التطور
يبدو في نظر المُشاهِد الذي يفتقر إلى الخبرة، أن ثمة فارقًا باطنًا بين الكائنات العضوية الحية وبين الطبيعة غير العضوية؛ فكل أشكال الحياة الحيوانية تقريبًا تكشف عن قدرة على الحركة المستقلة، ويدل سلوكها على نشاط مخطَّط يستهدف تحقيق مصلحة الكائن العضوي ذاته، وقد يكشف هذا النشاط المخطَّط، لا في البشر فحسب، بل في بعض أنواع الحيوان أيضًا، عن استباق طويل المدى لحاجات المستقبل؛ فالطيور تبني أعشاشها لتحمي نفسها في الليل، وليكون فيها مكان للتفريخ، والفأر يحفر لنفسه مأوًى في الأرض، ويملؤه بمواد يقتات بها في الشتاء، والنحلة تُفرِز كميات من الرحيق. وهناك قدر كبير من السلوك المخطَّط يتجه دائمًا إلى هدف التناسل، وهو العملية الآلية العجيبة التي تعمل على بقاء النوع بعد موت الأفراد.
أما النباتات فلا تظهر فيها أنواع من النشاط الذي نُحبُّ أن نسمِّيه تخطيطًا، ومع ذلك فهي قطعًا تؤدي وظائفها على نحوٍ يجعل ردود أفعالها تحقِّق هدف تغذية الفرد وحفظ النوع؛ فجذورها تنمو في الأرض وتتغلغل فيها بالعمق الذي يكفي للوصول إلى الماء، وأوراقها الخضراء تتحول إلى الشمس التي يحتاج النبات إلى أشعتها لتكون مصدرًا للطاقة الحيوية، كما أن عملية التكاثر الآلية فيها تضمن ظهور ذرية وفيرة.
إن الكائن العضوي الحي نظامٌ يعمل في سبيل هدف حفظ الذات وحفظ النوع، وهذا الحكم لا يصدق فقط على تلك المظاهر الواضحة للحياة، التي نسمِّيها «سلوكًا»، بل يصدق أيضًا على العمليات الكيميائية للجسم، وهي العمليات التي تُعَد أساسًا لكل سلوك؛ فالعملية الكيميائية المتعلقة بهضم الغذاء وأكسدته منظمةٌ على نحوٍ مِن شأنه أن تمد الكائن العضوي بالوحدات الحرارية اللازمة لأوجه نشاطه، بل إن النباتات قد استحدثت لنفسها عملية تُتيح لها أن تنتفع مباشرة، بمساعدة جزيئات الكلوروفيل، من طاقة الشمس المُشعة لمصلحتها الخاصة.
وهكذا يبدو كأن هناك خطة تتحكم في أفعال الكائنات العضوية الحية، وهدفًا محدَّدًا يوجِّهها، إذا ما قُورِنت بالمسلك الأعمى للعالم غير العضوي، كسقوط الأحجار وتدفُّق الماء وهبوب الرياح. فالعالم غير العضوي يخضع لقوانين السبب والنتيجة؛ إذ يتحكم الماضي في المستقبل عن طريق الحاضر. أما بالنسبة إلى الكائنات الحية فيبدو أن هذه العلاقة تنعكس؛ فما يحدث الآن مرتَّب على نحوٍ مِن شأنه أن يخدم غرضًا مستقبلًا، ويبدو أن المستقبل، لا الماضي، هو الذي يتحكم في أحداث الحاضر.
وعلى الرغم من أن فكرة التوازي بين العِلِّية والغائية تبدو أشبه بحكم صادر عن مُلاحِظ مُحايِد، فإننا نستمع إلى ادعاءاتها على مضض، ولا نستطيع أن نمتنع عن الشعور بأن في موقفها شيئًا باطلًا في أساسه؛ فالفيزياء ليست علمًا مُوازيًا للبيولوجيا، وإنما هي علم أكثر أولية، وقوانينها لا تقف عاجزة أمام الأجسام الحية، وإنما تشتمل الأجسام الحية وغير الحية معًا، على حين أن البيولوجيا تقتصر على دراسة تلك القوانين الخاصة التي تسري، مع القوانين الفيزيائية، على الكائنات الحية. فليس في البيولوجيا استثناءٌ معروف للقوانين الفيزيائية؛ ذلك لأن الأجسام الحية تهوي كالأحجار إن لم ترتكز على شيء، وهي لا يمكن أن تُنتِج طاقةً مِن لا شيء، وإنما تتحقق جميع قوانين الكيمياء في عملياتها الهضمية. فليس ثمة قانونٌ فيزيائي ينبغي أن يكون مقرونًا بشرط مثل: «ما لم تحدث العملية في كائن عضوي حي.»
أما أن الكائنات الحية تتميز بخواص تقتضي صياغة قوانين خاصة تُضاف إلى قوانين الفيزياء، فهو أمرٌ لا يدعو إلى الاستغراب؛ فنحن نعلم أن الأجسام الساخنة تظهر فيها خواص لا تُرَد إلى الميكانيكا، وأن السلك الذي يمرُّ فيه تيار كهربائي تظهر فيه خواص لا تستطيع الميكانيكا ولا الديناميكا الحرارية تعليلها. فليس ثمة صعوبةٌ منطقية في أن ننسب إلى المادة عندما تكون في حالمة أعقد، خواصَّ لا تتكشف في المادة عندما تكون في حالة أبسط، ولكن يبدو من غير المقبول أن نفترض أن للمادة الحية خواص تتناقض مع خواص المادة غير العضوية.
ولو مضينا في التحليل أبعد مِن ذلك لوجدنا أن نصير فكرة الغائية لا يجد دفاعًا مُقنِعًا يتخلص به من هذا المأزق؛ فكلما كان الأمر متعلقًا بسلوك غرضي، لم يكن ما يتحكم في السلوك هو الحادث المُقبِل، وإنما استباق الكائن الحي للحادث المُقبِل. فنحن نغرس البذرة لكي نزرع الشجرة، وما يتحكم في سلوكنا ليس هو الشجرة المُقبِلة، وإنما الصُّوَر التي نكوِّنها في الحاضر لشجرة المستقبل، وهي الصور التي نستبق بها وجودها المُقبِل. ومما يُثبِت أن هذا هو التفسير المنطقي الصحيح، أن من الممكن تدمير النبتة النامية، بحيث لا تظهر شجرة في المستقبل؛ وعندئذٍ لا يقع الحادث المتوقَّع في المستقبل أبدًا، على حين أن السلوك الحاضر، وهو غرس البذرة، يظل كما هو دون تغيير. ومِن المُحال أن يكون ما لا يحدث أبدًا متحكمًا فيما يحدث الآن؛ فالتحكم التوليدي ينتقل من الماضي إلى المستقبل، لا العكس. أما الفعل الغرضي المُلاحَظ في السلوك البشري فيُساء تفسيره إذا ما نُظِر إليه على أنه تحكُّم توليدي للمستقبل في الماضي؛ فلا يمكن أن يقبَل الفهم العادي ولا العلم تحكمًا توليديًّا يتناقض مع العلية. وإذن فالمُوازاة بين الغائية والعِلِّية نتيجةٌ لسوء فهم منطقي.
فما الذي يتبقى من الغائية إذن؟ إذا شئنا أن تكون الغاية متمشِّية العِلِّية، فلا يمكن أن يكون المستقبل هو الذي يتحكم في الحاضر، وإنما ينبغي أن يكون ذلك تحكمًا أو تحديدًا على أساس خطة. على أن الخطة لا يمكن أن تُحدِث آثارًا إلا بتوسط كائن عضوي ما، لديه القدرة على التفكير. ومع ذلك فإن غائية التنظيم العضوي تتجاوز بكثيرٍ نطاق النوع البشري العاقل؛ فليس في وسعنا القول إن الفأر يتبع خطة عندما يختزن غذاءه، كما أن أحدًا لن يقبل القول بأن النبات ينفِّذ خطة تكاثُر نوعه عندما ينثر بذوره على الأرض. ولا بد من إعداد صيغة دقيقة تتجنب التشبيهات الإنسانية؛ فأوجه نشاط الكائنات العضوية تمثِّل أنموذجًا من النوع الذي ينبغي أن تتبعه هذه الكائنات لو كانت تسلك وفقًا لخطة. أما الانتقال من هذه الحقيقة إلى القول بوجود خطة، تتحكم على نحو صوفي غامض في سلوك الكائنات العضوية، فيعني تفسير العالم العضوي بأكمله عن طريق تشبيه بالسلوك البشرى؛ أي إنه يعني وضع تشبيه محلَّ التفسير. فالغائية نزعة تشبيهية، وتفسير وهمي، وهي تنتمي إلى الفلسفة التأملية، ولكن ليس لها مكان في الفلسفة العلمية.
فما هو التفسير الصائب إذن؟ سيظل مِن الصحيح أن نشاط الكائن العضوي يمثِّل نمطًا يبدو كما لو كانت هناك خطة تتحكم فيه، فهل نسجِّل هذه الحقيقة على أنها مجرد اتفاق؛ أي على أنها نتاج للصدفة؟ إن ضمير العالم الإحصائي يثور على هذا الفهم؛ فاحتمال حدوث هذا الاتفاق يبلغ من الضآلة حدًّا لا نستطيع معه أن نقبَل هذا التفسير. وهكذا يبدو أن الرغبة في الوصول إلى تفسير سببي قد وصلت إلى طريق مسدود، فكيف يمكن أن تتخذ العِلِّية، على أي نحو، مَظهرَ السلوك الغائي؟
إن مَن ينظر لأول مرة إلى الحصى المُلقى على الشاطئ، قد يظن بالفعل أنه موضوع في مكانه هذا وفقًا لخطة معيَّنة؛ فالحصى الكبير يوجد بقرب البحر، ويغطِّي الماء بعضًا منه، ويعقبه بعد قليل حصًى أصغر، وتلي هذه طبقات الرمال، التي تبدأ أولًا بالحُبيبات الخشنة، وتتحول بعد ذلك إلى حُبيبات الرمال الدقيقة التي تميِّز الأجزاء المتباعدة من الشاطئ. وهكذا يبدو كأن شخصًا قد قام بتنظيف الشاطئ، واختار الحصى والرمال بعناية حسب الحجم، غير أننا نعلم أنه لا ضرورة لافتراض مثل هذا التفسير التشبيهي بالإنسان؛ فالماء ينقل الحصى ويُلقي بالأخف منه مسافةً أبعد في الشاطئ؛ وبذلك يوزِّع الحصى آليًّا حسب الحجم. صحيحٌ أن الصدمات الفردية للأمواج تسير تبعًا لأنموذج الصدفة غير المنتظم، ولا يستطيع أحد أن يتنبَّأ بالمكان الذي ستستقر فيه حصاة معيَّنة آخرَ الأمر، غير أن هناك عملية انتقال تحدث؛ فكلما حملت الموجة الواحدة حصاة كبيرة وأخرى صغيرة، استطاعت أن تحمل الصغيرة مسافةً أبعد قليلًا؛ فالصدفة مُقترِنةً بالانتقاء تُحدِث النظام.
إننا عندما نصنِّف الأنواع الموجودة تبعًا لدرجة التنوع أو التعقيد في تركيبها، بحيث ننتقل على الدوام من نوع إلى النوع الذي هو الأقرب شبهًا إليه في التركيب التشريحي والبنيان العضوي، نصل إلى ترتيب منظَّم؛ أي إلى سلسلة تؤدي فيها علاقات التشابه إلى إعطاء كل نوع مكانَه في السُّلم؛ فعند نهاية الخط نجد النوع البشري، ومِن بعده تأتي القرود، ثم تعقبها بقية الثديات، ويستمر الخط مارًّا بالطيور والزواحف والأسماك، ثم مختلف الحيوانات البحرية، حتى يصل إلى الطرف الأدنى، وهو الكائنات العضوية الحية ذات الخلية الواحدة؛ أي الأميبا. وقد استنتج دارون أن الترتيب المنظَّم للأنواع الموجودة معًا يمثِّل الترتيب التاريخي لظهورها، وأن الحياة بدأت بالأميبا ذات الخلية الواحدة، وانتقلت خلال ملايين السنين إلى أشكال تزداد علوًّا على الدوام.
وهناك، بطبيعة الحال، أدلة أخرى يمكن الإتيان بها تأييدًا لهذا الاستدلال. فهناك الكشوف الجيولوجية؛ إذ إن مختلف الطبقات الجيولوجية تحتوي على حفريات من أنواع متباينة، ولكنها مرتَّبة بحيث توجد الأنواع الأكثر تفاضلًا (أو تعقدًا) في الطبقات العليا. ويبدو أن لنا الحق في التوحيد بين الترتيب المكاني للطبقات وبين الترتيب الزمنى لترسبها. وهكذا فإن الجيولوجيا تحتفظ بسجل لحالة الحياة الحيوانية التي تم الوصول إليها في أي وقت نبحثه. وفضلًا عن ذلك فإن الحفريات تمدُّنا بعيِّنات لكثير من الأنواع التي تفوتنا في الترتيب المنظَّم للأنواع الموجودة؛ مما يؤدي إلى سد الثغرات القائمة في هذا الترتيب. وقد تم العثور، بوجه خاص، على الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد، في بعض عيِّنات الجماجم التي تجمع بين جحوظ حواف العينَين، المعروف عن القرود، وبين اتساع للجمجمة أكبر مما هو معروف في القرود، وإن يكن أقل مما هو في الإنسان؛ إذ إن الجبهة المتراجعة لم تكن تترك إلا حيِّزًا ضئيلًا للفص الأمامي من المخ. ولقد كان مخ هذا الإنسان القرد يُتيح له القيام ببعض الأعمال الذهنية، وإن لم يكن قد اكتسب إلا قدرًا محدودًا جدًّا من القدرة على الانتفاع من التجارب عن طريق تذكُّر نتائج الاستجابات السابقة للتجارب، وهي القدرة التي تُوجَد في الفص الأمامي للمخ. وبهذه المناسبة فإن الإنسان القرد يُعَد الآن الأصل الذي انحدر منه الإنسان والقرود الحالية، بحيث إن القرود تمثِّل فرعًا جانبيًّا، لا أصلًا للإنسان.
فإذا ما نظرنا إلى الأدلة التي أشرنا إليها على أنها قاطعة، فعلينا أن نعترف بحدوث تطور في الحياة من الأميبا إلى الإنسان، ولكن يظل أمامنا بعد ذلك السؤال عن سبب هذا التطور. فلماذا تطوَّرت الحياة إلى أشكال أعلى؟ إن التطور يبدو أشبه بعملية تتم وفقًا لخطة، بل إن المرء قد يميل إلى القول إن التطور هو أقوى ما يمكن تصوره من الأدلة المؤيِّدة للغائية.
وهنا يأتي دور الكشف الأعظم الذي توصَّل إليه دارون؛ فقد رأى أن من الممكن تفسير تقدُّم التطور على أساس السببية، وأن التطور لا يحتاج إلى أية مفاهيم غائية؛ فالتنوعات العشوائية التي تحدث عند التكاثر تؤدي إلى إيجاد فروق بين الأفراد تستتبع اختلافًا في القدرة على التكيف من أجل البقاء، وفي الصراع من أجل الحياة يبقى الأصلح، ولما كان أصلح الأفراد ينقلون قدراتهم الأرفع إلى ذرياتهم، فإن هذا يؤدي إلى تغيُّر تدريجي نحو أشكال تزداد علوًّا باستمرار. فالأنواع البيولوجية تُرتَّب، كالحصى على الشاطئ، عن طريق سبب انتقائي، والصدفة مقترنةً بالانتقاء تولِّد النظام.
ولا يمكن أن يؤدي أي نقد إلى التشكيك في صحة هذا البرهان. فإذا اعتُرض بأن معظم التحولات ضئيلة إلى حد أنها لا تؤدي إلى ميزة ملموسة فيما يتعلق بالبقاء، فإن الباحث النظري في الاحتمالات يردُّ بأن التنوعات العشوائية ستحدث عندئذٍ في جميع الاتجاهات، إلى أن تتجمع في اتجاه واحد، بمحمض الصدفة، بحيث تؤدي إلى ميزة ملحوظة تُساعِد على البقاء؛ فضآلة التحولات يمكن أن تؤخِّر عملية التطور، ولكنها لا يمكن أن تُوقِفها. وإذا اعتُرض بأن كثيرًا من التحولات لا فائدة منه، كان الجواب هو أنه يكفي أن تكون هناك بالفعل تحولات مفيدة؛ فالانتقاء عن طريق الصراع من أجل الوجود هو حقيقة لا يمكن تفنيدها، والصدفة مقترنةً بالانتقاء تولِّد النظام، هذا مبدأ لا مَفر منه. وهكذا فإن نظرية دارون في الانتقاء الطبيعي هي الأداة التي تُرَد بها الغائية الظاهرية للتطور إلى السببية. وقد درس علماء الوراثة المُحدَثون مشكلات التحول والوراثة بكل تفاصيلها، وما زال هناك الكثير مما ينبغي دراسته، غير أن مبدأ دارون يقضي على الحاجة إلى الغائية.
إن نظرية التطور بأسرها مبنية على أدلة غير مباشرة، فهل سيكون من الممكن في أي وقت إيجادُ أدلة مباشرة لها، عن طريق إنتاج إنسان في أنبوبة اختبار مثلًا.
على أن تطور الحياة ليس إلا الفصل الأخير في قصة أطول، هي قصة تطور الكون؛ فقد ظلَّت مشكلة كيفية ظهور الكون تخلب لبَّ الإنسان منذ ظهرت آراء القدماء الخيالية في منشأ الكون. على أن العلم الحديث قد توصَّل، باستخدام مناهجه الدقيقة في الملاحظة والاستدلال، إلى إجابة أشد إغراقًا في الخيال من كل ما كان يحلم به الأقدمون. وأودُّ أن أقدِّم عرضًا مُوجَزًا لهذه النظريات، التي تكشف عن قوة المنهج العلمي في ميدان حقَّق فيه هذا المنهج واحدًا من أعظم منجزاته.
كان من الضروري أن تكون هناك أولًا خطوة منطقية؛ فبدلًا من التساؤل عن كيفية ظهور هذا الكون، أصبح العالم يتساءل كيف أصبح الكون على ما هو عليه الآن. فهو يبحث عن تطور من حالات سابقة إلى الحالة الراهنة، ويحاول الرجوع بهذا التاريخ إلى الوراء على قدر استطاعته. أما إذا كان قد تبقَّى بعد ذلك شيءٌ ينبغي السؤال عنه، فتلك مسألة سأناقشها بعد قليل.
إن الإجابة الأولى تقدِّمها إلينا نتائج الأبحاث الجيولوجية، التي تبيِّن أن قشرة هذه الأرض قد تكوَّنت عن طريق البرودة التدريجية لكرة غازية متوهِّجة، وما زال باطن الأرض متوهِّجًا. أما القشرة الأصلية فتتضح في صخور الجرانيت التي رسَّبت المحيطات فوقها طبقاتٍ من الرواسب تكوِّن الجزء الأكبر من سطح قاراتنا. ومِن العجيب أن مدة عملية تكوين القشرة تُقاس بنوع من الساعة الجيولوجية، عرف العلم كيف يقرأ إشاراتها. فالعناصر المُشعة، كاليورانيوم والتوريوم وما إليها، تخمد بمعدلات معلومة، بحيث تتحول إلى مادة أكثر دوامًا، وينتهي بها الأمر إلى أن تصبح رصاصًا. وبقياس النسبة بين كمية المواد الإشعاعية وبين كمية الرصاص كما توجد على سطح الأرض في المرحلة الراهنة، يستطيع الجيولوجي تحديد الوقت الذي استغرقه تحويل كل هذه المواد من عناصر إشعاعية بحتة. فإذا افترضنا أن العناصر الإشعاعية تكوَّنت في الحالة الغازية للأرض، على حين أنه لم تكن هناك مواد مختلفة في ذلك الحين، فإن عالم الجيولوجيا يستطيع تحديد عمر الأرض على أساس هذا الوقت. وعلى هذا النحو تبيَّن أن عمر الأرض يبلغ حوالَي ألفَي مليون سنة.
ولا شك أن ظهور الرقم «ألفَي مليون سنة» في كل هذه الحسابات هو أمرٌ مُلفِت للنظر إلى أبعد حد؛ إذ يبدو أن بداية كوننا، وشمسنا، وأرضنا، كانت منذ حوالَي ألفَى مليون سنة. ويظهر في مجال الفلك تطوُّر يُشير إلى وجود بداية مشتركة في عهد سحيق، تشهد بها أرقام علم الطيف وعلم الجيولوجيا، بل إن قِطَع الشُّهب، التي تصل إلى أرضنا في طريقها عبر الكون، تدل على نفس التاريخ مُنطبِعًا على مادتها، وذلك على أساس انحلال مادتها الإشعاعية. وإذن فقد كانت هناك، في قديم الزمان، كرةٌ غازية متوهِّجة هائلة، هي الأميبا التي انبثق منها الكون. على هذا النحو تبدأ قصة التطور.
فهل هذا كل ما يمكننا أن نسأل عنه؟ لقد تتبَّع العلم تاريخ الكون إلى وقت يرجع إلى الوراء ألفَي مليون سنة، فما الذي كان هناك قبل هذا التاريخ؟ وهل يحق لنا أن نتساءل عن كيفية ظهور الكرة الغازية الأولى إلى الوجود؟
إن مَن يسأل هذا السؤال يكون قد دخل أرض الفلسفة، والعالم الذي يحاول الإجابة عن هذا السؤال يتحول إلى فيلسوف؛ لذلك أودُّ أن أوضِّح ما ينبغي أن يُجيب به الفيلسوف الحديث.
لقد أجاب الفلاسفة التأمليون على هذا السؤال بابتداع مذهب في نشأة الكون كان يضع الخيال محلَّ العلم؛ أن يفترض فعلًا للخلق مِن لا شيء. وهي إجابة لا تعدو أن تكون تعبيرًا عن الجهل بالموضوع، مُختبئًا خلف قناع لا يصعب استشفاف ما وراءه. أما إذا مضينا أبعد من ذلك، وبنينا هذه الإجابة على أساس أننا سنظل إلى الأبد جاهلين، فإننا نكون بذلك قد نسبنا إلى أنفسنا — متنكِّرين في ثياب التواضع — قدرةً كاملة على استباق التطورات العلمية المُقبِلة.
أما الفيلسوف الحديث فيتخذ موقفًا مُغايِرًا؛ فهو يأبى تقديم إجابة قاطعة تؤدي إلى إعفاء العالم من مسئوليته، وكل ما يمكنه أن يفعله هو أن يوضِّح ما الذي يمكنه أن يوجِّهه من الأسئلة ذات المعنى، ويضع الخطوط العامة لعدة إجابات ممكنة، تاركًا للعالم مهمة تحديد الإجابة الصحيحة في يومٍ ما. والواقع أن الفيزياء الحديثة قدَّمت مواد كثيرة تُفيد في هذه المهمة المنطقية، وسوف تهتدي إلى وسائل لحلول أخرى، إذا اتضح أن الإجابات الممكنة المعروفة حاليًّا غير كافية.
إن السؤال عن كيفية تولُّد المادة من لا شيء، أو البحث عن علة أولى، علة الحادث الأول، أو الكون في مجموعه، ليس سؤالًا ذا معنًى؛ ذلك لأن التفسير على أساس العِلل أو الأسباب يعني الإشارة إلى حادث سابق يرتبط بالحادث اللاحق من خلال قوانين عامة؛ فلو كان ثمة حادثٌ أول، لما كان له سبب، ولما كان هناك معنًى لطلب تفسير له، ولكن ليس من الضروري أن يكون هناك حادث أول؛ ففي استطاعتنا أن نتخيل أن يكون كل حادث مسبوقًا بحادث أسبق، وأن الزمان ليست له بداية. ففكرة لا نهائية الزمان، في كلا الاتجاهَين، لا تُثير صعوبات أمام الذهن؛ إذ إننا نعلم أن سلسلة الأعداد لا نهاية لها، وأن لكل عدد عددًا أكبر منه، ولو أدرجنا الأعداد السلبية، لم تكن لسلسلة الأعداد بداية بالمثل؛ إذ إن لكل عدد عددًا أصغر منه. وقد عالجت الرياضيات بنجاح السلاسل اللانهائية، التي لا توجد لها بداية ولا نهاية، ولم تجد فيها شيئًا مُمتنِعًا. أما الاعتراض بأن من الضروري وجود حادث أول، أي بداية في الزمان، فيعبِّر عن موقف الذهن غير المدرَّب. فالمنطق لا يُنبِئنا بأي شيء عن تركيب الزمان، وهو يمدُّنا بوسائل معالجة السلاسل اللامتناهية التي ليست لها بداية، مثلما يمدُّنا بوسائل معالجة السلاسل المتناهية التي لها بداية. فإذا كانت الشواهد العلمية تؤيِّد القول بزمانٍ لا نهائي، صادر عن اللانهائية وصادر إلى اللانهائية، فليس للمنطق اعتراض على ذلك.
إن مِن الحُجج الأثيرة لدى الفلسفات المضادة للعلم، القول إن التفسير ينبغي أن يتوقف عند نقطة ما، وإنه ستظل هناك أسئلة لا إجابة لها. غير أن الأسئلة التي يقصدونها عندئذٍ إنما هي أسئلة تكوَّنت نتيجة لسوء استخدام الألفاظ. فالألفاظ التي يكون لها معنًى في تجمُّع معيَّن قد لا يكون لها معنًى في تجمُّع آخر، فهل يمكن ثمة أبٌ لم يكن له ابن أبدًا؟ إن كل شخص لا بد أن يسخر من الفيلسوف الذي يرى في هذا السؤال مشكلة جدية. ومع ذلك فإن السؤال عن سبب الحادث الأول، أو سبب الكون في مجموعه، ليس أفضل من ذلك؛ فكلمة «سبب» تعبِّر عن علاقة بين شيئَين، وهي لا تعود مُنطبِقة عندما يكون الكلام مُنصبًّا على شيء واحد. وعلى ذلك فليس للكون في مجموعه سببٌ؛ لأنه لا يوجد، حسب التعريف، شيءٌ خارجه يمكن أن يكون سببًا له. والواقع أن هذا النوع من الأسئلة إنما هو لغوٌ لفظيٌّ خاوٍ، وليس مناقشة فلسفية.
أما العلم، فبدلًا من أن يسأل عن أصل الكون، فإنه لا يستطيع أن يسأل إلا عن سبب الحالة الراهنة للكون، ومهمته تنحصر في الرجوع تدريجيًّا بالتاريخ الذي يمكنه على أساسه أن يصف الكون من خلال قوانين الطبيعة. وفي يومنا هذا يبلغ هذا التاريخ ألفَي مليون عام، وهي مدة زمنية طويلة، من المؤكَّد أن استخلاصها من ملاحظات فلكية يُعَد عملًا علميًّا من الطراز الأول، وقد يُحدِّد هذا التاريخ يومًا بالرجوع إلى الوراء ألفَي مليون عام أخرى.
أما السبب الذي نودُّ من أجله الرجوع بهذا التاريخ إلى الوراء، فهو أن الكرة الغازية الساخنة التي يحيط بها فضاء، ليست حالة مناسبة لتكون نقطة بداية، وإنما هي تقتضي تفسيرًا من خلال تاريخ أسبق، ولا يمكن أن تكون هذه حالة استمرَّت طويلًا؛ لأنها ليست حالة مُتوازِنة. ومِن الجائز أن الكرة الغازية ستُفسَّر يومًا على أنها سديم في كون أعظم، مرَّ بتطور مُماثِل لتطور كوننا، فلسنا نعلم ماذا ستُنبِئنا به مَناظير الغد الفلكية؛ فربما نقلت إلينا رسالة من سُدُم حلزونية أبعد لا تنتمي إلى نظامنا الكوني المتمدِّد (انظر الهامش الأخير من هذا الفصل).
على أن نظرية النسبية عند أينشتين تأتينا بتفسير أفضل لكرة الغاز الأصلية؛ ففي رأي أينشتين أن الكون ليس لا مُتناهيًا، وإنما هو مكان من النوع الذي تسري عليه هندسة ريمان، ذو شكل كروي. وليس معنى ذلك أن الكون مُقفَل بنوع من القشرة الكروية، توجد بدورها في فضاء لا مُتناهٍ، وإنما معناه أن مجموع المكان متناهٍ، دون أن تكون له حدود. فحيثما كنا، نجد على الدوام مكانًا محيطًا بنا في الاتجاهات، ولا تبدو للعيان نهاية له، ولكنا إذا تحرَّكنا قدمًا في خط مستقيم، فسوف تعود يومًا ما إلى نقطة بدايتنا من الاتجاه الآخر. ونستطيع أن نُشبِّه خواص المكان الثلاثي الأبعاد هذه بالخصائص الملاحظة لسطح أرضنا الثنائي الأبعاد، الذي يتمثل في جميع أرجائه على أنه سطحٌ مُستوٍ تقريبًا. على حين أن مجموعة من المساحات كلها مُقفَل، بحيث إن مَن يسير في خط مستقيم يعود آخرَ الأمر إلى نقطة بدايته. فالمكان المُقفَل، شأنه شأن كل المفاهيم الأخرى في الهندسة اللاإقليدية، يمكن تصويره بصريًّا، على الرغم من أن هذا التصور البصري يقتضي بعض المِران من أجل التخلص مِن تعوُّدنا على بيئة هندسية أبسط.
ولا شك أن حل مشكلة بداية الكون كان يغدو أفضل بكثير لو أننا استطعنا أن نضع صيغة تحدِّد حالة سابقة بالنسبة إلى كل حالة فعلية؛ وبالتالي تتحكم في التطور الكامل لمدةٍ لا نهائية في الماضي، بدلًا من أن نترك على الدوام للعلم في مرحلة جديدة منه مهمة الرجوع بتاريخ الخطوة الأولى إلى الوراء أكثر من ذلك. والواقع أن القول بتمدد الكون يحقِّق هذا الإمكان؛ لأن هناك حلولًا للمعادلات النسبية من شأنها أن يكون الكون قد استغرق زمنًا لا نهائيًّا لكي ينمو من حجم الصفر إلى الحجم الصغير الذي كان عليه منذ ألفَي مليون سنة. كذلك يمكن تنويع الحل إلى حدٍّ ما، بحيث يكون للمرحلة الأصلية في الماضي اللانهائي حجم متناهٍ صغير. ونستطيع أن نُضيف إلى هذه الصيغة الرياضية التفسير التالي: كان الغاز الذي يملأ الكون في حالة ثابتة، طوال الوقت الذي ظل فيه الكون صغيرًا، ولم يبدأ الغاز في الانقسام إلى أجزاء مُنفرِدة تحوَّلت بقوة الجاذبية إلى نجوم إلا بعد أن بلغ حجمًا معيَّنًا. والواقع أن في استطاعة الصيغة الرياضية للكون المتمدِّد، مقترنةً بهذا التفسير، أن تُجيب على جميع الأسئلة التي يكون من المعقول توجيهها، وفي هذه الحالة لن تقول إن الكون كان له في أي وقت حجم الصفر، أو حجم يبلغ الحد الأقصى من الصغر، ما دام كل ما تقول به هو وجود وحدة اتجاه مُتقارِبة في البداية، وإن كانت ستُجيب دفعةً واحدة عن جميع الأسئلة مِن نوع «ماذا كان سبب هذه الحالة» بأن تعزو إلى كل حالة معطاة حالةً سابقة؛ وعندئذٍ تكون الإجابة على السؤال عن أصل الكون مُماثِلة للإجابة على السؤال عن العدد الأصغر؛ فصيغة التمدد تقول إنه ليس للكون أصل، وإنما توجد سلسلةٌ لا نهاية لها من الحالات التي يمكن حسابها، والمرتَّبة في الزمان. وبقي علينا أن نرى إن كان هذا التفسير متمشِّيًا مع المعطيات الفلكية.
إن استبعاد الأسئلة التي لا معنى لها من مجال الفلسفة أمرٌ عسير؛ لأن هناك نوعًا معيَّنًا من العقلية يسعى إلى البحث عن أسئلة لا يمكن الإجابة عنها. على أن الرغبة في إثبات أن للعلم قدرة محدودة، وأن أُسُسه النهائية تعتمد على نوع من الإيمان لا على المعرفة، هي رغبة يمكن تفسيرها على أساس علم النفس والتربية، ولكنها لا تجد تأييدًا من المنطق؛ فهناك علماء يشعرون بالفخر عندما تنتهي محاضراتهم عن التطور بدليل مزعوم على أنه ستبقى هناك أسئلة يعجز العالم عن الإجابة عليها. وكثيرًا ما يستشهد الناس بآراء هؤلاء العلماء بوصفها دليلًا على عدم كفاية الفلسفة العلمية. ومع ذلك فكل ما تُثبِته هذه الآراء هو أن الإعداد العلمي لا يكفي في كل الأحيان لإكساب العالم القدرة على مقاومة إغراء تلك الفلسفة التي تدعو إلى الاستسلام لنوع من الإيمان. أما مَن كانت الحقيقة ضالته المنشودة فعليه ألا يستسلم لتخدير الاعتقادات المسلَّم بها؛ حتى لا تهدأ في نفسه سَورة البحث؛ ذلك لأن العلم سيِّد نفسه، وهو لا يعترف بسلطة تخرج عن حدوده.