المعرفة التنبئية
إن المنطق الرمزي الذي تحدَّثنا عنه في الفصل السابق منطق استنباطي، فهو لا يبحث إلا في العمليات الفكرية التي تتصف بالضرورة المنطقية. غير أن العلم التجريبي، وإن كان يستخدم العمليات الاستنباطية على نطاق واسع، يحتاج بالإضافة إليها إلى نوع ثانٍ من المنطق، يسمى بالمنطق الاستقرائي، نظرًا إلى استخدامه للعمليات الاستقرائية.
والصفة التي تُميِّز الاستدلال الاستقرائي عن الاستدلال الاستنباطي هي أن الأول ليس فارغًا، أي أنه يؤدِّي إلى نتائج ليست متضمَّنة في المقدمات. فالنتيجة القائلة إن كل الغربان سوداء ليست متضمنة منطقيًّا في المقدمة القائلة إن كل الغربان التي لوحظت حتى الآن سوداء، وقد تكون النتيجة كاذبة على حين تكون المقدمة صادقة. والاستقراء هو أداة المنهج العلمي الذي يرمي إلى كشف شيء جديد، أعني شيئًا يزيد عن كونه مجرد تلخيص للملاحظات الساقة، فالاستدلال الاستقرائي هو أداة المعرفة التنبئية.
ولقد كان بيكن هو الذي أدرك بوضوح ضرورة الاستدلالات الاستقرائية في المنهج العلمي، وله في تاريخ الفلسفة منزلة نبي الاستقراء (انظر الفصل الخامس) غير أن بيكن أدرك أيضًا نواحي الضعف في الاستدلال الاستقرائي، وافتقار منهجه إلى الضرورة، وإمكان الوصول إلى نتائج كاذبة. ولم تُحرز محاولاته لتحسين الاستدلال الاستقرائي نجاحًا كبيرًا؛ إذ إن الاستدلالات الاستقرائية التي تتَّسم بتركيب أعقد كثيرًا، كتلك المستخدمة في المنهج الفرضي الاستنباطي الذي يتبعه العالم (انظر الفصل السادس)، تتميَّز بأنها أرفع بكثير من استقراء بيكن البسيط، غير أن هذا المنهج بدوره لا يمكنه أن يأتينا بضرورة منطقية؛ إذ إن نتائجه قد تكون كاذبة، ولا يمكن أن تكتسب المعرفة التنبئية طابع الضمان المطلق الذي يتسم به المنطق الاستنباطي.
وفضلًا عن ذلك فإن الطريقة التي يتمُّ بها هذا الاستدلال الاستقرائي بالفعل قد أدَّت ببعض الفلاسفة إلى ضربٍ آخر من ضروب سوء الفهم. فالعالم الذي يكتشف نظرية يَسترشد في كشفه بالتخمينات عادة، وهو لا يستطيع أن يُحدِّد منهجًا اهتدى إلى النظرية بواسطته، وكل ما يمكنه أن يقوله هو أنها بدت له معقولة، أو أن إحساسه كان مصيبًا، أو أنه أدرك بالحدس أي الفروض هو الذي يُلائم الوقائع. وقد أساء بعض الفلاسفة فهمَ هذا الوصف النفسي للكشف، فاعتقدوا أنه يثبت عدم وجود علاقة منطقية تؤدِّي من الوقائع إلى النظرية، وزعموا أن من المستحيل إيجاد تفسير منطقي للمنهج الفرضي الاستنباطي. فالاستدلال الاستقرائي في نظرهم عملية تخمينية تظلُّ بمنأى عن التحليل المنطقي. وغاب عن هؤلاء الفلاسفة أن نفْس العالم الذي اكتشف نظريته بالتخمين لا يعرضها على الآخرين إلا بعد أن يطمئن إلى أن الوقائع تبرر تخمينه. وفي سبيل الوصول إلى هذا التبرير يقوم العالم باستدلال استقرائي؛ لأنه لا يود أن يَقتصِر على القول بأن الوقائع يمكن أن تُستخلَص من نظريته، وإنما يودُّ أن يقول أيضًا إن الوقائع تجعل نظريته مرجَّحة وتشهد بقدرتها على التنبؤ بمزيد من الوقائع الملاحظة. فالاستدلال الاستقرائي لا يستخدم في الاهتداء إلى نظرية، وإنما يُستخدَم في تبريرها على أساس المعطيات الملاحظة.
والواقع أن التفسير الصوفي للمنهج الفرضي الاستنباطي بأنه تخمين لا عقلي، إنما ينبعث عن الخلط بين سياق الكشف وسياق التبرير. فعملية الكشف تعدو على التحليل المنطقي؛ إذ لا توجد قواعد منطقية يُمكن بواسطتها صنع «آلة للكشف» تحلُّ محلَّ الوظيفة الخلاقة للكشف العبقري. ولكن تعليل الكشوف العلمية ليس من مهمة رجل المنطق، وكل ما يستطيع أن يفعله هو أن يحلل العلاقة بين الوقائع المعطاة وبين النظرية التي تقدَّم إليه زاعمة أنها تُفسِّر هذه الوقائع. وبعبارة أخرى فالمنطق لا يهتمُّ إلا بسياق التبرير. وتبرير النظرية على أساس المُعطيات الملاحظة هو موضوع نظرية الاستقراء.
وتَنتمي دراسة الاستدلال الاستقرائي إلى نظرية الاحتمالات؛ إذ إن كل ما تستطيع الوقائع الملاحظة أن تفعله هو أن تجعل النظرية محتمَلة أو مرجَّحة. ولكنها لا تجعلها ذات يقين مطلق أبدًا. ومع ذلك، فحتى عندما يعترف باندماج الاستقراء في نظرية الاحتمال على هذا النحو، تنشأ ضروب أخرى من سوء الفهم؛ إذ ليس من السهل إدراك التركيب المنطقي للاستدلال الاحتمالي الذي نقوم به من أجل تأكيد النظريات بالوقائع. وقد اعتقد بعض المناطقة أنهم يجب أن يتصوَّروا هذا التأكيد على أنه عكس الاستدلال الاستنباطي؛ أي إنه إذا كان في إمكاننا أن نستمد الوقائع من النظرية بالاستنباط، ففي استطاعتنا أن نستمد النظرية من الوقائع بالاستقراء. فير أن هذا التفسير مفرط في التبسيط. فلكَي نقوم بالاستدلال الاستقرائي، ينبغي أن تشتمل معرفتنا على ما يزيد بكثير عن العلاقة الاستنباطية من النظرية إلى الوقائع.
وهناك ظاهرة بسيطة توضِّح التركيب المعقد للاستدلال المؤدِّي إلى تأكيد النظريات. فمجموعة الوقائع الملاحظة يمكن دائمًا أن تدخل في أكثر من نظرية واحدة، وبعبارة أخرى فهناك عدة نظريات يمكن أن تستخلص منها هذه الوقائع. ويستخدم الاستدلال الاستقرائي من أجل إعطاء درجة من الاحتمال لكل من هذه النظريات، ثم تقبل أقوى النظريات احتمالًا. ومن الواضح أنه لا بد، من أجل التفرقة بين هذه النظريات، من معرفة تتجاوَز نطاق العلاقة الاستنباطية بالوقائع، وهي العلاقة التي تسري على كل هذه النظريات.
لهذه الأسباب كانت دراسة المنطق الاستقرائي تُفضي إلى نظرية الاحتمالات. فمقدمات الاستدلال الاستقرائي تجعل نتائجه احتمالية، لا يقينية، ولا بد أن نتصوَّر الاستدلال الاستقرائي على أنه عملية تدخل في إطار حساب الاحتمالات. والواقع أن هذه الاعتبارات، مقترنة بالتطور الذي حوَّل القوانين العِلية إلى قوانين احتمالية، توضح السبب في الأهمية القصوى لتحليل الاحتمال في فهم العلم الحديث؛ ذلك لأن نظرية الاحتمال تمدُّنا بأداة المعرفة التنبئية، فضلًا عن صورة القوانين الطبيعية، وموضوعها هو عصب المنهج العلمي ذاته.
إن صاحب المذهب العقلي يرى أن درجة الاحتمال نتاج للعقل في حالة انعدام الأسباب المعقولة. فإذا ألقيت قطعة نقود، فهل ستظهر الصورة أم الكتابة؟ هذا أمر لا أعلم عنه أي شيء، وليس لدى من الأسباب ما يجعلني أومن بإحدى النتيجتين دون الأخرى، لذلك أنظر إلى الإمكانين على أنهما مُتساويان في درجة احتمالهما، وأعزو إلى كل منهما احتمالًا مقداره «نصف». وهكذا ينظر إلى انعدام الأسباب المقبولة للعقل على أنه سبب لافتراض تساوي الاحتمالات، هذا هو المبدأ الذي يرتكز عليه تفسير المذهب العقلي للاحتمال، ويرى صاحب المذهب العقلي أن هذا المبدأ، الذي يُعرَف باسم مبدأ السوية أو مبدأ انعدام السبب الذي يُبرر الموقف المضاد، هو مصادرة منطقية. وهو يبدو له واضحًا بذاته، شأنه شأن المبادئ المنطقية.
غير أن الصعوبة في تفسير الاحتمال على هذا النحو هي أنه يؤدي إلى التخلي عن الطابع التحليلي للمنطق ويدخل عنصرًا تركيبيًّا قبليًّا. والواقع أن القضية الاحتمالية ليست فارغة، فعندما نلقي بقطعة نقود ونقول إن احتمال ظهور الصورة في الجانب العلوي نصف، فإننا نقول شيئًا عن حوادث مستقبلة. وربما لم يكن من السهل صياغة ما نقول، ولكن ينبغي أن تنطوي هذه القضية على إشارة معيَّنة إلى المستقبل، ما دمنا نستخدمها مرشدًا للسلوك، مثال ذلك أننا نعتقد أن من المستحسَن المراهنة بنسبة خمسين في المائة على ظهور الصورة، ولكنا لا ننصح أحدًا بأن يراهن عليها بنسبة أعلى من هذه. والواقع أننا نستخدم القضايا الاحتمالية لأنها تتعلَّق بحوادث مُقبِلة. فكل عملية تخطيطية تقتضي معرفة معيَّنة بالمستقبل، وإذا لم تكن لدينا معرفة ذات يقين مطلق، فإنا نَقبل استخدام المعرفة الاحتمالية بدلًا منها.
ويؤدي مبدأ السوية إلى إيقاع المذهب العقلي في الصعوبات المألوفة التي عرفناها من خلال تاريخ الفلسفة. فلم كان ينبغي على الطبيعة أن تسير وفقًا للعقل؟ ولم كان يتعين على الحوادث أن تكون متساوية في احتمالها، إن كانت معرفتنا بها تتساوي في كثرتها أو قلتها؟ وهل الطبيعة متطابقة مع الجهل البشري؟ إن أمثال هذه الأسئلة لا يمكن الإتيان برد إيجابي عليها وإلا لكان على الفيلسوف أن يؤمن بوجود انسجام بين العقل والطبيعة؛ أي بالمعرفة التركيبية القبلية.
ولقد حاول بعض الفلاسفة أن يأتوا بتفسير تحليلي لمبدأ السوية، وتبعًا لهذا التفسير لا يعني القول بأن درجة الاحتمال نصف أي شيء عن المستقبل، وإنما يعبر فقط عن أن معرفتنا عن وقوع هذا الحادث لا تزيد عن معرفتنا عن وقوع الحادث المضاد. وفي هذا التفسير يسهل بطبيعة الحال تبرير الحكم الاحتمالي، ولكنه يفقد طابعه بوصفه مرشدًا للسلوك. وبعبارة أخرى، فصحيح أن الانتقال من الجهل المُتساوي إلى الاحتمال المُتساوي يكون عندئذٍ تحليليًّا، ولكن يظل علينا أن نفسِّر الانتقال التركيبي. فإذا كانت الاحتمالات المتساوية تعني جهلًا متساويًا، فلماذا ننظر إلى الاحتمالات المتساوية على أنها تُبرر المراهنة بنسبة خمسين في المائة؟ في هذا السؤال تعود نفس المشكلة التي قُصِد من التفسير التحليلي لمبدأ السوية أن يتجنَّبها.
إن من الواجب النظر إلى التفسير العقلي للاحتمال على أنه بقية من مخلفات الفلسفة التأملية، ولا مكان له في فلسفة علمية؛ ذلك لأن فيلسوف العالم يصر على إدماج نظرية الاحتمال في فلسفة لا تُضطر إلى الالتجاء إلى المعرفة التركيبية القبلية.
والصعوبة الثانية في التفسير التردُّدي تتعلَّق بإمكان انطباق الحكم الاحتمالي على حالة منفردة. فلنفرض أن أحد أقربائي مصاب بمرض خطير، وسألت الطبيب عن احتمال بقاء قريبي حيًّا، فأجاب الطبيب أن المريض لا يموت في ٧٥ في المائة من حالات هذا المرض. فكيف يمكن أن ينفعني هذا الحكم الاحتمالي؟ أنه قد يفيد الطبيب، الذي يعالج مرضى كثيرين؛ لأنه يحدِّد له أية نسبة مئوية من مرضاه لن تموت بهذا المرض. غير أن ما يهمني هو هذا الشخص بعينِه فحسب، وأود أن أعرف مقدار احتمال نجاته هو ذاته من الموت، وهكذا يبدو أنه لا معنى للتعبير عن احتمال حادث مُنفرد على أساس النسب التردُّدية.
وسوف أرد على هذين الاعتراضين واحدًا بعد الآخر، بادئًا بالاعتراض الثاني. فصحيح أننا كثيرًا ما ننسب احتمالًا إلى حادث منفرد، ولكن لا يترتَّب على ذلك أن المعنى الذي نَنسبه عادة إلى ألفاظنا هو دائمًا تفسير صحيح. فلنتأمل المناقشة التي قُمنا بها من قبل لمعنى اللزوم (الفصل العاشر)؛ ففي المثال الذي ذكرناه عندئذٍ، وهو «إذا سرى تيار كهربائي في السلك انحرفت الإبرة المُمغنطة» — في هذا المثال نعتقد أن علاقة «إذا كان … فإن …» لها معنى بالنسبة إلى هذا الحادث المنفرد، وأن التيار الكهربائي يؤدِّي بالضرورة إلى انحراف الإبرة. على أن التحليل المنطقي يُثبت لنا أن هذا التفسير غير صحيح، وأن ضرورة اللزوم إنما تستمد من عموميته فحسب، وإن كل ما نعنيه بالارتباط الضروري بين الحادثين هو أنه إذا حدث أحدهما، حدث الآخر دائمًا، أما في حالة المثال المُنفرد فإننا ننسى هذا التحليل ونعتقد أننا نستطيع أن نتحدَّث عن لزوم متعلِّق بهذا المثل وحده. «فإذا فتحت هذا الصنبور، فسيتدفَّق الماء.» في هذه الحالة يبدو من الواضح تمامًا أننا لا نتحدَّث إلا عن هذا المثَل الفردي، وأن فتح هذا الصنبور يؤدِّي إلى تدفق الماء. وعندما يشرح لنا المنطقي أن هذا الحكم ينطوي على إشارة إلى العمومية، وأننا نتحدَّث عن جميع الصنابير في العالم، فإننا لا نكون على استعداد لتصديقه — ومع ذلك يتعيَّن علينا أن نقبل تفسيره إذا أردنا أن يكون لكلماتنا أي معنى يمكن تحقيقه.
والواقع أن تفسير الحكم الاحتمالي يَنتمي إلى نفس النوع. فنحن نعتقد أن القول بأن هناك احتمال ٧٥ في المائة في أن يعيش «س»، هو قول له معنى، ومع ذلك فإن كل ما يقال في هذه الحالة يتعلَّق بفئة من الأشخاص مصابة بنفس المرض. وقد تكون لدينا رغبة شديدة في أن نعرف شيئًا عن الحالة الفردية — غير أن «س» سيعيش أو لا يعيش، ولا معنى لأن ننسب درجة من الاحتمال إلى حادث فردي؛ لأن الحادث الواحد لا يُمكن قياسه حسب درجات. فلنفرض أن «س» سيعيش على الرغم من مرضه — فهل تؤدِّي هذه الحقيقة إلى تحقيق التنبؤ الذي أشار إلى وجود احتمال بنسبة ٧٥ في المائة؟ من الواضح أنه لا يؤدي إلى ذلك، لأن الاحتمال يظل ساريًا في حالة وقوع الحادث وفي حالة عدم وقوعه. ولو بحثْنا عددًا كبيرًا من الحوادث، لأمكن أن تعبر الملاحظة عن نسبة اﻟ ٧٥ في المائة، وبالتالي أن تحققها. أما الحادث المنفرد فلا يمكن أن يحدث بدرجة معيَّنة. فالحكم المتعلق باحتمال حادث واحد هو حكم لا معنى له.
ومع ذلك فإن أمثال هذه الأحكام ليست بعيدة عن العقل إلى الحد الذي تبدو عليه بعد هذا التحليل المنطقي. فقد يكون من العادات المفيدة أن نعزو معنى إلى حكم احتمالي متعلِّق بحادث منفرد، إذا كانت التجربة اليومية تقدم إلينا عددًا من الحالات المماثلة. فالشخص الذي يعتقد أنه إذا فتَح الصنبور، فلا بد أن يتدفَّق الماء، قد كوَّن في نفسه عادة مفيدة؛ لأن اعتقاده سيؤدِّي به إلى إصدار أحكام صحيحة عن المجموع الكلي للحوادث المُماثلة. وبالمثل فإن الشخص الذي يعتقد أن احتمالًا بنسبة ٧٥ في المائة ينطبق على حادث منفرد، قد كوَّن عادة مفيدة؛ لأن اعتقاده سيؤدي به إلى القول أنه لو كان هناك عدد كبير من الحالات المماثلة، فإن ٧٥٪ منها ستكون لها النتيجة المشار إليها. بل إن هذا الرأي يظل صحيحًا حتى لو لم تكن تجربتنا اليومية تُمدُّنا بحوادث مماثلة، وإنما بعدد من الحوادث من أنواع متباينة ودرجات متفاوتة من الاحتمال. فقد تواجهنا اليوم حالة مرضية تكون نسبة احتمال النجاة فيها ٧٥ في المائة، ويواجهنا غدًا تنبؤ بأن احتمال تحسُّن الجو ٩٠٪، وبعد غدٍ تنبؤ بأن نسبة الاحتمال المتعلِّقة بأسعار البورصة ٦٠٪؛ فإذا كنا في جميع هذه الحالات نفترض أن الحادث الأقوى احتمالًا هو الذي سيَحدث، فسوف نكون على حقٍّ في معظم الحالات. فالحوادث العديدة للحياة اليومية تكون سلسلة، قد تكون بالفعل مفتقرة إلى التجانُس، ولكنها تقبل التفسير الترددي للاحتمال، ولهذا فإن القول بأن للاحتمال معنى حتى بالنسبة إلى الحادث المنفرد هو قول لا ضرر منه، بل هو عادة مفيدة، لأنه يؤدِّي إلى تقويم صحيح للمستقبل بمجرد أن تُترجم هذه اللغة إلى حكم متعلِّق بسلسلة من الحوادث.
ولا يتحتَّم على المنطقي أن يغضب لأمثال هذه العادات اللغوية؛ فلدَيه وسيلة يُعطي بها لمثل هذه العادات مكانًا في المنطق. فهو ينظر إلى التعبيرات من هذا النوع على أن لها معنًى خياليًّا، وعلى أنها تمثل طريقة ملتوية في الكلام، اكتسبت حياة ظاهرية خاصة بها، وإن لم يكن لها معنى إلا لأن من الممكن ترجمتها إلى عبارة من نوع آخر. إن المنطقي يسمح للرياضي بالكلام عن النقطة اللامتناهية في بعدها، التي يَتقاطع عندها متوازيان، لأنه يعلم أن كل ما يعنيه هذا الحكم هو أن الخطين لا يتقاطعان في مسافة متناهية. كذلك فإن المنطقي ينبغي أن يسمح للشخص بالكلام عن لزوم ضروري في حالة منفردة، أو عن احتمال في حالة منفردة، وينظر إلى هذه الطريقة في الكلام على أنها تمثل معنًى متخيلًا. وهو يتحدَّث، مستخدمًا اصطلاحًا فنيًّا، عن نقل للمعنى من الحالة العامة إلى الحالة الخاصة. فحينما كانت العادات اللغوية مفيدة، استطاع المنطقي دائمًا أن يقدم لها إيضاحًا.
لنفرض أن شخصًا ما ألقى بزهر النرد، وطلب إليك أن تتنبأ إن كان الرقم «ستة» هو الذي سيظهر أم لا. في هذه الحالة تُفضِّل أن تتنبأ بأن الوجه «ستة» لن يظهر، لماذا؟ إنك لست متأكدًا من السبب، ولكن احتمال «غير الستة» في نظرك أقوى من احتمال الستة؛ إذ إن نسبة الاحتمال الأول ٦/٥ وليس في استطاعتك أن تزعم أن تنبؤك سيتحقَّق، ولكن هذا التنبؤ أكثر فائدة لك من التنبؤ المضاد؛ لأنك ستكون على صواب في العدد الأكبر من الحالات.
وتستخدم طريقة الترجيح في جميع أنواع الأحكام الاحتمالية. فإذا قيل لنا إن احتمال سقوط المطر في الغد ٨٠٪، رجحنا أن المطر سيَسقط، وتصرَّفنا على هذا الأساس، فنُنبئ البستاني مثلًا بأنه لا داعي لحضوره في الغد لكي يروي حديقتنا. ولو كانت لدينا معلومات بأن أسعار البورصة يحتمل أن تهبط، فإننا نبيع أسهمنا. وإذا أخبرنا الطبيب بأن التدخين يحتمل أن يؤدِّي إلى تقصير عمرنا، فإننا نكف عن التدخين. وإذا قيل لنا إن من المحتمل أن نحصل على وظيفة بمرتب أعلى إذا تقدمنا بطلب خاص بمركز معين، فإننا نقدم هذا الطلب. وعلى الرغم من أن جميع هذه الأحكام المتعلِّقة بما سيحدث لا يقال بها إلا على سبيل الاحتمال، فإننا ننظر إليها كما لو كانت صحيحة، ونسلك على هذا الأساس، أي أننا نستخدمها بمعنى أنها ترجيحات.
والواقع أن تفسير الأحكام التنبئية بأنها ترجيحات يحل آخر مشكلة تظل باقية في وجه الفهم التجريبي للمعرفة: وأعني بها مشكلة الاستقراء. فالتجريبية قد انهارت أمام نقد هيوم للاستقراء؛ لأنها لم تكن قد تحرَّرت من مصادرة أساسية من مصادرات المذهب العقلي، وأعني بها ضرورة البرهنة على صحة كل معرفة. ففي نظر هذا الرأي لا يُمكن تبرير المنهج الاستقرائي؛ إذ لا يوجد دليل على أنه سيؤدِّي إلى نتائج صحيحة. ولكن الأمر يختلف عندما تعد النتيجة التنبئية ترجيحًا. ففي ظل هذا التفسير لا تكون في حاجة إلى برهان على صحتها، وكل ما يُمكن أن يطلب هو برهان على أنها ترجيح جيد، أو حتى أفضل ترجيح متوافر لدينا. وهذا برهان يُمكن الإتيان به، وبذلك يُمكن حل المشكلة الاستقرائية.
ويقتضي هذا البرهان مزيدًا من البحث، فلا يمكن الاكتفاء في تقديمه بالقول أن النتيجة الاستقرائية لها درجة عالية من الاحتمال. بل إنه يستلزم تحليلًا للمناهج الاحتمالية، وينبغي أن يكون مبنيًّا على أسس هي ذاتها مستقلة عن هذه المناهج. أي أن تبرير الاستقراء ينبغي أن يقدم خارج مجال نظرية الاحتمالات، لأن هذه النظرية الأخيرة تفترض استخدام الاستقراء. وسوف يتضح بعد قليل معنى هذه القاعدة.
إن البرهان لا بد أن يسبقه بحث رياضي؛ فحساب الاحتمالات مركَّب على صورة نظام للبديهيات، مشابه لهندسة إقليدس. وهذا التركيب يوضح أن جميع بديهيات الاحتمالات هي نظريات رياضية خالصة، وبالتالي أحكام تحليلية، وذلك إذا ما قبلنا التفسير الترددي لفكرة الاحتمال، والنقطة الوحيدة التي يتدخل فيها مبدأ غير تحليلي هي التأكد من درجة الاحتمال عن طريق استدلال استقرائي؛ فنحن نجد تردُّدًا نسبيًّا معينًا لسلسلة من الحوادث الملاحظة، ونفترض أن نفس التردد سوف يسري كما هو تقريبًا على بقية السلسلة هذا هو المبدأ التركيبي الوحيد الذي يُبنى عليه تطبيق حساب الاحتمالات.
ولهذه النتيجة أهمية عظمى، فمن الممكن التعبير عن الصور المتعددة للاستقراء، وضمنها المنهج الفرضي الاستنباطي، من خلال مناهج استنباطية، مع إضافة الاستقراء التعدادي وحده. وإن منهج البديهيات ليقدم إلينا الدليل على أن جميع أشكال الاستقراء يمكن أن تردَّ إلى استقراء تعدادي؛ أي إن الرياضي في عصرنا يثبت ما كان هيوم يأخذه قضية مسلَّمًا بصحتهًا.
وقد تبدو هذه النتيجة مثيرة للدهشة، لأن منهج وضع فروض تفسيرية، أو الإثبات غير المباشر، يبدو مختلفًا إلى حدٍّ بعيد عن الاستقراء التعدادي البسيط، ولكن لما كان من الممكن تصور جميع أشكال الإثبات غير المباشر على أنها استدلالات يَسري عليها الحساب الرياضي للاحتمالات، فإن هذه الاستدلالات متضمنة في نتيجة البحث الخاص بمنهج البديهيات. وفي استطاعة نظام البديهيات أن يتحكم، بقوة الاستنباط، في أبعد تطبيقات الاستدلالات الاحتمالية، مثلما يستطيع المهندس أن يتحكَّم في قذيفة بعيدة بالموجات اللاسلكية، بل إن نفس التراكيب الاستدلالية المتشابكة التي يستخدمها ضابط المباحث أو العالم، يمكن تفسيرها على أساس البديهيات. والسبب الوحيد الذي يجعل هذه التراكيب أعلى من الاستقراء التعدادي البسيط، هو أنها تنطوي على قدر كبير من المنطق الاستنباطي — غير أن مضمونها الاستنباطي يمكن أن يوصف على نحو جامع مانع بأنه شبكة من الاستقراءات من النوع التعدادي.
فعندما نحصي التردد النسبي لحادث ما، نجمد أن النسبة المئوية التي نتوصَّل إليها تختلف تبعًا لعدد الحالات الملاحظة، ولكن الاختلافات تتلاشى بازدياد العدد. مثال ذلك أن إحصاءات المواليد تدلُّ على أن ٤٩٪ من كل ألف من المواليد ذكور، وبزيادة عدد الحالات نجد أن الذكور يمثلون نسبة ٥٢٪ بين ٥٠٠٠ مولود، ويمثلون ٥١٪ بين ١٠٠٠٠ مولود، فلنَفرض مؤقتًا أننا نعلم أننا لو واصلنا الزيادة فسوف نصل آخر الأمر إلى نسبة مئوية ثابتة — وهي ما يطلق عليه الرياضي اسم حدِّ التردد — فما هي القيمة العددية التي نفترضها بالتسمية إلى هذه النسبة المئوية النهائية؟ إن أفضل ما يُمكننا عمله هو أن ننظر إلى القيمة الأخيرة التي وصلنا إليها على أنها هي القيمة الدائمة وأن نستخدمها على أنها هي الترجيح الذي نقول به. فإذا أثبتت الملاحظات التالية أن الترجيح باطل، فسوف نُصحِّحه، ولكن إذا اتجهت السلسلة نحو نسبة مئوية نهائية، فلا بد أن نصل بمضي الوقت إلى قيم قريبة من القيمة النهائية. وهكذا يتَّضح أن الاستدلال الاستقرائي هو أفضل أداة للاهتداء إلى النسبة المئوية النهائية، أو درجة احتمال الحادث، إن كانت هناك مثل هذه النسبة المئوية الحدية على الإطلاق، أي إذا كانت السلسلة تتَّجه صوب حد.
فكيف نعرف أن للتردُّد حدًّا؟ ليس لدينا دليل على هذا الافتراض بالطبع. غير أننا نعلم أنه إذا كان ثمَّة حد كهذا، فسوف نتوصل إليه بالمنهج الاستقرائي. وعلى ذلك فإذا شئت أن تهتدي إلى حدِّ التردُّد، فلتستخدم الاستدلال الاستقرائي إذ إنه أفضل أداة لديك؛ لأنه إذا كان من المُمكن بلوغه، فإن محاولتك تكون قد ذهبت هباءً، ولكن كل محاولة أخرى ستخفق بدورها في هذه الحالة.
إن من الممكن تشبيه مَن يقوم باستدلالات استقرائية بصياد يرمي شباكه في جزء مجهول من البحر فهو لا يعلم إن كان يصطاد سمكًا، ولكنه يعله أنه إذا أراد أن يصطاد سمكًا فعليه أن يرمي شباكه. وإن كل تنبؤ استقرائي لهو أشبه برمي شبكة في بحر الحوادث الطبيعية: فلسنا نعلم إن كنا سنَقتنص صيدًا طيبًا، ولكنا نُحاول على الأقل، ونستخدم في محاولتنا أفضل الوسائل المتوافرة لدينا.
إننا نُحاول لأننا نريد أن نسلك — ومن يريد أن يسلك لا يستطيع أن ينتظر حتى يُصبح المستقبل معرفة قابلة للملاحظة. ذلك لأن السيطرة على المستقبل، وتشكيل أحداث المستقبل وفقًا لخطة، يفترض مقدمًا معرفة تنبئية بما سيحدث إذا تحقَّقت شروط معينة، وإذا لم نعرف الحقيقة بشأن ما سيحدث، فسوف نستعيض عن الحقيقة بأفضل ترجيحاتنا؛ فالترجيحات هي أداة الفعل حيث لا تتوافر الحقيقة، وتبرير الاستقراء هو أنه أفضل أداة للفعل معروفة لنا.
ولا شك أن هذا الحل لمشكلة الاستقراء سيزداد وضوحًا إذا ما قورن بالنظرية العقلية في الاحتمال. فمبدأ السوية، الذي يحتل مركزًا منطقيًّا مشابهًا لمركز مبدأ الاستقراء لأنه يستخدم في تحديد درجة الاحتمال، يعد في نظر صاحب المذهب العقلي مبدأً منطقيًّا واضحًا بذاته، وهكذا يصل إلى وضوح ذاتي تركيبي. أي إلى منطق تركيبي قبلي. وبهذه المناسبة فإن مبدأ الاستقراء التعدادي يعدُّ في كثير من الأحيان مبدأً واضحًا بذاته أيضًا، وهذا الفهم يمثل صيغة أخرى للمنطق الاحتمالي المرتكِز على المعرفة التركيبية القبْلية. أما الفهم التجريبي للمنطق الاستقرائي فهو يختلف عن ذلك اختلافًا أساسيًّا؛ فمبدأ الاستقراء التعدادي، الذي يكون مبدؤه التركيبي الوحيد، لا يُعدُّ واضحًا بذاته، أو مصادرة يستطيع المنطق تحقيق صحتها. إن ما يستطيع المنطق إثباته هو أن من المُستحسَن استخدام المبدأ إذا كان في ذهننًا هدف معين، هو هدف التنبؤ بالمستقبل، هذا البرهان، أي تبرير الاستقراء، مبني على اعتبارات تحليلية. فمن حق التجريبي أن يستخدم مبدأً تركيبيًّا، لأنه لا يؤكد أن المبدأ صحيح أو ينبغي أن يؤدِّي إلى نتائج صحيحة، أو إلى احتمالات صحيحة أو أي نوع من النجاح، بل إن كل ما يؤكده هو أن استخدام المبدأ هو خير ما يمكنه أن يفعله. وهذا العزوف عن أي ادعاء للحقيقة يتيح له أن يدمج عنصرًا تركيبيًّا قبليًّا في منطق تحليلي، وأن يفي بهذا الشرط، وهو أن يكون كل ما يؤكده على أساس منطقه حقيقة تحليلية فحسب. وهو لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا لأنه لا يؤكد نتيجة الاستدلال الاستقرائي، وإنما يُرجحها فقط، وما يؤكده هو أن ترجيح النتيجة وسيلة لغايته. وهكذا يكتمل تطبيق المبدأ التجريبي القائل أن العقل لا يستطيع أن يقوم إلا بدور تحليلي في المعرفة، وأنه لا يوجد وضوح ذاتي تركيبي.
لقد كانت صعوبات المذهب التجريبي، التي صيغت في مذهب الشك عند هيوم، نتيجة لتفسير باطل للمعرفة، وهي تَختفي إذا ما فسرت المعرفة تفسيرًا صحيحًا تلك هي النتيجة التي تُفضي إليها فلسفة نمت من تربة العلم الحديث. أما فيلسوف المذهب العقلي فإنه لم يكتفِ بأن يقدم للعالم سلسلة من مذاهب الفلسفة التأمُّلية التي لا يُمكن قبولها، بل إنه قد عمل أيضًا على تسميم التفسير التجريبي للمعرفة، بأن حث الفيلسوف التجريبي على التماس أهداف لا يمكن بلوغها. ولقد كان لا بد لتطور العلم من تجاوز النظرة إلى المعرفة على أنها نسق من الأحكام التي يمكن البرهنة على صحتها؛ وذلك قبل أن يتسنى الاهتداء إلى حل لشكلة المعرفة التنبئية. وكان لا بد أن يختفي السعي إلى اليقين في داخل أكثر علوم الطبيعة دقة. أي الفيزياء الرياضية، قبل أن يستطيع الفيلسوف تقديم تفسير للمنهج العلمي.
والواقع أن صورة المنهج العلمي كما ترسمها الفلسفة الحديثة مختلفة كل الاختلاف عن المفاهيم التقليدية. فقد اختفى المثل الأعلى لعالم يُخضع مساره لقواعد دقيقة، أو لكون متحدِّد مقدمًا، يدور كما تدور الساعة المضبوطة، واختفى المثل الأعلى للعالم الذي يعرف الحقيقة المطلَقة. واتَّضح أن أحداث الطبيعة أشبه برمي الزهر منها بدوران النجوم في أفلاكها؛ فهي خاضعة للقوانين الاحتمالية. لا للعلية. أما العالِم فهو أشبه بالمقامر منه بالنبي؛ فهو لا يستطيع أن يُنبئك إلا بأفضل ترجيحاته — ولكنه لا يعرف مقدمًا أبدًا إن كانت هذه الترجيحات ستتحقَّق. ولكنه مع ذلك مقامر أفضل من ذلك الذي يجلس أمام المائدة الخضراء. لأن مناهجه الإحصائية أفضل، والهدف الذي يسعى إليه أسمى بكثير وهو التنبؤ برميات الزهر الكونية، فإذا ما سئل عن أسباب اتباعه لمناهجه. وعن الأساس الذي يبني تنبؤاته عليه، لم يكن في وسعه أن يجيب بأن لديه معرفة بالمستقبل تتَّصف باليقين المطلق، بل إنه يستطيع فقط أن يقدم أفضل ترجيحاته. ولكن في وسعه أن يثبت أن هذه بالفعل هي أفضل الترجيحات، وأن القول بها هو أفضل ما يمكنه عمله — وإذا كان المرء يعمل أفضل ما يمكنه عمله، فهل يستطيع أحد أن يَطلب منه المزيد؟