حين تطير البِتات في الهواء
(١) رقابة على الرئيس
في ١٧ يوليو ٢٠٠٦ كان الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير يُدردشان معًا في قمة مجموعة الثمانية في سان بطرسبرج بروسيا، وكان الحدث محط اهتمام المصورين، لكن الزعيميْن لم يُدركا أن الميكروفون كان يعمل. كانا يناقشان ما يمكن أن تفعله الأمم المتحدة لقمع الصراع بين إسرائيل والميليشيات المسلحة في لبنان. قال بوش: «تكمن المفارقة في أن ما عليك القيام به هو حمل سوريا على إيقاف حزب الله عن فعل هذا الخراء، وسينتهي الأمر.»
نشرت شبكة سي إن إن الإخبارية هذا المقطع كاملًا على شبكة الإنترنت، لكن معظم محطات البث وضعت صفارة محل الكلمة البذيئة. كانت تعلم أن هذا قد يكلفها أن تدفع غرامة قد تصل إلى ٣٢٥ ألف دولار أمريكي تفرضها عليها لجنة الاتصالات الفيدرالية لبثها تلك الكلمة النابية.
منذ فترة طويلة ولجنة الاتصالات الفيدرالية تنظم التعبير فيما يُبَثُّ للجمهور، لكنها جعلت معايير حشمتها أكثر صرامة بعد ما وقع في عام ٢٠٠٢ في حفل تقديم جوائز «جولدن جلوب»، حين فاز المغني بونو بجائزة «أفضل أغنية أصلية»، وتحدث في كلمته التي ألقاها لقبول الجائزة بكلمات نابية، وقضت لجنة الاتصالات الفيدرالية بأن هذا التصريح كان «بلا شك مسيئًا وفقًا لمعايير المجتمع المعاصر فيما يتعلق بالبث»، وتوعدت بأنها ستغرِّم المحطات التي تذيع مثل هذه التصريحات، بل وستسحب تراخيصها.
وفي عام ٢٠٠٦ ضمت اللجنة إلى ذلك المنع كلمات بذيئة أخرى منتشرة على ألسنة البعض. كذلك ورد في حديث نيكول ريتشي لباريس هيلتون عن برنامج تليفزيوني واقعي قامت فيه ببعض الأعمال الزراعية بعضُ الكلمات النابية أيضًا، وصار حكم لجنة الاتصالات الفيدرالية على استخدام ريتشي لهذه الكلمات النابية يعني ضمنًا أن استخدام بوش «بذيء بشكل سافر» في نظر لجنة الاتصالات الفيدرالية.
ثم جاءت إحدى المحاكم الفيدرالية لتناقض سياسة لجنة الاتصالات الفيدرالية ضد الألفاظ النابية «العابرة»، وهو توسعة لنطاق سياسات عدم الاحتشام التي ظلت موجودة منذ عشرات السنين. وبادر الكونجرس الأمريكي إلى إصدار تشريعات لاستعادة معيار لجنة الاتصالات الفيدرالية الجديد والصارم، وتقرر أن يُحال الأمر برُمَّته إلى المحكمة العليا الأمريكية في ربيع عام ٢٠٠٨. وقد اعتمدت لجنة الاتصالات الفيدرالية معاييرها الجديدة بعد أن ازداد عدد شكاوى عدم الاحتشام من أقل من ٥٠ شكوى إلى حوالي ١٫٤ مليون شكوى في الفترة من ٢٠٠٠ إلى ٢٠٠٤. ربما ظن الكونجرس الأمريكي أن قانون التعبير الجديد يقدم تفويضًا عامًّا.
بموجب التعديل الأول للدستور الأمريكي فإن الحكومة بوجه عام لا شأن لها بتقييد حرية التعبير، فليس لها أن تفرض رقابتها التحريرية على الصحف حتى ولو بهدف زيادة نطاق المعلومات المتاحة للقراء، وأبطلت المحكمة العليا قانونًا صدر في فلوريدا يخوِّل للمرشحين السياسيين «حق الرد» على الهجمات التي تشنها الصحف عليهم، وقضت بعدم دستوريته.
ومع ذلك، في عام ٢٠٠٦، كانت إحدى الجهات التابعة للحكومة الفيدرالية تسعى إلى حجب كلمات بعينها من أن تُذاع في التليفزيون، وذلك باستخدام قواعد «من المفترض أنها» كانت تشمل حتى الحوار الصريح حول الحرب والسلام بين زعماء العالم الحر، ونشرت العشرات من الصحف كلام بوش كاملًا، ويمكن لأي شخص لديه اتصال بالإنترنت أن يستمع إلى ما قال، ورغم تصاعد شكاوى عدم الاحتشام المقدمة للجنة الاتصالات الفيدرالية فقد عارض الأمريكيون أن تفرض الحكومة رقابتها على البرامج التليفزيونية.
(٢) كيف أصبح البث مُقَنَّنًا
بسطت لجنة الاتصالات الفيدرالية سلطتها على ما يُقال في الإذاعة والتليفزيون حين كانت سبل توزيع المعلومات ونشرها محدودة، وكانت النظرية تقول إن سبل النشر العام عبر الأثير كانت نادرة، ما اضطر الحكومة إلى أن تضمن أن تلك السبل كانت تُستخدم في الصالح العام. وحين أصبحت الإذاعة والتليفزيون في متناول الجميع ظهرت حجة أخرى لتقنين الحكومة للتعبير عبر البث، ففي عام ١٩٧٨ صرحت المحكمة العليا أنه نظرًا لأن وسائل الإعلام المذاعة والمرئية تتمتع «بحضور متغلغل فريد من نوعه في حياة جميع الأمريكيين» فقد أولت الحكومة اهتمامًا بالغًا بحماية الجمهور الذي لا حول له ولا قوة من المحتوى البغيض في الإذاعة والتليفزيون.
في ظل وجود الحد الأدنى من التكنولوجيا يمكن لأي شخص الجلوس في منزله أو في أحد محلات ستاربكس ليختار ما يشاء من بين المليارات من صفحات الويب وعشرات الملايين من المدونات، وقد ترك الإعلامي الصادم الساخر هوارد ستيرن الإذاعة الأرضية ليعمل في الإذاعة الفضائية حيث لا سلطة للجنة الاتصالات الفيدرالية على تقنين ما يقوله. إن أكثر من ٩٠٪ من مشاهدي التليفزيون الأمريكيين يحصلون على إشارة التليفزيون عن طريق وصلات تليفزيونية مدفوعة أو وصلات أقمار صناعية غير مقننة، وليس عن طريق البث من الهوائيات التي تُركَّب على أسطح المباني، والتلقيمات الإخبارية تزود الملايين من مستخدمي الهاتف المحمول بأحدث المعلومات أولًا بأول، ولم تعد محطات الإذاعة والقنوات التليفزيونية اليوم نادرة ولا متفردة بالتغلغل عما سواها من وسائل الإعلام.
وترى الحكومة أنه حتى يتسنى لها حماية الأطفال من جميع المعلومات المسيئة التي ترد إليهم عن طريق وسائل الاتصال فإنه لا بد لها من بسط سلطتها بشكل كبير وتحديثها باستمرار، وبالفعل سُنَّ تشريعٌ فيدراليٌّ يحقق ذلك بحذافيره؛ فبسط نطاق لوائح عدم الاحتشام التي تخص وسائل الإعلام والتي تصدرها لجنة الاتصالات الفيدرالية على البث الفضائي والبث التليفزيوني المدفوع.
إلا أن ثورة الاتصالات تثير احتمالًا آخر. فإذا كان بوسع أي شخص تقريبًا الآن أن يرسل معلومات ليستقبلها الكثيرون لربما يتعين على الحكومة أن تقلل من رغبتها في تقييد الإرسال عما كانت عليه في السابق، لا أن تزيد منها. ففي حالة غياب الندرة ربما يتعين أن لا يكون للحكومة سلطة على ما يُقال في الإذاعة والتليفزيون تفوق سلطتها على ما يُنشر في الصحف المطبوعة، في هذه الحالة، بدلًا من بسط يد رقابة لجنة الاتصالات الفيدرالية، ينبغي على الكونجرس الأمريكي أن يسلبها تلك الرقابة، تمامًا كما أنهت المحكمة العليا تشريع ولاية فلوريدا لتقنين محتوى الصحف.
ويردُّ على ذلك مَنْ لديهم اهتمامات بمحطات إذاعية وتليفزيونية قائلين إن موجات الأثير العمومية ينبغي أن تظل موردًا محدودًا، ما يستلزم توفير حماية حكومية لها، ويقول المنظرون لذلك إنه لم يَعُدْ أحد يستخدم الطيف الراديوي، ويجب أن يُستخدم للصالح العام.
لكن انظر حولك. لا تزال هناك محطات قليلة على ترددات الإيه إم وترددات الإف إم، لكن هناك الآلاف، وربما عشرات الآلاف، من الاتصالات اللاسلكية تمر عبر الهواء من حولنا، ومعظم الأمريكيين يتجولون هنا وهناك حاملين في جيوبهم أجهزة لاسلكي — نسميها هواتف محمولة — ومعظم مراهقينا يتحدثون عبرها على الدوام. قد تصبح أجهزة المذياع وأجهزة التليفزيون أكثر ذكاء بكثير مما هي عليه الآن، وقد تستفيد بطريقة أفضل من موجات الأثير، تمامًا كما تفعل الهواتف المحمولة.
لقد أفسدت التطورات الهندسية تجاوز الحكومة لما جاء في التعديل الأول للدستور الأمريكي في مجال الإذاعة والتليفزيون، وفي ظل هذه الظروف المتغيرة يطالب الدستور بأن تتوقف الحكومة عن رقابتها على التعبير.
النجاة من الكوارث بفضل الاتصالات اللاسلكية
ظهر مثال ساطع على انتشار الشبكات اللاسلكية وتغلغلها، رغم القيود المفروضة على الطيف اللاسلكي حيث يُسمح له بالعمل، وذلك في أعقاب تدمير بُرجيْ مركز التجارة العالمي في ١١ سبتمبر عام ٢٠٠١، فقد ظل سكان أقصى جنوب مانهاتن لعدة أيام يعتمدون إلى حد كبير على ما لديهم من أجهزة لاسلكية، وقد وقع شيء مماثل بعد زلزال ديسمبر ٢٠٠٦ الذي قطع كابلات الاتصالات في جنوب شرق آسيا.
والقول بأن الطيف نادر بالضرورة من الناحية العلمية صار الآن قولًا ضعيفًا للغاية، لكن ما زال هذا الرأي تدعمه وبقوة الصناعة نفسها التي يجري تقنينها، فمحطات البث القائمة المرخصة لديها حافز يشجعها على حماية «مضمار سباقها» في الطيف ضد أي خطر، سواء أكان حقيقيًّا أم متوهَّمًا، قد يصيب إشاراتها بالعطب، فعن طريق مناهضة الابتكار التكنولوجي يمكن لمحطات البث الحالية أن تحد من المنافسة وتتجنب الاستثمارات الرأسمالية، وهذه الخيوط المتشابكة والمحيرة، من اهتمام الحكومة بالندرة المصطنعة لتبرير تقنين التعبير، واهتمام محطات البث بالندرة المصطنعة للحد من المنافسة والتكاليف، هذه الخيوط تضعف الإبداع الثقافي والتكنولوجي معًا، وذلك على حساب المجتمع.
ولِنفهمَ القوى المجتمعة التي أفرزت الرقابة على عالم الإذاعة والتليفزيون اليوم علينا أن نعود إلى مخترعي هذه التكنولوجيا.
(٢-١) من التلغراف اللاسلكي إلى الفوضى اللاسلكية
الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق — وهي ألوان قوس قزح — كلها مختلفة، لكنها في ذات الوقت تمثل الشيء نفسه. أي طفل يحمل علبة أقلام تلوين يعرف أنها كلها مختلفة، وهي تمثل نفس الشيء؛ لأنها كلها نتيجة الإشعاع الكهرومغناطيسي الذي يسقط على أعيننا. ينتقل الإشعاع في صورة موجات تتذبذب بسرعة كبيرة، والفرق المادي الوحيد بين الأحمر والأزرق هو أن معدل تذبذب الموجات الحمراء يقرب من ٤٥٠ تريليون مرة في الثانية الواحدة، أما الموجات الزرقاء فمعدل تذبذبها يقرب من ضعف ذلك بمرةٍ ونصف.
ولأن طيف الضوء المرئي مستمر نجد أنه بين الأحمر والأزرق توجد ألوان لا حصر لها، وخلط الضوء الذي يحمل ترددات مختلفة ينتج ألوانًا أخرى، على سبيل المثال إنْ خلطنا موجات زرقاء مع أخرى حمراء بنسبة واحد إلى واحد نتج اللون الأرجواني المعروف، والذي لا يظهر في قوس قزح.
في ستينيات القرن التاسع عشر أدرك الفيزيائي البريطاني جيمس كلارك ماكسويل أن الضوء يتألف من موجات كهرومغناطيسية، وتوقع في معادلاته أنه قد تكون هناك موجات لها ترددات أخرى، موجات لا يدركها الإنسان. والحقيقة أنه منذ فجر التاريخ وهذه الموجات تحيط بنا. إنها تأتينا من الشمس والنجوم، وتغمرنا ونحن لا نراها، وتشع وتظهر حين يأتي البرق، ولم يشك أحد في وجودها إلا حين ظهرت معادلات ماكسويل ونطقت بذلك، في الواقع، ينبغي أن تكون هناك مجموعة كاملة من الموجات غير المرئية ذات ترددات مختلفة، وكلها تسير بسرعة كبيرة على غرار الضوء المرئي.
لم يكن جولييمو ماركوني عالِمَ رياضيات ولا عالِمًا، بل كان سمكريًّا مبتكِرًا، ولم يكن ماركوني قد تجاوز الثالثة عشرة من عمره بعدُ حين أجرى هرتز تجربته تلك، وقضى السنوات العشر التي تلت ذلك يطور ويخترع — عن طريق التجربة والخطأ — طرقًا أفضل لابتكار رشقات من موجات الراديو، والهوائيات التي تتلقى تلك الرشقات على مسافات أكبر.
في عام ١٩٠١ تلقى ماركوني في نيوفاوندلاند رسالة بإشارة مورس آتية إليه من إنجلترا، وبناءً على قوة هذا النجاح أنشأ ماركوني شركة ماركوني للتلغراف اللاسلكي بعد فترة وجيزة من ذلك والتي مكنت السفن من أن تتواصل معًا وتتواصل مع الشاطئ، وحين غادرت تيتانيك في رحلتها المصيرية عام ١٩١٢ كانت مزودة بجهاز ماركوني. كانت المهمة الرئيسية لمشغلي أجهزة اللاسلكي في السفينة هي إرسال واستلام الرسائل الشخصية من الركاب وإليهم، لكنهم تلقوا أيضًا ما لا يقل عن عشرين تحذيرًا من سفن أخرى حول الجبال الجليدية التي تنتظر السفينة.
وعبارة «التلغراف اللاسلكي» الموجودة في اسم شركة ماركوني تشير إلى أعظم تحجيم لأول صور الراديو، فقد نُظر إلى هذه التكنولوجيا كوسيلة اتصال من نقطة إلى نقطة. حل الراديو أسوأ مشكلة تتعلق بعالم التلغراف، فلم يكن بوسع كارثة أو تخريب أو حرب أن توقف الإرسال اللاسلكي عن طريق قطع الكابلات، لكن كان هناك عيب يعوض عن ذلك: فبوسع أي أحد أن يتنصت على ما يُرسل عن طريقها. في بادئ الأمر نُظر إلى الطاقة الهائلة للبث الذي يصل إلى الآلاف من الناس في وقت واحد على أنها عبء، فمن ذا الذي سيقدِم على أن يدفع مالًا إلى شخص آخر في حين أنه يمكن لأي شخص أن يتنصت على الرسالة؟
وحين انتشر الإبراق اللاسلكي ظهرت مشكلة أخرى، مشكلة رسمت ملامح تطوير الإذاعة والتليفزيون منذ ذلك الحين، فإذا كان عدة أشخاص يُجرون اتصالات في وقت واحد في نفس المنطقة الجغرافية فإن رسائلهم تتداخل، وأظهرت كارثة تيتانيك البلبلة التي يمكن أن تظهر بسبب ذلك، ففي الصباح الذي تلا اصطدام السفينة بجبل الجليد ذكرت الصحف الأمريكية بحماس أنه تم إنقاذ جميع الركاب، وأنه كان يجري قَطْرُ السفينة إلى الشاطئ، وكان هذا قد نشأ عن خطأ وقع فيه عامل اللاسلكي؛ إذ دَمَجَ خطأً جزأيْن من رسالتين لا علاقة بينهما أُرسِلَتا بشفرة مورس، فقد كانت إحدى السفن أرسلت رسالة تتساءل: «هل كل ركاب تيتانيك آمنون؟» في حين أرسَلتْ سفينة أخرى مختلفة تمامًا رسالة تفيد بأنها: «على بعد ٣٠٠ ميل إلى الغرب من تيتانيك، وتقطر ناقلة نفط متجهة إلى هاليفاكس.» وكان لدى كل السفن أجهزة لاسلكي وعمال يعملون عليها، لكن لم تكن هناك قواعد أو اتفاقيات حول كيفية استخدام تلك الأجهزة ومتى تُستخدم.
كان المستمعون لأجهزة إرسال ماركوني الأولى يخلطون بين الرسائل بسهولة؛ لأنهم لم تكن لديهم وسيلة ﻟ «ضبط» موجة الاتصالات، ورغم كل ما أنتجته عبقرية ماركوني في توسيع نطاق الإرسال، إلا أنه كان يعتمد على طريقة هرتز في توليد موجات اللاسلكي؛ ألا وهي الشرارات الكبيرة، فقد كانت الشرارات تنثر الطاقة الكهرومغناطيسية في جميع أنحاء الطيف الراديوي، ويمكن إيقاف الطاقة وتحويلها إلى نقاط وشرطات، لكن لم يكن هناك تحكم في أي شيء آخر، فلم يكن بوسع أحد أن يميز بين صوت جهاز لاسلكي وآخر، وحين يتزامن إرسال الرسائل تقع البلبلة والفوضى.
رغم تعدد ألوان الضوء المرئي فإنها تبدو بيضاء إذا خُلطت معًا، ومرشِّح اللون يمرر بعض ترددات الضوء المرئي دون بعض، فإذا نظرت إلى العالم عن طريق مرشح أحمر ظهر كل شيء أمامك بدرجات متفاوتة من اللون الأحمر؛ لأن الضوء الأحمر هو الضوء الوحيد الذي يترشح، وما كان يحتاج إليه جهاز اللاسلكي هو شيء يشبه الطيف الراديوي: وسيلة لإنتاج موجات لاسلكية بتردد واحد، أو على الأقل نطاق ضيق من الترددات، وجهاز استقبال يمرر تلك الترددات في حين يحجب ما سواها، في الواقع كانت تلك التكنولوجيا موجودة بالفعل.
في عام ١٩٠٧ اخترع لي دي فورست تكنولوجيا مهمة لشركة دي فورست للهاتف اللاسلكي، مُكرسة لإرسال الصوت بل والموسيقى عبر موجات الراديو، وحين أُذيع غناء إنريكو كاروسو من دار الأوبرا بمتروبوليتان في ١٣ يناير عام ١٩١٠ وصل البث إلى السفن في عُرض البحر، واحتشد الهواة على أجهزة الاستقبال في نيويورك ونيوجيرسي. كان تأثير ذلك مذهلًا، فظهر مئات من المذيعين الهواة على مدى السنوات القليلة التي تلت ذلك، وأخذوا يقولون كل ما يحلو لهم بلهفة وشغف، ويعزفون ما يشاءون من الموسيقى ليستمع إليهم كل من كان ينصت حينها إلى ما يبثونه.
(٢-٢) موجات الراديو في قنواتها
في ظل تلك الظروف لم يتسنَّ لصناعة الراديو الناشئة أن تنمو، فقد أثارت المصالح التجارية قلق القوات البحرية الأمريكية من تدخل الهواة في الاتصالات التي تجرى بين سفنها الحربية، ورغم أن كارثة تيتانيك ليس لها كبيرُ علاقةٍ بأعطال أجهزة اللاسلكي إلا أنها حفزت الحكومة لتتخذ الإجراءات اللازمة، ففي ١٢ مايو عام ١٩١٢ وقف ويليام ألدن سميث في قاعة مجلس الشيوخ الأمريكي لينادي بتقنين الراديو، وقال: «عندما يبكي العالم معًا على خسارة مشتركة فلماذا لا ينبغي للأمم أن تزيل كل هذا الكم الهائل من التعابير المتضاربة، وتقوم بحكمة بتقنين هذا الخادم الجديد للإنسانية؟»
وجاء قانون الراديو لعام ١٩١٢ ليَقْصُرَ حق البث على أصحاب التراخيص، وتقرر أن تراخيص البث سوف «تُمنح من قبل وزير التجارة والعمل بناءً على طلبٍ للحصول عليها»، وحين يَمنح الوزير المذكور الترخيص بذلك فإنه يُقرر الترددات «التي يُؤذن للمحطة باستخدامها تفاديًا للتداخل بين الموجات، وكذلك يحدد ساعات عمل المحطة»، وحفظ هذا القانون للحكومة حق الاختيار بين الترددات التي تقع بين ٢٠٠ و٥٠٠ كيلوهرتز، والتي تضمن أوضح الاتصالات عبر المسافات الطويلة، وفرض على الهواة أن يقتصروا على ترددات «الموجة القصيرة» التي تزيد على ١٥٠٠ كيلوهرتز، وهي ترددات عديمة الفائدة لأسباب تكنولوجية. أما التردد ١٠٠٠ كيلوهرتز فقد كان محجوزًا لنداءات الاستغاثة، وفرض على المحطات المرخصة أن تستمع إليها كل ربع ساعة (وهو شرط كان من شأنه أن ينقذ تيتانيك؛ إذ إن العاملين على أجهزة لاسلكي إحدى السفن القريبة كانوا قد انتهت نوبة عملهم، ومِنْ ثَمَّ فَاتَهُم أن يلتقطوا نداءات الاستغاثة التي صدرت من تيتانيك). أما بقية الطيف فكان للوزير أن يخصصه لمحطات الإذاعة التجارية والشركات الخاصة. مع التأكيد على طبيعة الراديو ﮐ «إبراق لاسلكي» جرَّم القانونُ أن يقوم المرء الذي استمع إلى رسالة لاسلكية بالكشف عنها لأحد سوى الشخص المرسَل إليه المقصود بالرسالة.
الترددات العالية
على مر السنين أتاحت التحسينات التكنولوجية استخدام ترددات أعلى فأعلى، فكان البث التليفزيوني الأول يجري بما كان يُعتبر حينها عن طريق «ترددات عالية جدًّا»؛ لأنها كانت أعلى من ترددات الراديو الإيه إم. ثم تحسنت التكنولوجيا مرة أخرى فظهرت محطات أخرى تعمل على «ترددات عالية للغاية»، وأعلى تردد في الاستخدام التجاري اليوم هو ٧٧ جيجاهرتز، وهو ما يعادل ٧٧ ألف ميجاهرتز، وفي الجملة فإن الإشارات عالية التردد تتلاشى مع طول المسافة أكثر من الإشارات المنخفضة، ومِنْ ثَمَّ فهي مفيدة لا سيما للبيئات المحلية أو الحضرية، أما الموجات القصيرة فهي تتوافق مع الترددات العالية؛ لأن كل موجات الراديو تنتقل بنفس السرعة، والتي هي سرعة الضوء.
وخلال عقد من الزمن تغيرت تلك الصورة تغيرًا جذريًّا، ففي الثاني من نوفمبر عام ١٩٢٠ بثت محطة إذاعة في ديترويت انتخاب وارن هاردينج رئيسًا للولايات المتحدة، محيلةً إلى جمهورها الضئيل ما كانت تستقبله عن طريق التلغراف، فلم يعد المذياع مجرد وسيلة اتصال بين نقطة وأخرى، وبعد ذلك بعام بثت محطة إذاعية في نيويورك نهائي دوري البيسبول بين فريق جيانتس وفريق يانكيز لحظة بلحظة. لقد وُلِدَ بث الأحداث الرياضية بظهور مذيع يكرر بشكل ممل ما يَرِدُ إليه من معلومات حول أحداث المباريات التي يرسلها إليه هاتفيًّا أحد المراسلين الصحفيين من الملعب.
وسرعان ما تزايد الإدراك العام للإمكانيات المتاحة، فقد رُخص لأول خمس محطات إذاعية بالبث في عام ١٩٢١، ولم يمضِ عام حتى صار العدد ٦٧٠ محطة إذاعية، وقفز عدد أجهزة المذياع في غضون عام واحد من أقل من ٥٠ ألف جهاز إلى أكثر من ٦٠٠ ألف جهاز، بل لعله وصل إلى مليون جهاز، وكانت المحطات الإذاعية التي تستخدم نفس التردد في نفس المدينة تقتسم فيما بينها ساعات اليوم، وحين أصبح البث الإذاعي تجارة مربحة لم يعد ممكنًا أن يستمر نموه إلى الأبد.
ففي ١٢ نوفمبر عام ١٩٢١ انتهت صلاحية رخصة البث لشركة إنترسيتي راديو في مدينة نيويورك. رفض هربرت هوفر، وزير التجارة حينها، تجديدها على أساس أنه لا يوجد أي تردد يمكن للشركة أن تبث فيه في المجال الجوي للمدينة دون أن يحدث تداخل بين بثها وبث الحكومة أو بث المحطات الخاصة الأخرى، فأقامت شركة إنتر سيتي دعوى قضائية ضد هوفر لاستعادة رخصتها، وحكمت المحكمة لصالحها، وقالت المحكمة إن من حق هوفر أن يختار التردد، لكن ليس له سلطة تقديرية لرفض الترخيص للشركة. وعلى حد تعبير لجنة الكونجرس الأمريكي التي اقترحت قانون الراديو لعام ١٩١٢ فإن نظام الترخيص «إلى حد كبير كان هو هو المستخدَم لتوثيق ٢٥ ألف سفينة تجارية»، وكان التشبيه الضمني يعني أن على هوفر أن يتتبع المحطات الإذاعية وكأنها سفن في المحيط. نعم، له أن يفرض على السفن الممرات الملاحية التي تبحر فيها، لكن ليس له أن يخرجها من المياه.
وكان القائمون على صناعة الراديو يتوقون إلى وضع نظام، فعقد هوفر مؤتمرًا للإذاعة الوطنية عام ١٩٢٢ في محاولة لتحقيق توافق في الآراء بشأن اللوائح الجديدة قبل أن تَحِلَّ الفوضى، وقال إن الطيف «أحد الأصول الوطنية الكبيرة، ويصبح من المصلحة العامة الأولية أن نحدد مَنْ يقوم بالبث، ونحدد ظروف ذلك البث ونوع المواد المذاعة. إن شريحة عريضة من المشتركين في حاجة إلى الحماية من الأصوات التي تملأ أجهزتهم»، وموجات الأثير بحاجة إلى «شُرطي» للكشف عن «الطماعين الذين يهددون حركة المرور».
قسَّم هوفر الطيف من ٥٥٠ كيلوهرتز إلى ١٣٥٠ كيلوهرتز في نطاقات تبلغ ١٠ كيلوهرتز تسمى «قنوات»، بما يتفق مع التشبيه البحري، بهدف ضغطها في عدد أكثر من المحطات، وتُركت «نطاقات حارسة» فارغة على كل جانب من النطاقات الموزعة؛ لأن إشارات البث تنتشر حتمًا إلى الخارج، ما يقلل من كمية الطيف الصالحة للاستعمال. وساعد الإقناع والامتثال الطوعي هوفر على الحد من التداخل، وحين أنشئت المحطات واستقرت وجدت أنه من المفيد أن تمتثل لما يفرضه هوفر. لاقت المحطات الناشئة صعوبة في الدخول إلى تلك الساحة، وأقنع هوفر ممثلي إحدى الجماعات الدينية أنه لكي يحذِّروا الناس من نهاية العالم المقبلة ينبغي عليهم أن يشتروا وقتًا على المحطات القائمة بدلًا من بناء محطة جديدة، فعلى أي حال، هذا استخدام أفضل لأموالهم؛ ففي غضون ستة أشهر، بعد أن يكون العالم قد انتهى، لن يكون لجهاز الإرسال أي استخدام آخر، وأشعرت جهود هوفر الكونجرسَ الأمريكي بالرضا، فالنظام كان يسير على ما يُرام دون قوانين.
لكن حين ضاق الأمر ساء الوضع أكثر. كانت إذاعتا دبليو إل دبليو ودبليو إم إتش في سينسيناتي تبثان على نفس التردد في عام ١٩٢٤، إلى أن نجح هوفر في التوصل إلى اتفاق يتيح لثلاث محطات أن تتبادل البث على هذا التردد في أوقات بعينها، لكن في آخر المطاف انهار النظام، ففي عام ١٩٢٥ مُنحت شركة زينيث راديو كوربوريشن ترخيصًا لاستخدام ٩٣٠ كيلوهرتز في شيكاجو، لكن في ليالي الخميس فقط من العاشرة مساءً وحتى منتصف الليل، وشريطة أن لا ترغب محطة دنفر في البث في ذلك الحين، لكن بدأت الشركة — ودون الحصول على إذن — في البث على التردد ٩١٠ كيلوهرتز، وكان هذا التردد أكثر انفتاحًا؛ لأنه تم التنازل عنه بموجب معاهدة إلى كندا، فما كان من هوفر إلا أن غرَّم شركة زينيث مبلغًا من المال؛ فلجأت شركة زينيث إلى القضاء رافضةً أن يكون لهوفر سلطة تنظيم الترددات، وحكمت المحكمة لصالحها. ثم نمت إلى علم الوزير أخبار أسوأ من ذلك أتته من قبل النائب العام الأمريكي: فقانون عام ١٩١٢ الذي صيغ قبل البث كان مجرد مفهوم، وكان به الكثير من الغموض بحيث إنَّه لا يمنح هوفر سلطة لتنظيم أي شيء يتعلق بالبث الراديوي من ترددات وقوة ووقت محدد من اليوم.
وهنا استسلم هوفر، وصار من حق أي شخص أن يُنشئ محطة إذاعية ويختار لها ترددًا — كان عدد الطلبات على قائمة الانتظار ٦٠٠ طلب — لكن حين يقومون بذلك فإنهم يفعلونه «وهم يتحملون المسئولية كاملة»، وكانت النتيجة، كما تنبأ هوفر، «فوضى أثيرية»، بل كان الأمر أسوأ مما كان عليه قبل صدور قانون عام ١٩١٢؛ نظرًا للكثرة الهائلة في عدد أجهزة الإرسال والزيادة الكبيرة في مدى قوتها. برزت محطات جديدة، وتكالبت على جميع أنحاء الطيف الترددي بحثًا عن مساحة بث شاغرة، ورفعت قوة بثها إلى الحد الأقصى للتغلب على المحطات المنافسة، وأصبح المذياع عديم الجدوى تقريبًا لا سيما في المدن، واضطر الكونجرس الأمريكي في نهاية المطاف إلى التدخل.
(٢-٣) تأميم الطيف
كان الغرض من هذا القانون «الحفاظ على سيطرة الولايات المتحدة على جميع قنوات البث الإذاعي، والنص على استخدام مثل هذه القنوات — لا ملكيتها — من قبل الأفراد أو الشركات أو المؤسسات لفترات محدودة من الزمن، ووفق الرخص التي تمنحها السلطة الفيدرالية …» وكان بوسع الجمهور استخدام الطيف، في إطار الشروط التي تمليها الحكومة، لكن ليس بوسعهم أن يتملكوه، ونشأت سلطة جديدة تتخذ قرارات الترخيص، ألا وهي لجنة الإذاعة الفيدرالية، وكان لدى الجمهور توقع راجح أنهم سيُمنحون الترخيص الذي يطلبونه: «فإن رأت سلطة الترخيص أن المحطة المطلوب إنشاؤها ستخدم الصالح العام أو تفيد المجتمع أو تفرضها الضرورة، فإنها تمنح مقدم الطلب الترخيص الذي يريده …» أقر القانون بأن الطلب على التراخيص قد يتجاوز المعروض من الطيف، وفي حالة التنافس بين المتقدمين «تقوم سلطة الترخيص بتوزيع التراخيص ونطاقات الترددات وفترات التشغيل والقوة بين مختلف الولايات والمجتمعات لتوفير خدمة إذاعة عادلة وفعالة ومنصفة لكل متقدم …»
نمو لجنة الإذاعة
في عام ١٩٣٤ تغير اسم لجنة الإذاعة فصار لجنة الاتصالات الفيدرالية، وذلك حينما أصبح تنظيم الهاتف والتلغراف تحت إشراف اللجنة، وحين خُصِّص جزءٌ منفصلٌ من الطيف الراديوي للتليفزيون تولت لجنة الاتصالات الفيدرالية سلطة الرقابة على البث المرئي أيضًا.
كان الحديث عن «الصالح العام وخدمة المجتمع والضرورة» يذكِّر من يقرءه بما قاله هوفر عام ١٩٢٢ عن «المورد الوطني» و«المصلحة العامة». كذلك فإنه ليس من قبيل الصدفة أنْ صِيغَ هذا القانون إبَّان تفاقم فضيحة تيبوت دوم، فقد أُجِّرت احتياطيات نفط تقع على الأراضي الفيدرالية في وايومنج لشركة سنكلير للنفط في عام ١٩٢٣ عن طريق رشاوى دفعتها الشركة إلى وزير الداخلية حينها، واستغرق الأمر عدة سنوات من تحقيقات الكونجرس الأمريكي وقضايا المحكمة الفيدرالية لكشف تلك المخالفة، وانتهى المطاف بالوزير إلى أن زُجَّ به في السجن، وبحلول أوائل عام ١٩٢٧ كان الاستخدام العادل للموارد الوطنية من أجل المصلحة العامة مصدرَ قلقٍ كبير في الولايات المتحدة.
ومع صدور قانون عام ١٩٢٧ أصبح الطيف الراديوي ضمن الأراضي الفيدرالية. ثم جاءت المعاهدات الدولية لتحد من التداخل قرب الحدود الوطنية، لكن داخل الولايات المتحدة حدث ما كان يطالب به هوفر قبل خمس سنوات، فقد فرضت الحكومة الفيدرالية سيطرتها على تحديد مَنْ يُسمح له بالبث، وأي موجات الراديو يمكنه استخدامها، بل وما يمكنه أن يقول.
(٢-٤) غدد الماعز والتعديل الأول للدستور الأمريكي
وقد أصبح برينكلي، الذي ولد في عام ١٨٨٥ «طبيبًا» مرخصًا له بمزاولة مهنة الطب في ولاية كانساس عن طريق شراء شهادة من الجامعة الطبية في مدينة كانساس سيتي، وعمل لفترة قصيرة مُسعفًا لدى شركة سويفت وشركاه التي كانت تعمل في ذبح اللحوم وتعبئتها وتوزيعها. في عام ١٩١٧ أسس عيادته الطبية في ميلفورد، وهي بلدة صغيرة على بعد ٧٠ ميلًا إلى الغرب من توبيكا، وذات يوم أتى إليه رجل للحصول على المشورة حول تدهور قدرته الجنسية واصفًا نفسه بأنه «إطار سيارة مثقوب»، واستنادًا إلى ما يحفظ في ذاكرته من سلوك الماعز أيام عمله في تلك الشركة رد عليه برينكلي قائلًا: «ستتخلص من كل مشكلاتك لو كان لديك زوجٌ من غدد الماعز الذكرية.» فسأله المريض: «ولماذا لا تزرعه لي؟» وبالفعل أجرى برينكلي عملية الزرع تلك في غرفة خلفية، ومن هنا نشأت تجارة مربحة لبرينكلي، فسرعان ما وجد نفسه يُجري خمسين عملية زرع من هذا النوع في الشهر الواحد، ويتقاضى عن كل واحدة منها ٧٥٠ دولارًا أمريكيًّا، ومع الوقت، اكتشف أن تحسين القدرة الجنسية لدى المرضى يُدِرُّ أرباحًا تفوق تلك التي يحققها من تحسين الخصوبة.
عندما كان شابًّا، كان برينكلي يعمل في مكتب تلغراف، لذلك كان يعرف مستقبل تكنولوجيا الاتصالات الواعد، ومِنْ ثَمَّ قام في عام ١٩٢٣ بافتتاح أول محطة إذاعة في كانساس، وأسماها كيه إف كيه بي، وهو اختصار لعبارة تقول «كانساس الأولى، كانساس الفُضلى»، ويُقال إنها اختصار لعبارة تقول: «أهل كنساس أعلم الناس». كانت تلك الإذاعة تبث مزيجًا من الموسيقى الريفية، والوعظ الأصولي، والمشورة الطبية من الدكتور برينكلي نفسه، فكان المستمعون يرسلون شكاواهم، وكانت نصائح برينكلي في الغالب الأعم هي شراء بعض الأدوية التي اخترعها الدكتور برينكلي، وذلك عن طريق الطلب البريدي. من أمثلة ذلك نقتطف ما يلي: «وهذا سؤال من تيلي، تقول فيه إنها خضعت لعملية جراحية بعد أن عانت لعشر سنوات. أعتقد أن تلك العملية لم يكن لها داعٍ، وأنه من غير المناسب أن يُستأصل أحد المبيضيْن أملًا في أن يكون ذلك سببًا للحمل، ونصيحتي لكِ هي استخدام ويمين تونيك رقم ٥٠ و٦٧ و٦١، فهذا المزيج سيحقق لكِ ما تريدين بعد ثلاثة أشهر من الاستعمال المستمر.»
كان لدى إذاعة كيه إف كيه بي جهاز إرسال قوي للغاية، وكان إرسالها يصل إلى منتصف الطريق عبر المحيط الأطلسي، وفي استطلاع وطني جاءت تلك الإذاعة في المرتبة الأولى بين كل الإذاعات الأمريكية، وحصدت أربعة أمثال الأصوات التي حصلت عليها الإذاعة التي جاءت في المركز الثاني، وكان برينكلي يتلقى في اليوم الواحد ثلاثة آلاف رسالة، وكان صيته يملأ الآفاق، وكان عدد المرضى الذين يترددون على عيادته في ميلفورد في اليوم الواحد قد يبلغ خمسمائة. لكن الجمعية الطبية الأمريكية، بتشجيع من محطة إذاعية محلية منافسة، اعترضت على تلك الشعوذة، وخلصت لجنة الإذاعة الفيدرالية إلى أن تجديد الترخيص لن يصب في صالح «المصلحة العامة، وخدمة المجتمع والضرورة»، واعترض برينكلي بأن إلغاء الترخيص إنما هو نوع من الرقابة.
ثم أيدت إحدى محاكم الاستئناف قرار لجنة الإذاعة الفيدرالية في سابقة تاريخية، وأوضحت المحكمة أن الرقابة تعني التقييد المسبق، وهذا ليس الحال في قضية برينكلي، وأفادت بأن لجنة الإذاعة الفيدرالية «لم تفعل شيئًا سوى أن مارست حقها الذي لا ينازعها فيه أحد في أن تأخذ في اعتبارها ما صدر من المستأنِف من أفعال فيما مضى»، وكما قال ألبرت جالاتين قبل أكثر من قرنيْن من الزمان عن التقييد المسبق للصحافة، يمكن القول بأنه «منافٍ للعقل أن نقول بأن معاقبة فعل بعينه لا يُعد تقييدًا لحرية ممارسة ذلك الفعل.»
وقد استخدمت المحكمة تشبيه الأراضي العامة في تبرير ما قامت به لجنة الإذاعة الفيدرالية، فقالت المحكمة: «نظرًا لقلة عدد الترددات الإذاعية المتاحة فإنه بالضرورة يتعين على اللجنة النظر في طبيعة ونوعية الخدمة التي ستُقَدَّم … ومن الواضح أنه ليس هناك مجال في نطاق البث لكل شركة أو مدرسة فكرية.»
«بالضرورة» و«من الواضح». من الحكمة دائمًا التدقيق في الحجج التي تعلِن بصوت عالٍ عن مدى بدهيتها. وفي قضية مختلفة في عام ١٩٤٣ عبر القاضي فيليكس فرانكفورتر عن رأيه مكررًا هذا المبدأ بصيغة أُخِذت عنه وانتشرت كثيرًا فيما بعد، حيث قال: «إن المحنة التي مرت بالبث الإذاعي قبل عام ١٩٢٧ ترجع إلى بعض الحقائق الأساسية حول المذياع باعتباره وسيلة اتصال؛ ألا وهي: محدودية المرافق، وأن تلك المرافق ليست متاحة لجميع من يرغبون في استخدامها، وأن الطيف الراديوي لا يكفي لاستيعاب الجميع. هناك قيد طبيعي ثابت مفروض على عدد من المحطات الإذاعية التي يمكن أن تعمل دون أن يتداخل بعضها مع بعض.»
كانت هذه هي الحقائق التكنولوجية في ذلك الوقت، وكانت صحيحة، لكنها كانت حقائق هندسية محتملة، فلم تكن قط قوانين فيزيائية عامة، ولم تعد قيودًا مفروضة على التكنولوجيا، وبفضل الابتكارات الهندسية على مدى العقديْن الماضييْن لم يَعُدْ هناك «قيدٌ طبيعي» على عدد محطات البث. لم تعد حجج الندرة الحتمية تبرر رفض الحكومة الأمريكية لاستخدام موجات الأثير.
إن البنية التحتية التنظيمية الواسعة، التي بُنيت لترشيد استخدام الطيف بواسطة تقنية راديو أكثر محدودية، خضعت للتعديل ببطء؛ لأنه لا محالة أن حركة البيروقراطيين أبطأ من حركة مبدعي التكنولوجيا. تحاول لجنة الاتصالات الفيدرالية استباق احتياجات الموارد مركزيًّا وقبل مدة طويلة، لكن قد تسبب التكنولوجيا تغيرات مفاجئة في العرض، وقد تسبب قوى السوق تغيرات مفاجئة في الطلب، ولم يُسعف التخطيط المركزي لجنة الاتصالات الفيدرالية أكثر مما أسعف الاتحاد السوفييتي.
علاوة على ذلك، نجد الكثيرين من المعنيين بالتكنولوجيا القديمة يسعدون حين تظل القواعد كما هي دون تغيير، فمثلهم مثل المستأجرين الذين يتمتعون بعقود إيجار للأراضي العامة، ليس لأصحاب التراخيص الإذاعية الحاليين سبب لتشجيع المنافسة على الأصول التي تحت أيديهم، وكلما زاد مقدار المال الذي على المحك زاد ثقل المشاريع المربحة. كان لتراخيص الراديو قيمة من البداية تقريبًا، وكلما اشتدت الندرة ارتفع السعر، فبحلول عام ١٩٢٥ بيعت رخصة في شيكاجو بمبلغ ٥٠ ألف دولار أمريكي، وحين اتسعت رقعة الدعاية والإعلان، وتكاتفت المحطات لتشكل شبكات، وصلت الصفقات إلى عشرات الملايين، وبعد صدور قانون ١٩٢٧ كان لا بد للمنازعات التي تنشأ بين المحطات أن تُسوَّى عن طريق التقاضي، والانتقال أكثر من مرة إلى واشنطن، والاستعانة ببعض المعارف من أعضاء الكونجرس الأمريكي للضغط، وكان هذا يتطلب أن يكون صاحب المحطة من الأثرياء. في البداية، كانت هناك العديد من محطات الإذاعة الجامعية، لكن قلَّصَتْ لجنةُ الإذاعة الفيدرالية عددها حين ارتفعت قيمة موجات الأثير، ونظرًا لأنها محطات غير ربحية فإنها لم تستطع الصمود، وفي نهاية المطاف بيعت معظم المحطات التعليمية لجهات البث التجارية، في الواقع، كما قال أحد المؤرخين: «حين نتحدث عن المصلحة العامة … نجد أن اللجنة في الواقع اختارت أن تعزز أهداف جهات البث التجارية.»
(٣) الطريق إلى تحرير الطيف من التقنين
حين تضغط على الزر الموجود بمفتاح تأمين السيارة كي تفتح أبوابها، فأنت تقوم بالبث عن طريق الأثير، فالإشارة التي تصدر من المفتاح تَستخدِم شيئًا من الطيف. إن الإشارة تعمل وفق القوانين الفيزيائية الأساسية نفسها التي يعمل وفقها البث الإذاعي لمحطة دبليو بي زد في بوسطن، والمستمرة منذ أصبحت المحطة أول محطة بث تجارية شرقية في عام ١٩٢١. لكن محطات البث الإذاعي الجديدة تختلف من جهتين مهمتين جدًّا، فهناك مئات الملايين منها تعمل كل يوم، وفي حين تبلغ قوة بث محطة دبليو بي زد ٥٠ ألف واط، فإن قوة بث مفتاح التأمين أقل من ٠٫٠٠٠٢ واط.
لو كانت الحكومة حينها مضطرة إلى ترخيص كل جهاز إرسال إذاعي — وفقًا لما رآه الكونجرس الأمريكي في أعقاب الفوضى الأثيرية التي وقعت في عشرينيات القرن العشرين — لما ظهرت مفاتيح التأمين ولا أي من مئات الاستخدامات المبتكرة الأخرى للاسلكي ذي الطاقة المنخفضة، ولكان القانون والبيروقراطية التي أوجدها قد وأدا هذا الجانب من الانفجار الرقمي.
كما أن هناك تطورًا آخر يكمن وراء الثورة اللاسلكية. كان على التكنولوجيا أن تتغير حتى يتسنى استخدام الطيف المتاح بشكل أكثر كفاءة. إن التحول إلى الرقمنة وتصغير أحجام الأجهزة غيَّرا وجه العالم، فقصة الهواتف المحمولة وشبكة الإنترنت اللاسلكية والعديد من وسائل الراحة لا يمكن تصورها حتى الآن تشكل مزيجًا من السياسة والتكنولوجيا والقانون، ولا يمكنك فهم هذا المزيج دون أن تفهم مكوناته، لكن في المستقبل، ليس من الضروري أن تظل تلك المكونات ممزوجة بنفس الطريقة كما هي اليوم.
(٣-١) من مكبرات صوت قليلة إلى ملايين الهمسات
قبل ثلاثين عامًا لم تكن هناك هواتف محمولة، وكانت حفنة فقط من رجال الأعمال تحمل هواتف نقالة، لكنها كانت أجهزة ضخمة الحجم ومكلفة، ثم جاء التصغير ليجعل الهاتف المحمول غير مقصور على كبار أصحاب الشركات، بل متاحًا للجميع، وصار وكأنه حق أصيل لكل مراهق أمريكي. بيد أن التقدم الرئيسي وقع في مجال «تخصيص الطيف»، وفي إعادة التفكير في الطريقة التي يُستخدم بها الطيف الراديوي.
في عصر الهواتف المحمولة كبيرة الحجم كان لدى شركة الهاتف اللاسلكي هوائي كبير، وكانت تحصل من لجنة الاتصالات الفيدرالية على حق استخدام ترددات قليلة في منطقة حصرية، وكان الهاتف الذي يحمله أصحاب الشركات عبارة عن محطة إذاعية صغيرة تبث المكالمة الهاتفية، وكان لا بد للهاتف المحمول أن يكون قويًّا بما يكفي للوصول إلى هوائي الشركة في أي مكان في المدينة قد يوجد فيه، وكان عدد المكالمات المتزامنة مقصورًا على عدد الترددات المخصصة للشركة، وكانت التكنولوجيا المستخدمة في ذلك هي نفس التكنولوجيا المستخدمة في محطات البث الإذاعي. إلا أن تلك الأجهزة المحمولة كانت تعمل في اتجاهين (تستقبل وترسل)، وكانت ندرة الطيف، التي لا يزال يُحتج بها اليوم في الحد من عدد قنوات البث، تحد عدد الهواتف المحمولة، وقد أدرك هوفر هذا في عام ١٩٢٢؛ إذ قال: «من الواضح أنه إذا كان عشرة ملايين مشترك في شبكة الهاتف يصرخون عبر الأثير لمن يحادثونهم … فحينها سيعج الأثير بفوضى محمومة، مع تعذر إجراء أي اتصال من أي نوع.»
إن تكنولوجيا المحمول تستغل قانون مور، فأصبحت الهواتف أسرع، وأرخص، وأصغر حجمًا. ولأن المسافة الفاصلة بين كل برج هاتف محمول وآخر لا تزيد عن ميل أو نحو ذلك فإن الهاتف المحمول يحتاج فقط أن يكون قويًّا بما يكفي لإرسال إشاراته إلى أقل من ميل واحد، وحين يستقبل الهوائي الإشارة يرسلها إلى شركة الهاتف المحمول عن طريق «خط سلكي»؛ أي عبر كابلات نحاسية أو كابلات ألياف بصرية موضوعة على أعمدة أو مدفونة تحت الأرض، وكل ما هو مطلوب هو وجود قدر من طيف الراديو يكفي للتعامل مع المكالمات داخل «الخلية» المحيطة بالبرج، حيث يمكن استخدام نفس الترددات في آنٍ واحد للتعامل مع مكالماتٍ في خلايا أخرى. وهناك الكثير من التباديل والتوافيق تتم لمنع انقطاع المكالمة حين يتحرك حامل الهاتف النشط من خلية إلى أخرى، لكن أجهزة الكمبيوتر — بما في ذلك أجهزة الكمبيوتر الصغيرة الموجودة داخل الهواتف المحمولة — تتمتع بالذكاء وبالسرعة الكافية لمواكبة إجراء تلك التباديل والتوافيق.
توضح تكنولوجيا الهاتف المحمول تغيرًا مهمًّا في استخدام الطيف الراديوي، فمعظم الاتصالات الراديوية الآن تتم عبر مسافات قصيرة، وهي عبارة عن عمليات إرسال بين أبراج الهاتف المحمول والهواتف المحمولة، بين الموجهات اللاسلكية في ستاربكس وأجهزة الكمبيوتر الخاصة بمن يحتسون القهوة فيها، بين سماعات الهاتف اللاسلكي وقواعدها، بين كشك رسوم الطرق السريعة وجهاز المرسل المستجيب المركب على الزجاج الأمامي للسيارة، بين مفاتيح تأمين السيارات والسيارات التي تُفتَح عن طريقها، بين أدوات التحكم عن بعد وأجهزة الألعاب التي تعمل عن طريقها، بين أجهزة إرسال الآي بود المركبة في قداحات السجائر الموجودة في السيارات وأجهزة راديو الإف إم الموجودة في السيارات.
بل إن عمليات الإرسال «الراديوية التي تتم عبر الأقمار الصناعية» غالبًا ما تأتي من هوائي قريب إلى جهاز استقبال يخص العميل، وليس مباشرة من القمر الذي يدور في الفضاء الخارجي. في المناطق الحضرية تقع مبانٍ كثيرة بين جهاز الاستقبال والقمر الصناعي، وهذا يمكِّن الشركات الإذاعية من أن تثبت «مكررات»؛ وهي هوائيات يتصل بعضها ببعض بواسطة خط سلكي، فإذا كنت تستمع إلى محطات بث عبر الأقمار الصناعية على غرار إكس إم أو سيريوس وأنت تقود سيارتك في إحدى المدن، فلعل الإشارة تأتي إليك من هوائي على مسافة غير بعيدة منك.
(٣-٢) هل يمكننا تقسيم الملكية بشكل مختلف؟
إن راديو إتش دي اختراع ذكي؛ فعن طريق فتح الطيف لبث إتش دي تمكنت لجنة الاتصالات الفيدرالية من أن تخصص مكانًا لعدد أكبر من محطات البث، على الأقل للراغبين في شراء أجهزة راديو خاصة، لكن هذا لا يتحدى النموذج الأساسي الذي ظل موجودًا منذ عشرينيات القرن العشرين: عليك بتقسيم الطيف ثم إعطاء قطعة منه لكل مرخَّص له.
بل إن أجزاء الطيف التي «خُصِّصت» للمرخَّص لهم قد لا تُستخدم بكامل طاقتها إلى حد كبير، فقد ورد في تقرير لجنة الاتصالات الفيدرالية لعام ٢٠٠٢ أن: «… النقص في الطيف غالبًا ما يكون مشكلة وصول للطيف. بمعنى أن موارد الطيف متاحة، لكن استخدامها مجزأ في ضوء السياسات التقليدية القائمة على التكنولوجيات التقليدية.» ومما دعا اللجنة إلى الخروج بهذا الاستنتاج استماعها إلى موجات الأثير في كتل تردد مختلفة لتنظر إلى أي مدى كان يتعذر إرسال أي شيء على الإطلاق، ولمعظم الوقت، حتى في البيئات الحضرية الكثيفة في سان دييجو وأتلانتا وشيكاجو، كانت نطاقات الطيف المهمة تكاد تكون خاملة تمامًا، ومن الممكن تقديم خدمة أفضل للجمهور إذا استخدم آخرون الطيف الخامل.
ظلت لجنة الاتصالات الفيدرالية عشر سنوات تجرب «تسويق الطيف الثانوي»، فيمكن لشخص ما يريد الحصول على بعض الطيف بهدف الاستخدام المؤقت، أن يستأجره من طرف لديه الحق في استخدامه لكنه مستعد لأن يتخلى عنه نظير مقابل. فعلى سبيل المثال، قد تحتاج إذاعة جامعية إلى القدرة على البث بقوة كبيرة فقط في مرات معدودة بعد ظهر يوم السبت لتغطية مباريات كرة القدم الكبرى، فيمكن لهذه المحطة أن تُبرم اتفاقًا مع محطة تجارية ليس لديها كثير استخدام لقطعة من الطيف تمتلكها حين تكون أسواق الأسهم قد أغلقت أبوابها. مثال آخر، بدلًا من حجز نطاق ما حصريًّا لبث الطوارئ، من الممكن إتاحته للآخرين، لكن مع الاشتراط بأن هذا التردد سيتم تسليمه عند الطلب في الحالات التي تتعلق بالسلامة العامة، وهذا يمكن تضمينه في الكود الخاص بأجهزة البث.
وكما أوضح موقع المزادات إي باي، فإن المزادات المحوسبة قد تؤدي إلى توزيع فعال للغاية للسلع. إن استخدام أجزاء معينة من الطيف — في أوقات معينة وفي مناطق جغرافية معينة — قد يزيد من الكفاءة إذا سُمح للمرخص لهم الذين لا يستفيدون من نطاقات الطيف التي اشتروها استفادة كاملة ببيع بعض من وقتها لأطراف أخرى.
لكن الأسواق الثانوية لا تغير النموذج الأساسي؛ فنطاق التردد يكون بحوزة طرف واحد فقط في أي وقت بعينه. إن مثل هذا النوع من أفكار المزاد يغير نظام التخصيص، فبدلًا من تخصيص نطاق طيف بشكل ثابت لطرف واحد بحقوق حصرية، يمكن تقسيمه بين عدة أطراف، لكن هذه الأفكار تظل معتمدة على فكرة أساسية، وهي أن الطيف مثل الأرض التي تُقسَّم بين من يرغبون في استخدامها.
(٣-٣) تقاسم الطيف
في عام ١٩٤٣ خرج القاضي فرانكفورتر بتشبيه أشار عن غير قصد إلى طريقة أخرى في التفكير، فقد رأى أن الطيف نادر لا محالة، «ومن ثم فإن تقنين الطيف الراديوي أمر لا غنى عنه لنموه وتطوره تمامًا كدور مراقبة حركة المرور في تطوير السيارات.»
فالطيف — شأنه شأن طرق السيارات — مورد وطني، وتتحكم في طرق السيارات الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات والحكومات المحلية التي تضع قواعد استخدامها، فلا يجوز لك أن تتجاوز حد السرعة وأنت تقود سيارتك، ولا بد لك من التزام حدود الطول والوزن في سيارتك، وهذا أمر يختلف من طريق لآخر.
لكن الجميع يتشاركون في طرق السير، فلا توجد أي طرق سريعة خاصة مخصصة للسيارات الحكومية، ولا يمكن لشركات النقل بالشاحنات أن تحصل على تراخيص لاستخدام طرق بعينها بينما تُقصي منافسيها، بل الجميع يتشاركون قدرة الطرق على استيعاب حركة المرور.
يمكن تقاسم الطيف بدلًا من تقسيمه إلى أجزاء، وهناك سابقة في مجال الاتصالات الإلكترونية، فالإنترنت مشاع رقمي، وحزم البيانات التي تخصك تختلط مع حزم البيانات التي تخص غيرك في الألياف البصرية ووصلات الأقمار الصناعية التي تمثل العمود الفقري للإنترنت. وحزم البيانات هذه مُرَمَّزة، وعند الأطراف تُصنَّف حزم البيانات وتوزَّع، وأي مواد سرية يمكن تشفيرها.
يمكن تطبيق شيء كهذا على أمر البث، على أن نعيد النظر في أمر إدارة الطيف، وهنا فكرتان رئيسيتان: أُولاهما تقضي بأن استخدام الكثير من النطاق الترددي لا يسبب بالضرورة تشويشًا، وقد يزيد إلى حد كبير قدرة النقل، وثانيهما تقضي بأن وضع أجهزة كمبيوتر في أجهزة الراديو يمكن أن يحسن كثيرًا من استخدامنا للطيف.
(٣-٤) أجمل مخترِعة في العالم
اكتُشف الطيف المنتشر ثم نُسي أمره عدة مرات في عدة دول، والشركات (مثل آي تي تي وسيلفانيا وماجنافوكس)، والجامعات (لا سيما معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)، والمختبرات الحكومية التي تُجري أبحاثًا سرية، شاركت جميعها في خروج هذا المكون الأساسي للاتصالات السلكية واللاسلكية الحديثة إلى النور، وكان كل منها في كثير من الأحيان على علم بما يقوم به غيرها.
أبرز سابقة للطيف المنتشر كانت ذلك الاختراع الذي خرجت به نجمة هوليوود الممثلة هيدي لامار، التي حملت لقب «أجمل امرأة في العالم»، على حد تعبير لويس ماير المنتج السينمائي الكبير، وجورج أنثيل الملحن الطليعي المعروف باسم «الموسيقي الشقي».
وفي عام ١٩٤٠ رتبت هيدي لامار الأمور لمقابلة جورج أنثيل، وقد خطرت لها فكرة أن تُجرِي بعض التحسينات على جذعها العلوي، وأعربت عن أملها في أن يعطيها جورج أنثيل بعض النصائح. كان جورج أنثيل خبيرًا له اتجاهه الخاص المميز في مجال الغدد الصماء عند الإناث، وكان قد كتب سلسلة من المقالات لمجلة إسكواير، منها على سبيل المثال مقال بعنوان «دليل الغدد للرجل المغامر»، واقترح جورج أنثيل إجراء استخراج غدي، ثم تحول الحوار بينهما إلى أمور أخرى، على وجه التحديد إلى صنع الطوربيدات.
كان يمكن لطوربيد واحد — وهو عبارة عن قنبلة مزودة برفاس — أن يغرق سفينة ضخمة، وقد ابتُكرت الطوربيدات التي يُتحكَّم فيها لاسلكيًّا بحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، لكنها كان بينها وبين الدقة بَوْنٌ شاسع، فمن الوسائل المضادة الفعالة ضد الطوربيدات كان التشويش على الإشارة الموجهة للطوربيد عن طريق إرسال تشويش لاسلكي صاخب على نفس تردد إشارة التحكم، وكان هذا من شأنه أن يجعل الطوربيد يفقد صوابه ويخطئ هدفه، وبفضل مراقبة هيدي لامار لأعمال فريتز ماندل علمتْ بأمر الطوربيدات والسبب الذي كان يجعل التحكم فيها صعبًا.
أصبحت هيدي لامار مؤيدة قوية للولايات المتحدة، وكانت تتمنى أن تساهم في المجهود الحربي للحلفاء، وكان لها تصور لفكرة تنطوي على إرسال إشارة التحكم في الطوربيد في صورة رشقات قصيرة على ترددات مختلفة، على أن يكون كود تسلسل الترددات متماثلًا في الطوربيد والسفينة التي تطلقه، ولأن هذا التسلسل سيكون غير معروف للعدو فلا يمكن التشويش على الإرسال عن طريق إغراق موجات الأثير بتشويش في أي نطاق ترددي محدود، وسيحتاج الأمر إلى الكثير من القوة للتشويش على جميع الترددات الممكنة في نفس الوقت.
كانت فكرة جورج أنثيل هي السيطرة على تسلسل التنقل بين الترددات عن طريق آلية تتعلق بآلة البيانو، الذي كان مألوفًا لديه؛ لأنه سجل رائعته «باليه ميكانيك» لأجهزة البيانو المتزامنة. وقد تصور هو وهيدي لامار الجهاز (الذي لم يرَ النور قط)، بحيث تنتقل الإشارة ضمن ٨٨ ترددًا وكأنها ٨٨ مفتاحًا من مفاتيح لوحة مفاتيح البيانو، وسيكون لدى السفينة والطوربيد نفس لفات البيانو، وهذا يشفر إشارة البث.
حكى روب والترز في كتابه «الطيف المنتشر» (بوك سيرج إل إل سي، ٢٠٠٥) قصة جورج أنثيل وهيدي لامار ومكانة اختراعهما في تاريخ الطيف المنتشر.
تلك كانت في عجالة قصة اختراع هيدي لامار وجورج أنثيل للطيف المنتشر، والتي تمزج بين الغرابة والصدفة والعمل الجماعي والغرور وحب الوطن، ولم يُكشَف عن علاقة هذيْن العَلَمين في عالم الفن باكتشاف الطيف المنتشر إلا في تسعينيات القرن العشرين، فحينها كان تأثير عملهما متشابكًا مع خطوط مختلفة تتعلق بالأبحاث العسكرية السرية. وسواء كانت هيدي لامار أشبه بليف إريكسون الذي اكتشف أمريكا الشمالية قبل كريستوفر كولومبس بخمسة قرون أم لا، فمن المؤكد أنها كانت من أقل الأشخاص ترجيحًا لاكتشاف مثل هذه التقنية الجديدة، وفي عام ١٩٩٧ كرمتها مؤسسة الحدود الإلكترونية على اكتشافها هذا، فرحبت بتلك الجائزة قائلة: «لقد حان الوقت»، وعندما سئلت عن إنجازاتها المزدوجة قالت: «إن الأفلام محدودة بالمكان والزمان، أما التكنولوجيا فلا.»
(٣-٥) سعة القنوات
لقد عثرت هيدي لامار وجورج أنثيل على وسيلة معينة لاستغلال مدى ترددي واسع؛ وسيلة «تنشر» الإشارات عبر الطيف. كان الأساس النظري للطيف المنتشر إحدى النتائج الرياضية الرائعة لكلود شانون في أواخر أربعينيات القرن العشرين، وفي حين لم تكن في ذلك الوقت ثمة هواتف رقمية أو أجهزة راديو استطاع شانون أن يستمد العديد من القوانين الأساسية التي لا تستغني عنها تلك الأجهزة، وقد تنبأت نظرية شانون-هارتلي بالطيف المنتشر بنفس الطريقة التي تنبأت بها معادلات ماكسويل بموجات الراديو.
والنتيجة التي توصل إليها شانون (بناء على عمل رالف هارتلي قبله بعقدين من الزمان) تقضي ضمنًا بأن «التداخل» ليس هو المفهوم الصحيح للتفكير في كم المعلومات الذي يمكن حمله ونقله في الطيف الراديوي. فقد تتداخل الإشارات في التردد، لكن يمكن الفصل بينها تمامًا عن طريق أجهزة استقبال راديو متطورة بما فيه الكفاية.
وقد افترض أوائل المهندسين أنه لا مفر من وقوع أخطاء في الاتصال، فإنْ أرسلْتَ أكوادًا رقمية عبر سلك أو عبر الفضاء باستخدام موجات الراديو فلعل بعضها لا يصل بشكل غير صحيح بسبب التشويش، ويمكنك أن تجعل القناة أكثر موثوقية عن طريق إبطاء عملية الإرسال، كذا افترضوا، بنفس الطريقة التي يتحدث الناس فيها ببطء أكثر عندما يريدون أن يتأكدوا من أن الآخرين يفهمون ما يقولونه، لكن لا يمكنك أبدًا أن تضمن أن يخلو الاتصال من الأخطاء.
أوضح شانون أن قنوات الاتصال تتصرف بطريقة مختلفة تمامًا، فأي قناة اتصال لديها «قدرة استيعاب» معينة؛ وهي عدد البِتات التي يمكنها التعامل معها في الثانية الواحدة. إذا قيل في الإعلان الذي يخص وصلة الإنترنت التي تستعملها إنها تتمتع بمعدل ثلاثة ملايين بت في الثانية، فهذا الرقم هو سعة القناة من حيث الاتصال بينك وبين موفر خدمة الإنترنت (أو المفروض أن تكون هكذا، فليست كل الإعلانات صادقة)، وإذا كان الاتصال عبر أسلاك الهاتف وانتقلتَ إلى خدمة تستعمل كابلات الألياف البصرية فينبغي أن تزداد سعة القناة.
ورغم كبر سعة القناة فإنها تتمتع بخاصية رائعة أثبتها شانون؛ إذ يمكن أن تنتقل البِتات عبر القناة، من المصدر إلى الوجهة، مع «احتمال ضئيل للخطأ» طالما أن معدل الانتقال لا يفوق سعة القناة، وأي محاولة لتمرير البِتات عبر القناة بمعدل أعلى من سعة القناة يؤدي حتمًا إلى فقدان البيانات، في ظل وجود قدر كافٍ من البراعة في الطريقة التي ترمز بها البيانات من المصدر قبل وضعها في القناة، يمكن أن تنعدم نسبة الخطأ طالما أنه لا يتم تجاوز سعة القناة، ولا تصبح الأخطاء في الإرسال حتمية إلا إذا تجاوز معدل البيانات سعة القناة.
الأخطاء والتأخيرات
(٣-٦) القوة والإشارة والتشويش وعرض النطاق الترددي
تعتمد سعة قناة الراديو على الترددات التي تنتقل بها الرسائل وكمية الطاقة المستخدمة لإرسالها، ومن المفيد هنا أن نفكر في هذيْن العاملين بشكل منفصل.
عرض النطاق الترددي
نظرًا لأن سعة القناة تعتمد على عرض نطاق التردد، فإن مصطلح «عرض النطاق الترددي» يُستخدم بشكل غير رسمي على أنه يعني «كمية المعلومات المرسلة في الثانية الواحدة»، لكن من الناحية الفنية فإن عرض النطاق الترددي هو مصطلح يتعلق بالاتصالات الكهرومغناطيسية، ومِنْ ثَمَّ فهو ليس إلا أحد العوامل التي تؤثر على قدرة حمل البِتات.
بث الراديو لا يكون أبدًا «عند» تردد واحد، فهو دائمًا يستخدم مجموعة أو نطاقًا من الترددات لنقل الأصوات الفعلية، والصوت الوحيد الذي يمكن أن يُحمل على تردد واحد نقي سيكون نغمة متغيرة. عرض النطاق الترددي لبثٍّ ما هو حجم نطاق التردد — أي الفرق بين أعلى تردد وأدنى تردد للنطاق — ولكي يتسنى لهوفر استخدام هذه اللغة خصص ١٠ كيلوهرتز من عرض النطاق الترددي لكل محطة إيه إم.
فإذا أمكنك أن تنقل كل هذا الكم من البِتات في الثانية الواحدة بقدر معين من عرض النطاق الترددي فيمكنك نقل ضعف هذا الكم في الثانية الواحدة إذا كان لديك ضعف عرض النطاق الترددي. يمكن لإرساليْن أن يتزامنا دون أن يكون هناك تفاعل بينهما بأي شكل من الأشكال. لذلك فإن سعة القناة تتناسب طرديًّا مع عرض النطاق الترددي.
(٣-٧) ما تراه أنت إشارة يراه غيرُك تشويش
النتائج المترتبة على نتيجة شانون-هارتلي بخصوص قيمة عرض النطاق الترددي مدهشة للغاية، فإذا كانت محطة دبليو بي زد تقوم ببث رقمي عن طريق جهاز إرسال بقوة ٥٠ ألف وات فسيمكنها أن تبث نفس القدر من المعلومات (عبر مسافات أقصر) باستخدام قوة أقل مما يستهلكه مصباح كهربي منزلي، إذا أمكنها الحصول على عرض نطاق ترددي سعته ١٠٠ كيلوهرتز بدلًا من سعة اﻟ ١٠ كيلوهرتز التي سمحت بها لجنة الاتصالات الفيدرالية.
وبطبيعة الحال لا يمكن لمحطة إذاعة الحصول على استخدام حصري سعته ١٠٠ كيلوهرتز، بل إن منح كل محطة إذاعة ١٠ كيلوهرتز من شأنه أن يستهلك الطيف بسرعة كبيرة جدًّا. إن فكرة انتشار الطيف لا تُجدي إلا إذا نظرنا إلى الطيف باعتباره مشاعًا، ولكي نرى العديد من عواقب كَثْرَةِ إشارات البث في الطيف نفسه نحتاج إلى نظر ثاقب ومتبصر.
إن مقدار القوة التي تؤثر على قدرة قناة الراديو ليس في الواقع قوة الإشارة، بل نسبة قوة إشارة إلى قوة التشويش، وهو ما يسمى «نسبة الإشارة إلى التشويش». بعبارة أخرى، يمكنك باستخدام واحد وات من الطاقة أن تبث نفس معدل البِتات الذي تبثه باستخدام عشرة وات، وذلك إذا استطعت أن تُقلل أيضًا من التشويش ليصير عُشْرَ ما هو عليه. ويتضمن «التشويش» إشارات الآخرين، في الحقيقة لا يهم ما إذا كان التداخل آتيًا من بث يقوم به البشر أو من بث يأتي من النجوم البعيدة، ويُمكن لجميع عمليات البث المتداخلة أن تتشارك في نفس النطاق الطيفي، لدرجة أنها يمكن أن تتعايش مع ما يعادل ذلك من التشويش.
ظهر مقال عن الطيف المنتشر في عام ١٩٩٨ تحت عنوان: «الطيف المنتشر في مجال الإذاعة»، كتبه ديفيد آر هيوز وديواين هندريكس، ونشرته مجلة ساينتيفيك أمريكان في عددها الصادر في أبريل عام ١٩٩٨ (ص٩٤–٩٦).
إن نظرية شانون-هارتلي تسر أي مشتغل بعلم الرياضيات؛ فهي من جانب تحد مما هو ممكن من الناحية النظرية، ومن جانب آخر لا تعطينا فكرة عن كيفية تحقيق ذلك في الواقع العملي، وهي في هذا تشبه معادلة أينشتاين الشهيرة (الطاقة تساوي حاصل ضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء) والتي في آنٍ واحد لا تخبرنا بشيء، وتخبرنا بكل شيء عن المفاعلات النووية والقنابل الذرية. إن التنقل السريع للتردد الذي خرجت به هيدي لامار إنما هو إحدى تقنيات الطيف المنتشر التي ستصير في نهاية المطاف عملية، لكن الاختراعات العبقرية الأخرى، والتي سُميت بأسماء مختصرة غريبة، ستظهر بعد ذلك في أواخر القرن العشرين.
كانت هناك عقبتان رئيسيتان بين نتيجة شانون-هارتلي وجَعْلِ أجهزة الطيف المنتشر قابلة للاستخدام. العقبة الأولى كانت هندسية: فكان لا بد وأن تصبح أجهزة الكمبيوتر سريعة وقوية ورخيصة بما يكفي لمعالجة البِتات لنقل الصوت والفيديو عاليَيِ الجودة إلى المستخدمين، وهذا لم يحدث إلا في ثمانينيات القرن العشرين. أما العقبة الأخرى فكانت تنظيمية، ولم تكن المشكلة هنا رياضية أو علمية، فسرعة تغيُّر التقنيات تفوق بكثير تغير البيروقراطيات التي تنظمها.
(٣-٨) إزالة التقنين عن مجال الطيف
مايكل ماركوس شخصية ثورية نادرة، فهو مهندس كهرباء تلقَّى تدريبه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأمضى ثلاث سنوات من عمره يعمل ضابطًا في سلاح الجو الأمريكي خلال حرب فيتنام، وكان يعمل على تصميم أنظمة الاتصالات للكشف عن الإشعاعات النووية تحت الأرض في الوقت الذي كانت فيه أربانت — النسخة الأولية من الإنترنت والتي كانت ترعاها المؤسسة العسكرية — تُستخدم لأول مرة، وبعد أن أنهى خدمته العسكرية التحق بالعمل في مقر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ضمن فريق خبراء، وكان هذا الفريق يستكشف الاستخدامات العسكرية المحتملة لتكنولوجيات الاتصالات الناشئة.
في صيف عام ١٩٧٩ حضر ماركوس ورشة عمل عقدها الجيش الأمريكي حول الحرب الإلكترونية، وقد جرى العُرف في مثل هذه الأحداث أن يجلس الحضور حسب الترتيب الأبجدي لأسمائهم، فوجد ماركوس نفسه يجلس بجوار ستيف لوكازيك كبير علماء لجنة الاتصالات الفيدرالية، وكان لوكازيك قد عمل مديرًا لوكالة أربا خلال تطوير أربانت، ثم صار بعد ذلك مسئولًا عن التخطيط في مجال شبكة أربانت لدى شركة زيروكس، وقد عُيِّنَ في لجنة الاتصالات الفيدرالية، والتي كانت لا تعدُّ في الجملة وكالة ممتعة من الناحية التكنولوجية؛ لأن المسئولين في إدارة جيمي كارتر حينها كانوا يستخفُّون بفكرة أن الأنظمة الفيدرالية القائمة كانت تخنق الابتكار والإبداع. سأل لوكازيكُ ماركوسَ عما عساه يحفز النمو في الاتصالات اللاسلكية، فأجاب ماركوس أن هناك أمورًا تحفز ذلك النمو، من بينها «الطيف المنتشر». من حيث الهندسة كانت الفكرة سديدة، لكنها لم تكن كذلك من حيث السياسة، فلن تروق تلك الفكرة للناس.
كان المدنيون لا يعرفون سوى القليل عن الاستخدامات العسكرية لتقنية الطيف المنتشر نظرًا لتكتم الجيش على شئونه، وحظرت لجنة الاتصالات الفيدرالية أي استخدام للمدنيين لتقنية الطيف المنتشر؛ لأن هذا يتطلب — وفق ما كانت تصرح به اللجنة على مدى عقود — تعديًا على نطاقات طيف ضمنت اللجنة لشاغليها أن لا يستخدمها أحد سواهم، ولم يكن يتسنى للمرء استخدام الكثير من عرض النطاق الترددي، حتى باستخدام مقدار منخفض من الطاقة، بسبب اللوائح التي وضعتها لجنة الاتصالات الفيدرالية. وكان من لوكازيك أن دعا ماركوسَ إلى الانضمام إلى لجنة الاتصالات الفيدرالية للعمل على تطوير تقنية الطيف المنتشر وغيرها من التقنيات المبتكرة، وكان ذلك يتطلب تغيير الطريقة التي ظلت لجنة الاتصالات الفيدرالية تعمل بها لسنوات.
وما كادت لجنة الإذاعة الفيدرالية ترى النور حتى مُنِيَتْ الولايات المتحدة بأسوأ كساد عرفته في تاريخها، وحين أتت فترة سبعينيات القرن العشرين كانت لجنة الاتصالات الفيدرالية لا تزال تعيش في أجواء ثقافة الثلاثينيات، حين كانت السياسات الاقتصادية الوطنية من تلقاء نفسها تكبح جماح رأسمالية السوق الحرة. كقاعدة عامة يكره المبدعون التقنين، في حين يحبه أصحاب المصلحة؛ لأنه يحمي مصالحهم التي اعتادوا عليها، وفي عالم البث الإذاعي، حيث يكون الطيف مادة خامًا محدودة الكمية ولا يستغني عنها أحد وتتحكم فيها الحكومة، فإن هذه الدينامية قد تكون خانقة للغاية.
فالمستفيدون الحاليون، مثل المحطات الإذاعية ومحطات التليفزيون وشركات الهاتف المحمول، لديهم حقوق في الطيف منحتهم إياها لجنة الاتصالات الفيدرالية في الماضي، وربما منذ عقود، وهي تكاد تُجدَّد تلقائيًّا. إن الجهات المستفيدة ليس لديها حافز للسماح لأحد باستخدام «طيفها» لعمل ابتكارات قد تهدد أعمالها، ولا يمكن للمبدعين أن يَشْرعوا في أي ابتكار دون أن يضمن لهم أحد أنهم سيُمنحون جزءًا من الطيف ليستخدموه؛ لأن المستثمرين لن يُقْدِموا على تمويل مشاريع تعتمد على موارد تخضع لرقابة الحكومة يمكن أن تحجبها عنهم في أي وقت.
يدرس القائمون على أمر التقنين مقترحاتٍ تخفف من وطأة ما يضعون من قوانين ولوائح، وذلك عن طريق إشراك المجتمع وأخذ آراء أفراده، ومعظم من يستمعون إلى آرائهم هم من الجهات المستفيدة، التي لديها موارد لإرسال فرق للضغط ضد التغيير، وهذه الجهات تشتكي أنها تخشى وقوع كوارث إذا خُففت القوانين واللوائح، في الواقع هناك مغالاة في كثير من الأحيان في سيناريوهات يوم القيامة على أمل أن يستبعد القائمون على أمر التقنين الجهات المنافِسة، وفي نهاية المطاف، يغفل القائمون على أمر التقنين مسئوليتهم الأولى؛ ألا وهي الصالح العام وليس صالح الجهات المستفيدة العاملة في هذا المجال. فالأيسر بلا شك هو أن يُتْرَك الأمر كما هو. ولهم أن يزعموا أنهم يستجيبون لما يُقال لهم، لكنهم منحازون بسبب التكاليف الباهظة للسفر والحشد من أجل كسب التأييد. وهكذا انتهى المآل بالتقنين التنظيمي الذي قصد به منع التداخل في البث الكهرومغناطيسي إلى منع المنافسة نفسها.
ثم هناك أمر آخر يجب الالتفات إليه، فمعظم الوظائف في مجال الاتصالات تجدها في القطاع الخاص، ويعلم موظفو لجنة الاتصالات الفيدرالية أن مستقبلهم يكمن في الاستخدام التجاري للطيف، وقد انتقل المئات من موظفي لجنة الاتصالات الفيدرالية ومسئوليها — بما في ذلك الثمانية الذين ترأسوها في الماضي — للعمل في الشركات التي كانوا قبل ذلك يعملون على تقنينها، وصاروا يمثلونها. وهذه التنقلات من العمل الحكومي إلى القطاع الخاص لا تُعَدُّ انتهاكًا لقواعد الأخلاق في القطاع الحكومي، لكن قد يواجه مسئول لجنة الاتصالات الفيدرالية خيارًا صعبًا بين إثارة حفيظة جهة مستفيدة كبيرة الشأن قد يعمل لديها في المستقبل، وبين أن يصيب بالإحباط شركةً صغيرة ناشئة أو جهة غير ربحية تخدم الصالح العام، فليس من المستغرب أن يضع هؤلاء المسئولون في اعتبارهم أنه سيتعين عليهم أن يبحثوا عن لقمة عيشهم بعد أن يتركوا مناصبهم في لجنة الاتصالات الفيدرالية.
في عام ١٩٨١ دعا ماركوس وزملاؤه الجميع إلى إبداء آرائهم في اقتراح بالسماح بالبث باستخدام طاقة منخفضة في نطاقات التردد العريضة، فاعترضت كل الجهات المستفيدة تقريبًا التي كانت تستخدم تلك النطاقات على ذلك، فتراجعت لجنة الاتصالات الفيدرالية ثم حاولت — في سعيها لكسر الجمود التنظيمي — أن تبحث عن نطاقات تردد حيث يمكن أن تكون هناك شكاوى قليلة بسبب وقوع تداخل محتمل مع استخدامات أخرى، فخطرت للقائمين عليها فكرة رفع يد التقنين عن ثلاثة «نطاقات مُهْمَلة»، وقد أطلق عليها هذا الاسم لأنها لم تكن تُستخدم إلا للأغراض «العلمية والصناعية والطبية». فأفران الميكروويف، على سبيل المثال، تطهو الطعام عن طريق تسليط إشعاع كهرومغناطيسي مقداره ٢٫٤٥٠ جيجاهرتز، وكان ينبغي أن لا تكون هناك أي شكاوى؛ فأفران الميكروويف لم تكن تتأثر بسبب «التداخل» الحادث بسبب الإشارات اللاسلكية، ولم يكن المشتغلون في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية يستخدمون تلك النطاقات.
اشتكت كل من هيئة الإذاعة الأمريكية وشركة جنرال إليكتريك مما يمكن أن يقع من تداخل عند استخدام الطاقة المنخفضة، لكن رأى المسئولون أن هذا الاعتراض مبالغ فيه، وقد افتُتِح هذا النطاق أمام التجارب في عام ١٩٨٥، على شرط أن يتم استخدام تنقل التردد أو تقنية مماثلة للحد من التداخل.
لم يكن ماركوس يعرف ما قد يحدث، لكنَّ المهندسين كانوا يتحينون الفرصة للاستفادة من ذلك، فبعد بضعة أشهر أسس إروين جاكوبس شركة كوالكوم، وبحلول عام ١٩٩٠ انتشرت تقنية تلك الشركة في مجال الهاتف المحمول انتشارًا واسعًا، وذلك باستخدام إحدى تقنيات الطيف المنتشر تسمى اختصارًا ﺑ «سي دي إم إيه». وبعد سنوات قليلة اتفقت شركة أبل للكمبيوتر وغيرها من الشركات المصنعة مع لجنة الاتصالات الفيدرالية على معايير استخدام الطيف المنتشر في شبكات الإذاعة المحلية؛ أي «الموجهات اللاسلكية»، والتي بسببها سُمِّيَ جهاز أبل الجديد باسم إيربورت. وفي عام ١٩٩٧، عندما اعتمدت لجنة الاتصالات الفيدرالية المعيار ٨٠٢٫١١ وصارت نطاقات الطيف متاحة أخيرًا للاستخدام، لم تُعِرْ الصحافة ذلك الأمر كبيرَ اهتمام. ولم تكد تمر ثلاث سنوات حتى ملأت الشبكات اللاسلكية الدنيا كلها، وصارت جميع أجهزة الكمبيوتر الشخصية تقريبًا تأتي وهي معدة للاتصال غير اللاسلكي بالإنترنت.
وتقديرًا للجهود التي بذلها ماركوس أُرسِل إلى منفى داخلي بلجنة الاتصالات الفيدرالية لمدة سبع سنوات، ولم يظهر مرة أخرى إلا في عهد الرئيس كلينتون، وعاد إلى العمل في مجال سياسات الطيف. أما الآن فهو متقاعد، ويعمل مستشارًا في القطاع الخاص.
وقد فتح نجاح الاتصال اللاسلكي بالإنترنت الباب أمام مناقشة مقترحات أشد من ذلك حول الطيف المنتشر، وأشد صور ذلك كانت الإذاعة «ذات النطاق فائق الاتساع». من وجه من الوجوه تعود تلك الفكرة إلى شرارات العالِم هرتز، والتي تنشر الإشعاع في جميع أنحاء ترددات الطيف الراديوي. إلا أن هناك اختلافين مهمين؛ أولهما: أن هذه التقنية تستخدم طاقة ضئيلة للغاية، ما يجعلها مجدية بسبب عِظَمِ عرض النطاق الترددي. واستهلاك الطاقة الضئيل جدًّا الذي تحتاجه هذه التقنية يعني أن لا تتداخل مع أي جهاز استقبال لاسلكي تقليدي. وثانيهما: أن ذبذبات هذه التقنية قصيرة للغاية وموقتة بدقة، بحيث يمكن للوقت بين الذبذبات أن يرمز رسالة رقمية يتم بثها، بل إنه عند انخفاض الطاقة انخفاضًا شديدًا — والذي من شأنه أن يحد من نطاق بث هذه التقنية ليصير بضعة أقدام — فإن هذه التقنية لديها القدرة على حمل كميات هائلة من المعلومات في فترات قصيرة. تخيل أنك تربط تليفزيونك عالي الجودة بمستقبل بث مدفوع أو مشغل أسطوانات الفيديو الرقمي دون كابلات. تخيل نفسك وأنت تُحمِّل مكتبتك الصوتية الرقمية من غرفة معيشتك إلى نظام الصوت في سيارتك بينما هي واقفة في مرأبك، تخيل الهواتف المرئية اللاسلكية التي تعمل أفضل من هواتفنا السلكية، والاحتمالات هنا لا حصر لها إذا ظللنا نخفف من وطأة التقنين.
(٤) ماذا يحمل المستقبل للإذاعة؟
في عالم الاتصالات اللاسلكية، كما هو الحال في كل مكان في الانفجار الرقمي، لم يتوقف الزمن، في الواقع لقد كان التقدم في الاتصالات الرقمية أقل بكثير من نظيره في صناعة الأفلام بالكمبيوتر أو التعرف على الصوت أو التنبؤ بالطقس؛ وذلك لأن القائمين على أمر التقنين الفيدرالي يكبلون الإذاعة ويؤخرون الزيادة الثورية في القوة الحسابية. إن ما يوفره رفع يد التقنين بدأ للتو بالظهور.
(٤-١) ماذا لو صارت أجهزة الراديو ذكية؟
الطيف المنتشر هو وسيلة لتحسين استخدام الطيف، وهناك إمكانية أخرى مثيرة تأتي من الاعتراف بأن أجهزة الراديو العادية غبية للغاية بالمقارنة مع ما هو ممكن حاسوبيًّا اليوم. لو أخذنا أجهزة الراديو التي تنتَج اليوم معنا في آلة الزمن، وعدنا بها إلى الماضي لوجدنا أنها تستقبل البث الذي كان يجري بثه منذ ثمانين عامًا، ولوجدنا أن أجهزة الراديو من نوع إيه إم التي تنتمي لتلك الحقبة يمكنها استقبال البث اليوم، ولتحقيق هذا «التوافق التام مع الماضي» لا بد لنا من التضحية بقدر كبير من الجودة، وسبب هذا النوع من التوافق ليس أن الكثير من أجهزة الراديو التي كانت تنتَج قبل ثمانين عامًا لا تزال في الخدمة، بل السبب هو أنه «طوال الوقت» يولي المشتغلون في هذا المجال اهتمامًا بالغًا للحفاظ على حصتهم في السوق، ومن ثم، في الضغط ضد الجهود الرامية إلى جعل أجهزة الراديو «أكثر ذكاءً» بحيث يمكن استيعاب المزيد من المحطات.
ماذا تعني كلمة «ذكية»؟
للراديو «الذكي» أسماء فنية متنوعة. أشهرها «الراديو المعرَّف برمجيًّا» و«الراديو الإدراكي»، والمقصود بالراديو المعرف برمجيًّا أجهزة راديو قابلة للبرمجة لتغيير خصائص موجودة عادة في الأجهزة اليوم (مثل ما إذا كانت تتلقى إرسال الإيه إم والإف إم أو غير ذلك). أما الراديو الإدراكي فيشير إلى أجهزة الراديو التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لزيادة كفاءة استخدام الطيف.
هذه «المكاسب التعاونية» تُستغل بالفعل في مجال الربط الشبكي اللاسلكي عن طريق أجهزة الاستشعار. فأجهزة الكمبيوتر الصغيرة المجهزة براديو والتي تستهلك كمًّا ضئيلًا من الطاقة توجد بها أجهزة استشعار للحرارة أو النشاط الزلزالي، على سبيل المثال، ويمكن نشر هذه الأجهزة في المناطق النائية في بيئات معادية، مثل حواف البراكين المشتعلة، أو أراضي تعشيش طيور البطريق المهددة بالانقراض، والتي تقع في القطب الجنوبي، ونظرًا لأن الاستعانة بهذه الأجهزة تعني تكلفة أقل بكثير ووسيلة أكبر أمانًا من وضع مراقبين من البشر، فإن تلك الأجهزة بوسعها أن تتبادل المعلومات مع غيرها من الأجهزة المجاورة، ثم في نهاية الأمر ترسل ملخصًا إلى جهاز إرسال واحد عالي الطاقة.
هناك فرص واسعة لاستخدام أجهزة الراديو «الذكية» لزيادة عدد خيارات بث المعلومات، فقط إذا أمكن تخفيف القبضة الخانقة للتقنين على هذا المجال وزيادة حوافز الابتكار والإبداع.
يمكن أن تصبح أجهزة الراديو «أكثر ذكاء» في جانب آخر. حتى في ظل نموذج «ضيق النطاق» لتوزيع الطيف — حيث تحتل إشارة واحدة فقط نطاقًا صغيرًا من الترددات — يمكن للحوسبة الرخيصة أن تؤدي دورًا مؤثرًا. إن مفهوم أن الحكومة هي المسئولة عن منع «التداخل»، والمنصوص عليه في التشريعات منذ صدور قانون الراديو لعام ١٩١٢، قد عفى عليه الزمن الآن.
موجات الراديو لا «تتداخل» كما يحدث لحشد من الناس حين تتداخل حركات بعضهم مع حركات البعض الآخر، فالموجات لا يرتد بعضها عن بعض، بل يمر بعضها عبر البعض الآخر، فإذا حدث ومرت موجتان مختلفتان عبر هوائي راديو قديم فلن يتسنى لنا سماع أي من الإشارتين بوضوح.
لمعرفة ما قد يكون ممكنًا في المستقبل، اطلب من رجل وامرأة أن يقفا خلفك، ثم ليعمد كل منهما إلى كتاب مختلف فيقرأه جهرًا بحيث لا يعلو صوت أحدهما على الآخر. إذا لم تركز، فسيصل إلى مسامعك خليط غير متجانس من الصوتين، لكن إذا ركزت على أحد الصوتين فحينها يمكنك أن تميز وتفهم ما يقول في حين تحجب الآخر، وإذا حولت تركيزك إلى الآخر ميزت ما يقول، وهذا يحدث لأن الدماغ يقوم بمعالجة متطورة للإشارات، فهو يعرف شيئًا عن صوت الرجل وصوت المرأة، وهو يعرف اللغة التي يتكلم بها المتحدث، ويحاول مطابقة الأصوات التي تَرِدُ إلى الأذنين بمفردات القاموس اللغوي لتلك اللغة التي يحفظها، والراديو يمكنه أن يفعل الشيء نفسه، إن لم يكن اليوم ففي وقت قريب، عندما تصبح أجهزة الكمبيوتر أقوى قليلًا.
لكن هناك دوامة الدجاجة والبيضة أيهما جاء أولًا، فلا أحد سيُقْبِل على شراء أجهزة راديو «ذكية» إلا إذا كان هناك ما يمكنه الاستماع إليه عن طريقها، ولا يمكن لأحد الخروج علينا بشكل جديد من البث دون أن يكلفه ذلك رأسَ مالٍ، ولن تجد أحدًا يستثمر المال في مشروع يعتمد على قرارات ترفع يد التقنين هو غير متأكد أن لجنة الاتصالات الفيدرالية ستتخذها. إن الراديو التقليدي والاستخدام غير الفعال للطيف يحميان الجهات المستفيدة من المنافسة، ومِنْ ثَمَّ تجد تلك الجهات تضغط لكيلا تُرفع يدُ التقنين.
علاوة على ذلك نجد أن شركات الاتصالات والترفيه الحالية من بين كبار المساهمين في تمويل الحملات الانتخابية للكونجرس الأمريكي، وغالبًا ما يضغط أعضاء الكونجرس الأمريكي على لجنة الاتصالات الفيدرالية بحيث تسير ضد المصلحة العامة وفي صالح تلك المؤسسات. كانت هذه المشكلة واضحة حتى في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما ذكر أحد أقدم المراجع التي تتناول تقنين الراديو أنه: «لم يسبق مطلقًا أن تعرضت هيئة شبه قضائية لكل هذا الكم من ضغوط الكونجرس الأمريكي بقدر ما تعرضت له لجنة الإذاعة الفيدرالية.» والتاريخ يعيد نفسه.
التليفزيون والترفيه والكونجرس الأمريكي
ساهمت المحطات التليفزيونية وشركات الأفلام وشركات الأغاني والموسيقى بأكثر من ١٢ مليون دولار في حملات إعادة الانتخاب لعام ٢٠٠٦، وفاقت بذلك ما ساهم به قطاع النفط والغاز. كان أكبر ثلاثة مساهمين في ذلك كومكاست كورب وتايم وارنر والاتحاد الوطني للبث التليفزيوني المدفوع والاتصالات السلكية واللاسلكية.
(٤-٢) لكن هل نريد هذا الانفجار الرقمي؟
التغير الذي يطرأ على القوانين واللوائح والبيروقراطية أبطأ بكثير من تغير التقنيات التي تحكمها، ولا يزال للجنة الاتصالات الفيدرالية مكتبان منفصلان: أحدهما مخصص للشئون «اللاسلكية»، والآخر مخصص للشئون «السلكية»، وتنطبق قوانين خاصة تتعلق بالتعبير على «بث» الراديو والتليفزيون، على الرغم من أن «البث» هو مفارقة هندسية.
إن التنظيم المنفصل للهياكل القانونية يئد الإبداع في تكنولوجيات اليوم، فلا ينبغي أن يكون تقنين طبقة المحتوى نابعًا من فهم عفى عليه الزمن للحدود الهندسية للطبقة المادية، ويجب أن لا تمكن الأموال التي تستثمر في تطوير الجانب المادي الشركات نفسها من السيطرة على جانب المحتوى، فالمصلحة العامة تكمن في الابتكار والكفاءة لا في الإبقاء على التكنولوجيات القديمة والأبواب الدوارة بين القائمين على أمر التقنين والجهات التي تعمل في المجال الذي يخضع للتقنين.
لكن إذا حُرر الطيف، واستخدم على نحو أكثر كفاءة مما هو عليه الآن، وأتيح للاختراعات اللاسلكية المبتكرة وقنوات أكثر «بثًّا» بكثير، فهل ستعجبنا النتيجة؟
هناك فوائد اقتصادية واجتماعية للابتكارات في مجال التكنولوجيا اللاسلكية. إن آلات فتح بوابات المرائب وأجهزة الإرسال والاستقبال المستخدمة في أكشاك تحصيل الرسوم لا تنقذ الأرواح، لكن أجهزة الكشف عن الحريق اللاسلكية وأنظمة تحديد المواقع العالمية تنقذها، وقصة الاتصال اللاسلكي بالإنترنت توضح مدى سرعة تحول التكنولوجيا غير المتوقعة إلى جزء أساسي في كل من قطاع الأعمال والبنية التحتية الشخصية.
لكن ماذا عن الإذاعة والتليفزيون؟ هل سنصير حقًّا أفضل حالًا في ظل وجود مليون قناة بعد أن كان عددها في خمسينيات القرن العشرين ثلاث عشرة قناة فقط، أما اليوم وقد بلغ عددها بضع مئات على الأقمار الصناعية والتليفزيون المدفوع؟ ألن تؤدي هذه الوفرة في المصادر إلى انخفاض جودة المحتوى في الجملة، وإلى انشقاق في المجتمع مع ذبول قنوات المعلومات الموثوقة التي فرضها الواقع؟ ألن يصبح من المستحيل أن نحجب المواد الإباحية وما شاكلها، والتي لا يرغب معظم الناس في مشاهدتها، مهما كانت حقوق القلة؟
إننا كمجتمع علينا أن نواجه حقيقة أن نظرتنا إلى الإذاعة والتليفزيون نظرة خاطئة، وقد تشكلت تلك النظرة الخاطئة عبر عقود من الجدل الدائر حول الندرة، وقد أصيبت هذه الحجة الآن بالسكتة الدماغية، وهي الآن ترقد في غرفة الإنعاش التي توفرها لها المؤسسات التي تحقق ربحًا من السيطرة على التعبير الذي ترشِّده، وفي ظل عدم وجود حجة الندرة نجد محطات الإذاعة والتليفزيون تصبح أقل شبهًا بعقود الإيجار الخاصة بالأراضي العامة، أو حتى الممرات الملاحية، وأكثر شبهًا ﺑ … الكتب.
ستكون هناك فترة من إعادة التكيف الاجتماعي في ظل تحول التليفزيون ليكون أشبه بالمكتبة، لكن التنوع المذهل بل المخيف في الكتابات المنشورة ليس سببًا يدعو إلى عدم اقتناء المكتبات. مما لا شك فيه أنه ينبغي أن تكون هناك جهود حثيثة للحد من التكلفة الاجتماعية للحصول على استثمارات وطنية ضخمة في أجهزة التليفزيون القديمة التي استغنى الناس عنها لصالح أجهزة التليفزيون ذات المليون قناة، لكننا نعرف كيف نفعل ذلك. تواجهنا دائمًا مشكلة الدجاجة والبيضة عندما تظهر تكنولوجيا جديدة، مثل أجهزة راديو الإف إم أو أجهزة الكمبيوتر الشخصية.
عندما تتحكم قوى السوق فيما يُبث فلعلنا لا نكون راضين عن النتائج مهما كانت وفيرة، لكن إذا ما كان ما يريده الناس هو أن نضمن لهم أن يُحجب عنهم ما لا يريدون مشاهدته، فإن السوق سوف تنشئ قنوات خالية من الكلمات القذرة وتوفر تقنيات لتأمين حجب غيرها، وقد أُبْقِيَ على النظام الحالي بسبب ما تتمتع به الشركات التي تعمل في هذا المجال من نفوذ مالي وسياسي هائل، وبسبب أن الحكومة تحب السيطرة على التعبير.
(٤-٣) ما مقدار التقنين الحكومي المطلوب؟
بالتأكيد، حين ينتهي الكلام وتبدأ الإجراءات، فإن الناس يكونون بحاجة إلى حماية توفرها لهم الحكومة. لقد سُحبت الرخصة الطبية من الدكتور برينكلي، وكان هذا آنذاك صحيحًا، وهو كذلك اليوم أيضًا.
في ظل العالم اللاسلكي الجديد تحتاج الحكومة إلى فرض قوانين تتعلق بتقاسم الطيف، فالتكنولوجيات لا تؤتي ثمارها إلا إذا احترم الجميع القيود المفروضة على الطاقة وعرض النطاق الترددي. على الحكومة جعل الأجهزة المصنعة تمتثل للقوانين، وجعل المحتالين لا ينتهكون تلك القوانين، وعلى الحكومة أيضًا المساعدة في تطوير واعتماد معايير للراديو «الذكي».
كما أن عليها كامل المسئولية في تحديد ما إذا كانت التحذيرات الشديدة التي تصدر من الشركات التي تعمل في هذا المجال حول المخاطر التي تفرضها التكنولوجيات الجديدة صحيحة علميًّا أم لا، وإذا كانت صحيحة، أن تكون ذات أهمية اجتماعية كبيرة تكفي لعرقلة التقدم الهندسي، ومن بين تلك التحذيرات ما صدر في خريف عام ٢٠٠٧ من قبل الرابطة الوطنية للمذيعين، والتي أطلقت حملة إعلانية وطنية لمنع تقنية جديدة تحدد أجزاء الطيف التليفزيوني التي لم تُستخدم، وذلك لصالح خدمة الإنترنت: «قد يرى أصدقاؤنا في شركات إنتل وجوجل ومايكروسوفت أن أخطاء النظام وأخطاء الكمبيوتر والمكالمات التي تنقطع ولا تتم أمر يمكن احتماله، أما المذيعون فلا يرون ذلك.» إن المسائل العلمية حول التداخل ينبغي أن يحسمها العلم لا الإعلانات، ولا تدخُّل الكونجرس الأمريكي. سنحتاج دائمًا إلى هيئة مستقلة، مثل لجنة الاتصالات الفيدرالية، لِسَنِّ تلك الأحكام ولجعلها تحقق المصلحة العامة.
إذا حدث كل هذا فستختفي مشكلة الندرة، في تلك المرحلة ينبغي — ومن الناحية الدستورية يجب — أن تقلَّل سلطة الحكومة بحيث تتساوى مع مقدار سلطتها على وسائل الإعلام الأخرى التي لا تعاني من الندرة، مثل الصحف والكتب، وستظل قوانين الفحش والقذف باقية في مجال الاتصالات اللاسلكية كما الحال بالنسبة لوسائل الإعلام الأخرى، والأمر نفسه ينطبق على أي قيود أخرى مشروعة يضعها الكونجرس الأمريكي، ربما لأسباب تتعلق بالأمن القومي.
لكن ينبغي إنهاء ما سوى ذلك من تقنين ما يُبثُّ من كلام وصور، فالأساس القانوني الذي يستند إليه لم يعد له مكان في عالم المعلومات الذي أعيد تشكيله مؤخرًا، فهناك طرق كثيرة جدًّا للحصول على المعلومات، ونحن بحاجة إلى تحمل مسئولية ما نشاهده، وما نسمح لأطفالنا بمشاهدته، ويجب علينا تثقيفهم ليعيشوا في عالمِ وفرةِ المعلومات.
ما من داعٍ لإعادة تأسيس «مبدأ إنصاف» كذلك الذي ظللنا نعمل به حتى عام ١٩٨٧، والذي كان يفرض على محطات البث عرض وجهات نظر متعددة. إذا ازداد عدد القنوات فإن الحكومة لن تكون لديها أي حاجة، أو سلطة، للتشكك فيما يصدر عن المذيعين من أحكام، وعلى حد تعبير القاضي ويليام دوجلاس، فإن الندرة المصطنعة في مجال الطيف مكَّنت «إدارةً تلو إدارة من أن تتلاعب بالراديو أو التليفزيون من أجل خدمة أهدافها سواء أكانت دنيئة أو خيِّرة.» إن ادعاء القاضي فرانكفورتر بأنه «ليس هناك مجال في نطاق البث لكل عمل أو مدرسة فكرية» صار الآن ادعاءً كاذبًا.
•••
لقد اختزل الانفجار الرقمي جميع المعلومات إلى قاسم مشترك أدنى؛ ألا وهو تسلسل من الآحاد والأصفار، وهناك الآن محولات في تقاطعات جميع الشبكات في جميع أنحاء عالم المعلومات، فالمكالمات الهاتفية، والرسائل الشخصية، والبرامج التليفزيونية كلها تصل إلينا عن طريق مزيج من نفس الوسيط. تتنقل البِتات مرات كثيرة بين هوائيات الراديو ومحطات التحويل ذات الألياف البصرية وأسلاك الهاتف قبل أن تصل إلينا.
إن عالمية البِتات تمنح البشرية فرصة نادرة، فنحن في وضع يمكننا فيه اتخاذ قرار بشأن وجهة نظر شاملة للمعلومات. علينا أن نشكل مستقبلنا على أساس من المفاهيم الأساسية الصحيحة، وليس على أساس من المواقف التاريخية الطارئة، في الولايات المتحدة، أزال الانفجار الرقمي الكثير من الضباب التكنولوجي الذي كان يلف التعديل الأول للدستور الأمريكي، وفي ضوء إقرار المجتمعات كلها بأن المعلوماتِ ما هي إلا بِتات، فإنها ستواجَه بأسئلة صارخة حول متى يُلقى الحبل على الغارب للمعلومات، ومتى تقنَّن، ومتى تُمنَع وتُحجَب.