السؤال
فيما يلي فقرة مأخوذة من كتابات فيلسوف مشهور: «العقل هو الجوهر، فضلًا عن كونه قوة لا متناهية؛ إذ إن مادته اللامتناهية الخاصة تكمن من وراء الحياة الطبيعية والروحية كلها، فضلًا عن الصورة اللامتناهية التي تبعث الحركة في تلك المادة؛ فالعقل هو الجوهر الذي تستمد منه كلُّ الأشياء وجودها.»
إن قُراءً كثيرين لا يطيقون صبرًا على هذا النوع من النواتج اللغوية، وحين يُخفِقون في إدراك أي معنًى لها، فقد يشعرون بالميل إلى الإلقاء بالكتاب في النار، ولكنا ندعو مثل هذا القارئ، لكي يتجاوز مرحلة الاستجابة الانفعالية هذه إلى مرحلة النقد المنطقي، إلى دراسة ما يُسمَّى باللغة الفلسفية من وجهة نظر المُلاحظ المحايد، مثلما يدرس عالم التاريخ الطبيعي عيِّنة نادرة من الحشرات؛ فتحليل الخطأ يبدأ بتحليل اللغة.
على أن دارس الفلسفة لا يثور عادةً مِن جرَّاء الصيغ الغامضة، بل إنه يقتنع على الأرجح، مند قراءة النص السابق، بأن الخطأ في عدم فهمه إياه إنما هو خطؤه؛ لذا تراه يقرؤه مرةً تلوَ المرة، وقد يصل بمضي الوقت إلى مرحلة يعتقد فيها أنه قد فهمه، عند هذه النقطة يبدو من الواضح تمامًا في نظره أن العقل يتألف من مادةٍ لا متناهية تكمن من وراء كل حياة طبيعية وروحية؛ وبالتالي فهو جوهر الأشياء جميعًا. وهو يتكيف نفسيًّا مع هذه الطريقة في الكلام إلى حدِّ أنه ينسى كل الانتقادات التي قد يوجِّهها شخص أقل «ثقافة».
ولكن، لنتأمل العالِم المدرَّب على استخدام ألفاظه بطريقةٍ يكون لكل جملة فيها معنًى. إن عباراته تصاغ بحيث يكون في وسعه دائمًا أن يُثبِت صوابها، ولا يضيره أن يكون البرهان منطويًا على سلاسل فكرية طويلة، فهو لا يخشى التفكير المجرد، ولكنه يشترط أن يرتبط التفكير المجرد، على نحوٍ ما، بما تراه عينه وتسمعه أذنه وتلمسه أصابعه. فماذا يقول شخص كهذا إذا قرأ الفقرة التي اقتبسناها من قبل؟
ولكن أي نوع من المادة ذلك الذي يكمن من وراء الحياة؟ قد يتصور المرء أنها العنصر (أو الجوهر) الذي تتألف منه الأجسام. فكيف إذن يكون ذلك هو العقل نفسه؟ إن العقل قدرة مجردة للبشر، تتبدى في سلوكهم، أو في جوانب معيَّنة من سلوكهم، إذا آثرنا التواضع. فهل يود الفيلسوف الذي اقتبسنا منه هذا الكلام أن يقول إن أجسامنا تتألف من إحدى قدراتها المجردة؟
إن الفيلسوف ذاته لا يمكن أن يعني مثل هذا الرأي الممتنع. فما الذي يعنيه إذن؟ أغلب الظن أنه يعني أن أحداث الكون جميعها منظَّمة بحيث تخدم هدفًا عقليًّا. وهذا افتراض مشكوك فيه، ولكنه مفهوم على الأقل. ومع ذلك، فإن كان هذا ما يريد الفيلسوف أن يقوله، فلِمَ كان يتعيَّن عليه أن يقوله على طريقة الألغاز؟
هذا هو السؤال الذي أود أن أجيب عنه قبل أن يتسنى لي أن أحدِّد ما هي الفلسفة، وما ينبغي أن تكون.