الفهم الوظيفي للمعرفة
عرضنا في الفصول السابقة عددًا من نتائج الفلسفة العلمية. كما استعرضنا الأداتين الرئيسيتين للمعرفة، وهما المنطق الاستنباطي والمنطق الاستقرائي، من حيث مناهجهما ونتائجهما. وأودُّ أن أقدِّم في هذا الفصل موجزًا لأعمِّ أجزاء الفلسفة العلمية، الذي ظهر فيه فهم جديد للمعرفة، وقُدِّم فيه حل علمي لمشكلة الواقع الفيزيائي. ولكي أوضح طبيعة هذا الفهم الجديد للمعرفة فسوف أقارنه بذلك الفهم الذي ظل سائدًا بدرجات متفاوتة من الوضوح، في المذاهب الفلسفية التقليدية.
لقد كان التعبير الرمزي الكلاسيكي عن الفهم المتعالي للمعرفة هو تشبيه الكهف عند أفلاطون. فأفلاطون يصور كهفًا يمشي فيه أشخاص عديدون، ولدوا فيه ولم يُغادروه أبدًا. هؤلاء الأشخاص مُقيَّدون بسلاسل إلى أماكنهم بحيث يواجهون الجدار الخلفي للكهف ولا يستطيعون تحريك رءوسهم. وأمام مدخل الكهف توجد نار تلقى بأشعة من الضوء داخل الكهف وعلى الجدار الخلفي. وبين النار والمدخل يمشى أناس وتسقط ظلالهم على الجدار الخلفي للكهف، فيرى سكان الكهف هذه الظلال، ولكنهم لا يرون أبدًا الناس الموجودين بالفعل، لأنهم لا يستطيعون أن يديروا رءوسهم، فيتوهمون أن الظلال هي الأشياء الحقيقية، ولا يعلمون أبدًا أن هناك عالَمًا في الخارج، لا يرون منه إلا الظلال. ويقول أفلاطون إن المعرفة التي يُكوِّنها البشر عن العالم الطبيعي إنما هي معرفة من هذا النوع. فعالم الإدراك الحسي أشبه بالظلال التي تتحرك على جدار الكهف. والفكر وحده هو الذي يستطيع أن يكشف لنا عن وجود حقيقة أعلى، لا تعد الموضوعات المنظورة بالنسبة إليها إلا صورًا هزيلة.
ولقد ظلَّ تشبيه الكهف، طوال ألفي عام، يرمز لموقف الفيلسوف التأملي. فهو يعبر عن رأي شخص لا يقنع بنتائج التجربة الحسية على الإطلاق، وتتملكه رغبة قوية في تجاوز مجال الموضوعات الملاحظة، وما يمكن أن يستخلص منها بالاستقراء. وهو يصور المعرفة التجريبية في صورة بديل هزيل لمعرفة أفضل لا يصل إليها إلا الاستبصار العقلي، وتظلُّ وقفًا على الرياضي والفيلسوف. وتلك هي النزعة المتعالية في أنقى صورها؛ ففيها يبدأ اتجاه في التفكير الفلسفي بلغة قمته في التمييز بين الظواهر والأشياء في ذاتها. ولقد أسفر ذلك المركب الشامخ للفلسفة العقلية، الذي وضعه كانت، عن تكرار للتقسيم الثنائي إلى عالم هنا وعالم «هناك»، وهو التقسيم الذي بدأ به المذهب العقلي مسيرته الظافرة طوال تاريخ الحضارة الغربية — والذي يرتبط من الوجهة النفسية ارتباطًا وثيقًا بالثنائية الدينية بين هذه الحياة الأرضية والحياة السماوية المقبلة.
ونستطيع أن نُسمي فلسفة النزعة التجريبية الجديدة باسم «الفهم الوظيفي للمعرفة»، في مقابل الفهم المتعالي للمعرفة. وتبعًا لهذا التفسير لا تُشير المعرفة إلى عالم آخر، وإنما تقدم عرضًا للأشياء في هذا العالم، بُغية أداء وظيفة تخدم غرضًا، هو التنبؤ بالمستقبل. وأودُّ الآن أن أناقش هذا الفهم، الذي أصبح مبدأً من مبادئ التجريبية المنطقية.
إنَّ البشر أشياء ضمن سائر الأشياء الطبيعية، وهم يتأثرون بالأشياء الأخرى بتوسط أعضائهم الحسية. هذا التأثر يَحدث أنواعًا شتى من ردود الأفعال في الجسم البشري، أهمها رد الفعل اللغوي، أي تكوين نسق من العلامات. وقد تكون العلامات منطوقة أو مكتوبة، وعلى الرغم من أن الشكل المكتوب قد يكون أقل أهمية بالنسبة إلى أغراض الحياة من الشكل المنطوق، فإنه أرفع منه من حيث إنه يخضع لنظام من القواعد أدق، ويكشف بمزيد من الأحكام عن المضمون المعرفي للغة.
فما هو هذا المضمون المعرفي؟ إنه ليس شيئًا يُضاف إلى نسق العلامات، وإنما هو خاصية لنظام العلامات. فالعلامات أشياء فيزيائية، كخطوط المداد على الورق، أو الموجات الصوتية، تستخدم في علاقة تناظر مع أشياء فيزيائية أخرى، وهذا التناظر الذي لا يرتكز على أي تشابه، مبني على اصطلاح؛ مثال ذلك أن لفظ «البيت» يناظر البيت، ولفظ «أحمر» يناظر صفة الاحمرار، وتتجمَّع العلامات على نحو من شأنه أن تكون تجمُّعات معينة لها، تُسمى بالجمل، مناظرة لحالاتٍ واقعة في العالم الفيزيائي. وفي هذه الحالة توصف تجمعات العلامات هذه بأنها صحيحة؛ مثال ذلك أن الجملة «البيت أحمر»، إذا كانت تُناظر حالة واقعة فعلية، تُسمى صحيحة. وهناك تجمُّعات أخرى للعلامات، يُمكن تحويلها بإضافة العلامة «لا» إلى جمل صحيحة، تُسمى تجمُّعات باطلة. ويُسمَّى تجمع العلامات الذي يُمكن بيان صحته أو بطلانه تجمعًا ذا معنى ولهذا التصوُّر أهميته؛ إذ إننا كثيرًا ما نهتم بتجمعات للعلامات لا يمكن تحديد صحتها أو بطلانها في الوقت الراهن، ولكن يُمكن تحديدها في وقت لاحق. وإلى هذا النوع تَنتمي كل عبارة غير محقَّقة، مثل «سيكون الغد يومًا مطيرًا».
وتُعد الإشارة إلى القابلية للتحقيق عنصرًا ضروريًّا في نظرية المعنى. فالجملة التي لا يُمكن تحديد صحتها من ملاحظات ممكنة هي جملة لا معنى لها. وعلى الرغم من أن العقلانيين قد اعتقدوا أن هناك معانيَ في ذاتها، فإن التجريبيين في جميع العصور قد أكدوا أن المعنى يتوقَّف على القابلية للتحقيق. والواقع أن العلم الحديث إنما هو سجل حافل يُؤيد هذا الرأي. ففي التحليل الذي قدَّمناه من قبل للمكان والزمان والعلِّية وميكانيكا الكوانتم، كان توقُّف المعنى على قابلية التحقيق واضحًا، ولو لم يؤمن المرء بهذا الرأي لظلَّت الفيزياء الحديثة مستغلَقة على فهمه. فنظرية المعنى من حيث هو قابلية التحقيق هي جزء لا يتجزَّأ من الفلسفة العلمية.
ولقد اعترض البعض بقولهم إن للمعنى طبيعة ذاتية، وإن أحدًا لا يستطيع أن يقول لشخص معيَّن ما يَعنيه، وإن من الواجب السماح لكل شخص باستخدام ألفاظه بالمعاني التي تبدو له ملائمة. وعلى أساس هذا الاعتراض يكون إصرار الفيلسوف العلمي على استبعاد الجمل غير القابلة للتحقيق، أو على ضرورة جعل الملاحظة الحسية، مقترنة بالاستدلالات الاستقرائية أو الاستنباطية، أساسًا للتحقيق — يكون هذا الإصرار تعسُّفًا لا مبرر له في استخدام اللغة. ومع ذلك فإن هذا الاعتراض ينطوي على سوء فهم للطبيعة المنطقية للنظرية القائلة إن المعنى هو قابلية التحقيق. فليس المقصود من هذه النظرية أن تكون ضربًا من الأمر الأخلاقي، بل إن الفيلسوف العلمي مُتسامح، وهو يدع كل شخص يعني ما يشاء. غير أنه يقول له: إذا استخدمت معاني لا يُمكن تحقيقها، فإن كلماتك لن تستطيع أن تقدم وصفًا لأفعالك. ذلك لأن ما تفعله موجه دائمًا إلى المستقبل، ولا يُمكن ترجمة الأحكام المتعلقة بالمستقبل إلى تجارب ممكنة إلا بقدر ما يكون من الممكن تحقيقها. فالنظرية التجريبية في المعنى لا تقدم وصفًا للمعاني الذاتية لدى الشخص، وإنما هي قاعدة تَقترح بالنسبة إلى صورة اللغة، وهي قاعدة يُستحسَن اتباعها لأسباب مقنعة؛ فهي تُحدد نوع المعنى الذي لو افترضْناه لكلمات شخص معيَّن لجعل كلماته متمشية مع أفعاله. وهذه الصفة الأخيرة هي كل ما يكون من المعقول اشتراطه بالنسبة إلى نظرية للمعنى. فأولئك الذين يتَّخذون من القابلية للتحقيق معيارًا للمعنى يتكلَّمون لغة تتمشى مع سلوكهم، واللغة بالنسبة إليهم تؤدِّي وظيفة لا يمكن الاستغناء عنها في القيام بالأفعال، وهي ليست نسقًا فارغًا منقطع الصلة بعالم التجربة.
إن الفهم الوظيفي للمعرفة يُخلص اللغة من جميع الأسرار التي أقحمها فيها المذهب العقلي طوال ألفَي عام. وهي تؤدِّي إلى جعل طبيعة اللغة غاية في البساطة، ولكن الحل البسيط كثيرًا ما يكون الاهتداء إليه هو الأصعب؛ فقد كان على ذرية المعرفة أن تتحرَّر أولًا من وهم التركيبية القبلية، وهو الأثر المتخلِّف عن اتجاه صوفي نحو عالم من الكيانات التي تتجاوَز الأشياء الملاحظة، قبل أن تشرع في التعبير عن المعرفة بوضوح على أنها وظيفية. ولم يكن من الممكن تقديم الدليل على أن المعرفة وظيفية وعلى أنها أفضل أداة للتنبؤ، قبل الاهتداء إلى تفسيرٍ مُرضٍ للاحتمال. فطوال الوقت الذي ظلت فيه التجريبية عاجزة عن تفسير استخدام الاستدلالات الاستقرائية والاحتمالات، كانت مجرد برنامج، لا نظرية فلسفية. ولم يكن من الممكن تنفيذ برنامج التجريبية، أعني المبدأ القائل أن كل حقيقة تركيبية تستمد من الملاحظة، وأن كل ما يُسهم به العقل في المعرفة ذو طبيعة تحليلية، إلا بعد أن هيأ العلم في القرنين التاسع عشر والعشرين الوسائل الضرورية لذلك. فعصرنا هذا أول عصر يشهد نزعة تجريبية متَّسقة مع ذاتها.
إن النظرية القائلة إن المعنى هو قابلية التحقيق هي الأداة المنطقية التي يستطيع بها المذهب التجريبي أن يتغلَّب على ثنائية عالم المظاهر وعالم الأشياء في ذاتها. فهي تستبعد الأشياء في ذاتها لأنها تؤكد أن الكلام عن أشياء لا تقبل المعرفة من حيث المبدأ هو كلام لا معنى له. وبدلًا من أن يتحدَّث التجريبي عن أشياء لا تقبل المعرفة، فإنه يتحدَّث عن أشياء لا تقبل الملاحظة، غير أن المعرفة تستطيع الوصول إلى هذه الأشياء الأخيرة، كما أن من الممكن التحدُّث عنها بطريقة ذات فالأحكام المتعلِّقة بأشياء لا تقبل الملاحظة يمكن أن يكون لها معنى بقدر ما يكون من المُمكن استخلاصها من ملاحظات، وهي تكتسب معنى عن طريق التحويل، أي بفضل علاقتها بأشياء يُمكن ملاحظتها. وقد نُوقشت هذه العلاقات في الفصل الحادي عشر في صدد مشكلات فيزياء الكوانتم. ولا بد لنا من دراستها بمزيد من التفصيل، وفي صدد جميع ضروب المعرفة.
إن مشكلة الواقع، أي مسألة ما إذا كان العالم واقعيًّا، تنشأ من تجربة نفسية مألوفة: هي التمييز بين الحلم واليقظة. وهذا التمييز، بالطبع، ذو معنى، ولكن من الضروري بيان معناه وأصله بمزيد من الوضوح، لكي نتغلَّب على النتائج الباطلة الكثيرة التي استخلصها الفلاسفة منه.
فلنتخيل شخصًا غير شاعر بالفرق بين الحلم واليقظة، ويكتب تقارير عن كل ما يُلاحظه، مثل هذا الشخص سيكتب جملًا مثل: «هناك كلب» و«زيد أتى لرؤيتي» و«السيارة لم يَدُر محركها» و«الفتاة وقفت في إناء الحساء»، وما إلى ذلك. ومن الواضح أن العبارة الأخيرة تُشير إلى ما نسمِّيه «حلمًا»، ولكن يوميات مثل هذا الشخص لا تتضمَّن إشارة صريحة إلى الحلم. ولم يكن من الممكن أن تكون هناك إشارة صريحة لأن ظواهر الحلم، في الوقت الذي تمرُّ فيه بتجربتنا، لا تختلف من حيث الكيف عن الملاحَظات الفعلية. وبعبارة أخرى فلا يمكن أن يعرف أي شخص، أثناء حلمه، أنه يحلم، ونستطيع أن نَنظر إلى اليوميات الكاملة من هذا النوع، التي تجمع تقارير عن جميع ملاحظاتنا، ولكنها تفعل ذلك دون نقد. وتمتنع عن استخلاص استدلالات تتجاوَز ما يُجرب بالفعل — نستطيع أن ننظر إلى هذه اليوميات على أنها هي الأساس المنطقي للمعرفة البشرية. وعلى الفيلسوف. لكي يدرس بناء المعرفة، أن يبحث في الاستدلالات التي تؤدِّي من هذا الأساس إلى أحكام عن الموضوعات الفيزيائية، والأحلام، وكل أنواع التراكيب العلمية. كالكهرباء، أو المجرات، أو عقدة الذنب. فلنتخيَّل إذن شخصًا يُحاول بناء نسق للمعرفة من الجمل التي يُسجلها في تقاريره المتضمَّنة في يومياته الكاملة هذه.
إنه سيُحاول إيجاد نظام في هذه الجمل، بترتيبها في جماعات. وصياغة قوانين عامة تسري عليها؛ مثال ذلك أنه سيَكتشف القانون الآتي: حيثما كانت هناك جملة تُقرر أن الشمس مشرقة، توجد جملة لاحقة تُقرر أن الجو يزداد دفئًا. فيصوغ هذه النتيجة بعد ذلك على أنها علاقة بين الأشياء؛ فكلما أشرقت الشمس أصبح الجو أدفأ. ومع ذلك فإنه سرعان ما يكتشف أن هناك مجموعة معيَّنة من الجمل، كالجملة المتعلقة بوجود الفتاة في إناء الحساء، ينبغي عزلها عن الأخريات، فهو لا يستطيع إدراجها في النسق المنظَّم؛ لأنها لا تؤدِّي إلى تنبُّؤات صحيحة، وبالتالي لا تؤدِّي إلى قوانين عامة. مثال ذلك أنه سيجد تبريرًا يقول له إنه كلَّما وضع إصبعه في إناء الحساء ابتل ذلك الإصبع، ولكن يبدو أن أرجل الفتاة لم تظهر فيها هذه النتيجة بعد خروجها من إناء الحساء. وعلى ذلك فهو يُسمِّي هذه المجموعة من التقارير التي تكوِّن جزيرة منطقية، باسم الأحلام.
فالنتيجة المنطقية التي يؤدِّي إليها هذا التحليل هي أن من الممكن تحقيق الفارق بين الحلم واليقظة عن طريق فوارق تركيبية في مجموعة التقارير، وهذا فارق ذو معنى؛ لأن من الممكن ترجمته إلى علاقات قابلة للتحقيق؛ فالأحلام لا تمدُّنا بملاحظات تُتيح التنبؤ بتجارب أخرى. هذه النتيجة تؤدِّي إلى تصنيف للجمل الواردة في تقاريره إلى جمل ذات صحة موضوعية وجمل ذات صحة ذاتية فحسب. ولكي يكون لدينا اسم ينطبق قبل القيام بهذا التمييز، فسوف أصف جميع الجمل الواردة في تقاريره بأنها ذات صحة مباشرة؛ أي إن من المفترض أنها ليست أكاذيب. وتَنقسِم الصحة المباشرة إلى صحة موضوعية وصحة ذاتية، نتيجة لإجراءات التنظيم الداخلي، أي لتنظيم لا يتجاوَز نطاق الجعل الواردة في اليوميات الكاملة.
ومن الجمل نَنتقل إلى الأشياء؛ فالتقارير التي تتَّصف بالصحة الموضوعية، يقال عنها إنها تُشير إلى أشياء موضوعية. والتقارير التي لا تتَّصف إلا بالصحة الذاتية وحدها يقال عنها إنها تشير إلى أشياء ذاتية. وهكذا يكون لدينا الآن نوعان من الأشياء كلها تُعدُّ أشياء مباشرة. ولكن الأولى وحدها هي الأشياء الموضوعية أو الواقعية. فما هي الثانية؟
لكي نبحث في هذه الأشياء الأخيرة سنخترع مفهومَ «جسمي». فنقول إن موضوعًا من بين الموضوعات الفيزيائية يُسمى «جسمي» يتأثَّر سببيًّا بالأشياء الفيزيائية الأخرى، وتكون له نتيجة لذلك حالة فسيولوجية خاصة، فحيثما كان هناك شيء موضوعي ورد في اليوميات كان «جسمي» في حالة معينة. ولكنه قد يكون في هذه الحالة حتى لو لم يكن هناك شيء موضوعي. وفي هذه الحالة الأخيرة نتحدَّث عن شيء ذاتي. وعلى ذلك فإن الأشياء الذاتية. وإن لم تكن واقعية، تدلُّ على أشياء واقعية من نوع آخر؛ فهي تدلُّ على حالات لجسمي.
هذه العبارة الأخيرة تبدو أشبه بمغالَطة منطقية: فإذا كان هناك شيء غير موجود يدلُّ على شيء موجود. فلا بد أن يكون بدوره موجودًا. ولا بد لكي نتغلَّب على هذه المفارقة من أن نصوغ استدلالاتنا بصورة أدق. وهذا ما يتحقَّق بالرجوع إلى الجمل الواردة في اليوميات؛ فقد رأينا أن هذه الجمل ليست كلها صحيحة موضوعيًّا. والآن نجد أنه إذا لم تكن إحدى جمل التقرير صحيحة موضوعيًّا، ففي استطاعتنا أن نستدل، لا على أن هناك موضوعًا فيزيائيًّا مناظرًا. بل على أن هناك حالة لجسمِنا يمكن أن تحدث بدورها لو كان هناك موضوع مناظر. وإذ نتحدث عن جمل، فإننا نتجنَّب ألفاظًا مثل «الأشياء الذاتية». وبالعكس، فلمَّا كان من الممكن إجراء هذه الترجمة إلى لغة تتحدَّث عن جمل، فإن من المسموح به أيضًا استخدام أمثال هذه الألفاظ، وعلى ذلك فإن لنا أن نقول إن الأشياء الذاتية لها وجود ذاتي، وبذلك نستخدم كلمة الوجود بمعنًى وهمي. فأمثال هذه التعبيرات مباحة لا لشيء إلا لأن من الممكن استبعادها.
ومن الممكن إيضاح هذا النوع من اللغة بمثَل مستمَد من الفيزياء. فعداد السرعة يقيس سرعة السيارة تبعًا لحركة إبرة. ولهذا الغرض يتم الاتصال بين العجلات الدائرة للسيارة وبين الإبرة عن طريق تروس ومحور مرن على نحو من شأنه أن تؤدي زيادة السرعة إلى انحراف زاوية الإبرة، وهكذا يسجل على لوحة الأرقام السرعة المناظرة لكل موقع من مواقع الإبرة. فما تدلُّ عليه الإبرة مباشرة هو حالة داخلية لعداد السرعة، ولكنه يدلُّ على هذا النحو، بطريق غير مباشر، على سرعة، تقوم بدور أشبه بدور «المنبِّه»، فتجعل الآلة في هذه الحالة. وقد كنا نستطيع أن نستخدم الأرقام الموجودة على اللوحة لإيضاح الحالات الداخلية لعداد السرعة، بدلًا من استخدامها مقياسًا لسرعة السيارة. أي أننا نستطيع أن نقول، حين ننظر إلى الأرقام المسجَّلة على اللوحة، «إن عداد السرعة في حالة ستين ميلًا في الساعة.» وهكذا فإننا نصف حالة الآلة بطريق غير مباشر، بلغة المنبه.
هذا المثل يُساعد على توضيح طبيعة الأشياء الذاتية؛ فالأشياء التي ترى في حلم لها نوع الوجود الذي يكون لسرعة الستين ميلًا في مثال عداد السرعة الذي ينظر إليه بمعزل عن السيارة. وفي هذه الحالة يكون للكلام عن الوجود ما يبرره بوصفه طريقة في الكلام، غير أن الوجود الفيزيائي يقتصر على حالات عداد السرعة التي توصف على هذا النحو وصفًا غير مباشر؛ فثنائية حالة اليقظة وحالة الحلم لا تُشكل صعوبات للفلسفة التجريبية. وهي لا تحتاج إلى إدخال أشياء «تتجاوز» عالم الأشياء الفيزيائية، ولا تفتح الطريق أمام النزعة المتعالية. بل إن من الممكن تفسيرها تفسيرًا كاملًا في إطار فلسفة متعلِّقة «بهذا العالم». ومن المُمكن ترجمة معنى الأحكام المتعلقة بأشياء موجودة في الحلم، إلى معنى أحكام متعلقة بأشياء موضوعية.
هذا التحليل يتيح لنا إيضاح معنى السؤال عما إذا كان العالم واقعيًّا. فمن الممكن تفسير هذا السؤال على أنه يعني: هل نحن الآن في حالة يقظة أم في حلم؟ وهذا دون شك سؤال ذو معنى. بل إننا قد مررنا في الواقع بحالات حلم تساءلنا فيها هذا السؤال، واستنتجنا في إجابتنا أننا أيقاظ، ثم اكتشفْنا فيما بعد أننا كنا على خطأ، أي أننا كنا لا نزال نحلم. فهل يمكن أن يكون نفس الشيء حادثًا الآن؟ إننا لا نستطيع أن نَستبعِد احتمال أننا سنَكتشِف، بعد وقت معين، أننا كنا نحلم الآن، ونحن نشعر شعورًا شبه مؤكد بأن هذا لنْ يحدث، ولكن ليس لدينا ضمان مُطلَق بأنه لن يحدث.
فإذا عدنا الآن إلى المثال المنطقي الذي ضربناه من قبل، وهو مثال اليوميات الكاملة، فإننا نستطيع صياغة هذه الفكرة على النحو الآتي: من الممكن أن نُميز، داخل جملنا التقريرية، بين جمل الأحلام التي هي أشبه بجزر مُنعزلة. وبين بقية الجمل، لأن المجموع الباقي يسمح بتكوين ترتيب من خلال قوانين السببية. ولكنا لا نستطيع أن ندعي على وجه اليقين أن هذا الترتيب سيكون ممكنًا على الدوام. فلتتخيَّل أنك درست الجمل الخمسمائة الأولى في اليوميات، واكتشف أن مجموع الجزر فيها ٣٠ جملة، ونجحت في ترتيب الجمل الباقية، البالغ عددها ٤٧٠ جملة. ثم تقول الآن: «إنني يقظ»، وبعد ذلك تستمر اليوميات، وتجد بعد ذلك ١٠٠٠ جملة أخرى لا يمكن الجمع بينها وبين اﻟ ٤٧٠ جملة. وإنما يُمكن ترتيبها فيما بينها ترتيبًا معقولًا. وسوف تستنتج من ذلك أن اﻟ ٤٧٠ جملة كانوا جزيرة. أي إنك كنتَ تحلم، ولم تُصبح يقظًا بحقٍّ إلا الآن. فهل أنت الآن واثق من أن الأمر لن يستمر على هذا النحو؟ ألا يجوز أن يَظهر ألفا جملة أخرى ترغمك على أن تنظر إلى حالتك الراهنة على أنها حلم؟ ألا يجوز أن تتكرَّر نفس هذه التجربة المدمِّرة على الدوام؟
من حسن الحظ أن أمثال هذه التجارب لا تحدث، ولكننا لا نستطيع أن نستبعدها بحجة منطقية. وعلى ذلك فليس في استطاعتنا أن نقول إن أمثال هذه التجارب مستحيلة، ولو حدثت بالفعل، وانقطع خيط التجارب المرتبة، ثم عاد إلى الالتئام، ولكنه يعود على الدوام إلى الانقطاع؛ فعندئذٍ لن يمكننا الحديث عن عالم فيزيائي موضوعي. وهكذا فإن القضية القائلة إن ثمة عالَمًا فيزيائيًّا موضوعيًّا لا يمكن الأخذ بها إلا على أساس أنها قوية الاحتمال، لا على أساس أنها ذات يقين مُطلَق؛ فلدينا دلائل استقرائية قوية على وجود عالم فيزيائي — غير أن هذا هو كل ما يُمكننا القول به. والكلام عن عالم فيزيائي موضوعي هو كلام ذو معنى لأن القضايا المتعلِّقة بمثل هذا العالم يمكن استخلاصها استقرائيًّا من الملاحظات.
ولنقل بتعبير آخر إن من الممكن إيجاد تمييز واضح بين القضية القائلة «أن هناك عالَمًا فيزيائيًّا» وبين القضية القائلة «ليس هناك عالم فيزيائي»، لأننا نَستطيع أن نستشهد بتجارب تجعل إحدى القضيتين محتمَلة والأخرى بعيدة الاحتمال. والقضيتان تختلفان في مضمونهما التنبئي؛ فالنظرة الوظيفية إلى المعرفة تنسب معنى قابلًا للتحقيق إلى الفرض القائل بوجود عالم فيزيائي.
ولست أعتقد أن الموقف ميئوس منه إلى هذا الحد؛ فالقائل بالذات الوحيدة يرتكب خطأ أساسيًّا؛ إذ يعتقد أنه يستطيع إثبات وجود شخصه هو. ولكن كشف «الأنا»، أي شخصية الملاحظ، مبني على استدلالات من نفس النوع الذي يُبنى عليه كشف العالم الخارجي. والجزر الموجودة في اليوميات تفسر بأنها حالات جسمية للملاحظ بنفس الطريقة التي تعد بها الجمل الباقية دليلًا على وجود عالم فيزيائي، بل إن الجزر في الواقع تدمج على هذا النحو في تفسير فيزيائي شامل، ما دام الملاحظ جزءًا من العالم الفيزيائي. ولقد قلنا من قبل إن افتراض الملاحظ وحالاته الجسمية يؤدِّي إلى فقدان الجمل التي تُمثِّل جزرًا لطابع الجزر فيها، وتغدو جملًا تصف العالم الفيزيائي، من حيث إنها تعد جملًا تصف الملاحظ، وهكذا فإننا إذا استطعنا أن نُثبت وجود الأنا، نستطيع أيضًا أن نُثبت وجود العالم الفيزيائي، وضمنه وجود الأشخاص الآخرين. فالقائل بمذهب الذات الوحيدة يُغفل هذا التوازي بين الاستدلالات، وهو يصف الأنا وتجاربه بأنه معرفة مطلقة، ثم يعجز عن استخلاص العالم الخارجي، غير أن عجزه هذا نابع من منطقه الهزيل.
ولقد كان التحليل الصحيح للموقف هو ذلك الذي قدمناه من قبل؛ فليس لدينا دليل قاطع بصورة مطلقة على أن هناك عالمًا فيزيائيًّا وليس لدينا دليل قاطع بصورة مطلقة أيضًا على أننا موجودون. ولكنَّ لدينا دليلًا استقرائيًّا قويًّا على الأمرَين معًا، وباستخدام نتائج تحليل الاستدلال الاستقرائي، نستطيع أن نقول: إن لدينا أسبابًا قوية لترجيح وجود العالم الخارجي فضلًا عن أشخاصنا؛ ذلك لأن كل معرفة لنا إنما هي ترجيحات، وعلى ذلك فإن أعم معرفة لدينا، أعني معرفتنا بوجود العالم الفيزيائي وبوجودنا نحن البشر في داخله، هي ترجيح.
والواقع أن إدماج الملاحظ البشري في العالم الفيزيائي هو سمة من أهم السمات المميزة للفلسفة التجريبية؛ فالنظرة المُتعالية إلى المعرفة تحدث انشقاقًا بين الواقع الفيزيائي وبين الذهن البشري، وبذلك تصل إلى مشكلات لا تُحل، مثل مشكلة الطريقة التي يمكننا أن نستدلُّ بها على الواقع من معطيات ذهنية. وعلى الرغم من أن الوجود الذهني يُسمَّى عادة وجودًا فكريًّا أو مثاليًّا، ويُميز من وجود الحلم، فمن الواجب التماس الأصل النفسي للمثالية في تجارب الحلم والصور التي يُمكننا بعثها بإرادتنا في حالة اليقظة. والتحليل غير السليم لهذه الصور هو الذي يؤدِّي إلى النظر إلى الذهن على أنه كيان مستقل، ونوع من الجوهر المشابه للجوهر الفيزيائي. وأن يُكنَّ له حقيقة خاصة به. ولا يُمكن أن يأتي الرد على الفلسفة التأملية ذات الطابع المثالي إلا بواسطة فلسفة تجريبية تستعين بما في متناول يدها من أدوات المنطق الحديث، فتنظر إلى المعرفة على أنها ترجيحات استقرائية مبنية على جعل تقريرية مباشرة. وهكذا فإن الفهم الوظيفي للمعرفة، وإرجاع المعنى إلى قابلية التحقيق، هو الذي يؤدِّي إلى القضاء على النزاع التقليدي بين المثالية والواقعية. أو المادية.
هذه الحقيقة تظهر بوضوح تام عندما نفترض أن كل أدوات الملاحظة مركبة كأدوات تسجيل، تعرض نتائج القياسات في صورة أرقام مطبوعة على شريط من الورق. فعندما ينظر الملاحظ إلى شرائط الورق، فمن المؤكَّد أنه لا يغيرها؛ إذ إن ملاحظته عملية تَنتمي إلى العالم الأكبر. وهكذا يستطيع أن يستدل بالطريقة المعتادة على أن هناك عمليات قياس معيَّنة تحدث. ولا يبدأ اللاتحدد في التدخل في قياساته إلا عندما ينتقل إلى الاستدلال من عمل الآلات على أن هناك حوادث دقيقة معيَّنة تحدث، يستطيع تفسيرها إما بأنها موجات وإما بأنها جزيئات. هذه الفكرة الشديدة البساطة تؤدِّي إلى استبعاد جميع التفسيرات المثالية لفيزياء الكوانتم. وهي تُبين أن التجربة لا ينبغي لها أن تخشى شيئًا من كشوف الفيزيائي، وأن النكسات الحديثة التي تعود بنا إلى المثالية لا تجد تأييدًا من الفيزياء الحديثة — وذلك إذا ما تحرر تحليل الفيزياء من اللغة الغامضة وأجرى يدقه المنطق الحديث.
وبعد مناقشة الاستدلالات التي أدَّت إلى بناء الأنا على أساس التقريرات المباشرة، سيكون من المفيد أن نُناقش بشيء من التفصيل كيف يعالج تصور العقل في فهم وظيفي للمعرفة، يُطبق مصادرة قابلية التحقيق على القضايا المتعلِّقة بالعقل.
فلنفرض أن العلماء نجحوا في صنع إنسان آلي كامل، يكون في استطاعته أن يتكلَّم، ويُجيب على الأسئلة، ويفعل ما يؤمر به، ويقدم جميع أنواع المعلومات المطلوبة، فمن المُمكن مثلًا إرساله إلى محل البقالة وجعله يسأل البقَّال عن سعر البيض اليوم، ثم يعود بالجواب. فهي إذن ستكون آلة كاملة، ولكن ليس لها عقل. فكيف تعرف أنه ليس لها عقل؟
ستقول إن السبب هو أنها لا تستجيب كالبشر في النواحي الأخرى. فهي لا تقول لك أن الجو بديع اليوم، ولا تشكو أبدًا من ألم في الضرس. ولكن ماذا تقول لو كانت تفعل ذلك؟ لنَفرض أن سلوكها يُماثل سلوك البشر في كل النواحي — فهل تستطيع أن تظل تؤكِّد أنها آلة بلا عقل؟
إننا نستطيع أن نوجه هذا السؤال بالطريقة الآتية أيضًا؛ فلنَفرض أنك انتزعت العقل مؤقتًا من إنسان، بحيث يكون له في بعض الأوقات عقل ويتصرَّف كالمعتاد، ولا يكون له في فترات أخرى عقل، ولكنه يتصرَّف كما كان تمامًا. ولست أعني بذلك أنه سيكون مثل دكتور جيكل ومستر هايد، لأن مستر هايد يسلك بطريقة تختلف تمامًا عن دكتور جيكل، وإنما أعني أنه سيكون مماثلًا لدكتور جيكل فقَدَ عقله مؤقتًا، ولكنه ظل دائمًا هو دكتور جيكل نفسه، فكيف تعرف أنه ليس لدَيه عقل في تلك الفترات؟
من الواضح، تبعًا لما قُلناه عن معنى الجمل، أن السؤال لا معنى له. فهو من قبيل الأسئلة القائلة أن الأشياء جميعًا، وضمنها أجسامنا، أصبح حجمها عشرة أضعاف ما كان عليه عندما نِمنا مساءَ أمس، فليس ثمة فارق يُمكن تحقيقه بين حالتي الشخص، وإذا افترضنا أن لديه عقلًا في إحدى الحالتَين، فينبغي أن نُسلم بأن لديه عقلًا في الحالة الأخرى؛ فالعقل لا يَنفصِل عن حالة معيَّنة للتنظيم الجسمي، ويترتب على ذلك أن العقل والتنظيم النفسي الذي هو من نوع معين هما شيء واحد.
ونستطيع أيضًا أن نقول إنَّ لفظ «العقل» هو اختصار يعبر عن حالة جسمية تدلُّ على أنواع معينة من الاستجابات. أما الاعتقاد بأن العقل أكثر من ذلك، فيُذكرنا بالرجل الذي كانت لديه سيارة قوتها ١٣٠ حصانًا وأحسُّ بخيبة أمل شديدة عندما فك محرك السيارة ولم يجد المائة والثلاثين حصانًا؛ فالاعتقاد بالوجود المستقل للعقل هو مغالَطة تنشأ عن سوء فهم الألفاظ المجرَّدة. ذلك لأن اللفظ المجرد يمكن ترجمته إلى عدد كبير من الألفاظ العينية، والموضوع الذي يسدل عليه ليس إلا مجموع كل الموضوعات العينية المتعلِّقة به. وإذن فمسألة وجود العقل هي مسألة استخدام صحيح للألفاظ، وليست مسألة وقائع.
على أن القول بالوجود المستقل للعقل هو عصب المذهب المُتعالي، فهذا المذهب ينظر إلى الظواهر العقلية (أو الذهنية) على أنها مظاهر لوجود غير فيزيائي، ولا توجد إلا خطوة واحدة بين هذا التفسير وبين الاعتقاد بحقيقة أعلى، تكون الأشياء المنظورة مجرَّد ظلال لها. غير أن مشكلة العقل والجسم لا تُعد مشكلة فلسفية إلا لأن صياغتها المعتادة تعاني من صعوبات لغوية، أدَّت بالفيلسوف إلى الوقوع في ورطة منطقية شديدة. فاللغة التي نصف بها الظواهر الذهنية والانفعالية لم تصنع لهذا الغرض، وهي لا تُحقق هذا الغرض إلا باستخدام تراكيب منطقية معقَّدة إلى حدٍّ ما. فلغة الحياة اليومية — وهي اللغة التي نستخدمها في الأوصاف النفسية — قد ارتبطت في نموها بالموضوعات العينية المحيطة بنا، وهي لا تَسمح إلا بوصف غير مباشر للظواهر النفسية أنها لغة منبه، بالمعنى الذي أوضحناه من قبل. فنحن نقول مثلًا إن لدينا صورة لشجرة في ذهنِنا، غير أن كلمتَي «صورة» و«شجرة»، في معنيَيهما الأصليين، تُشيران إلى موضوعات عينية، ولا يمكن أن تُعبِّرا عما نَعنيه إلا بطريق غير مباشر. ولو شئنا أن نأتي بصيغةٍ أدق لهذه الفكرة نفسها لوجب أن نقول أن جِسمنا في حالة من ذلك النوع الذي ينجم لو أن الأشعة الضوئية المنبعثة عن شجرة وصلت إلى أعيننا، وإن لم تكن توجد في هذه الحالة الخاصة شجرة ولا أشعة ضوئية. فليس في لغتنا ألفاظ تُشير مباشرة إلى الحالات الجسمية، وعلينا أن نستخدم وصفًا غير مباشر من خلال الموضوعات الخارجية.
إن من الواجب ترجمة التقارير النفسية بدقة قبل أن يصبح من الممكن الإجابة على الأسئلة الفلسفية المتعلقة بالعقل، ولو أغفلت هذه القاعدة، لأدَّى ذلك إلى إثارة مشكلات وهمية. مثال ذلك أن يقال إننا لا نرى حالاتنا الجسمية، ولكنا نرى شجرة في حلم، على الرغم من عدم وجود شجرة. ولكن لا يُوجد منطقي يَزعم أننا نرى حالة جسمية. فكلمة «يرى» قد نُحتَت على نحو من شأنه أن تشير إلى موضوعات فيزيائية خارجية، وكل ما يقول به المنطقي هو أن الجملة الكاملة «أنا أرى شجرة» معادلة للجملة «جسمي في حالة فسيولوجية»، ولدى المنطق الحديث من الوسائل ما يُمكنه من معالجة هذا النوع من المعادلات.
وهناك مشكلة وهمية أخرى يؤدي إليها السؤال: إذا وقعت أشعة ضوئية على العين البشرية ونقلت التأثيرات العصبية من الشبكة إلى المخ، فكيف وأين تتحوَّل التأثيرات إلى إحساس باللون الأزرق؟ هذا السؤال مبني على فرض سابق باطل. فالتأثيرات لا تتحوَّل إلى إحساس في أي مكان، بل إن الشخص الذي يكون في هذه الحالة يرى اللون الأزرق، غير أن اللون الأزق ليس في المخ أو في أي مكان آخر من الجسم. فرؤية اللون الأزرق ليسَت إلا طريقة غير مباشرة في وصف حالة جسمية. وهذه الحالة هي الناتج السببي للأشعة الضوئية وما يَليها من تأثيرات عصبية، ولكن ليس هناك ناتج سببي يُمثِّل لونًا أزرق.
ولكي نَضرب مثلًا يوضح هذه العلاقات المنطقية، نفرض أن شخصًا أخذ مبلغ ٢٠٠٠ جنيه أوراقًا مالية إلى بنك وفتح حسابًا. فهو الآن يَملك ألفَي جنيه على شكل حساب في البنك. فأين هذه الألفا جنيه؟ إنها لا تتألَّف من أوراق مالية؛ إذ إن الأوراق الأصلية تداولتْها خلال هذا الوقت أيدٍ كثيرة، وربما لم يَعُد البنك يملك معظمها. ولكن هناك ناتجًا سببيًّا لها هو الأرقام المسجَّلة في دفاتر البنك إلى جوار اسم ذلك الرجل، غير أن الأرقام المسجلة على الورق ليست جنيهات، وهي لا تَنتمي إلى الرجل وإنما إلى البنك، الذي يملك الدفاتر. وإذن فأين الألفا جنيه التي يملكها الرجل؟ إنها «أشياء غير ملموسة تنتهي إلى مجال آخر من مجالات الواقع.» ولكنها تبدو ناتجًا عن أوراق الجنيهات الأصلية، التي كانت أشياءَ ملموسة. فكيف يمكن أن يكون شيء غير ملموس ناتجًا سببيًّا لشيء ملموس؟ إن كل شخص يستطيع أن يدرك في هذه الحالة أن السؤال لا معنى له. وأنه ناتج عن خلط في طريقة الكلام. فهناك حالة قوامها أرقام مكتوبة في دفاتر البنك، نتجت سببيًّا عن انتقال أوراق الجنيهات من يدَي الرجل إلى يدي صراف البنك، هذه الحالة تُميِّزها على نحو غير مباشر عبارة «الرجل يملك ٢٠٠٠ جنيه». غير أن هذه الجنيهات الألفين لا تَدين بوجودها إلا لطريقة معينة في الكلام. أما في حالة الإدراكات الحسية، فما أكثر الفلاسفة الذين تساءلوا أسئلة من هذا النوع، مدافعين عن الرأي القائل إن هناك مشكلات لا تقبل الحل، وتعلو على فهم العقل البشري. مثلُ هذه الآفات الفلسفية لا يمكن شفاؤها إلا بدرسٍ في المنطق.
وإذن، فلا يتعيَّن علينا أن نتخلى عن الفهم الوظيفي للمعرفة عندما يكون الأمر متعلقًا بمعرفة الظواهر النفسية. فكون الجهاز الجسمي يستطيع أن يتكلَّم عن ذاته ليس أمرًا أغرب من كون آلة التصوير ذاتها تستطيع أن تصور عن طريق مرآة. والواقع أن حالة التخلف التي كان يتَّصف بها المنطق التقليدي هي السبب الرئيسي للخلط العجيب الذي عولجت به هذه المشكلات في الفلسفة التقليدية. وتلك إحدى النقاط التي استعانت فيها الفلسفة العلمية بالمنطق الحديث في سعيها إلى الوضوح والتحليل العلمي. وعن طريق هذه المناهج أمكن وضع نظرية في المعرفة حلَّت محلَّ المبحث الذي يحمل نفس الاسم، والذي ادعت مذاهب الفلسفة التأملية أنها شيَّدته.
على أنني لم أعرض إلا الخطوط العامة لنظرية المعرفة هذه، أما إذا شاء القارئ، أن يدرس هذا الموضوع بمزيد من العمق، فلا بد لي أن أحيله على المؤلفات الموجودة؛ فقد اتضح للمنطقي أن بناء نظرية مفصَّلة للمعرفة ليس بالأمر الهين، وإنما يحتاج إلى قدر كبير من العمل الفني المتخصِّص. والواقع أن نظامنا الحالي في المعرفة إنما هو مزيج غريب من اللغات، أي من اللغة الفيزيائية، واللغة الذاتية، واللغة المباشرة، واللغة البعدية. ومن الواجب دراسة الارتباط والعلاقة المتبادَلة بين هذه اللغات، بمساعدة الأسلوب الفني للمنطق الرمزي، الذي يشتمل على تعبيرات عن علاقات الاحتمال. وإن دارس الفلسفة الذي يحضر برنامجًا دراسيًّا حديثًا في نظرية المعرفة، ليشعر عادة بالدهشة إذ يجد أمامه صيغًا منطقية تحلُّ محل اللغة المجازية التي تستخدمها المذاهب التأملية. غير أن وجود هذه الصيغ يدلُّ على أن الفلسفة قد انتقلت أخيرًا من مرحلة التأمل إلى مرحلة العلم.