المنطق الحديث
أصبح تكوين المنطق الرمزي سمة من أبرز سمات الفلسفة العلمية؛ فهذا المنطق، الذي كان في الأصل شفرة سرِّية لا تفهمها إلا جماعة صغيرة من الرياضيين، قد أخذ يجذب انتباه دارسي الفلسفة على نحو مُتزايد، لهذا فإن تقديم عرض موجز للتطور الذي أدى إلى ظهور المنطق الرمزي، ولمشكلاته وحلوله، قد يكون أمرًا يُرحِّب به كل من يتوافر لديهم الوقت الكافي للقيام بدراسة متخصِّصة لهذا الفرع الفلسفي الجديد.
إن علم المنطق اكتشاف يوناني. وليس معنى ذلك أنه لم يكن هناك تفكير منطقي قبل اليونانيين، إذ إن التفكير المنطقي قديم قدم التفكير ذاته، وكل فعل فكري ناجح يخضع لقواعد المنطق. غير أن تطبيق هذه القواعد دون وعي في عمليات التفكير العملي شيء، وصياغتها بصورة واضحة من أجل جمعها على شكل نظرية شيء آخر. ولقد كان هذا البحث المخطَّط في القواعد المنطقية هو الذي بدأ على يد أرسطو.
وقد ركز أرسطو أبحاثه في ميدان أصبحنا نعلم اليوم أنه باب خاص جدًّا من أبواب المنطق. فقد صاغ قواعد الاستدلال الخاص بالفئات، أي الاستدلال المتعلق بعضوية الفئات. والمقصود بالفئة كل أنواع المجموعات أو الكليات؛ مثل فئة البشر، أو القطط، فكون سقراط إنسانًا هو بالنسبة إلى المنطق، مثال لعضوية الفئة؛ إذ إن سقراط عضو في فئة الناس، ويُسمى الاستدلال المتعلِّق بعضوية الفئة قياسًا. مثال ذلك أن نستدل من المقدمتين «كل إنسان فانٍ» «وسقراط إنسان» على النتيجة «سقراط فان».
هذا النوع من الاستدلال يبدو لأول وهلة ضئيل القيمة، غير أن مثل هذا الحكم ليس فيه إنصاف لأرسطو. فما كشفه أرسطو هو أن للاستدلال صورة ينبغي التمييز بينها وبين مضمونه. فالعلاقة بين المقدمتَين والنتيجة، كما تتمثَّل في الاستدلال المتعلِّق بسقراط، مستقلة عن الفئات الخاصة المشار إليها، وهي تظل سارية على غيرها من الفئات والأفراد المناسِبين أيضًا، وبفضل دراسة أرسطو للصور المنطقية، اتخذ الخطوة الحاسمة التي أدَّت إلى قيام علم المنطق. وقد صاغ بوضوح بعض المبادئ الرئيسية للمنطق؛ مثل مبدأ الهوية ومبدأ التناقض.
وإن المرء ليميل إلى الاعتقاد بأنه لم يكن من العسير على مُكتشِف منطق الفئات أن يمتدَّ بعمله إلى منطق العلاقات، ما دامت اللغة التي كان يتكلمها لم تكن تقلُّ تطورًا عن لغتنا، وكانت لها كل الصور النحوية اللازمة لمعالجة العلاقات. وفضلًا عن ذلك فقد عرف أرسطو بوجود العلاقات، ففي كتابه عن المقولات يشرح بوضوح تام أن علاقة مثل «أكبر من» تقتضي شيئين تسري فيما بينهما. ولكنه لا يمتد بنظريته في الاستدلال بحيث تشمل العلاقات. وقد يكون السبب هو أن اهتمام واضع منطق الفئات بالمسائل الأقرب إلى الطابع الميتافيزيقي كان أعظم من أن يُتيح له الوقت اللازم لإكمال عمله المنطقي. ولكن إذا صح ذلك فقد كان في استطاعة واحد من تلاميذه أن يضع منطقًا للعلاقات. غير أن العجيب أن شيئًا من ذلك لم يحدث، ويبدو أن أرسطو لم يُدرك أبدًا أن لمنطقه حدودًا لم يستطع أن يتعدَّاها. ولم يُضفْ تلاميذه إلا تفصيلات قليلة، ولكنهم لم يتجاوَزوا عمل أستاذهم في أي موضوع أساسي. ولم يطرأ تغيُّر إلى الأحسن في القرون التالية. وهكذا تتمثَّل في تاريخ المنطق صورة عجيبة لعلمٍ ظلَّ طوال أكثر من ألفَي عام في نفس المرحلة الأولية التي تركه فيها مؤسسه.
فما هو تفسير هذه الحقيقة التاريخية؟ إن تاريخ المنطق يبدو، بالقياس إلى التقدم الهائل الذي أحرزته الرياضة وأحرزه العلم خلال هذه الأعوام الألفين، أشبه ببقعة جرداء في بستان المعرفة. فما السبب الذي يُمكننا أن نُعلِّل به هذا الركود؟
إن المنطق يحتاج، أكثر من أي مبحث آخر في الفلسفة، إلى معالجة فنية متخصِّصة لمشكلاته. فالمشكلات المنطقية لا تحل بلغة مجازية، وأيضًا تقتضي دقة الصياغة الرياضية، بل إن مجرَّد التعبير عن المشكلة يكون في كثير من الأحيان مستحيلًا بدون مساعدة لغة تُماثل في دقتها لغة الرياضيات. ولقد كان الفضل الذي ينبغي أن ينسب إلى أرسطو ومدرسته هو أنهم هم الذين وضعوا الأسس الأولى للغة فنية دقيقة للمنطق، وهي لغة أضافت إليها العصور الوسطى بضعة عناصر ضئيلة القيمة. ولكن ذلك كل ما تمَّ في هذا الاتجاه خلال ألفَي عام. وعلى حين أن كبار الرياضيين قد استحدثوا لعلمهم أسلوبًا فنيًّا ذا كفاءة عالية، فإن التجاهل كان من نصيب أسلوب المنطق، بل إن المنطق التقليدي يتمثَّل على الصورة الهزيلة لعلم لم يكن أبدًا مجالًا لعمل رجل عظيم. فيبدو أن أولئك الذين وُهبوا أعظم قدرة على التفكير المجرَّد لم يجذبهم المنطق، وإنما اجتذبهم العلم الرياضي الذي كان يُتيح لهم فرصًا أعظم للنجاح. وهذا الحكم يصدق حتى على عهد أرسطو؛ إذ إن التحليل المنطقي الذي مارَسَه رجال مثل فيثاغورس وإقليدس في ميدان الرياضة يفوق بكثير تلك الكشوف التحليلية التي تمَّ الوصول إليها في منطق أرسطو. ولولا مساعدة العقل الرياضي، لظل المنطق محكومًا عليه بالبقاء في مرحلة الطفولة. وعلى الرغم من أن «كانت» لم يَستطِع أن يستحدث منطقًا أفضل، فإنه قد أصدر حكمًا صحيحًا على الموقف عندما أعرب عن دهشتِه لأن المنطق هو العلم الوحيد الذي لم يُحرز أي تقدُّم منذ بداية عهده.
ويتميَّز المنطق الجديد، شأنه شأن فلسفة المكان والزمان، بأنه لم يُحقق نموه من داخل الفلسفة التقليدية، بل من ميدان الرياضيات؛ فقد اكتشف الرياضيون مجالًا ظلَّ تفكيرهم يتجاهله طويلًا، يتيح فرصًا لمعالجة فنية شبيهة بالمعالجة الفنية للرياضيات. وبفضل بناء المنطِق الرمزي أسهم القرن التاسع عشر بنصيب آخر في الفلسفة. ولو نظرنا إلى موقع القرن التاسع عشر في تاريخ الفكر على النحو الذي أوضحناه من قبل، لبدا مثل هذا التطوُّر طبيعيًّا، فقد طبقت على مجال المنطق تلك المحاوَلة التي ترمي إلى إيجاد أسلوب فني قابل للتطبيق عمليًّا، وهي المحاوَلة التي أحرزت نجاحًا كبيرًا في جميع العلوم. وفي الوقت ذاته تبين أن الأسلوب الفني للمنطق يكون أداة للبحث في أسس المعرفة، وهو بدوره بحث يبدو نتيجة طبيعية لتعقُّد التفكير العلمي وازدياد دقَّته، وهكذا بدأت البقعة الجرداء في بستان المعرفة تُحرث بذلك الأسلوب الرياضي الذي كان قد أحرز تقدُّمًا عظيمًا.
ولكن لماذا يعدُّ إدخال التدوين الرمزي أمرًا له كل هذه الأهمية بالنسبة إلى علم المنطق؟ إن له تقريبًا نفس أهمية التدوين الرياضي الجيد. فلنفرض أن أمامك مسألة مثل: «لو كان زيد أصغر خمس سنوات، لكان سنُّه ضعفَ سنِّ عمرو عندما كان هذا الأخير أصغر بست سنوات، ولو كان زيد أكبر بتسع سنوات، لكان سنه ثلاثة أضعاف سن عمرو عندما كان هذا الأخير أصغر بأربع سنوات» فإذا حاولت أن تحلَّ هذه المسألة مباشرة بإجراء عمليات الجمع والطرح والبحث في كل حالات «لو»، لوصلت بعد فترة قصيرة إلى نوع من الدُّوَار وكأنك تركب أرجوحة. ولكن لتأخذ بعد ذلك قلمًا وورقة، وترمز إلى سن زيد بالحرف «س» وإلى سن عمرو بالحرف «ص»، ولتكتب المعادلات الناتجة وتحلها بالطريقة التي تعلمتها في المدرسة الثانوية، وعندئذٍ ستُدرك قيمة أسلوب التدوين الجيد، وينطوي المنطق بدوره على مشكلات مماثلة. فلنتأمل المثال الآتي: «إن من المؤكَّد أن كليوباترا لم تكن حية في عام ١٩٣٨ ولم تكن متزوِّجة من هتلر ولا من موسوليني.» فما الذي تَعنيه هذه المجموعة من العبارات؟ إن المنطقي الرياضي يُوضِّح لك كيفية كتابتها بالرموز، ثم يحول التعبير عن طريق عمليات مُماثِلة لتلك التي تعلَّمتَ أن تستخدم بها «س» و«ص»، وينبئك أخيرًا بأن الجملة تعني أنه «لو كانت كليوباترا حية في عام ١٩٣٨ لتزوَّجت من هتلر أو موسوليني.» وأنا لا أودُّ أن أقول إن التصريح الذي كشفْنا عنه ذو أهمية سياسية كبرى، غير أن المثل يُوضِّح فائدة الأسلوب الفني الرمزي. وليس في وسعنا أن نوضِّح هنا كيفية تطبيق التدوين على مشكلات لها أهمية أعظم، ومع ذلك فمن الواضِح أن التدوين على مُشكلات لها أهمية أعظم، ومع ذلك فمن الواضح أن التدوين الرمزي يُفيد أيضًا إذا طُبق على صياغة المسائل الفنية في العلوم.
وليس التدوين الرمزي أداةً لحلِّ المُشكلات فحسب، بل إنه أيضًا يُوضِّح المعاني ويزيد من القدرة على ممارسة التفكير المنطقي. وإني لأذكر أن أحد تلاميذي كان قد أصيب في حادث سيارة أثَّر على مخِّه تأثيرًا بسيطًا، فكان يشكو من صعوبة في فهم الجمل المعقَّدة، فأعطيته تمرينات من النوع الذي أشرتُ إليه من قبل، واستطاع أن يحلها بمساعدة التدوين الرمزي، وبعد أسبوع أو اثنين أخبَرَنا أن تفكيره قد طرأ عليه تحسُّن كبير.
وفضلًا عن ذلك فقد وجد المنطق الرمزي ميدانًا هامًّا تُطبَّق نتائجُه عليه، هو التحليل النحوي للغة. ذلك لأن النحو الذي تعلَّمناه في المدارس قد نشأ من المنطق الأرسططالي، وهو لا يصلح للتعبير بدقة عن تركيب اللغة. ولقد أدَّى عجز أرسطو المؤسف عن الانتقال إلى منطق للعلاقات — أدَّى بالنحويين إلى الأخذ بالفكرة القائلة أن كل جملة ينبغي أن يكون لها مبتدأ أو خبر، أو فعل وفاعل، وهو تفسير غير كافٍ بالنسبة إلى عدد كبير من الجُمل. صحيح أن الجملة «زيد طويل» فيها مبتدأ هو «زيد» وخبر هو «طويل». ولكن الجملة «زيد أطول من عمرو» فيها اسمان مُتساويان في أهميتهما، هما «زيد» و«عمرو»، ما دام الخبر، وهو «أطول من» علاقة. وهكذا فإن سوء فهم التراكيب اللغوية، الناشئ عن التمسُّك بالمنطق الأرسططالي، أدى إلى إلحاق ضرر بالغ بعلم اللغة.
ولقد اقتصر حديثي حتى الآن على الفائدة العملية للتدوين الرمزي. ومع ذلك فإن للتدوين الجيد فائدة نظرية أيضًا، فهو يُتيح للمنطقي كشف وحل مشكلات لم يكن يستطيع أن يدركها من قبل.
وبإرجاع رسل الرياضة إلى المنطق على هذا النحو، فقد أكمل تطورًا بدأ بالتغيير الذي طرأ على الهندسة، وهو التغيير الذي وصفته من قبل بأنه قضاء على المعرفة التركيبية القبلية، ذلك لأن «كانت» كان يعتقد أن الحساب، لا الهندسة فقط، له طبيعة تركيبية قبلية. ولكن رِسل أوضَح، بإثباته أن أساسيات الحساب يُمكن أن تستمد من المنطق الخالص، أن الضرورة الرياضية ذات طبيعة تحليلية. فليس ثمة عنصر تركيبي قبلي في الرياضيات.
ولكن إذا كان المنطق تحليليًّا، فإنه فارغ، أي أنه لا يُعبِّر عن خصائص الموضوعات الفيزيائية. ولقد حاول الفلاسفة العقليون مرارًا أن ينظروا إلى المنطق على أنه علم يصف بعض الخصائص العامة للعالم، أعني علمًا للوجود، أو أنطولوجيا. وهم يعتقدون أن مبادئ مثل «كل شيء في العالم في هوية مع ذاته» تُنبئنا بخصائص عن الأشياء. ولكن فاتهم أن كل المعلومات التي تُمدنا بها هذه الجملة إنما تنحصر في تعريفٍ يُحدد شروط استخدام كلمة «الهوية»، وأن ما نعرفه من الجملة ليس صفة للأشياء، وإنما هو قاعدة لغوية. فالمنطق يصوغ قواعد اللغة ولهذا كان المنطق تحليليًّا وفارغًا.
وأود أن أوضح بمزيد من الدقة تلك الطبيعية التحليلية للمنطق، والسبب الذي يُوصَف المنطق من أجله بأنه فارغ. فالمنطق يربط جملًا على نحو من شأنه أن يكون التجمُّع الناتج صحيحًا على نحو مستقل عن صحة الجمل المُنفردة. مثال ذلك أن التجمُّع الآتي للجمل: «لو أن نابليون أو قيصر لم يَبلُغا سن الستين، فإن نابليون لم يبلغ سن الستين» هذا التجمُّع صحيح سواء أكان نابليون، أو قيصر، قد مات بالفعل قبل سن الستين أم لم يكن، وعلى ذلك فإن هذا التجمُّع لا ينبئنا عن السن الذي بلغه الشخصان المشار إليهما، وهذا هو المقصود بكون المنطق فارغًا، ومن جهة أخرى، فإن المثل يُوضِّح لماذا كانت العلاقات المنطقية صحيحة بالضرورة؛ فهي صحيحة لأن أية ملاحظة تجريبية لا يُمكنها أن تكذبها، فلو رجعنا إلى أحد القواميس ووجدنا أن نابليون مات في سن الرابعة والخمسين، فإن هذه النتيجة لا تكذب التجمُّع السابق للجمل، وكذلك فإننا لو وجدنا أن نابليون مات في سن الخامسة والستين، لما أدَّت هذه النتيجة بدورها إلى تكذيبه. فالضرورة المنطقية والفراغ صفتان متلازمتان، وهما معًا تؤلِّفان الطابع التحليلي للمنطق، أو صفة تحصيل الحاصل فيه. فكل العبارات المنطقية البحتة تحصيل حاصِل، كالمثل الذي أوردناه من قبل، وهي لا تقول شيئًا، وبالتالي فإن ما تُنبئنا به لا يزيد ولا ينقص عما يُنبئنا به تحصيل الحاصل الآتي: «غدًا ستُمطر السماء أو لا تمطر.» ومع ذلك فليس من السهل دائمًا كشف الطابع التحليلي لتجمع من الجمل. فلنتأمل مثلًا التجمُّع الآتي: «إذا كان أي شخصَين يحب كل منهما الآخر أو يَكره كلٌّ منهما الآخر، فإما أن يكون هناك شخص يحبُّ الناس جميعًا، وإما أن يكون لكل شخصٍ شخصٌ آخر يكرهه.» إن المنطق يُثبت أن هذا التجمُّع تحليلي، وإن لم يكن الطابع التحليلي واضحًا على الإطلاق.
ولقد أثار رأي رِسل في الطابع التحليلي للرياضيات اهتمامًا عظيمًا، وأبدى بعض الرياضيين نفورًا من ذلك التفسير الذي يقدمه رسل لعلمهم، والذي لا تختلف فيه النظريات الرياضية، من حيث فراغها، عن مبادئ المنطق. ولكن هذا الحكم يكشف عن سوء فهم لطبيعة المنطق؛ إذ إن وصف الرياضيات بأنها تحليلية لا يَنطوي على أي إقلال من شأنها. بل إن فائدة التفكير الرياضي ذاتها إنما تُستمدُّ من طبيعته التحليلية. فكون النظريات الرياضية فارغة، هو ذاته الذي يجعلها مضمونة على نحو مُطلَق، ويسمح باستخدامها في العلوم الطبيعية. ولكن لا يُمكن تكذيب أية نتيجة علمية باستخدام الرياضة، لأن الرياضة لا تستطيع أن تضيف إلى العلم مضمونًا خفيًّا لم يتم إثباته. ومع ذلك فالقول إن العلاقات الرياضية فارغة لا يعني أن من السهل الاهتداء إليها، فكشف العلاقات الفارغة، كما أوضحنا من قبل، يمكن أن يكون عملًا شديد الصعوبة، وإن مقدار الجهد والبراعة اللازمين في الرياضة لدليل على الأهمية البالغة للبحث الرياضي.
غير أن المنطق الرمزي لم يَجلب النجاح لعالم المنطق على الدوام؛ فقد أوقعه أيضًا في صعوبات كشف عنها رِسل وصاغها في نقائض منطق الفئات. ولنضرب مثلًا نوضح به المشكلة.
لنفرض أن الصفة «غير قابل للحمل» قابلة للحمل، وعندئذٍ تكون متَّصفه بالصفة التي تدلُّ عليها، مثل «قابل للتخيُّل»، ومن ثم تكون الصفة «غير قابل للحمل» غير قابلة للحمل، ولكن لنفرض أن الصفة «غير قابل للحمل» غير قابلة للحمل. والفرض الذي قلنا به يُقرر أن «غير قابل للحمل» لها نفس الصفة التي تدلُّ عليها، وعلى ذلك فإن «غير قابل للحمل» قابلة للحمل، وهكذا فإننا كيفما صنَّفنا الصفة «غير قابل للحمل»، وصلنا إلى تناقض.
إن المنطق هو الجزء الفني (التكنيكي) في الفلسفة، ولهذا السبب فإنه كان شيئًا لا غناء عنه للفيلسوف. أما فيلسوف الطراز القديم الذي يخشى دقة الأسلوب الفني، فإنه يُؤثر استبعاد المنطق الرمزي من مجال الفلسفة، وتركه للرياضي. غير أنه لا يُحرز في هذا الصدد نجاحًا كبيرًا؛ ذلك لأن الجيل الجديد، بقدر ما تعلَّم التدوين الرمزي في الدروس الأولية للمنطق، يعرف قيمة هذا الشكل الجديد للمنطق، ويصر على تطبيقه وقد يبدو المنطق الرمزي لأول وهلة معقدًا ومحيرًا للطالب، شأنه في ذلك شأن أي أسلوب فني في التدوين، ولا بد من بعض التدريب لكي يُدرك الطالب أن هذا الأسلوب الجديد أداة تُيسِّر الفهم المنطقي وتوضِّح الأفكار. ولقد تبيَّن لي، من تجربتي في تدريس المنطق الرمزي، أن معظم الطلاب يَخافون التدوين الرمزي ويكرهونه في البداية، ولكن بعد تدريب يدوم حوالي أسبوعين. تتغيَّر الصورة، وتنتشر بينهم حماسة عجيبة للرمزية، ولا يتبقى بعد ذلك إلا عدد قليل من الطلاب الذين لا يفهمونه أبدًا فهمًا كاملًا، ويظلُّون كارهين للرمزية على الدوام.
ويبدو أن المنطق الرمزي مكتوب عليه أن يقابل إما بالكراهية وإما بالترحاب الشديد. وعلى أيَّة حال فإن أولئك الذين لا يمكنهم بلوغ المرحلة الثانية، يُمكنهم أن يحققوا المزيد في ميادين أخرى للفلسفة العلمية، ويصلوا إلى النجاح في تطبيقات أقل تجريدًا لقدرات الفكر البشري.