأمرَ إيمي وايس، النائبة الأولى لرئيس الاتحاد لشئون الاتصالات، فتقول: «عندما تستخدم شبكة لصيد الأسماك فقد تصطاد أحيانًا بعض الدلافين دون قصد، لكننا ندرك أيضًا أنه لا بد من وضع حد لهذه السرقة الإلكترونية عبر الويب.» إلى جانب تانيا أندرسن، فقد وقعت «دلافين» أخرى في شباك الاتحاد، منها عائلة من ولاية جورجيا لم تكن تملك جهاز كمبيوتر أصلًا، ومنها شخص آخر في ولاية فلوريدا مصاب بالشلل بسبب سكتة دماغية، رفع الاتحاد ضده دعوى قضائية يتهمه فيها بتحميل ملفات في ولاية ميشيجان، ومنها امرأة مسنة من ولاية ويست فيرجينيا تبلغ من العمر ٨٣ عامًا، كانت تكره شيئًا اسمه الكمبيوتر، بل واتضح فيما بعد، أنها كانت متوفاة وقت وقوع الجريمة المزعومة!
(١-٢) المخاطر الكبرى لانتهاك حقوق التأليف والنشر
سواء أكان الأمر خطأً أم لا يفضل معظم الناس أن يدفعوا مبلغ التسوية حين يصلهم خطاب المطالبة المذكور، فالرسوم القانونية لمجابهة دعوى الاتحاد تفوق مبلغ التسوية، وإن خسر الشخص المتهم القضية فتكاليف الخسارة ستكون مذهلة؛ إذ سيضطر إلى دفع تعويض لا يقل عن ٧٥٠ دولارًا أمريكيًّا عن كل أغنية تم تحميلها، ومِنْ ثَمَّ فإن كان لديه جهاز آي بود سعته ٢٠ جيجا بايت، ويتضمن ٤٠٠٠ أغنية من هذا النوع فإن أقل تعويض سيدفعه للاتحاد سيبلغ ثلاثة ملايين دولار أمريكي، وهو ما يعادل ألف ضعف ثمن شراء تلك الأغاني من موقع آي تيونز (الجيجا بايت تعادل حوالي مليار بايت).
أغنية سعرها ٧٥٠ دولارًا أمريكيًّا!
الحد الأدنى للتعويضات التي يتعين على المحكمة أن تحكم بها ضد منتهك حقوق التأليف والنشر هو ٧٥٠ دولارًا أمريكيًّا لكل مخالفة، وفي الحالات التي يتبين أن المخالف كان «متعمدًا» قد تصل التعويضات إلى ١٥٠ ألف دولار أمريكي عن كل مخالفة، أو ٦٠٠ مليون دولار لآي بود يتضمن ٤٠٠٠ أغنية. وإن نجح المتهم في إثبات أنه لم يكن على علم بتلك المخالفة فيتعين على المحكمة أن تفرض عليه تعويضًا لا يقل عن ٢٠٠ دولار أمريكي عن كل مخالفة؛ أي ٨٠٠ ألف دولار أمريكي نظير الأربعة آلاف أغنية.
العدالة بطريقة الشباك العائمة، والمكافحة المؤتمتة للجريمة، ودفع مبلغ ثلاثة ملايين دولار كحد أدنى من التعويضات مقابل هذا الكم من الأغاني على جهاز آي بود، كل هذا ما هو إلا نتيجة لسياساتٍ سُنت لعالمِ ما قبل ظهور الشبكات، وهي تصطدم بالإمكانيات الهائلة للانفجار الرقمي. خذ على سبيل المثال جهاز آي بود الذي يكلفك ثلاثة ملايين دولار. سبب هذا هو قانون حقوق التأليف والنشر الذي صدر عام ١٩٧٦، والذي ورد به حكم يسمح لأصحاب حقوق التأليف والنشر بمقاضاة منتهك تلك الحقوق للحصول على «تعويضات قانونية» حدها الأدنى ٧٥٠ دولارًا أمريكيًّا لكل مخالفة.
الأساس المنطقي الذي يقوم عليه فرض تلك التعويضات هو ضمان أن تكون العقوبة كافية لردع المخالف حتى لو كانت الأضرار الفعلية التي وقعت على صاحب حقوق التأليف والنشر صغيرة، وحجم التعويضات له عواقب مروعة في عصر النسخ الرقمي؛ وذلك لأن في كل مرة تُنسخ فيها أغنية (عن طريق التحميل أو التنزيل) يعد ذلك مخالفة منفصلة. لعل هذه الطريقة كانت تبدو منطقية حين وُضعت المعايير في مرحلة ما قبل الإنترنت في عام ١٩٧٦ حين لم يكن بوسع المرء أن ينتج سوى عدد قليل من النسخ غير المصرح بها الواحدة تلو الأخرى، لكن مبالغ التعويضات تصل إلى مبالغ فلكية حين يستطيع أحدهم أن ينزل ألف أغنية إلى كمبيوتر منزلي في غضون ساعات قليلة عبر وصلة عالية السرعة.
ومع أن الانفجار الرقمي جعل مبالغ التعويضات تصل إلى تلك الأرقام الفلكية، فقد أدى كذلك إلى تغيير أكثر أهمية: أن الجمهور صار الآن مهتمًّا تمامًا بأمر حقوق التأليف والنشر. فقبل ظهور الإنترنت، ماذا كان بوسع الشخص العادي أن يفعل حتى ينتهك حقوق التأليف والنشر؟ أكان سيصور خمسين نسخة من كتاب ثم يبيعها على ناصية الشارع؟ بالتأكيد هذا يعد انتهاكًا لحقوق التأليف والنشر، لكن هذا سيكلف المخالف جهدًا كبيرًا، والخسارة المالية الناجمة عن ذلك بالنسبة لصاحب حقوق التأليف والنشر ستكون ضئيلة.
إرسال رسالة
في أكتوبر عام ٢٠٠٧، أدينت جامي توماس — وهي أم معيلة لطفلين من ولاية مينيسوتا دخلها السنوي ٣٦ ألف دولار أمريكي — بتهمة نشر ٢٤ أغنية على شبكة تبادل ملفات تدعى كازا، وغُرِّمت مبلغ ٢٢٢ ألف دولار أمريكي: ٩٢٥٠ دولارًا أمريكيًّا لكل أغنية. تلك كانت أول دعوى قضائية في سلسلة من الدعاوى القضائية التي رفعها اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية وبلغ عددها ١٦ ألف دعوى قضائية، والتي نظرها القضاء الأمريكي. أما ما عداها فإما قَبِلَ المتهمون فيها بالتسوية، أو — كما هو الحال مع تانيا أندرسن — رُفضت الدعوى أو أسقطت، ونظرًا للتعويضات القانونية عن انتهاك حقوق التأليف والنشر كانت غرامة جامي توماس بسبب ٢٤ أغنية ستتراوح ما بين ١٨ ألف دولار و٣٫٦ مليون دولار أمريكي.
وفي مقابلة أجريت مع أحد أعضاء هيئة المحلفين صرح بأن هناك قضايا شهدت مطالبات من طرفي النزاع بتوقيع غرامات على الخصم، فبعد تلاوة الحكم قال محامي اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية: «أردنا أن نرسل رسالة مفادها أن لا تفعلوا هذا وأننا قد حذرناكم من قبل.»
وأضاف المحامي: «هذا هو ما يمكن أن يقع إذا لم تقبلوا بالتسوية.»
الحرب حول حقوق التأليف والنشر والإنترنت في تصاعد مستمر منذ أكثر من ١٥ عامًا، ودوامة التكنولوجيا المتنامية تسهل على المزيد والمزيد من الأشخاص تبادل المزيد والمزيد من المعلومات، وتقابل تلك الطفرة استجابةٌ تشريعية تسن المزيد والمزيد من القوانين التي تدخل في نطاق إنفاذ حقوق التأليف والنشر، وتغليظ العقوبات بشدة أكثر من أي وقت مضى. تحاول التشريعات مواكبة التقدم الحاصل عن طريق حظر التكنولوجيا، وأحيانًا تحظرها قبل أن تولد، وظاهرة الأمهات المعيلة التي تواجه دعاوى قضائية تقشعر منها الأبدان ليست سوى أضرار جانبية لتلك الحرب اليوم، وإذا لم نتمكن من إيجاد حل لتلك المعضلة وذلك الاشتباك فقد نجد من بين ضحايا الغد الإنترنت المفتوحة ودينامية الابتكار التي تغذي ثورة المعلومات.
(٢) القانون الأمريكي لمنع السرقة الإلكترونية يجرِّم التبادل
حتى مطلع القرن العشرين لم يكن انتهاك حقوق التأليف والنشر يُعَد قضية جنائية في الولايات المتحدة، رغم إمكانية رفع دعوى ضد المنتهك للحصول على تعويضات مدنية، وقد جُرِّم لأول مرة انتهاك حقوق التأليف والنشر بهدف الربح في عام ١٨٩٧، وحينها كان الحد الأقصى للعقوبة هو حبس سنة وغرامة قدرها ألف دولار أمريكي. ظل الأمر على ذلك حتى عام ١٩٧٦ عندما بدأ الكونجرس في سن سلسلة من القوانين غلظت العقوبات بشكل متكرر، وكان الدافع الأساسي له في ذلك هو اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية ورابطة السينما الأمريكية، وبحلول عام ١٩٩٢ كانت الإدانة في قضية انتهاك حقوق التأليف والنشر تجعل الشخص المدان يُسجن لمدة عشر سنوات وتُوقع عليه غرامات قاسية، لكن شريطة أن يكون ذلك الانتهاك «لغرض تحصيل منفعة تِجارية أو لتحقيق مكاسب مالية خاصة»، فإن انتفى الدافع التجاري لم يعد الأمر جريمة.
لكن تغير ذلك في عام ١٩٩٤.
خلال ثمانينيات القرن العشرين أصبح معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا من أوائل الجامعات التي تستخدم أعدادًا كبيرة من محطات العمل الحاسوبية المتصلة بالإنترنت والمتاحة أمام أي شخص في الحرم الجامعي، وحتى بعد مرور سنوات عدة على ذلك لم تكن مجموعات أجهزة الكمبيوتر القوية المتصلة معًا في شبكة واحدة شائعة. وفي ديسمبر ١٩٩٣ لاحظ بعض الطلاب في إحدى تلك المجموعات أن أحد أجهزة الكمبيوتر لا يستجيب، وكان قرصه الصلب يعمل بلا هوادة، وعندما فحص القائمون على محطة العمل ذلك الكمبيوتر اكتشفوا أنه كان يعمل كلوحة نشرات لخادمِ ملفاتٍ؛ أي نقطة تمركز يدور حولها كل ما يدور في جميع أنحاء شبكة الإنترنت من رفع وتنزيل للملفات. كانت معظم الملفات ألعاب كمبيوتر، وكانت هناك أيضًا بعض برامج معالجة النصوص.
ومثله مثل معظم الجامعات، يفضل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا التعامل مع الأمور من هذا القبيل داخليًّا، لكن في هذه الحالة كان الأمر معقدًا؛ فقد سأل مكتب التحقيقات الفيدرالية عن هذا الجهاز بعينه منذ بضعة أيام قبل هذه الواقعة، وكان بعض العملاء الفيدراليين يُجرون تحقيقًا مع بعض قراصنة البرمجيات في الدنمارك كانوا يحاولون استخدام أجهزة كمبيوتر معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لاقتحام أجهزة كمبيوتر دائرة الأرصاد الجوية الوطنية، ولما قام مكتب التحقيقات الفيدرالية بقياس حركة المرور على الشبكة من وإلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لاحظ وجود نشاط كبير يأتي من هذا الجهاز بالذات، لم تكن للوحة النشرات تلك علاقة بأمر هؤلاء الدنماركيين، لكن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا رأى أنه يتعين عليه أن يُطلِعَ مكتب التحقيقات الفيدرالية على ما كان يحدث، وعَزَل أحد عملاء المكتب ذلك الكمبيوتر، وقرر أن أحد طلاب معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا هو المسئول عن تشغيل لوحة النشرات.
ثم تولت وزارة العدل القضية. كانت صناعة البرمجيات تنمو على نحو سريع في عام ١٩٩٤، وكانت الإنترنت قد بدأت تسترعي اهتمام الجماهير، وهنا تحولت قوة الإنترنت إلى «القرصنة»، وقد أصدر المدعي العام في ولاية بوسطن بيانًا يدعي فيه أن لوحة النشرات لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كانت مسئولة عن وقوع خسائر مالية تفوق المليون دولار أمريكي، مضيفًا: «نحن بحاجة للرد على الثقافة التي تقول بأنه لم يتضرر أحد من هذه السرقات وأنه لا بأس بقرصنة البرمجيات.»
مما لا شك فيه أن ما حدث في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يمثل انتهاكًا لحقوق التأليف والنشر، لكن لم يكن هناك دافع تجاري، ومِنْ ثَمَّ لم تكن هناك جريمة، ومِنْ ثَمَّ لا يوجد شيء تتصرف وزارة العدل على أساسه. ربما كانت هناك أسباب لرفع دعوى مدنية، لكن الشركات التي كان الأمر يخص برمجياتها لم تكن ترغب في رفع دعوى، وبدلًا من ذلك، بعد أن قام مكتب المدعي العام في بوسطن ببحث الأمر مع رؤسائه في واشنطن، وجَّهت للطالب المذكور تهمة الاحتيال، على أساس أن أفعاله تمثل نقلًا لممتلكات مسروقة بين الولايات.
وحين عُرضت القضية على المحكمة الاتحادية الجزئية رفض القاضي ستيرنز الدعوى، واستشهد بقرار للمحكمة العليا بأن النُّسَخ المغشوشة لا تُصنَّف ضمن الممتلكات المسروقة، وانتقد ستيرنز الطالب المتهم واصفًا سلوكه بأنه «غير مسئول ومتهور»، واقترح القاضي أن يعدِّل الكونجرسُ قانونَ حقوق التأليف والنشر للسماح بالمحاكمات الجنائية في مثل هذه الحالات إذا رغب في ذلك، لكنه شدد على أن تغيير القوانين ينبغي أن يوكل إلى الكونجرس لا إلى المحاكم، وحذر أن قبول ادعاء النيابة من شأنه أن «يؤدي إلى تجريم سلوك من لا يُحصى عددهم من مستخدمي الكمبيوتر في المنازل الذين يستسلمون لإغراء نسخ ولو برنامج واحد بغرض الاستخدام الشخصي»، واستشهد بشهادة الكونجرس في مجال صناعة البرمجيات التي يعتبرها حتى أهل هذه الصناعة نتيجة غير مرغوب فيها.
وبعد ذلك بعامين رد الكونجرس بإصدار قانون منع السرقة الإلكترونية لعام ١٩٩٧، وقد وصفه أنصاره بأنه «إغلاق للثغرة» التي أظهرتها حادثة لوحة النشرات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فقد جَرَّم أي نَسْخٍ غير مصرح به لشيء تفوق قيمةُ بيعِه بالتجزئة مبلغ ١٠٠٠ دولار أمريكي، سواء أكان بدافع تجاري أم لا. أجاب هذا اقتراح القاضي ستيرنز، لكنه لم يلتفت إلى تحذيره: فمن الآن فصاعدًا إنْ أقدم أيُّ شخص على نسخ غير مصرح به في منزله — ولو كان نسخة واحدة من برنامج كمبيوتر مكلف — فإنه يعرض نفسه للحبس لمدة سنة، ولم يمضِ على ذلك سوى عاميْن حتى عاد الكونجرس فأصدر قانون ردع السرقة الرقمية وتحسين تعويضات انتهاك حقوق التأليف والنشر لعام ١٩٩٩، ويقول مؤيدو هذا القانون إن قانون منع السرقة الإلكترونية لم ينجح في وقف «القرصنة»، وأن العقوبات لا بد أن تُغلَّظ، وسار النزاع حول موضوع حقوق التأليف والنشر بكل قوة.
(٣) دوامة تقنية الند للند
حين صدر قانون منع السرقة الإلكترونية كانت تلك هي المرة الأولى التي تتسبب فيها الإنترنت في توسيع كبير لنطاق المسئولية عن انتهاك حقوق التأليف والنشر، ولن تكون تلك هي المرة الأخيرة.
في صيف عام ١٩٩٩ بدأ شون فانينج، وهو طالب في جامعة نورث إيسترن، في توزيع برنامج جديد لتبادل الملفات، وأسَّسَ هو وعَمُّه شركة في هذا المجال وسمَّياها نابستر، سهلت نابستر أمر تبادل الملفات لا سيما ملفات الأغاني والموسيقى عبر الإنترنت، وذلك على نطاق لم يسبق له مثيل من قبل قط.
وفيما يلي نُقدم شرحًا لكيفية عمل هذا النظام: لنفترض أن ماري إحدى مستخدمات خدمة نابستر، وتريد أن تنشر نسخة إلكترونية موجودة على جهاز الكمبيوتر الخاص بها لأغنية سارة مكلوكلين بعنوان «ملاك» التي كان لها صدى مدوٍّ في عام ١٩٩٩، فتخبر خدمة نابستر بذلك فتضيف نابستر في دليلها ما يلي: «أغنية ملاك لسارة مكلوكلين»، ومع هذه العبارة يظهر الرقم التعريفي لكمبيوتر ماري، والآن يمكن لأي مستخدم آخر من مستخدمي خدمة نابستر ممن يرغبون في الحصول على نسخة من تلك الأغنية أن يستعلم من دليل نابستر عن وجودها، فيعلم أنَّ لدى ماري نسخةً منها، ولنطلق على هذا المستخدم الآخر اسم بيث، وحينها يتصل كمبيوتر بيث مباشرة بكمبيوتر ماري، ثم يقوم بتنزيل الأغنية دون أي تدخل آخر من خدمة نابستر، وعمليتا الربط والتنزيل هاتان تجريان بشفافية عن طريق برنامج وضعته نابستر، وهو مثبَّت على كمبيوتر ماري وكمبيوتر بيث.
النقطة الأساسية هي أن الإعدادات السابقة لتبادل الملفات — مثل لوحة النشرات الخاصة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — كانت تُسمَّى «النظم المركزية»، حيث تجمع الملفات في كمبيوتر مركزي، ثم تعرِض على الجمهور تنزيلها، لكن في حالة نابستر اختلف الأمر؛ فلا يوجد سوى دليل مركزي يحتوي على أسماء الملفات وعناوين من لديهم تلك الملفات، أما الملفات فهي موجودة في أجهزة الكمبيوتر الخاصة بالمستخدمين، وأجهزة المستخدمين تتبادل فيما بينها تلك الملفات تبادلًا مباشرًا، ويُسمَّى هذا النوع من الأنظمة باسم معمار «الند للند».
(٣-١) شبح المسئولية الثانوية
رغم عالمية صندوق الموسيقى هذا، فإنه لم يكن يخدم صناعة الأغاني والموسيقى. لم تكن التجارب السابقة في مجال تبادل الملفات، والتي كانت عادة تتم على نطاق ضيق بين الأصدقاء، سوى مضايقات من المنظور الاقتصادي، بل إن واقعة لوحة النشرات التي تخص معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا التي هددت قانون منع السرقة الإلكترونية لم تتضمن سوى بضع مئات من المستخدمين. أما نطاق نابستر فكان مختلفًا تمامًا، حيث كان يمكن لأي شخص أن يتبادل ملفات الأغاني والموسيقى بسهولة مع مئات الآلاف من «الأصدقاء». لاحظت شركات التسجيلات هذا على الفور، وفي ديسمبر ١٩٩٩؛ أي بعد مضي بضعة أشهر فقط من ظهور نابستر، رفع اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية دعاوى قضائية ضد نابستر مطالبًا بتعويضات تتجاوز ١٠٠ مليون دولار أمريكي.
احتجت نابستر بأنها غير مسئولة عن ذلك، فنابستر نفسها لم تكن تنسخ أي ملفات، بل كل ما كانت تفعله أن تزود مستخدميها بخدمة دليلية. كيف لكَ أن تدين شركةً لمجرد أنها نشرت أماكن مواد موجودة على شبكة الإنترنت؟ أليس نشرها لهذا ممارسة لحرية التعبير؟ ولسوء حظ نابستر لم تقبل المحكمة الفيدرالية في كاليفورنيا بهذا الدفاع، وفي يوليو ٢٠٠٠ أدانت المحكمة نابسترَ بتهمة الانتهاك الثانوي لحقوق التأليف والنشر (تمكين الآخرين من الانتهاك والتربح من الانتهاك)، وبعد مُضِي عامٍ على ذلك خسرت نابستر الطعن الذي قدمته أمام الدائرة التاسعة، وحكمت المحكمة بإيقاف خدمة نابستر لتبادل الملفات.
الانتهاك الثانوي
يميز قانون حقوق التأليف والنشر بين نوعين من الانتهاك الثانوي. الأول «الانتهاك الإسهامي»؛ بمعنى توفير الأدوات التي تمكِّن الآخرين من ممارسة الانتهاك، والثاني هو «الانتهاك بالإنابة»؛ بمعنى التربح من قيام الآخرين بالانتهاك حال كون الشخص في وضع يمكنه من التحكم في ذلك الانتهاك ومع ذلك لا يمنعه، وقد حكمت المحكمة بإدانة نابستر بكلا النوعين.
نعم، ذهبت نابستر، وصارت أثرًا بعد عين، لكنها أسرت قلوب وعقول الأوساط التقنية باعتبارها دليلًا ساطعًا على قوة المعمار الذي يقوم عليه الإنترنت، فما من كمبيوتر واحد يتحكم في الشبكة، وكل كمبيوتر في هذه الشبكة يتمتع بنفس الحقوق التي تتمتع بها بقية أجهزة الكمبيوتر في أن يرسل رسائل إلى أي كمبيوتر آخر في الشبكة، وأجهزة الكمبيوتر المتصلة بشبكة الإنترنت تُسمَّى أندادًا. لم تكن فكرةُ تَصَوُّرِ الإنترنت كشبكة من أجهزة الكمبيوتر المتناظرة تتواصل فيما بينها تواصلًا مباشرًا — بدلًا من كونها شبكة من أجهزة الكمبيوتر العميلة تربط بينها خوادم مركزية — بالفكرة الجديدة، فأول توصيف تقني للإنترنت نُشر في عام ١٩٦٩، وصف بنيةَ الشبكات من حيث تفاعل أجهزة الكمبيوتر معًا كشبكة من الأنداد، ومنذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين كَثُر استخدام النظم التي تقوم على تقنية الند للند في التواصل بين أجهزة الكمبيوتر الكبيرة.
أظهرت نابستر أن نفس المبدأ ينطبق أيضًا ولو صارت أعداد الأنداد بالملايين ويقوم عليها أناس عاديون. نعم، كان استخدام نابستر لتقنية الند للند مخالفًا للقانون، لكنه أظهر إمكانات هذه الفكرة، وحدثت طفرة في البحث والتطوير في مجال الحوسبة الموزعة، وخلال عامي ٢٠٠٠ و٢٠٠١ تجاوزت استثمارات الشركات في بناء منظومات الند للند ٥٠٠ مليون دولار أمريكي. ثم تجاوزت تقنية الند للند جذورها باعتبارها معمار تقني للشبكات، لتدخل في مجالات أخرى وتصبح جزءًا من ثقافة المجتمعات والحكومات، فدخلت في المنظمات والمؤسسات والهيئات بشتى أنواعها حيث يتعاون الأفراد معًا دون الاعتماد على السلطات المركزية، بل إن إحدى المقالات في عام ٢٠٠١ وصفتها بأنها صارت «طريقة للتفكير، ولم تعد تكنولوجيا أو صناعة.»
كما أن نابستر أذاقت جيلًا كاملًا طعم الإنترنت حين تصير صندوقًا كبيرًا للأغاني التي يَنْشُدها الكثيرون، لكن عجزت شركات التسجيلات التي تعاونت معًا لمكافحة التنزيل غير المشروع، عن أن تتعاون فيما بينها لإنشاء خدمة أغاني وموسيقى على الإنترنت تكون قانونية ومربحة لملء الفراغ الذي تركته نابستر، وبدلًا من أن تستفيد تلك الشركات من تكنولوجيا تبادل الملفات فإنها شيطنتها لأنها تمثل تهديدًا لتجارتها. وقد تصاعد هذا الرفض للتكنولوجيا وتفاقم، لكن الشركات كذلك ارتكبت خطأ يدل على قصر النظر، فقد تخلت شركات الأغاني عن فرصة عمل كبيرة كانت ستحقق لها أرباحًا طائلة، والتقطها مستثمرون آخرون كانوا أكثر إبداعًا وأوسع أفقًا، فلم يمر عامان على ذلك حتى دشنت شركة أبل متجرها الإلكتروني آي تيونز على شبكة الإنترنت، والذي كان أول مشروع ناجح تجاريًّا يقوم على فكرة توفير خدمة تنزيل الأغاني.
(٤) اللامركزية تهيمن على مجال تبادل الملفات
شبكات توزيع المحتوى
البساطة الشديدة التي تتمتع بها طريقة الإفاضة البدائية لا تدعم الشبكات الكبيرة في الواقع العملي، لكن نجاح معماريات الند للند اللامركزية حفز البحث في مجال معماريات «شبكات توزيع المحتوى» التي تستغل ما تتمتع به طرق الند للند من كفاءة واعتمادية.
(٤-١) ما من ملاذٍ آمنٍ هنا
كانت الشركات التي تطور الجيل الجديد من نظم تبادل الملفات تأمل أن تحصنها تلك المعماريات الموزعة ضد المسئولية عن الانتهاك الثانوي لحقوق التأليف والنشر. فعلى أي حال، ما إن يحصل المستخدم على البرنامج حتى يغيب ما يفعله به عن علم الشركات ورقابتها، فكيف يمكن أن تُساءَلَ الشركاتُ عن أفعال المستخدمين؟ لكن في نظر شركات التسجيلات لم يكن هذا إلا صورة أخرى لما كانت عليه نابستر: استغلال شبكة الإنترنت لتعزيز انتهاك حقوق التأليف والنشر على نطاق واسع، وفي أكتوبر ٢٠٠١ رفع اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية دعوى قضائية ضد ثلاثة من أشهر أنظمة تبادل الملفات — جروكستر ومورفيوس وكازا — مطالبًا بتعويضات قدرها ١٥٠ ألف دولار أمريكي لكل حالة انتهاك.
ردَّت الشركات الثلاث عن نفسها التهمة بحجة أن لا سلطان لها على تصرفات المستخدمين، وعلاوة على ذلك لم تكن برمجياتها سوى لبنة واحدة في البنية التحتية التي سمحت بحدوث ذلك التبادل للملفات، وإذا كانت شركات البرمجيات الثلاث مسئولة، أفلا يُعد صانعو بقية الأجزاء مسئولين أيضًا؟ وماذا عن مايكروسوفت التي يسمح نظام التشغيل الخاص بها، ويندوز، لمستخدم الكمبيوتر أن ينسخ الملفات الإلكترونية من أجهزة كمبيوتر أخرى؟ وماذا عن سيسكو التي تشارك أجهزة اتصالاتها في ذلك عن طريق تمرير تلك المواد غير المرخصة المحمية حقوق تأليفها ونشرها عبرها؟ وماذا عن الشركات المصنِّعة لأجهزة الكمبيوتر التي تعمل عليها تلك البرمجيات؟ فإن صدر حكم ضد الشركات التي تنتج برامج شبكات تبادل الملفات، أفلا يعرِّض ذلك صناعة أجهزة الكمبيوتر برمتها للمساءلة أسوةً بتلك الشركات؟
كانت المحكمة العليا بحكمها الصادر في قضية ١٩٨٤ بين شركة سوني وشركة يونيفيرسال ستوديوز قد رسمت معالم هذا الطريق القانوني الحرج، ففي واقعة سبقت دعوى جروكستر بسبعة عشر عامًا رفعت رابطة السينما الأمريكية دعوى قضائية ضد شركة سوني تتهمها فيها بارتكاب الانتهاك الثانوي لبيعها جهازًا يهدد بالقضاء على صناعة السينما؛ ألا وهو مسجل الفيديو. وقد زمجر رئيس رابطة السينما الأمريكية أمام الكونجرس في عام ١٩٨٢ قائلًا: «أقول لكم إن مَثَلَ مسجل الفيديو بالنسبة لمنتج الأفلام الأمريكي والرأي العام الأمريكي مَثَلُ سفاح بوسطن بالنسبة لامرأة تعيش وحدها.»
… إن بيع الأجهزة التي تُستخدم في النسخ، مثله مثل بيع أي سلعة تجارية أخرى، لا يشكل انتهاكًا بالمساهمة إذا كانت تلك الأجهزة تستخدم بالأساس لأغراض مشروعة ولا غبار عليها، في الواقع، هي بحاجة فقط إلى أن تكون لها استخدامات عديدة لا تتضمن انتهاكًا.
صفَّق القائمون على أمر صناعة التكنولوجيا لهذا الحكم، فقد أصبح لديهم معيار واضح يمكنهم الاعتماد عليه في تقييم المخاطر التي تحيط بطرح منتجات جديدة في السوق، فإن إثبات الشركة المصنِّعة أن منتجها يمكن استخدامه في كثير من الاستخدامات التي لا تتضمن انتهاكًا يوفر «ملاذًا آمنًا» ضد ادعاءات الانتهاك الثانوي.
سيناريو عام ١٩٨٤ هذا — والذي تضمن تكنولوجيا جديدة، ونموذجًا تجاريًّا مهدَّدًا — تكرر في ٢٠٠١ في شكل دعوى قضائية ضد جروكستر، وقد سارعت شركات تبادل الملفات بالاستشهاد في دفاعها بالحكم الذي صدر لصالح سوني، موضحةً أن تبادل الملفات له استخدامات عديدة لا تتضمن انتهاكًا.
وفي أبريل ٢٠٠٣ رأت المحكمة الفيدرالية لوسط كاليفورنيا أن هذه القضية تختلف عن قضية نابستر، ومِنْ ثَمَّ رفضت الدعوى مستشهدة بالحكم الصادر لصالح شركة سوني، وقالت إن اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية كان يطلب من المحكمة «توسيع النطاق الحالي لقانون حقوق التأليف والنشر خارج الحدود المعروفة والمتفق عليها.» في المقابل، بدأ اتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية على الفور حملته في مقاضاة مستخدمي برامج تبادل الملفات، تلك الحملة التي ستنال فيما بعد أناسًا بُرَآء مثل تانيا أندرسن وجامي توماس.
باختصار، من الأدلة المقدمة خَلُصَت المحكمة الجزئية — وحُقَّ لها ذلك — إلى أن البرنامج يمكن أن يستخدم في استخدامات عديدة لا تتضمن انتهاكًا، ومِنْ ثَمَّ ينطبق حكم قضية سوني-بيتاماكس.
إننا نرى أن مَنْ يوزع جهازًا بهدف تعزيز استخدامه في انتهاك حقوق التأليف والنشر، كما هو مبين عن طريق التصريح الواضح أو الخطوات الإيجابية الأخرى المتخذة لتعزيز الانتهاك، نرى أنه مسئول عن أعمال الانتهاك الناتجة التي يقوم بها الغير.
(٤-٢) مسألةُ نوايا
ربحت صناعة المحتوى، لكن المطاف انتهى بها إلى أقل مما كانت تأمل. كانت رابطة السينما الأمريكية تريد من المحكمة أن تكون صريحة في إضعاف معيار سوني الخاص ﺑ «الاستخدامات العديدة التي لا تتضمن انتهاكًا.» وبدلًا من ذلك، أعلنت المحكمة أن قضية سوني لم يكن لها دخل هنا، وأن المحكمة لن تعيد النظر في هذا المعيار، وقالت المحكمة إن مسئولية شركات تبادل الملفات لا تنبع من قدرات البرمجيات، وإنما من نية الشركات في توزيع تلك البرمجيات.
تنفَّس القائمون على أمر صناعة التكنولوجيا الصُّعَداء أن معيار سوني لم يُمَس (في حين لم يَسُرَّ ذلك الشركاتِ الثلاثَ التي خسرت القضية، ومِنْ ثَمَّ أغلقت أبوابها)، لكن سرعان ما تبع ذلك إعادة نظر في الأمر، فقد فتح قرار جروكستر آفاقًا جديدة تمامًا للأسباب التي يمكن أن يُعَدَّ المرءُ فيها متهمًا بارتكاب الانتهاك الثانوي، ونص حكم المحكمة على أنه «لا يوجد في قضية سوني ما يُلزِم المحاكمَ أن تتجاهل الأدلة على وجود نية لتعزيز الانتهاك في حالة وجود دليل من هذا النوع.»
لكن ما هو الدليل؟ إذا جاء أحدهم واتهم شركتك بأنها ارتكبت انتهاكًا ثانويًّا، فكيف يمكن أن تدافع عن نفسك بثقة ضد الاتهام بسوء النية؟ لم تعد قضية سوني ملاذًا آمنًا.
لنأخذ مثالًا: قالت المحكمة في حكمها ضد جروكستر إن «الإعلان عن استخدام مخالف» يُعَد دليلًا على وجود خطوة فعلية لتشجيع الانتهاك، وفي عام ٢٠٠١ طرحت شركة أبل فكرة آي تيونز مع برنامجها الذي يُستخدم في نسخ الأقراص المدمجة، وظهرت الإعلانات الأولى للمنتج تروِّج له بشدة تحت شعار «سحبٌ ثم مزجٌ ثم نسخٌ.» فهل كان ذلك دليلًا على وجود نية سيئة لدى شركة أبل؟ كثيرون أجابوا بنعم وبكل تأكيد، منهم رئيس مجلس إدارة والت ديزني عندما قال أمام الكونجرس في عام ٢٠٠٢: «هناك شركات كمبيوتر تخاطب الأطفال بدعايتها، فتقول في إعلاناتها العادية وإعلاناتها على صفحة كاملة في المجلات والجرائد، ولوحاتها الإعلانية في سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس: سحبٌ ثم مزجٌ ثم نسخٌ! لتجعلهم يُقْبِلون على شراء أجهزتها.»
لا تخطيَ للإعلانات التجارية
في عام ٢٠٠١ طرحت شركة «ريبلاي تي في نتوورك» مسجلَ فيديو رقميًّا للبرامج التليفزيونية به خاصية تخطي الإعلانات التجارية تلقائيًّا، ويسمح أيضًا للمستخدم بنقل البرامج المسجلة من جهاز لآخر من تلك النوعية. رفعت استوديوهات السينما الكبرى وشبكات التليفزيون الكبرى دعوى قضائية على الشركة المصنِّعة بتهمة ارتكاب الانتهاك الثانوي، ودفعتها إلى الإفلاس قبل انتهاء القضية، وقامت الشركة التي اشترت أصول شركة ريبلاي بتسوية القضية، ووعدت بعدم إدراج هذه الميزات في النماذج التي ستطرحها في المستقبل.
هل بوسع أي شركةٍ الآن أن تغامر بأن تطرح منتجًا يحمل ذلك الشعار بعد ما حدث في قضية جروكستر؟ لعلك تتوقع أن لديك كل الفرص للفوز في سجال قانوني حول أمر «النية» في ساحات المحاكم، لكن إن حدث وخسرت القضية فالعواقب كارثية. ففي حالات الانتهاك من قبل فرد مثل قضية تانيا أندرسن، نجد أنه حتى الحد الأدنى من العقوبات القانونية البالغة ٧٥٠ دولارًا أمريكيًّا لكل حالة انتهاك يعني أنها مطالبة بدفع مليون دولار أمريكي نظير كل هذا الكم الذي (زُعِمَ زورًا أنه) كان موجودًا على جهازها، وهذا مبلغ ينوء بحمله ظهر أي فرد. لكن من الممكن أن تُساءَل شركةٌ تعمل في مجال التكنولوجيا عن الأضرار على أساس كل أغنية نُسخت بطريقة غير مشروعة من قبل كل مستخدم لجهاز أنتجته. لنفترض أن شركتك تبيع أربعة عشر مليون جهاز آي بود (وهو عدد ما باعته شركة أبل من أجهزة في عام ٢٠٠٦)، والآن لنضرب هذا العدد في ١٠٠ أغنية زُعم أنها نُسخت لكل جهاز آي بود، ثم لنضرب الناتج في ٧٥٠ دولارًا أمريكيًّا لكل أغنية. سيفوق الإجمالي تريليون دولار أمريكي من التعويضات، وهذا يفوق بما يزيد عن مائة مرة إجمالي إيرادات بيع التجزئة في مجال صناعة التسجيلات في جميع أنحاء العالم في عام ٢٠٠٦! نعم، قد يبدو مقدار هذا التعويض سخيفًا، لكن هذا هو القانون، وهو ما يعني أنك إن أخطأت في التخمين فسيكون ذلك خطأ يضع مصير شركتك على المحك، فالأجدر بالشركة أن تتحفظ في المنتجات التي تنتجها لا أن تطرح منتجاتٍ قد تجعل الآخرين يرفعون دعاوى قضائية ضدها، حتى لو كنتَ على يقين من أن منتجاتك لا تتضمن مخالفة قانونية.
يمكننا التكهن حول المنتجات والميزات التي لم تعد متوافرة اليوم نظرًا للشك الذي اعترى معيار «النوايا» الذي تضمنته قضية جروكستر، إلى جانب العقوبات على ارتكاب الانتهاك الثانوي التي يمكن أن تؤدي إلى دفع غرامات تنوء بحملها الجبال. من الطبيعي أن تُحْجِمَ الشركات عن إعطاء أمثلة لذلك، لكن يمكننا أن نتساءل لماذا زُوِّدت الأغاني التي تُتبادل لاسلكيًّا عن طريق مشغلات مايكروسوفت زيون بخاصية التدمير الذاتي بعد أن تُشغَّل ثلاث مرات، أو لماذا لم تُزوَّد مسجلات تيفو بخاصية التخطي التلقائي للإعلانات التجارية أو لا تسمح للمستخدم بنقل الأفلام المسجلة إلى جهاز كمبيوتر. وليس من قبيل الصدفة أن يصف الرئيس التنفيذي لإحدى كبرى شبكات التليفزيون المدفوع في عام ٢٠٠٢ تخطي الإعلانات التجارية أثناء مشاهدة التليفزيون بأنه سرقة، رغم أنه سمح بذلك بقوله: «أظن أنه يمكن أن يوجد قدر من التسامح بهدف السماح للمشاهد بالذهاب إلى دورة المياه.»
لكن التكهن بعواقب المسئولية وحدها لا طائل من تحته؛ وذلك لأن مخاطر المسئولية لم تكن تزداد في فراغ، وقد فُتحت جبهة أخرى في الصراع الدائر حول حقوق التأليف والنشر، والأسلحة المستخدمة في هذه الجبهة ليست الدعاوى القضائية بل التكنولوجيا.
(٥) الاستخدام المصرح به فقط
تعالج أجهزةُ الكمبيوتر المعلوماتِ عن طريق نسخ البِتات بين القرص والذاكرة، وبين الذاكرة والشبكات، ومن جزء من الذاكرة إلى آخر. في الواقع معظم أجهزة الكمبيوتر قادرة على «الاحتفاظ» بالبِتات في الذاكرة فقط عن طريق إعادة النسخ مرارًا وتكرارًا آلاف المرات في الثانية الواحدة (تستخدم أجهزة الكمبيوتر العادية ما يسمى بذاكرة الوصول العشوائية الديناميكية، والنسخ هو ما يجعلها «ديناميكية»). وعلاقة كل هذا النسْخ الأساسي بنوع النسخ المحكوم بقانون حقوق التأليف والنشر كانت هي الغذاء الفكري لفقهاء القانون وللمحامين؛ بحثًا عن أسس جديدة للمقاضاة.
لا يمكن لأجهزة الكمبيوتر تشغيل البرامج المخزنة على القرص دون نسْخ كود البرنامج إلى الذاكرة، ويسمح قانون حقوق التأليف والنشر صراحةً بهذا النسخ لغرض تشغيل البرنامج، لكن لنفترض أن شخصًا أراد ببساطة أن يطَّلع على الكود في الذاكرة، ولا يريد تشغيله، أن لا يتطلب ذلك موافقة صريحة من صاحب حقوق التأليف والنشر؟ في عام ١٩٩٣ كانت إجابة المحكمة الاتحادية الأمريكية على هذا السؤال ﺑ «بلى».
بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن لأجهزة الكمبيوتر عرض الصور على الشاشة دون نسخها إلى جزء خاص من الذاكرة يسمى مخزن العرض المؤقت، فهل يعني هذا أنه حتى إذا قمت بشراء صورة رسومية إلكترونية فإنه لا يمكنك عرض تلك الصورة على شاشة جهازك دون إذن صريح من صاحب حقوق التأليف والنشر في كل مرة تقوم فيها بذلك؟ في عام ١٩٩٥ صدر تقرير من وزارة التجارة أنه يتعين عليك فعل هذا، بل وأشار التقرير ضمنًا إلى أن أي استخدام لعمل رقمي ينطوي على صنع نسخة منه، ومِنْ ثَمَّ فهذا يتطلب موافقة صريحة.
(٥-١) الحقوق الرقمية والنظم محل الثقة
بوسع فقهاء القانون أن يناقشوا ما إذا كان قانون حقوق التأليف والنشر يفرض مستقبلًا لا يمكن لأحد فيه أن «يستخدم معلومات رقمية إلا إذا أُذِنَ له بذلك» أم لا، وجواب هذا السؤال قد لا يهم كثيرًا؛ لأن هذا المستقبل سيتحقق عن طريق تقنيات إدارة الحقوق الرقمية والنظم محل الثقة.
الفكرة الأساسية واضحة ومباشرة، فإذا كانت أجهزة الكمبيوتر تُيَسِّر نسخ المعلومات وتوزيعها دون إذْنٍ، فالحل أن «نُغير» أجهزة الكمبيوتر بحيث يصعب أو يستحيل النسخ أو التوزيع دون إذْن. هذا التغيير ليس بالأمر الهين؛ ولعل هذا التغيير يستحيل تحقيقه على الإطلاق إلا إذا ضحينا بقدرة جهاز الكمبيوتر على أن يعمل كجهاز متعدد الاستخدامات، ومع ذلك فإن هذا التغيير يجري العمل عليه الآن.
المشكلة هنا أنه إذا فرضنا أن هناك شركة (وهمية) تسمى شركة فورترس ببليشرز تعمل في مجال بيع المحتوى عبر الويب، وترغب تلك الشركة في أن لا يتسنى لأحد أن يطَّلع على ذلك المحتوى إلا من سدد ثمنه، فيمكن لشركة فورترس أن تبدأ بأن تَقْصُرَ زيارة موقعها على الإنترنت على المستخدمين المسجلين فقط عن طريق اشتراط إدخال كلمة سر. يُباع كثير من المحتوى على الويب بهذه الطريقة اليوم، على سبيل المثال وول ستريت دايجست أو سفاري بوكس أونلاين، وهذه الطريقة ناجحة (أو على الأقل هي كذلك حتى الآن) في هذا النوع من المواد، لكن هناك مشكلة مع المحتوى الأعلى قيمة، فكيف يتسنى لشركة فورترس منع هؤلاء المشترين من نسْخ ما اشتروه منها وإعادة توزيع تلك النسَخ؟
من الحلول الممكنة أن تلجأ الشركة إلى توزيع تلك المواد في صورة مشفرة يتعذر فك تشفيرها ومعالجتها إلا عن طريق برامج تتبع قواعد معينة. على سبيل المثال إذا وزعت الشركة وثائق من صيغة بي دي إف أُنشئت باستخدام برنامج أدوبي أكروبات فيمكنها استخدام برنامج أدوبي لايف سايكل إنتربرايز سوت للتحكم فيما يمكن لمَنْ يطَّلع على تلك الوثائق — عن طريق برنامج أدوبي ريدر — فِعْلُه من طباعةٍ وتعديلٍ ونسْخٍ، سواء لكامل الوثيقة أو لجزء منها، بل ويمكن لشركة فورترس أن تصمم تلك الوثائق بحيث إنَّها كلما فُتحت تتلقى الشركة بلاغًا بذلك بالإضافة إلى عنوان بروتوكول الإنترنت للكمبيوتر المستخدم في ذلك. وبالمثل، إذا كانت الشركة تنتج ملفات أغانٍ وموسيقى تشغَّل بواسطة برنامج تشغيل الوسائط بنظام تشغيل ويندوز، فيمكنها استخدام خاصية إدارة الحقوق الموجودة في ذلك البرنامج للحد من عدد المرات التي يمكن فيها للمستخدم أن يشغل تلك الملفات، وكذلك من أجل التحكم فيما إذا كان يمكنه نسخها إلى مشغل أغاني محمول أو إلى قرص مضغوط، وأن توقف عمل الملفات بعد فترة معينة من الزمن، أو تجعل الملفات من النوع الذي يبلغ الشركة عند تشغيله ببروتوكول الإنترنت الخاص بالكمبيوتر المستخدم في ذلك، وذلك في كل مرة يشغَّل فيها بحيث يمكن لخادم الويب التابع للشركة أن يتحقق من أن المستخدم يتمتع بترخيص لعمل ذلك، وأن يطلب من المستخدم دفع مقابل إذا لزم الأمر.
يُطلق على هذه التقنية العامة لتوزيع المحتوى المصحوب بمعلومات التحكم الذي يقيد الاستخدام اسم «إدارة الحقوق الرقمية». واليوم، تُستخدم نظم إدارة الحقوق الرقمية على نطاق واسع، وهناك مواصفات تحكم هذا المجال (تُسمَّى «لغات التعبير عن الحقوق») والتي تتناول بالتفصيل مجموعة واسعة من القيود التي يمكن أن تُفرَض.
التشفير وإدارة الحقوق الرقمية
لمنع هذا، يمكن لشركة فورترس الاعتماد على نظام تشغيل الكمبيوتر بحيث يشترط على أي برنامج يمكنه التعامل مع محتواها أن يكون معتمدًا، فقبل تشغيل البرنامج يتحقق نظام التشغيل من التوقيع الرقمي للبرنامج ليتحقق من أن هذا البرنامج معتمد، وأنه لم يُعْبَثْ به. هذا خيار أفضل، لكن قد ينجح أحد القراصنة الأذكياء في تغيير نظام التشغيل نفسه بحيث يُشغَّل البرنامج المعدل على أي حال، وكيف السبيل لمنع هذا؟ والجواب هو وضع رقاقة في كل كمبيوتر تتحقق من نظام التشغيل في كل مرة يُشغَّل فيها الكمبيوتر، فإذا وُجد أن هناك تغيرًا في نظام التشغيل فلن يبدأ الكمبيوتر عمله، ويجب أن تكون هذه الرقاقة غير قابلة للعبث بها، بحيث إن أي محاولة لتعطيلها ستجعل الجهاز غير صالح للتشغيل.
ظهرت هذه التقنية الأساسية خلال ثمانينيات القرن العشرين، وتناولتها عدة أبحاث ومشاريع تطوير متقدمة، لكن لم يتسنَّ لها الانتشار الواسع في أجهزة الكمبيوتر التي يشتريها المستهلكون إلا في عام ٢٠٠٦، وقد صممت الرقاقة المطلوبة، والتي تُسمَّى «الوحدة النمطية للنظام الأساسي محل الثقة» من قبل مجموعة ترَستيد كمبيوتينج، وهي مجموعة من شركات الأجهزة والبرمجيات تشكلت في عام ١٩٩٩. واليوم، يحتوي أكثر من نصف أجهزة الكمبيوتر التي تُشحن إلى جميع أنحاء العالم على تلك الوحدة النمطية، ويمكن لنظم التشغيل الشهيرة بما في ذلك ويندوز فيستا من مايكروسوفت والعديد من إصدارات جي إن يو/لينُكس، استخدامها لتطبيقات الأمن. هناك برنامج يُدعى ترَستيد بوت يمنع الكمبيوتر من أن يبدأ التشغيل إذا وُجد أن هناك تغييرًا في نظام التشغيل (على سبيل المثال بسبب فيروس)، وهناك برنامج آخر يُسمَّى سيلد ستورِدج يتيح للمستخدم تشفير الملفات بطريقة تجعل من المتعذر فك تشفيرها إلا عن طريق أجهزة كمبيوتر بعينها يحددها المستخدم، وبالنظر إلى مخاوف اليوم من الفيروسات وأمن الإنترنت فإن من المضمون أن تصبح الوحدة النمطية للنظام الأساسي محل الثقة واسعة الانتشار. ويشير أحد التقديرات في هذا المجال إلى أن أكثر من ٨٠٪ من أجهزة الكمبيوتر المحمولة سوف تكون بها هذه الرقاقة بحلول عام ٢٠٠٩.
(٥-٢) تأكيد التحكم خارج حدود حقوق التأليف والنشر
يمكن حل مشكلة شركة فورترس في عالم إدارة الحقوق الرقمية المعززة بالحوسبة محل الثقة، لكن هل ينبغي الترحيب بمثل هذا الأمر؟
هو من جهة يمنح شركة فورترس قدرًا من التحكم في استخدام موادها يفوق القَدْر الذي يوفره لها قانون حقوق التأليف والنشر، فعندما نشتري كتابًا اليوم نرى أنه من المسلم به أن لدينا الحقَّ في قراءته وقتما شئنا ولأي عدد من المرات، وأن لدينا الحقَّ في قراءته من الغلاف إلى الغلاف أو اختيار أجزاء منه لقراءتها دون غيرها، وأن لدينا الحقَّ في أن نُعِيرَه إلى أصدقائنا، وأن لدينا الحقَّ في بيعه، وأن لدينا الحقَّ في نسخ فقرة منه لاستخدامها في عمل تقريرٍ عنه، وأن لدينا الحقَّ في التبرع به لمكتبة المدرسة، وأن لدينا الحقَّ في فتحه دون أن تبلَّغ شركةُ فورترس بأننا فتحناه ويُرسَل عنوان بروتوكول الإنترنت الخاص بنا إليها. لسنا بحاجة إلى أخذ إذن من أحد للقيام بأيٍّ من هذه الأمور، فهل نحن على استعداد للتخلي عن هذه الحقوق عندما تكون الكتب في صورة رقمية؟ وماذا عن الموسيقى؟ وماذا عن الفيديو؟ وماذا عن البرامج؟ أينبغي أن نُوليَ الأمر اهتمامًا؟
ومن الأمور المقلقة التي تثيرها إدارة الحقوق الرقمية أنها تزيد فرص الحظر التكنولوجي والإيذاء المانع من المنافسة. فمن المغري ابتكار أنظمة تشغيل لا تُشغِّل إلا البرامج المعتمدة للحماية ضد الفيروسات والبرامج المزيفة التي تُستخدم في قراءة الملفات أو مشغلات الوسائط، لكن قد يتحول هذا بسهولة إلى بيئة يتعذر فيها لأحد تسويق مشغل وسائط جديد دون الحصول على موافقة الناشرين، أو يتعذر فيها استخدام أي برنامج قبل أن يسجله أو يعتمده لدى مايكروسوفت أو إتش بي أو آي بي إم، وقد يحدث أن تواجه شركة برمجيات تشكل تهديدًا تنافسيًّا للمصالح المستقرة كالناشرين وبائعي أنظمة التشغيل والشركات المصنعة لأجهزة كمبيوتر فجأة «مشكلات» في اعتماد منتجاتها. ومن الأسباب التي جعلت وتيرة الابتكار في مجال تكنولوجيا المعلومات سريعة إلى هذه الدرجة أن بنيتها التحتية مفتوحة: بمعنى أنك لا تحتاج إلى إذن لطرح برامج وأجهزة جديدة على شبكة الإنترنت، فإنْ ظَهَرَ عالمُ النظم محل الثقة فإن هذه الميزة ستصير في خطر داهم.
صعوبة ثالثة تتعلق بإدارة الحقوق الرقمية تتمثل في أنه من منظور الأمن والحماية من الفيروسات، فإننا قد نتورط وبسهولة في سباق محموم ليس له آخر، حيث تزداد حلقة التكنولوجيا ضيقًا بحيث لا يحقق مالكو المحتوى أي مكاسب حقيقية، وبمجرد نجاح القراصنة في أي مكان في العالم من تخطي عقبة إدارة الحقوق الرقمية لإنتاج نسخة غير مشفرة فإنهم سيوزعونها، وقد يكونون على استعداد لبذل الكثير من الجهد في سبيل تحقيق ذلك.
مثال على ذلك صُنْعَ نسَخٍ غير مصرح بها من الأفلام، فقد ينجح القراصنة المتسلحون بأحدث التقنيات في تعديل أجهزة الوحدة النمطية للنظام الأساسي محل الثقة الموجودة في أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم باذلين الكثير من الجهد في تجاوز الرقاقة غير القابلة للتزوير، وإليك طريقة أسهل: أن ندع نظام الوحدة النمطية للنظام الأساسي محل الثقة يعمل بشكل طبيعي، لكن نوصل جهازًا لتسجيل الفيديو بدلًا من شاشة الكمبيوتر. هذا النوع من الهجوم توقعته الشركة المصنِّعة، فوضعت معيارًا يتطلب أن ينتقل كل محتوى الفيديو عالي الوضوح بين الأجهزة في صورة مشفرة. إن نظام ويندوز فيستا يطبق هذا في نظامه الفرعي ﻟ «إدارة حماية المخرجات»، خوفًا من أن تسعى استوديوهات السينما إلى منع تشغيل الفيديو عالي الوضوح على أجهزة الكمبيوتر على الإطلاق، لكن حتى نظام الحماية هذا ضعيف؛ إذ يمكن للمرء ببساطة أن يوجه جهاز تسجيل فيديو نحو الشاشة. نعم، لن يتمتع الناتج حينها بجودة عالية الوضوح، لكن بمجرد أن يتحول إلى صورة رقمية يمكن إرساله إلى جميع أنحاء شبكة الإنترنت دون أن يفقد شيئًا من جودته تلك.
وعلى حد تعبير أحد الخبراء في مجال أمن الحاسبات: «لا يمكن جعل الملفات الرقمية تستحيل على النسْخ، ومَنْ يسعى إلى ذلك فمَثَلُه كمثل مَنْ يسعى إلى نزع خاصية الرطوبة من الماء.» هناك شيء واحد مؤكد: أن اتباع أسلوب إدارة الحقوق الرقمية للتحكم في حقوق التأليف والنشر أمر صعب ومحبِط، ولعله يكون محفوفًا بعواقب غير مقصودة. وبسبب ذلك الإحباط برزت وسيلة ثالثة — بعد المسئولية وإدارة الحقوق الرقمية — ردًّا على ازدياد معدلات النسْخ على شبكة الإنترنت؛ ألا وهي التجريم الصريح لتكنولوجيا النسْخ.
(٦) تكنولوجيا محظورة
قد تكون طباعة الأسطر التي تلي هذه الفقرة في كتاب يُباع في الولايات المتحدة أمرًا يخالف القانون، وقد حذفنا أربعة أسطر في منتصفها لحماية أنفسنا وناشر هذا الكتاب، ولولا ذلك لصار ذلك كودًا لبرنامج كمبيوتر مكتوبًا بلغة من لغات الكمبيوتر — هي لغة بيرل — يُستخدم لفك تشفير أقراص الفيديو الرقمية المشفرة. لو أخبرناك بكيفية كسر تشفير قرص الفيديو الرقمي بحيث يمكنك نَسْخ أقراص الفيديو الرقمية التي لديك فإنَّ فِعْلَنا هذا سيكون انتهاكًا للقسم ١٢٠١ من المادة ١٧ من القانون الأمريكي، وهي المادة الخاصة ﺑ «مكافحة التحايل» من قانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية لعام ١٩٩٨. هذه المادة من قانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية تجرِّم التكنولوجيا التي تعمل على تجاوز حماية حقوق التأليف والنشر. لا تشغل بالك بالرجوع إلى نهاية الكتاب عساك تجد ملاحظة تدلك على مكان تلك الأسطر الأربعة. فقد حكم أحد قضاة محكمة نيويورك الجزئية في عام ٢٠٠٠ أن مجرد تزويد الآخرين برابط موقع إلى الكود المطلوب هو في حد ذاته انتهاك لقانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية، وقد أيدت محكمة الاستئناف حكمه.
s''$/=\\2048;while(<>){G=29;R=142;
if((@a=unqT="C*",_)[20]&48){D=89;_unqb24.qT.@
... (four lines suppressed) ...
)+=P+(F&E))for@a[128..$#a]\\}
print+qT.@a}';s/[D-HO-U_]/\\$$&/g;s/q/pack+/g;eval
إن قواعد مكافحة التحايل التي يتضمنها قانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية لا تكتفي بمنع الناس من طباعة الأكواد في الكتب، فهي تجرِّم فئة واسعة من التقنيات؛ إذ تجرِّم تصنيعها وبيعها والكتابة عنها، بل والحديث عنها، وكون الكونجرس قد اتخذ تلك الخطوة يُظهِر شدة الانزعاج والإحباط بسبب مدى سهولة تجاوز إدارة الحقوق الرقمية. بظهور القسم رقم ١٢٠١ نجد أن الكونجرس لم يَسُنَّ فحسب قانونًا ضد انتهاك حقوق التأليف والنشر، لكنه سنَّ قانونًا ضد التجاوز نفسه سواء أكان هناك نسخ أم لا، فإذا وجدت صفحة ويب مشفرة تحتوي على نص الكتاب المقدس، ونجحت في فك التشفير ليتسنى لك أن تقرأ سِفْرَ التكوين فهذا ليس انتهاكًا لحقوق التأليف والنشر، بل هو تحايل، فالتحايل جريمة قائمة بذاتها تخضع لكثير من نفس عقوبات انتهاك حقوق التأليف والنشر: الأضرار القانونية، وفي بعض الحالات السجن، وقد اختار الكونجرس عن قصد جعل ذلك جريمة مستقلة عن الانتهاك الفعلي، وقد نُظِرَ في المقترحات البديلة التي كان من شأنها أن تَقْصُرَ الحظر على التحايل لغرض انتهاك حقوق التأليف والنشر، ودُحِضَتْ كلها.
لا يجوز لأي شخص أن يصنع أو يستورد أو يعرض للجمهور أو يوفر أو سوى ذلك من الأفعال بحق أي تكنولوجيا أو منتجات أو خدمات أو أجهزة أو مكونات، أو جزء من أيٍّ من ذلك … يكون الهدف منها في المقام الأول أن تصمم لغرض التحايل على تدبير تكنولوجي يتحكم بفعالية في التعامل معه عمل محمي بموجب [حقوق التأليف والنشر].
هنا يتحول القانون من تنظيم السلوك (التحايل) إلى تنظيم التكنولوجيا نفسها. إنها خطوة كبيرة، لكن على حد قول أحد أنصار مشروع القانون في ذلك الوقت: «ما زلتُ أعتقد أنه يجب علينا أن نحظر الأجهزة التي يكون الغرض الرئيسي منها هو التحايل؛ لأنني لا أعتقد أن الأمر سينجح من وجهة نظر إنفاذ القانون. بمعنى أننا إذا سمحنا بتزايد عدد الأجهزة المستخدمة في التحايل بحرية، ولم نجرِّم إلا الاستخدام غير اللائق لها فإن هذا لا يبدو لي أنه يردع كثيرًا.»
في مجال الأمن نجد أن هناك عدمَ تناسق غريبًا بين عالم الذرات وعالم البِتات. هناك العديد من الشروحات المنشورة حول كيفية كسر الأقفال الميكانيكية المعقدة، بل وكيفية عمل مفتاح رئيسي لمبنى كامل عن طريق مفتاح قفل واحد من مجموعة الأقفال المستخدمة في ذلك المبنى، لكن إذا كان القفل رقميًّا، وإذا كان القفل يحمي عملًا محمي حقوق التأليف والنشر — كفيلم قراصنة الكاريبي — فإن القواعد تختلف. يحظر القانون الفيدرالي نشر أي شرح لكيفية عمل هندسة عكسية لهذا النوع من الأقفال.
ولعل المشرِّعين لم يجدوا لذلك بديلًا ناجعًا، فوضعوا تشريعًا غير متناسق يبدأ بحظر واسع النطاق ثم يمنح استثناءاتٍ من ذلك على أساس كل حالة على حدة، بل قد ظهرت جليةً الحاجة إلى الاستثناءات أثناء صياغة قانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية، وسُجلت بعض الاستثناءات القليلة في القانون. ومن تلك الاستثناءات الإذن لموظفي هيئات إنفاذ القانون والاستخبارات بكسر التشفير خلال إجراء التحقيقات والسماح للمكتبات غير الربحية بكسر التشفير للأعمال الأدبية وغيرها، لكن فقط بغرض تحديد ما إذا كانت ستشتريه أو لا. كما تضمَّن القانون قاعدة معقدة تسمح بإجراء أنواع معينة من بحوث التشفير في ظل ظروف معينة، وإدراكًا منه لحقيقة أنه ستكون هناك حاجة مستمرة إلى مزيد من الاستثناءات الجديدة كلف الكونجرس الأمريكي أمين مكتبته بإجراء جلسات استماع لمراجعة الاستثناءات كل ثلاث سنوات ومنح استثناءات جديدة إذا كان ذلك مناسبًا.
على سبيل المثال، في نوفمبر ٢٠٠٦، وبعد جلساتِ استماعٍ دامت عامًا كاملًا أُدخِلَ استثناءٌ يقضي بإعفاء الأمريكيين من فك أقفال هواتفهم المحمولة بغرض التحول إلى مزود خدمة محمول آخر، وكان لهذا الحكم أثر بالغ بعد مضي تسعة أشهر؛ إذ حدث في أغسطس عام ٢٠٠٧ أن أصدرت شركة أبل جهاز آي فون الذي يقتصر تعامله على شبكة محمول إيه تي آند تي. طالب المستخدمون بأن يُسمح لهم بفك أجهزة الآي فون التي اشتروها ليتسنى لهم التعامل مع شركات محمول أخرى، وشرعت العديد من الشركات في بيع خدمات الفك، لكن لغة قانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية والاستثناء يفتقران إلى الوضوح، ففي حين أن هذا القانون يسمح لك بفك قفل هاتفك أنت المحمول تجده يجرِّم توزيع برنامج الفك، بل ويجرِّم إخبار الآخرين حول كيفية فتح هواتفهم المحمولة. في الواقع هددت شركة إيه تي آند تي باتخاذ إجراءات قانونية ضد شركة واحدة على الأقل من الشركات التي تفك الأقفال.
(٦-١) حماية حقوق التأليف والنشر أم تجنب المنافسة؟
إطار قانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية للتقنين ليس ندًّا للابتكار التكنولوجي؛ وذلك لأن عدم وجود استثناء مناسب قد يحبط استخدام أي جهاز أو برنامج جديد. ونظرًا لشراسة المنافسة في هذا المجال فهناك إغراء مستمر لاستغلال لغة الحظر الواسع كأساس لدعاوى قضائية ضد المنافسين.
عام ٢٠٠٢ أقامت شركة تشامبرلين لتصنيع أبواب المرائب دعوى قضائية ضد شركة عالمية مصنِّعة لفتاحات عامة إلكترونية للأبواب، مُدعية أن أجهزة الإرسال العالمية تحايلت على عناصر التحكم في الدخول عندما ترسل إشارات راديوية لفتح الأبواب وإغلاقها، واستغرق الأمر عاميْن لتُحسم القضية في ساحة محكمة الاستئناف، وفي نفس العام قاضت شركة لكسمارك الدولية شركةً أخرى كانت تنتج خراطيش حبر بديلة لطابعات لكسمارك، واتهمتها بأن خراطيش الحبر تحايلت على عناصر التحكم في الوصول لتعمل مع طابعات الشركة، واقتناعًا منها بذلك قضت المحكمة الجزئية لصالح شركة لكسمارك، لكن أُلغي الحكمُ في محكمة الاستئناف في عام ٢٠٠٤، إلا أنه في غضون ذلك أُبعِدت تلك الخراطيش البديلة عن السوق لمدة عام ونصف، وفي عام ٢٠٠٤ نجحت مؤسسة ستوريدج تكنولوجي في إقناع محكمة بوسطن الجزئية أن إجراء صيانة لأنظمتها من قبل جهة خارجية يُعَدُّ انتهاكًا لقانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية. ثم جاءت محكمة الاستئناف لتنقض ذلك الحكم، ولولا ذلك لكنَّا الآن في موقف لا يُسمح فيه لأي شركة مستقلة أن تُجري صيانة لأجهزة الكمبيوتر، وكأن الأمر أن سيارات فورد توريس صُنعت بغطاء مختوم ولا يجوز لأي ميكانيكي غير مرخص من قبل فورد أن يُجري صيانة لتلك السيارات.
جعلت هذه الدعاوى القضائيةُ الناسَ يطلقون على قانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية اسمَ «قانون الألفية لتجنب المنافسة الرقمية»، ولحسن الحظ أن كل تلك الدعاوى القضائية باءت بالفشل في نهاية المطاف؛ وذلك لأن المحاكم قضت بأن الخلافات كانت لا تتعلق بما فيه الكفاية بالمواد محفوظةِ حقوقِ التأليف والنشر، لم يكن من المحتمل أن يهدف الكونجرس إلى تطبيق قانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية على أبواب المرائب، لكن في الجوانب التي يدخل فيها حقوق التأليف والنشر يكون التأثير المناهض للمنافسة لقانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية على أشده.
لنتخيل أن المحكمة العليا في حكمها الصادر في عام ١٩٨٤ في قضية سوني قد جنحت إلى الجانب الآخر فأعلنت أن سوني مسئولة عن انتهاك حقوق التأليف والنشر ببيعها لأجهزة تسجيل الفيديو، فهل كانت تلك الأجهزة ستختفي؟ نكاد نجزم أن الإجابة ستكون لا؛ فالمستهلكون يريدون تلك الأجهزة، وعلى الأرجح أن صناعة الإلكترونيات كانت ستعقد صفقة مع صناعة الأفلام السينمائية عن طريق منحها السيطرة على قدرات أجهزة تسجيل الفيديو، ولأصبح استخدام أجهزة تسجيل الفيديو مُثقلًا بالقوانين واللوائح إرضاءً لمطالب صناعة الأفلام السينمائية، ولكان يتعين علينا اعتماد جميع الميزات الجديدة التي تظهر في تلك الأجهزة، وإذا لم تَرُقْ أي ميزة لرابطة السينما الأمريكية لحُجِبَت عن نزول الأسواق، ولكانت قدرات أجهزة تسجيل الفيديو تحت رحمة صناعة المحتوى.
هذا هو نوع العالم الذي نعيش فيه اليوم عندما يتعلق الأمر بوسائل الإعلام الرقمية، فإذا انتوت شركة ما تصنيع منتج يعالج المعلومات الرقمية فحريٌّ بها أن تشعر بالقلق إزاء انتهاك حقوق التأليف والنشر، حتى في ظل عدم وجود قانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية. هذا مصدر قلق كبير، خاصة بعد قضية جروكستر، لكن لنفترض أن الجهاز لا يمكن استخدامه في انتهاك حقوق التأليف والنشر. لو فرضنا هذا، وفرضنا أن المعلومات الرقمية تخضع لإدارة الحقوق الرقمية، فيجب أن يخضع المنتج للشروط التي تمليها إدارة الحقوق الرقمية، وإلا صار الأمر تحايلًا، ومِنْ ثَمَّ تعذَّر تصنيع المنتج قانونيًّا تعذرًا تامًّا. إن قيود إدارة الحقوق الرقمية تخضع تمامًا لنزوات مُوَفِّري المحتوى، فإن ثبَّتت شركة فورترس تكنولوجيا إدارة الحقوق الرقمية فإنها بذلك ستتحكم في سلوك أي جهاز له صلة بموادها.
رغم أن نظام تشفير المحتوى لا طائل منه في مجال توفير حماية حقيقية ضد النسخ فإنه لا يُقدر بثمن من حيث كونه أداةَ تمكينٍ لتقنين مناهضة أي تكنولوجيا منافسة. فعلى أي شركة تسوق منتجات تستخدم لفك شفرة قرص الفيديو الرقمي أن تحصل على ترخيص من «اتحاد مراقبة نسخ أقراص الفيديو الرقمية» الذي تشكل في عام ١٩٩٩، وتوضع شروط الترخيص بحسب ما يراه ذلك الاتحاد. على سبيل المثال يجب على جميع مشغلات أقراص الفيديو الرقمية أن تراعي شرط «الترميز الإقليمي» الذي يَقْصُر تشغيل قرص الفيديو الرقمي على دول بعينها، وأنه لا يمكن لمستخدم أن يغير إقليمه أكثر من خمس مرات. لا علاقة للترميز الإقليمي بحقوق التأليف والنشر، بل الهدف منه دعم الاستراتيجية التسويقية التي تتبعها صناعة السينما في تصدير الأفلام في أجزاء مختلفة من العالم في أوقات مختلفة، ومن بين قيود الترخيص المتنوعة قيود لا تسمح لبعض الشركات حتى بالاطلاع عليها إلا بعد أن توقع على الترخيص.
(٦-٢) وجه تكنولوجيا الحظر
لنفترض أنك تمتلك شركة لديها فكرة للخروج بمنتج مبتكر في مجال أقراص الفيديو الرقمية، ولعله يكون نظامًا للترفيه المنزلي يتيح للمستخدم نسْخ أقراص الفيديو الرقمية وتخزينها ليشاهدوها فيما بعد، وقد ابتكرت شركتك طريقة للقيام بذلك دون الوقوع في شَرَكِ انتهاكِ حقوق التأليف والنشر. هذا منتج موجود بالفعل — يُسمى كاليدسكيب — وقد أنتجته شركة ناشئة في ولاية كاليفورنيا، وقد رفع اتحاد مراقبة نسخ أقراص الفيديو الرقمية دعوى قضائية ضدها في عام ٢٠٠٤ لمخالفتها أحد أحكام ترخيص نظام تشفير المحتوى والذي يقضي بتصميم مشغلات أقراص الفيديو الرقمية بحيث لا تعمل إلا في حالة وجود قرص بالفعل داخلها، وفي مارس ٢٠٠٧ حكمت إحدى محاكم كاليفورنيا لصالح الشركة المنتِجة للجهاز على أساس أن الرخصة لم تكن واضحة بما فيه الكفاية، لكن استأنف الاتحادُ القضية، ولا تزال القضية قيد نظر محكمة الاستئناف، وعلى أي حال يمكن لاتحاد مراقبة نسخ أقراص الفيديو الرقمية تغيير الترخيص في أي وقت. ولمدة ثلاث سنوات جعل الجدل القانوني الشركة الناشئة في مصاف المؤسسات المشبوهة، وقد أغلَقت شركة ناشئة أخرى أبوابَها لأنها أقدمت على إنتاج منتج مماثل في نفس الوقت عندما فشلت في الحصول على تمويل لمشروعها الطموح، «ويرجع ذلك جزئيًّا إلى التهديد الذي كان يطاردها شبحه بقيام اتحاد مراقبة نسخ أقراص الفيديو الرقمية باتخاذ إجراءات قانونية ضدها.»
منذ عام ٢٠٠٠ وتكنولوجيا أقراص الفيديو الرقمية تعاني من هذا التضييق، ويَجري تنفيذ تضييق مماثل في مجال التليفزيون المدفوع عالي الوضوح، كما يَجري الترويج لحملة توسيع نطاق هذا التضييق كي يشمل كل تقنيات الوسائط في واشنطن تحت اسم «مبادرة علم البث»، ويظل المزيد من بالونات الاختبار يظهر باسم حماية حقوق التأليف والنشر، وقد طُرح مشروع قانون في الكونجرس لحظر التسجيل المنزلي لبث المذياع عبر الأقمار الصناعية، وحثت شركةُ الإذاعة الوطنية لجنةَ الاتصالات الاتحادية على إجبار مزودي خدمة الإنترنت على التفتيش على حركة المرور على الإنترنت بأكملها بحثًا عن انتهاكات حقوق التأليف والنشر (أي أن تجبر مزودي خدمة الإنترنت على فحص حزم البيانات أثناء تمريرها عبر الإنترنت وتستبعد ما كان يخص المواد غير المصرح بها)، في عام ٢٠٠٢ نظر الكونجرس إجراء حظر واسع النطاق لم يسبق له مثيل ضد أي جهاز اتصالات لا يطبق شرط حماية حقوق التأليف والنشر، وهو مشروعُ قانونٍ اضطر مناصروه أن يعيدوا صياغته بعد أن اتضح أن المشروع الأول سيحظر حتى أجهزة ضبط نبضات القلب، وأجهزة المساعدة السمعية.
ومن ثم فإن أي شركة تكنولوجيا في الولايات المتحدة اليوم بوسعها أن تخترع فاتح أبواب مرائب جديدًا دون الحاجة إلى أن يكون تصميمها مُعتمَدًا من قبل شركات تصنيع أبواب المرائب، ويمكنها أن تصنع خراطيش حبر بديلة أرخص سعرًا من دون الحاجة إلى الحصول على موافقة شركات الطابعات، ومع ذلك فلا يمكنها إنشاء تطبيقات برمجية جديدة تعالج الفيديو من أقراص الفيديو الرقمية التي تتضمن أفلامًا من هوليوود من دون إذْنٍ بذلك من اتحاد مراقبة نسخ أقراص الفيديو الرقمية. من حيث المبدأ، لا يمكنها إنشاء أي منتج أو خدمة جديدة تتعلق بمحتوى رقمي مقيد بإدارة الحقوق الرقمية دون الحصول على إذن، وغالبًا ممن هم أنفسهم يرون أن المنتج الجديد تهديد تنافسي.
استعان قانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية بقوة القانون الجنائي من أجل خدمة التقييدات التي دعت إليها إدارة الحقوق الرقمية، وقد طرح لائحة مانعة للمنافسة تحت ستار حماية حقوق التأليف والنشر. وعن طريق حظر التكنولوجيا التي تهدف إلى التحايل على إدارة الحقوق الرقمية، فإن القانون، على حد تعبير أحد النقاد، أصبح أداة «للتحايل على المنافسة».
(٧) حقوق التأليف والنشر: الحياة بدون توازن
شهد عام ١٩٨٢ إطلاق فيلم مذهل اسمه كويانيسكاتسي، وعنوان الفيلم يعني بلغة قبيلة الهوبي «الحياة بدون توازن»، ولم يتضمن ذلك الفيلم حوارًا ولا سردًا، بل إن مشاهده كانت تُمطر المُشاهدَ بوابل من الصور الرائعة والمقلقة للغاية في آنٍ واحد، صور تضع أمام المشاهد عالم الطبيعة بجانب عالم المدن. والرسالة التي حرص الفيلم كل الحرص على إيصالها للمشاهد هي أن التكنولوجيا تدمر قدرتنا على أن نعيش حياة متوازنة متناغمة.
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نعيش في عالم اختل فيه التوازن في مجال حقوق التأليف والنشر، ونجد أنه تكاد تكون كل جولة من جولات الحرب الدائرة حول حقوق التأليف والنشر، أو كل مشروع قانون يقدَّم في الكونجرس، أو كل دعوى قضائية ترفع، أو كل حكم قضائي يصدر، أو كل دفاع يرتفع صوته، يدعو إلى «التوازن التقليدي في مجال حقوق التأليف والنشر» وضرورة الحفاظ عليه. والحقيقة هي أن التوازن قد فُقد وأُطيح به في خضم الانفجار الرقمي، والذي حطم كذلك إطار أي توافق في الآراء على التصرف في المعلومات، وقد فُقِدَ التوازن لسبب وجيه.
من المفترض أن حقوق التأليف والنشر (على الأقل في الولايات المتحدة) ما هي إلا صفقة تبرمها الحكومة بين مؤلف العمل والجمهور، فيحصل المؤلف على سيطرة احتكارية محدودة على العمل، لمدد محددة، مما يتيح له الفرصة للاستفادة من عمله تجاريًّا، ويحصل الجمهور على الاستفادة من وجود العمل، ويحصل أيضًا على استخدامه دون قيود بعد انقضاء مدة الاحتكار. تطورت ملامح تلك الصفقة على مر السنين، وكان هذا التطور بصورة عامة في اتجاه تقوية الاحتكار. بموجب أول قانون أمريكي لحقوق التأليف والنشر صدر في عام ١٧٩٠، فإن حقوق التأليف والنشر تمتد بحد أقصى ٢٨ عامًا، أما اليوم فإنها تستمر ٧٠ عامًا من تاريخ وفاة المؤلف. ومع ذلك لا يزال الأمر، من حيث المبدأ، صفقة.
حقوق التأليف والنشر الرقمي
إنه قانون مكتوب للمتخصصين، وليس لرجل الشارع، بل إن المحامين العاديين يجدون صعوبة في تفسيره، لكن هذا لا يهم؛ لأن الصفقة المتعلقة بحقوق التأليف والنشر لم تكن يومًا تدور حول رجل الشارع. كان ما يُسمَّى ﺑ «توازن حقوق التأليف والنشر» إلى حد كبير تحقيقًا للتوازن بين المصالح التجارية المتنافسة، وكان تطور قانون حقوق التأليف والنشر عبارة عن جلوسٍ للأطراف المعنية معًا لتدبير الأمور، يتْبَعه عادةً تحركٌ من جانب الكونجرس، ولم يكن أحد يُشرِك رجلَ الشارع؛ لأن رجل الشارع ليس لديه قدرة حقيقية على النشر، وليس لديه ما يطرحه على طاولة المفاوضات.
(٧-١) الحضور المتأخر إلى طاولة التفاوض
غيَّر الانفجار الرقمي كل ذلك بأن يسَّر لكل شخص نسخ المعلومات وتوزيعها على نطاق العالم كله. يمكننا الآن أن نكون جميعًا ناشرين؛ إذ أصبح الجمهور الآن طرفًا في صفقة حقوق التأليف والنشر. لكن اللعبة مستمرة منذ ٢٠٠ سنة، وقد حَصَلَ التوافق منذ فترة طويلة.
عندما يأتي الشخص إلى طاولة المفاوضات وهو يملك قدرة جديدة على النشر، ويتوقع الاستفادة الكاملة من تكنولوجيا المعلومات، سيجد أن هناك احتمالات تبدو جذابة وسهلة وطبيعية، لكن تتسبب بعض «المواءمات» في الإطاحة بها بالكامل. من بين الفرص الضائعة نسخ قرص الفيديو الرقمي إلى مشغِّلٍ محمولٍ، أو جعل مقطع الفيديو مساويًا للمقطع الصوتي المجمَّع، أو وضع رسم كاريكاتيري أو أغنية مفضلة على صفحة فيسبوك، أو إضافة عملك الإبداعي وعرضه على العالم.
يشعر الناس بالاستياء عندما يجدون أن هذه الأعمال توصَم بأنها سرقة وقرصنة، وعلى حد التعبير الساخر لأحد أعضاء لوحة نشرات حاسوبية: «لقد علَّمونا في الصف الأول الابتدائي أنه ينبغي علينا أن نتشارك مع الآخرين، وها هم اليوم يقولون لنا إن هذا مخالف للقانون.»
هل بوسعك أن تنسخ أقراص الموسيقى المدمجة إلى جهاز الكمبيوتر الخاص بك؟
بالطبع يمكنك بسهولة نسخ الأقراص المدمجة إلى القرص الصلب في جهاز الكمبيوتر الخاص بك، وهناك العشرات من حزم البرمجيات المصممة لفعل ذلك، وهناك الملايين من الناس يفعلون ذلك بانتظام، إلا أن القضايا القانونية التي يتضمنها أمر نسخ الأقراص المدمجة غامضة ومربكة، وهو مثال صارخ على عدم تطابق قانون حقوق التأليف والنشر مع فهم الجمهور.
حين أدلت جنيفر باريسر، رئيسة قسم التقاضي في سوني بي إم جي، بشهادتها في قضية جامي توماس في أكتوبر ٢٠٠٧ (انظر ما ورد عن هذه القضية في بداية هذا الفصل)، صرحت بأن المرء إذا عَمدَ إلى قرص مدمج اشتراه بطريقة قانونية فنسخه — ولو لاستخدامه الشخصي — فإن هذا النسْخ مخالف للقانون، وأكدت جنيفر أن نسخ المرء لأغنية اشتراها ما هو إلا «طريقة لطيفة لقول (أنا لا أسرق سوى نسخة واحدة)»، بل ينص الموقع الإلكتروني لاتحاد صناعة التسجيلات الأمريكية تحديدًا على أن المرء منا لا يحق له قانونًا نسْخُ أقراص الموسيقى المدمجة، في حين أنه يسمح بأن نسْخ الموسيقى «عادة ما لا يثير القلق» ما دام النسْخ يجري بغرض الاستعمال الشخصي، ويحذر من أن إعطاء المرء نسخته إلى غيره أو إقراضه إياها للآخرين بهدف نسْخها أمر مخالف للقانون.
في المقابل نجد أن استطلاعًا أُجري في أكتوبر ٢٠٠٦ على مراهقين من ولاية لوس أنجلوس كشف أن ٦٩٪ منهم يرون أن المرء إذا نَسَخ قرصًا مدمجًا من صديق كان قد اشتراه فإنه بذلك لا يكون مخالفًا للقانون.
الخطأ هنا هو أننا اخترعنا التكنولوجيا للقضاء على الندرة، لكن ها نحن نرمي بها بعيدًا عن عمد لنفيد من يستفيدون من وجود الندرة. لدينا الآن وسائل تمكننا من نسْخ أي نوع من المعلومات يمكن أن توضع في صورة مضغوطة في وسيط رقمي … علينا أن نبتهج بأننا معًا أوجدنا جنة على الأرض! وبدلًا من ذلك، نجد أصحاب تلك النفوس التي يصعب إرضاؤها الذين يعتاشون من إدامة الندرة يحومون هنا وهناك يُقنعون شركاء المؤامرة أن يغلوا يدَ تكنولوجيا النسخ زهيدةِ الثمن التي ابتكرناها كي يسلبوا منها خاصية النسخ تلك، على الأقل فيما يتعلق بتلك السلع التي يرغبون هم في بيعها لنا، وهذا هو أسوأ ألوان الحماية الاقتصادية؛ أن تُفقِرَ مجتمعك لصالح صناعة محلية لا تتمتع بالكفاءة.
لن نرحب … بالسرقة التي تتنكر في صورة تكنولوجيا. لا يمكن لنشاط تجاري، بما في ذلك صناعة الأفلام، أن يحافظ على استمراره وبقائه وعلى دفع رواتب موظفيه ورضا عملائه إذا سُمح للقراصنة واللصوص بالتغلب على ما توفره قوانين هذه البلاد من حماية لحقوق الأفراد في ملكية تعبيرهم الإبداعي، والاستفادة من ذلك التعبير وتلك الملكية.
هذا ليس «توازنًا»، إنها معركة مشينة ملؤها السخط وتبادل الاتهامات، ومسار تصعيد لسن عقوبات مانعة للمنافسة باسم قانون حقوق التأليف والنشر، ومن الأضرار الجانبية لتلك المعركة أن وقع الابتكار رهينة.
(٧-٢) نحو تخفيف التصعيد
إن سلوك هذا الطريق يُوجب علينا تحرير أنفسنا من الأفكار ووجهات النظر القديمة، ورغم أن الأمر يبدو صعبًا إلا أن هناك ما يدعو إلى التفاؤل، فخلال عام ٢٠٠٧ حدث تحول كبير في صناعة التسجيلات؛ إذ تخلت عن الاعتماد على إدارة الحقوق الرقمية، فبالإضافة إلى القيود التي تفرضها إدارة الحقوق الرقمية على التكنولوجيا، فهي تُشكل غُصَّة في حلق المستهلكين والناشرين، فقد تعالت أصوات الشكاوى العامة من سلبيات إدارة الحقوق الرقمية، ليس فقط من جانب مجموعات المستهلكين، لكن من جانب الصناعة نفسها.
كان من بين أولى التحركات الظاهرة إعلانٌ أصدره في فبراير ٢٠٠٧ ستيف جوبز من شركة أبل في شكل رسالة مفتوحة إلى المسئولين عن صناعة التسجيلات يطلب منهم فيها تخفيف قيود الترخيص المفروضة على أبل لتنفيذ إدارة الحقوق الرقمية على أغاني آي تيونز. كان جوبز يرى أن عالَمًا مليئًا بمتاجر الإنترنت التي تبيع موسيقى وأغانيَ ليست مقيدة بإدارة الحقوق الرقمية يمكن تشغيلها على أي مشغل سيكون «من الواضح أفضل بديل للمستهلكين، وستتقبله أبل فورًا»، وقد جاء تفاعل القائمين على أمر ذلك المجال مع كلمات جوبز هذه تفاعلًا باهتًا، في حين هلل له آخرون. وفي مارس أعلنت شركة ميوزيك لود — وهي أحد أكبر تجار التجزئة في مجال الأغاني والموسيقى على الإنترنت في أوروبا — معارضتها لإدارة الحقوق الرقمية مشيرةً إلى أن ٧٥٪ من مكالمات قسم خدمة العملاء لديها كان سببها إدارة الحقوق الرقمية، وأكدت الشركة أن إدارة الحقوق الرقمية تصعِّب على المستهلكين أمر استخدام الموسيقى، وتَحُول دون تطوير سوق شاملة للتنزيل القانوني، وفي نوفمبر عارضت رابطة تجار تجزئة صناعة الترفيه البريطانية هي الأخرى إدارةَ الحقوق الرقمية، وقال مديرها العام إن آليات حماية النسخ «تخنق النمو، وتعمل ضد مصلحة المستهلك.»
وبحلول صيف عام ٢٠٠٧ بدأت آي تيونز من شركة أبل وشركة يونيفيرسال ميوزيك جروب تُصْدِران (بشكل منفصل) المقطوعات الموسيقية التي يمكن أن تُنسخ بحرية، وكانت مقطوعات آي تيونز تحتوي على معلومات («علامات مائية») تحدد هُوِيَّة الشخص الأصلي الذي اشتراها من آي تيونز، وبهذه الطريقة، إذا ظهرت أعداد كبيرة من النسخ غير المُصرح بها على شبكة الإنترنت فإن المشتري الأصلي يمكن تتبعه ومحاسبته.
استخدام العلامة المائية
إن استخدام العلامة المائية بدلًا من وضع القيود على النسخ والتحكم في الوصول هو مثال على نهج عام للتقنين عن طريق «المساءلة»، بدلًا من «التقييد».
عن طريق إزالة أحد الحواجز التي تحول دون بيع التنزيلات الصوتية والتمتع بها أغلقنا بابَ جدلٍ يستنفد الطاقة، وسمحنا لأنفسنا بإعادة التركيز على الفرص والمنتجات التي من شأنها أن تعود بالنفع ليس فقط على مجموعة وارنر ميوزيك ولكن على فنانينا ومستهلكينا أيضًا.
إن الاعتراف المتزايد بأن نهج إدارة الحقوق الرقمية في طريقه إلى الفشل والسقوط يوقد شرارة تجربة نماذج أخرى لتوزيع الموسيقى على الإنترنت. كانت شركة يونيفيرسال تُجري محادثات مع شركة سوني والشركات الأخرى حول تقديم خدمة تجري عن طريق الاشتراك، حيث يمكن للمستخدمين دفع رسم ثابت ليحصلوا من الأغاني والموسيقى بقدر ما يريدون، وهناك خطة تربط الخدمة بجهاز جديد، وهنا سيُدرج سعر الخدمة في سعر الجهاز.
ثَمَّةَ فكرة أخرى ذات صلة؛ ألا وهي توزيع الأغاني والموسيقى عن طريق التراخيص الشاملة مع شركات الجوال أو مقدمي خدمات الإنترنت، وهناك شركات جديدة تنشأ تقدم هذا النوع من الخدمة على الشبكات الحاسوبية للكليات. من الأفكار الأخرى فكرة شبكات المحتوى غير المحدود، وهي شبكات تتيح إمكانية الوصول إلى الأغاني أو الموسيقى أو الفيديو التي تطوف أرجاء الشبكة دون قيود، ويمكن للجمهور الاستفادة بلا حدود من المواد المتاحة — من تحميل ونسخ ونقل إلى الأجهزة المحمولة، وتَشارُك مع الآخرين — طالما أنه لا يخرج بتلك المواد عن نطاق الشبكة.
وتجرِبة هذه الأمور وغيرها من الأساليب ستُظهِر ما إذا كانت هناك نماذج مُجدية اقتصاديًّا لتوزيع الأغاني والموسيقى لا تعتمد على إدارة الحقوق الرقمية، وقد يؤدي النجاح في ذلك إلى تمهيد الطريق لصناعة الأفلام السينمائية وبالناشرين الآخرين إلى التخلي عن طريق مكافحة التحايل؛ وهو طريق مسدود كان أشد إضرارًا بالابتكار من إيقاف الانتهاك، بل إن بعض من وضعوا تلك السياسة يرى أنها أسلوب فاشل.
رخص المشاع الإبداعي
لكن نجد أن أكبر المشكلات الناجمة عن قانون الألفية لحقوق التأليف والنشر الرقمية لن تتلاشى؛ نظرًا لأن السياسات التي ينطوي عليها القانون يصعب التخلص منها. وإذا اتخذت صناعةُ المحتوى نماذج أفضل وهدأت حدة المعارك التي تدور حول إدارة الحقوق الرقمية، فإن أحكام قانون الألفية قد تظل بقعًا تُشوه منظر الساحة الرقمية، حيث تضر بالمستهلك وتمنع المنافسة، وإذا ظلت موجودة في المنظومة القانونية فإنها ستبقى كآثار ساحة حرب سُوِّيَت عن طريق الوسائل السلمية، وهي ذخائر غير منفجرة يمكن لعمل تجاري متنازَع عليه أن يستخدمها بطرق لا علاقة لها بالمغزى الأصلي من القانون.
(٨) حدود الملكية
لمدة ١٥ عامًا ظلت المعارك التي تدور حول الموسيقى الرقمية والفيديو الرقمي تتصدر مشهد الحروب الدائرة حول حقوق التأليف والنشر، ولعل الابتكارات والتجارب التي تجري بالفعل ستساعد في نزع فتيل تلك المعارك. ليس بوسعنا أن نضحي بالإمكانات الهائلة التي تتمتع بها شبكة الإنترنت والتي تدرُّ علينا الخير — والربح — في سبيل مكافحة إساءة استخدامها، وإذا كنت لا تحب ما يفعله الآخرون بشبكة الإنترنت فهذا لا يعني أن تعادي شبكة الإنترنت، اللهم إلا إذا كنت تريد ذلك.
وقد اشتد سخط الناس على حقوق التأليف والنشر، فالاهتمام الذي يحيط بالأساليب الجديدة، مثل المساءلة والمشاع، يدل على وجود انزعاج أشد بسبب تشبيه الكلمات والموسيقى بالممتلكات، وأن التعدي عليها يُعَدُّ من قبيل السرقة. إن التوازن في قضية حقوق التأليف والنشر الذي أتت عليه الرقمنة يتجاوز ذلك التوتر التقليدي الذي يكون بين المبدعين والجمهور، بل إن التوازن بين الفرد والمجتمع هو الذي يكمن وراء أفكارنا المتعلقة بالملكية نفسها، وما المساءلة والمشاع إلا محاولات لإيجاد بدائل لقيود الملكية الآخذة في التوسع والتي تُفرَض باسم قانون حقوق التأليف والنشر الرقمي.
الثقافة الحرة
كتاب لورانس لسيج «الثقافة الحرة: كيف تَستخدم وسائلُ الإعلام الكبرى التكنولوجيا والقانونَ لعرقلة الثقافة والتحكم في الإبداع» (بنجوين، ٢٠٠٤) يشرح بأسلوب مقنع كيف تهدد القيود الفضفاضة المفروضة على حقوق التأليف والنشر مستقبل الثقافة العامة، وتَحْرِمها من أن تصير قوية ونابضة بالحياة.
عندما نصنف الأفلام والأغاني والكتب على أنها «ملكية» فإننا بذلك نستحضر استعارات فضفاضة عن الحرية والاستقلال: «قطعةُ أرضي مقابل قطعةِ أرضك»، لكن الطوفان الرقمي جعل تلك الشبيهات لا محل لها. «فقطعة أرضي» قد تكون مختلفة عن «قطعة أرضك»، لكن عندما تتجزأ القطعتان إلى بِتات يختلط الحابل بالنابل، وتتلاشى الحدود الفاصلة بينهما في ضبابٍ من حزم البيانات المنتشرة عبر الشبكات.
(٨-١) تعلُّم الطيران خلال الغيوم الرقمية
لكن اعترضتْ على ذلك المشروع رابطةُ الناشرين الأمريكيين ونقابة المؤلفين، وهما الآن تقاضيان جوجل بتهمة انتهاك حقوق التأليف والنشر، وقد صرحت رئيسة رابطة الناشرين الأمريكيين باتريشيا شرودر قائلة: «إن جوجل تسعى إلى كسب الملايين من الدولارات عن طريق إتاحة بنات أفكار المؤلفين والناشرين وممتلكاتهم للتنزيل المجاني.» وقال رئيس نقابة المؤلفين إن وضع كتاب في ذلك المشروع يعادل سرقته. الخلافُ بالأساس دائرٌ حول قيام جوجل بصنع نسخ من الكتب عن طريق المسح الضوئي بهدف إنشاءِ فهرسِ بحثٍ، وكذلك حول النواحي الإجرائية القانونية بشأن ما إذا كان هذا المسح يُعَدُّ انتهاكًا لحقوق التأليف والنشر أم لا.
لا شك أن مشروع المكتبة هذا سيصب في مصلحة جوجل؛ إذ سيزيد من قيمة محرك بحثها، علمًا بأن جوجل تصنع تلك النسخ عن طريق المسح الضوئي دون إذنٍ من أصحاب حقوق التأليف والنشر، فهل هي بذلك «تستولي على ملكية الآخرين» وتستخلص القيمة من تلك الكتب دون تعويض أصحابها عن ذلك، بل ودون أن تستأذنهم في ذلك؟ وهل ينبغي أن نسمح لجوجل بفعل ذلك؟ وإذا ألَّف المرء منا كتابًا فكان «ملكية خاصة به» فإلى أي مدى ينبغي أن تمتد حدود ملكيته تلك؟
حقوق التأليف والنشر والبحث في الويب
إذا كنت تعتقد أن مشروع مكتبة جوجل ينتهك حقوق التأليف والنشر فلعلك تتساءل أيضًا ما إذا كانت محركات البحث نفسها تنتهك حقوق التأليف والنشر عن طريق التخزين المؤقت والفهرسة التي تقوم بها لمواقع شبكة الإنترنت وما تزودنا به من روابط. كان هذا الادعاء سببًا في رفع عدد من الدعاوى القضائية، لكن المحاكم رفضت ذلك الادعاء، ففي قضية فيلد ضد جوجل (يناير ٢٠٠٦) قضت المحكمة الجزئية بنيفادا أنَّ ما تقوم به جوجل من تخزين مؤقت وفهرسة لمواقع الإنترنت أمر جائز، ومن العوامل التي تَضَمَّنها الحكم أن جوجل لا تقوم بتخزين صفحات الويب في ذاكرة تخزينها إلا مؤقتًا، وفي قضية بيرفكت ١٠ ضد جوجل (مايو ٢٠٠٧) رفضت محكمة الدائرة التاسعة طلب إحدى المجلات الإباحية إصدار أمر قضائي أولي لمنع جوجل من عمل روابط لموقعها ونشْر صور مصغرة من ذلك الموقع.
لقد واجهنا كمجتمع هذا النوع من الأسئلة من قبل. إذا كان هناك جدول يجري عبر أراضيك فهل يعني هذا أنك تملك ماء ذلك الجدول؟ وهل هناك حدود لملكيتك؟ وهل يجوز لك أن تضخ المياه من ذلك الجدول إلى خارجه لتبيعها، حتى لو لم يتسبب ذلك في نقص المياه في المصب؟ وماذا عن التزاماتك أمام ملاك الأراضي عند المنبع؟ تلك كانت قضايا خلافية كبرى شهدتها الولايات الغربية الأمريكية في القرن التاسع عشر، وقد أدت في النهاية إلى وضع نظام حقوق الملكية المحدودة لدى ملاك الأراضي في المياه التي تجري خلال أراضيهم.
لنفترض أن طائرة حلقت فوق أرضك، فهل هذا يُعَدُّ تعديًا على ممتلكاتك؟ ولنفترض أن الطائرة حلقت على ارتفاع منخفض للغاية، فإلى أي مدًى تمتد ملكيتك في هواء قطعة أرضك؟ من العصور القديمة وحقوق المالك في هواء ملكيته لا حدود لها، وربما ينبغي على شركات الطيران الحصول على إذنٍ من كل صاحب أرض تمر فوقها طائراتها. لك أن تتخيل أن تواجه هذه القضية التنظيمية في فجر عصر الطيران. هل علينا أن نُلزم شركات الطيران بالحصول على هذا الإذنِ احترامًا للملكية؟ لعل هذا كان سيبدو معقولًا في الوقت الذي كانت الطائرات لا تستطيع أن تحلق إلا على ارتفاع بضعة آلاف الأقدام، لكن لو كان المجتمع قد فعل ذلك فما عساها أن تكون الآثار المترتبة على الابتكار في السفر بالطائرات؟ هل كنا سنرى ظهور الطائرات العابرة للقارات، أم هل كانت غابة التنظيم ستسد الطريق أمام تلك التكنولوجيا؟ وقد أحبط الكونجرس الأمريكي نمو تلك الغابة عن طريق تأميم المجال الجوي للملاحة في عام ١٩٢٦.
وبالمثل، هل ينبغي أن نفرض على شركة جوجل الحصول على إذنٍ من صاحب حقوق التأليف والنشر بالنسبة لكل كتاب قبل إدراجه في فهرسها؟ هذا يبدو معقولًا للغاية، وفي الواقع هناك غير ذلك من مشاريع فهرسة الكتب الجارية والتي تسعى إلى الحصول على هذا الإذن، لكن لعل البحث في الكتب هو المعادل الرقمي للطائرات التي تحلق على ارتفاع منخفض. هل يمكننا تصور مستقبل الرحلات الجوية العابرة للقارات، حيث تُستخرج الكتب والموسيقى والصور والفيديو تلقائيًّا، وتؤخذ منها عينات، وتُمزج ويُعاد مزجها، وتُغذى بها محركات ضخمة تعمل بالمنطق الآلي، وتُستوعب في البرامج الأساسية لأجهزة الكمبيوتر الشخصية وكل هاتف محمول، وآلاف الأشياء الأخرى التي لم يعرف القاموس البشري حتى الآن لها وجودًا؟
ما هو التوازن الصحيح؟ إلى أي مدى «رأسي» في فضاء المعلومات المتفجر ينبغي أن يمتد نطاق حقوق الملكية؟ بل ما ينبغي أن يكون معنى كلمة الملكية عندما نتحدث عن البِتات؟ لا ندري، ولن يكون من السهل الإجابة على ذلك، لكن بطريقة أو بأخرى علينا أن نتعلم كيف نطير.
•••
يؤثر الانفجار الرقمي على المعلومات بكل طريقةٍ، منتهكًا بذلك حدود الملكية الراسخة، وقد أربكت التكنولوجيات حقوق التأليف والنشر — تلك القواعد التي تنظم البِتات وتكبح جماحها أثناء تنقلها — كما قد جلبت لنا التكنولوجيا حلولًا لمشكلات نجمت عن التكنولوجيا نفسها، وقد أوجدت تلك الحلول سياسات «أمر واقع» خاصة بها، متجاوزةً في ذلك اعتبارات المصلحة العامة التي كان يقوم عليها توازن حقوق التأليف والنشر.
حدود الملكية ليست الحدود الوحيدة التي انتهكها الانفجار الرقمي، وليست حقوق التأليف والنشر الساحة الوحيدة التي يواجه فيها تقنين المعلومات تحدياتٍ وصعوباتٍ. إن البِتات تتجاوز الحدود الوطنية، وتطير لتحط داخل المنازل والأماكن العامة وهي تحمل محتوًى غير مرغوب فيه، بل وضارًّا؛ محتوى لطالما قُيِّد في الماضي، ليس بموجب حقوق التأليف والنشر، لكن بلوائح تمنع التشهير والمواد الإباحية، لكن على أي حال نجد أن البِتات تطير، وهذا هو اللغز الذي سنتحول إليه في الفصل التالي.