طبيعة علم الأخلاق
كان العرض الذي قدمناه في الباب الثاني من هذا الكتاب متعلقًا حتى الآن بمسائل المعرفة، وقد بينَّا بوجه خاص كيف استُبعدت المبادئ التركيبية القبلية ميدان المعرفة. أما الفصل الحالي فسوف ينصبُّ الاهتمام فيه على القيام بتحليل مماثل في ميدان الأخلاق؛ ذلك لأن فكرة المبادئ التركيبية القبلية لم تطبق على المعرفة فحسب، بل طُبقت أيضًا على الأخلاق، بل إن القول بوجود موازاة بين مجالي المعرفة والأخلاق كان أحد المصادر التي انبثقت منها فكرة التركيبية القبلية. وقد قدمنا في الفصل الرابع دراسةً تاريخية للاتجاه الفكري الباطل الناشئ عن فكرة الموازاة هذه. أما في الفصل الحالي فإن المشكلة التي سنهتمُّ بها هي مشكلة الاستعاضة عن الفهم المعرفي والقبلي للأخلاق بفهم يتمشى مع نتائج الفلسفة العلمية.
وهناك نتيجة نستطيع أن نستخلصها فورًا من تحليل العلم الحديث — تلك هي أن الأخلاق لو كانت ضربًا من المعرفة، لما كانت على نحو ما أرادها الفلاسفة الأخلاقيون أن تكون، أي لما كانت تقدم توجيهات أخلاقية. فالمعرفة تنقسم إلى قضايا تركيبية وقضايا تحليلية، والقضايا التركيبية تنبئنا عن الأمور الواقعة، أما القضايا التحليلية فهي فارغة. فأي نوع من المعرفة تكون الأخلاق؟ إنها لو كانت تركيبية، لكانت تنبئنا بمعلومات عن الأمور الواقعة. وإلى هذا النوع تنتمي بالفعل الأخلاق الوصفية التي تُنبئنا عن العادات الأخلاقية لمُختلف الشعوب والطبقات الاجتماعية، ومثل هذه الأخلاق تعدُّ جزءًا من علم الاجتماع، ولكن طبيعتها ليست معيارية. أما لو كانت الأخلاق معرفة تحليلية، لكانت فارغة، ولما استطاعت أيضًا أن تدلَّنا على ما ينبغي عمله، مثال ذلك أننا لو عرفنا الرجل الفاضل بأنه رجل يختار دائمًا قاعدة سلوكه على نحو من شأنه أن يكون من الممكن اتخاذها مبدأً لتشريع عام، لعرفنا ما نعنيه بلفظ «الرجل الفاضل»، ولكننا لا نستطيع أن نثبت ضرورة سعينا إلى أن نكون أشخاصًا فضلاء؛ فعندما تعرف عبارة رجل فاضل على هذا النحو، تكون مجرد اختصار للصيغة الكانتية المعقدة الخاصة بقاعدة السلوك. ومن الممكن الاستعاضة عنها بأي اسم آخر، أي بلفظ «الكانتي» مثلًا، ولكن لمَ كان ينبغي أن نُحاول أن نُصبح كانتيين؟ إن القضايا الأخلاقية إذا كانت تحليلية، فإنها لن تكون توجيهات أخلاقية.
والواقع أن التحليل الحديث للمعرفة يجعل الأخلاق المعرفية مُستحيلة؛ فالمعرفة لا تَشتمِل على أية أجزاء معيارية، وبالتالي لا تستطيع تفسير الأخلاق. ومن هنا فإن الموازاة بين الأخلاق والمعرفة تضر بالأخلاق؛ إذ إنه لو كان من المُمكن المضي فيها، أعني لو كانت الفضيلة معرفة، لأدَّى ذلك إلى سلب القواعد الأخلاقية طابعها الآمر، وإذن فالبرنامج الذي يرجع إلى ألفَي عام، والذي يرمي إلى إقامة الأخلاق على أساس معرفي، إنما هو نتيجة لسوء فهم للمعرفة، وللرأي الباطل القائل إن المعرفة تنطوي على جانب معياري. ولقد كان سوء تفسير الرياضة هو السبب الأول في هذا الخطأ، فقد رأينا أن الرياضة، منذ عهد أفلاطون حتى عهد «كانت»، كانت تعدُّ نسقًا من قوانين العقل يتحكم في العالم الفيزيائي، ولم يكن الأمر يحتاج إلا إلى خطوة بسيطة للانتقال من هذا الرأي القائل بمعرفة تركيبية قبلية، إلى القول بأن في استطاعة العقل أن يملي علينا توجيهات أخلاقية ذات صحة موضوعية، كتلك التي نُسبت إلى قوانين الرياضيات. فإذا اتَّضح أن الرياضة ليسَت من هذا النوع، وأنها لا تقدم قوانين للعالم الفيزيائي، وإنما تَقتصر على صياغة علاقات فارغة تسري على كل عالم مُمكن، فعندئذٍ لا يعود هناك أي مجال لأخلاق معرفية. فالمعرفة لا تستطيع أن تمدنا بصورة الأخلاق لأنها لا تستطيع أن تقدم توجيهات.
ولو كان «اسبينوزا» قد تكهن بهذه النتيجة التي توصلت إليها فلسفة الرياضة الحديثة، لما حاول أن يشيد أخلاقه على نمط الهندسة. ولقد كان حريًّا بأن يَجزع للفكرة القائلة بإمكان تشييد أخلاق غير اسبينوزية تتَّصف بنفس الأحكام الذي يتصف به مذهبه، وأنه إذا كانت بديهياته لها طبيعة البديهيات الهندسية، فإنها مما لا يمكن البرهنة عليه. ولم يكن مما يُفيده أن يحولها إلى نتائج للتجربة، كبديهيات الهندسة؛ إذ لم يكن ما يريده هو الحقيقة التجريبية، وإنما أراد أن يضع بديهيات أخلاقية لا يتطرَّق إليها الشك، أي أنه أراد بديهيات ضرورية.
ولكن إذا أردنا أن يكون معنى لفظ «الضروري» مشابهًا على أي نحو لمعنى الضرورة المنطقية، فلا يُمكن أن تكون هناك عندئذٍ ضرورة أخلاقية، فعندما نشعر أن بصيرتنا قد ازدادت حدةً وعمقًا خلال مناقشة أخلاقية، فمن الواجب ألا تعدَّ هذه النتيجة دليلًا على وجود بصيرة أخلاقية؛ فالأمر الذي نُدركه على نحو أفضل بعد تحليل للمشكلات الأخلاقية، هو العلاقة بين الغايات والوسائل؛ إذ نكتشف أننا إذا أردنا تحقيق أهداف أساسية معينة، فلا بد أن نكون على استعداد للسعي وراء أهداف أخرى معينة تخضع للأولى بنفس المعنى الذي تخضع به الوسيلة لغاية. ومثل هذا الإيضاح له طبيعة منطقية، فهو يبين أنه، نظرًا إلى قوانين فيزيائية ونفسية معينة، فإن الغاية تقتضي الوسيلة منطقيًّا. وليست هذه الحجة مجرد حجة موازية للبرهان المنطقي — بل إنها هي ذاتها. برهان منطقي. فالفلاسفة الذين يتحدثون عن بصيرة أخلاقية يخلطون بين الوضوح المنطقي لعلاقة اللزوم بين الغايات والوسائل، وبين الوضوح الذاتي المزعوم للبديهيات.
ومع ذلك، فعندما يتعيَّن اتخاذ قرارات، لا تكون علاقة اللزوم بين الغايات والوسائل كافية لتحديد اختيارنا، وإنما ينبغي أولًا أن نقرر اتخاذ غاية معينة. مثال ذلك أننا قد نتمكن من إثبات علاقة اللزوم الآتية: لو كانت السرقة مباحة، لما كان هناك مجتمع بشري مزدهر. فلكي نستخلص النتيجة القائلة إن السرقة ينبغي أن تُمنع، فيجب أولًا أن نقرر أننا نريد مجتمعًا بشريًّا مزدهرًا. ولهذا السبب كان علم الأخلاق في حاجة إلى مقدمات أو بديهيات ذات طبيعة أخلاقية. وتُحدد الأهداف الأولية، على حين أن الوسائل تمثل الأهداف الثانوية. وعندما نُسمِّي هذه بديهيات، فإننا ننظر إلى علم الأخلاق على أنه نسق منظَّم يُمكن استخلاصه من هذه البديهيات، على حين أن البديهيات ليست مُستخلَصة في النسق. أما عندما نقصر البحث على حجة محدَّدة، فإننا نستخدم لفظًا أكثر تواضعًا، هو «المقدمة». ولا بد أن تكون هناك قاعدة أخلاقية واحدة لا تَستخلِص من هذه الحجة. وقد تكون هذه المقدمة نتيجة لحجة أخرى، ولكننا حين نُواصل السير في هذا الطريق، نظلُّ في كل خطوة مرتبطِين بمجموعة محدَّدة من المقدمات الأخلاقية. فإذا نجحنا في ترتيب مجموع القواعد الأخلاقية في نسق سترابط. لوصلْنا على هذا النحو إلى بديهيات علم الأخلاق الذي نضعه. ونستطيع أن نلخِّص هذا التحليل في الفكرة الآتية؛ إن الضرورة المنطقية لا تتحكَّم إلا في علاقات اللزوم بين البديهيات الأخلاقية وبين القواعد الأخلاقية الثانوية، ولكنها لا تستطيع أن تُثبت صحة البديهيات الأخلاقية.
ولكن إذا لم تكن بديهيات الأخلاق حقائق ضرورية أو واضحة بذاتها فماذا تكون إذن؟
إنَّ البديهيات الأخلاقية ليست حقائق ضرورية لأنها ليست حقائق من أي نوع. فالحقيقة صفة لقضايا أو أحكام، غير أن التعبيرات اللغوية الأخلاقية ليست قضايا أو أحكام وإنما هي توجيهات، والتوجيه لا يُمكن تصنيفه على أساس أنه صواب أو خطأ؛ فمثل هذه الأوصاف الأخيرة لا تَنطبِق على التوجيه لأن الجمل التوجيهية لها طبيعة منطقية تختلف عن طبيعة الجمل الإخبارية أو القضايا.
فالأوامر، التي نستخدمها في توجيه أشخاص غيرنا، تمثل نوعًا هامًّا من التوجيهات. فلنتأمَّل مثلًا الأمر «أغلق الباب». هل هذا الأمر صواب أم خطأ؟ إن كل ما علينا هو أن نَنطِق بالسؤال لكي نرى مدى خلوه من المعنى، فالقول: «أغلِق الباب» لا يُنبئنا شيئًا عن الأمر الواقع، كما أنه لا يُمثل تحصيل حاصل، أي قضية منطقية. ولن نستطيع أن نقول ماذا يكون الحال لو كان القول: «أغلِقِ الباب» صحيحًا. فالأمر قول لُغوي لا يَنطبق عليه التقسيم إلى صواب أو خطأ.
فما هو الأمر إذن؟ إن الأمر قول أو تصريح لُغوي نستخدمه بقصد التأثير في شخص آخر، وجعل الشخص الآخر يقوم بشيء نُريده أن يقوم به أو يمتنع عن أداء شيء لا نُريده أن يؤدِّيَه. من الأمور الواقعة أن من المُمكن بلوغ هذا الهدف باستخدام الكلمات، على الرغم من أن هذه ليست هي الطريقة الوحيدة لبلوغه. فبدلًا من أن نقول «أغلقِ الباب» نستطيع أن نُمسك بيدي الشخص ونُوجِّهَها على نحوٍ يؤدِّي إلى إغلاق الباب. ومع ذلك فإن هذا لن يكون من سوء الأدب فحسب، بل إنه لن يكون مريحًا لنا؛ إذ إن من الأسهل في هذه. الحالة أن نقوم نحن أنفسنا بهذا العمل. لذلك نُفضِّل أن نَنتفع من تلك الصفة التي يتميَّز بها أقراننا من الناس، وهي أنهم مهيئون على نحو من شأنه أن يَستجيبوا للكلمات بوصفها أدوات لإرادتنا. فلهجة الطلب التي يتَّصف بها الأمر تظهر بوضوح أن الأمر ليس عبارة تقريرية، حتى بالمعنى النحوي. ومع ذلك فنحن لا نعبر عن جميع الأوامر بلهجة الطلب. ففي استطاعتي أن أنطق بعبارة في الصيغة التقريرية، مثل «سأكون مسرورًا لو أغلق الباب» بحيث يكون المعنى المقصود منها طلبًا، بل أن هذه قد تكون وسيلة أفضل لبلوغ هدفي من الجملة التي صيغت في لهجة الطلب الآمر؛ إذ إن الأدب ليس طريقة الدبلوماسيِّين فقط، بل هو أيضًا أمر مُستحَب في تلك المواقف الدبلوماسية البسيطة التي نُواجهها في حياتنا اليومية. فتصريحنا هذا هو أمر متنكِّر في ثوب عبارة تقريرية.
ولكن أليس هذا التصريح: «سأكون مسرورًا لو أغلق الباب» عبارة متعلِّقة برغباتي؟ إنه لكذلك بالفعل، وهو لا يستخدم على سبيل الأمر إلا في هذه الحالة وحدها. ومع ذلك فمن الصحيح أننا حيثما صرحنا بأمر كانت هناك عبارة أخرى مُتضايفة، تُنبئنا عن إرادة شخصٍ ما. وهكذا فإن الأمر «أغلق الباب» تُناظرها العبارة التقريرية ««س» يرغب في أن يُغلق الباب.» هذه العبارة قد تكون كاذبة أو صادقة، ومن الممكن تحقيقها، شأنها شأن غيرها من العبارات النفسية. وفي بعض الأحيان تستخدم العبارة المُتضايفة محل الأمر، على أن من الأنسب، بالنسبة إلى أغراض التحليل المنطقي، أن نُعبر عن الأوامر دائمًا بصيغة الأمر، وبالتالي أن نُميز بينها وبين العبارات التقريرية تمييزًا نحويًّا.
إن التوجيهات المتعلِّقة بأفعالنا الخاصة، شأنها شأن الأوامر، إنما هي تعبيرات عن الرغبة أو الإرادة، وهي بهذا الوصف ليست صادقة ولا كاذبة؛ وبالتالي فهي تَنتمي إلى الأقوال أو التصريحات المعبِّرة عن الإرادة. ومن الممكن أن تتعلَّق الأفعال الإرادية بموضوعات متباينة؛ فنحن نرغب في الطعام والمسكن والأصدقاء واللذة وما إلى ذلك. ووجود الأفعال الإرادية فينا هو أمر واقع، فهي تتميَّز عن الإدراكات الحسية أو القوانين المنطقية بأنها تظهر كنواتج لنا نحن، في موقف يترك لنا اختيارًا. ففي استطاعتي أن أذهب إلى المسرح أو لا أذهب، وإرادتي هي التي تجعلني أذهب، وفي استطاعتي أن أساعد شخصًا آخر أو لا أساعده، وإرادتي هي التي تجعلني أساعده، أما مسألة أن لدينا حرية اختيار بحق أم لا، فتلك مسألة أخرى؛ ذلك لأنه يكفي، من أجل تعريف الفعل الإرادي، أن نؤمن على الأقل بأن لدينا القدرة على الاختيار، ولذلك فإن الكلام عن مصدر الأفعال الإرادية لا علاقة له بهذا التعريف، ولسْنا في حاجة إلى أن نسأل في الوقت الحالي عما إذا كانت البيئة التي ننشأ فيها هي التي تُهيئنا لرغباتنا الإرادية، أم أن هذه الرغبات تَنبثِق عن دوافع أساسية معيَّنة، كالدافع الجنسي أو الدافع إلى حفظ الذات. فلنكتفِ إذن بالاعتراف بأن اتخاذنا قرارات إرادية تُوجه سلوكنا هو حقيقة نفسية واقعة.
ولا يتَّخذ القرار الإرادي صورة الأمر إلا عندما يكون متعلقًا بأفعال يتعيَّن على الآخرين القيام بها، وفي بعض الأحيان نصرح بالأمر مع التهديد بأن نستخدم في تنفيذه القوة، مثل قوة السلطات الحكومية أو سلطة الضابط على الجند، وفي هذه الحالة يُسمى ذلك أمرًا ملزمًا، وهناك أوامر أخرى تُعبِّر عن رغبات، وتتخذ أيضًا صورة الأمر، كما يحدث عندما نقول: «أعطني سيجارة من فضلك.»
فإذا ما وجه إلينا الأمر، أو أعرب عن الرغبة لنا، أي بعبارة أخرى إذا كنا في الجانب المُتلقِّي للأمر، فقد تكون استجابتنا له إيجابية أو سلبية. ويكون قوام الاستجابة الإيجابية فعلًا إراديًّا من جانبنا، متجهًا إلى تنفيذ الأمر، بل قد يتضمَّن استعدادًا لإعطاء أوامر مُناظِرة لأشخاص آخرين، أما الاستجابة السلبية فقوامها فعل إرادي متَّجه ضد تنفيذ الأمر، ونحن نُعبِّر عن هذا التقابل بلفظَي «الصواب» و«الخطأ» (بالمعنى الأخلاقي). فإذا قيل لي «ينبغي أن تذهب لترى زيدًا» فقد أجيب «هذا صواب» ثم أبدأ استعداداتي لزيارة زيد. وهكذا فإن الاستجابة الإيجابية لفعل إرادي يعبر عنه أمر، يكون قوامها فعلًا إراديًّا ثانيًا من نوع مشابه، يتولد لدى متلقي هذا الأمر، أما إذا كانت الاستجابة سلبية، فإن الفعل الإرادي الثاني يكون مضادًّا للأول. على أن الاستخدام اللغوي لا يُميز دائمًا بمثل هذا الوضوح بين الطرفين؛ نعم ولا، أو «صواب» و«خطأ»، وإنما يستخدم كلٌّ منهما محل الآخر. ومع ذلك قد يبدو أن لنا الحق في النظر إلى التمييز المشار إليه من قبل على أنه تفسير صحيح لهذه الألفاظ.
وعلى حين أن لدينا الصيغة النحوية للأمر بالنسبة إلى التوجيهات التي تتَّجه إلى الأشخاص الآخرين، فلا تُوجد صيغة لغوية مماثلة للتوجيه الذي يتَّجه إلينا نحن. ولهذا السبب فإنا نعبر عن هذه التوجيهات في صورة جملة إخبارية تتحدَّث عن البناء الذي يتميَّز به التوجيه، كما في الجملة «سأذهب إلى المسرح». وفي بعض الأحيان نخاطب أنفسنا كما لو كنا نتحدَّث مع شخص مختلف، فنستخدم صيغة الأمر، كأن نقول لأنفسنا «يا صاحبي، يجب أن تكتب الخطاب.» وبهذه الطريقة التي تبدو ازدواجية نتمكَّن من أن ننقل إلى أنفسنا التنبيه الذي ينطبق على الجانب المتلقِّي للأمر، وأن نتحدث عن أفعال إرادية ثانوية نُثيرها في أنفسنا عن طريق أمر نُوجهه إلى أنفسنا.
هذه الاعتبارات كفيلة بأن نوضح الفارق بين الجمل المعرفية وبين التوجيهات. فإذا ما قيلت لي جملة معرفية، أو عبارة تقريرية، ووافقت عليها، فإني أجيب «بنعم»، وأعني بذلك أنى أعدُّ هذه العبارة صحيحة. مثال ذلك أنك إذا قلت لي إن المسافة من هنا إلى لندن طويلة، أجبت «نعم»، وأعني بذلك أن من الصحيح أن المسافة إلى لندن طويلة، أما إذا قلت أن البخل رذيلة، فإني أعبر عن موافقتي بقولي «هذا صحيح (صواب)». فما تقصده في هذه الحالة هو توجيه، وبالتالي تعبير عن إرادتك، أعني أنك تقول: وددتُ لو لم يكن هناك بخْل. كما أنَّ إجابتي هي أمر مناظر، وهي تعني أنني بدوري أود لو لم يكن هناك بخل؛ فالرد الإيجابي عني التوجيه ليس تأكيدًا من النوع المعرفي، وإنما هو يتألف من فعمل إرادي ثان، يُعبر عنه تصريح يوضح أن المستمع يشارك التحدث رغبته.
أن الإيضاحات التي قدمناها حتى الآن تتعلَّق بجميع أنواع التوجيهات فلندرس الآن التوجيهات التي تُسمى توجيهات أخلاقية، أو أوامر أخلاقية.
من الصفات المميزة للتوجيه الأخلاقي إننا نعده أمرًا، ونشعر بأننا في الجانب المتلقِّي لهذا الأمر. وهكذا ننظر إلى فعلنا الإرادي على أنه فعمل ثانوي، أي استجابة لأمر تصدره إلينا سلطة أعلى. أما ما هي هذه السلطة الأعلى، فهذا ما لا نعرفه دائمًا بوضوح؛ فالبعض يرى أنها الله، والبعض الآخر يرى أنها الضمير، أو جنِّي خاص، أو القانون الأخلاقي في داخلهم. ولكن من الواضح أن هذه تفسيرات بلُغة مجازية، ولو تحدَّثنا عن الأمر الأخلاقي من وجهة النظر النفسية لوجدناه يتميَّز بأنه فعل إرادي يقترن بشعور الالتزام، وهو شعور نعدُّه منطبقًا علينا وعلى الأشخاص الآخرين أيضًا. وهكذا نشعر بأن علينا، وكذلك على كل شخص، التزامًا بمساعدة المحتاجين حيثما يكون ذلك ممكنًا. أما الأهداف الإرادية المُغايرة للأهداف الأخلاقية، فلا يصحبها هذا الشعور بالالتزام. فإذا أراد شخص أن يُصبح مهندسًا، فإنه لا يشعر عادة بأنه ملزَم باتخاذ قرار يتَّجه إلى تحقيق هذا الهدف، ولا يرغب في أن يكون للجميع هدف مماثل لهدفه. فالشعور بالالتزام العام هو ما يُميز الأوامر الأخلاقية عن غيرها.
فكيف إذن نفسر هذه الحقيقة، وأعني بها أن الأفعال الإرادية الأخلاقية تبدو لنا أفعالًا إرادية ثانوية، أي تعبيرًا عن الالتزام؟ في اعتقادي أن التفسير هو أن هذه الأفعال الإرادية تفرضها علينا الجماعة الاجتماعية التي ننتمي إليها، أي أنها في الأصل تعبير عن إرادة جماعية، هذا الأصل هو الذي يعلل مكانتها التي تعلو على الأشخاص، وذلك الشعور بالخضوع، الذي نتَّخذ به القرار الأخلاقي. ومثل هذا الأصل مفهوم من الوجهة النفسية؛ فالقواعد التي تَنهى عن السرقة وعن القتل، وما إلى ذلك، هي قواعد كان تنفيذها يعد ضروريًّا لحفظ الجماعة. وبانقضاء الأجيال اعتاد الأفراد هذه القواعد، كما أن نظام تربيتنا يُخضعنا لعملية تعوُّد من نفس النوع، فلا عجب إذن أننا نشعر بأنفسنا في الجانب المتلقِّي للأوامر الأخلاقية، فنحن نقع في هذا الجانب بالفعل. وعلى ذلك، فإذا كنا نعتقد أن الشعور بالواجب مميز للغايات الأخلاقية، فإن هذا الاعتقاد يعكس حقيقة واقعة هي أن الغايات الأخلاقية تغرس فينا بالقوة، سواء أكان ذلك عن طريق سلطة الأب أو المعلم أو ضغط الجماعة التي نعيش فيها.
فإذا كان أصل الأخلاق اجتماعيًّا، فكيف أمكن أن توجد أخلاق مضادة للنزعة الاجتماعية؟
فأين إذن نجد تلك الأخلاق التي تجيب على هذه الأسئلة جميعًا؟ وهل تستطيع الفلسفة أن تمدَّنا بأي مذهب كهذا؟
ليس في استطاعة الفلسفة أن تفعل ذلك. هذه هي الإجابة التي يَنبغي أن نعترف بها صراحة. ذلك لأن محاولات الفلاسفة صياغة الأخلاق كما لو كانت مذهبًا في المعرفة قد انهارت. ولم تكن المذاهب الأخلاقية التي شُيِّدت على هذا النحو إلا ترديدًا لأخلاق جماعات اجتماعية معيَّنة. أي المجتمع البورجوازي اليوناني، أو الكنيسة الكاثوليكية، أو الطبقة الوسطى في العصر السابق على عصر الصناعة، أو الطبقة العاملة في العصر الصناعي. ونحن نعلم السبب الذي تعيَّن من أجله أن تُخفق هذه المذاهب؛ فهو أن المعرفة لا تستطيع أن تقدم توجيهات. فعلى من يبحث عن قواعد أخلاقية ألا يُحاكي منهج العلم. إذ إن العلم يُنبئنا بما هو كائن، لا بما ينبغي أن يكون.
فهل يعنى ذلك أن نَستسلم؟ وهل يعني أنه لا توجد توجيهات، أخلاقية وإن كل شخص يستطيع أن يفعل ما يحلو له؟
لستُ أظن أن الأمر كذلك. وإنما أعتقد أن المرء يُسيء فهم طبيعة التوجيهات الأخلاقية لو استنتج أن عدم إمكان البرهنة على الأخلاق موضوعيًّا يعني أن في استطاعة كل شخص أن يفعل ما يحلو له.
ولكي نبحث هذه المشكلة، فلنَقُم بدراسة مفصلة للطبيعة الإرادية للتوجيهات الأخلاقية عن طريق إجراء تحليل نحوي لعبارة «ينبغي عليه»، العبارة التي يُمكن أن توصف بأنها هي الصورة النحوية للتوجيه الأخلاقي؛ فقد رأينا أن العبارة لا يُمكن أن تعني أن هناك قانونًا أخلاقيًّا موضوعيًّا يُمكن أن يستمد منه الأمر، فما الذي تعنيه إذن؟ لقد بقي لهذه الجملة معنيان ممكنان.
ولنلاحظ أن المعنيين؛ اللزومي، والانعكاسي الإشارة، يُستخدمان معًا. غير أن المعنى اللزومي لعبارة «ينبغي عليه» لا يمكن أن يستخدم بالنسبة إلى المقدمات الأخلاقية، أو البديهيات الأخلاقية، ما دامت هذه المقدِّمات لا تعبر عن حالات لزوم، وإنما هي توجيهات. وعلى ذلك فإنها تشتمل على عبارة «ينبغي عليه» بمعنى انعكاسي الإشارة. هذا المعنى للعبارة ينتقل — بالاستخلاص — من المقدمات إلى كل قاعدة أخلاقية. ولكي نفهم هذا الانتقال، نستطيع أن نتصوَّر عمليات الاستخلاص التي تحدث في المجال المعرفي. والتي تؤدِّي إلى نقل حقيقة المقدمات إلى النتيجة. فإذا لم تؤكِّد المقدمات، لم يكن من الممكن تأكيد النتيجة. وبالمثل فإن المقدمات الأخلاقية إذا لم تقدم بوصفها توجيهات، أي بمعنى أنها عبارة من نوع «ينبغي عليه»، تتميَّز بأنها غير لزومية، وبالتالي بأنها انعكاسية الإشارة، لما أمكن أن يكون للنتيجة الأخلاقية طابع التوجيه.
ويُحاول البعض أحيانًا أن يأتي بتفسير ثالث لعبارة «ينبغي عليه»، بُغية التخلص من الإشارة الذاتية للألفاظ الأخلاقية، وتبعًا لهذا التفسير، يكون معنى هذه العبارة هو «الجماعة تريد منه أن يفعل هذا أو ذاك.» ويبدو أن هذا المعنى يؤدِّي إلى استبعاد الصبغة الذاتية من الالتزامات الأخلاقية. ومع ذلك فإن هذا التفسير لا يمكن قبوله. فعندما يكون الأمر متعلقًا بإرادة الجماعة، لا نستخدم عبارة «ينبغي عليه» إلا إذا أمكن إرجاع معناها إلى واحد من التفسيرين الأولين. فنحن نستخدمها أولًا عندما يكون الفعل لازمًا عن إرادة الشخص المختص، الذي تكون من مصلحته إطاعة إرادة الجماعة، ومنذئذٍ يكون للجملة المعنى اللزومي المتعلق بالتفسير الأول. وثانيًا، فإننا نستخدم هذه العبارة عندما نشارك في إرادة الجماعة، وفي هذه الحالة وحدها يكون المقصود بالعبارة أن تعبر عن التزام أخلاقي؛ مثال ذلك أنه لو وشى مجرم بشركائه، فإننا نعلم أن جماعته تدين مثل هذا السلوك، لذلك فإن العضو في هذه الجماعة خليق بأن يقول «كان ينبغي عليه ألا يتكلم.» أما إذا كنا نحن الذين نستخدم هذه الجملة، فقد نستخدم لفظ «ينبغي» بالمعنى اللزومي، ونعرب عن الرأي القائل إن السكوت كان في مصلحة المجرم، الذي قد يتعرض لأعمال انتقامية من جماعته. ومع ذلك فإننا إذا قلنا هذه الجملة بمعنى أنها حكم أخلاقي، فإن ما نقصده هو أن ذلك الرجل ملزم أخلاقيًّا بحماية جماعته، وعندئذٍ تكون العبارة انعكاسية الإشارة، وتتضمَّن تعبير عن رقبة المتكلم.
وقد تُجيب على ذلك بقولك: «إذا كانت التوجيهات الأخلاقية قرارات إرادية (أو معبِّرة عن رغبات)، فيبدو أن لكل شخص الحق في أن يضع توجيهاته الأخلاقية الخاصة. ولكن كيف يمكن أن يطلب شخص إلى الآخرين أن يتبعوا توجيهاته؟ إنك تُناشدنا بأن نثق في رغباتنا الإرادية، وبألا نشعر بأنفسنا في الجانب المتلقِّي للأمر، وفي الوقت ذاته تُطالب بحق كل شخص في أن يضع أوامر للآخرين. أليس هذا تناقضًا؟ يبدو أن التفسير الإرادي للأوامر يؤدِّي إلى النتيجة القائلة إن في استطاعة كل شخص أن يفعل ما يشاء، أي أنه يؤدي إلى الفوضى.»
فلنبدأ بدراسة الاستدلال الذي تعبر عنه عبارتك الأخيرة. ولنفرض أنني وضعت أمرًا يقضي على شخص معيَّن بأن يسلك بطريقة معينة، فكان جوابك: «كلا، فليفعل ما يشاء.» ومن الواضح أن لفظ «فليفعل» في ردِّك هذا تعبير عن معارضتك للأمر الذي أصدرته. فأنت تريد أن تقول إنني، على الرغم من أن لي الحق في وضع أوامري الخاصة، فليس من حقي وضع التزامات شاملة، أي أوامر الآخرين. وعبارة ««س» ليس من حقه» ليست عبارة معرفية، وإنما هي أسر، معناه ««س» ينبغي ألا يفعل هذا أو ذاك.» وإذن فأنت قد أجبْتني بأمر، وأنت تطالبني بألا أضع أوامر للآخرين. فعلى أي أساس تبني أمرك؟ إنك تضع إرادتك مقابل إرادتي، ولست أدري لم كان يتعيَّن على أن أعترف بإرادتك وأتخلى عن وضع التوجيهات للآخرين.
على أن المشكلة التي أثارها استدلالك السابق تبلغ من الأهمية حدًّا يبرر فحصها بمزيد من الدقة. فلنبدأ أولًا ببحث عبارة «لكل امرئ، حق.» إن هذه العبارة يمكن أن تعني أن السلطات القانونية لا تفرض قيودًا على نشاط أي شخص. وهذه عبارة معرفية، ولكنها ليست هي ما تعنيه بالنتيجة التي توصلت إليها. ولكي أزيد ما أقصده إيضاحًا، فلندمج المعنى المفترض للعبارة في التعبير الكامل، بحيث تصبح «إذا كان التوجيه الأخلاقي مسألة قرار يعبر عن رغبة إرادية، فإن السلطات القانونية لا تفرض قيودًا على نشاط أي شخص.» غير أن هذا تعبير مشكوك في صحته، وهو ليس ما تودُّ أن تقوله، وثانيًا، فإن عبارة «لكل شخص الحق» يمكن أن تعني أنه ينبغي عدم فرض قيود على نشاط أي شخص. على أن كلمة «ينبغي» تدل على أمر، وتبعًا للتحليل السابق، فمن الممكن أن يكون لها معنيان؛ أولهما معنى الأمر الصادر عن المتكلم الذي هو أنت، وعندئذٍ يكون معنى جملتك هو «إذا كان التوجيه الأخلاقي مسألة قرار إرادي، فإني أصر على ألا تفرض قيود على نشاط أي شخص.» فإذا كان هذا ما تعنيه، فإنك لا تُقرر علاقة منطقية، بل تكتفي بالإعراب عن رغبة من جانبك، وبذلك لا تصل إلى استدلال. أما المعنى الثاني لكلمة «ينبغي» فهو معنى اللزوم المنطقي الذي يؤدي إلى أمر يمكن استخلاصه، متعلق بالشخص المشار إليه. وعندئذٍ يكون ما تعنيه هو: «إذا كان الشخص يؤمن بالمبدأ القائل إن التوجيه الأخلاقي مسألة قرار إرادي، فيلزم عن ذلك أنه يؤمن بالأمر القائل بأنه لا ينبغي فرض قيود على نشاط أي شخص.» ولكن هل هذا استدلال صحيح؟ لست أدري كيف يمكن استخلاص نتيجة كهذه منطقيًّا، لأنه لا تناقض على الإطلاق بين رغبة المرء في أهداف معينة، وبين رغبته في أن يحدَّ من نشاط الآخرين في الأمور التي تحول بينه وبين تحقيق أهدافه هذه.
وأود الآن أن أعبر عن الحجة الأخيرة على نحو مختلف إلى حد ما. فأنت تودُّ أن تُبين أن المنطق يُحتِّم على الأخذ بالقرار المستخلص مما سبق: «ينبغي عدم فرض قيود على نشاط أي شخص.» فإذا كان ذلك أمرًا يُمكن استنتاجه، فلا بد أن يكون مستنتجًا من أوامر أخرى. غير أنني لم أصرِّح حتى الآن بأية أوامر، وإنما اقتصرت على التعبير عن العبارة المعرفية القائلة أن الأوامر الأخلاقية أمور تتعلَّق بقرار إرادي. وليس في استطاعتك أن تستنتج أوامر من أوامر أخرى، أو من أوامر مُقترنة بجمل معرفية، ولكن لا يُمكن أن تستنتجها من الجمل المعرفية وحدها. وعلى ذلك فإن استدلالك باطل.
ولا شك أنك أصبحت الآن في حالة يأس تام. ولا بد أنك سترد قائلًا: «قد يكون ما تقوله صحيحًا، من وجهة النظر المنطقية، ولكن هل تظن حقًّا — يا من ألَّفت كتابًا في الفلسفة العلمية — أنك أنت الشخص الذي يُعطي توجيهات أخلاقية للعالم بأسرِه؟ وما الذي يدفعنا إلى اقتفاء أثرك؟»
وردِّي على ذلك هو أنني آسف أيها الصديق، لأنني لم أقصد أن يفهم كلامي على هذا النحو، فقد كنت أبحث عن طريق الحقيقة، ولكن هذا السبب نفسه هو الذي يجعلني أمتنع عن إعطائك توجيهات أخلاقية. لا يمكن بحكم طبيعتها ذاتها أن تكون صائبة. فصحيح أن لديَّ توجيهاتي الأخلاقية، ولكنني لن أدونها هنا. فلست أرغب في مناقشة المسائل الأخلاقية، وإنما أودُّ مناقشة طبيعة الأخلاق. بل إن لديَّ بعض التوجيهات الأخلاقية الأساسية التي أعتقد أنها لا تختلف كثيرًا عن توجيهاتك. فكلانا نتاج لنفس المجتمع، وعلى ذلك فقد تشبَّعنا بالروح الديمقراطية منذ يوم مولدنا. قد نختلف في أمور كثيرة، كمسألة ما إذا كان من الواجب تخفيف قوانين الطلاق، أو ما إذا كان من الواجب إقامة حكومة عالَمية للإشراف على استخدام الأسلحة الذرية. ولكننا نستطيع مناقشة أمثال هذه المشكلات إذا اتفقنا على مبدأ ديمقراطي أقول به في مقابل مبدئك الفَوضوي، وأعني بهذا المبدأ الديمقراطي:
«إن لكل شخص الحق في وضع أوامره الأخلاقية الخاصة، وفي أن يطالب الآخرين باتباع هذه الأوامر.»
هذا المبدأ الديمقراطي يشكل الصيغة الدقيقة للنداء الذي أتوجه به إلى كل شخص بأن يَثق في رغباته الإرادية الخاصة، وهو النداء الذي رأيته أنت متناقضًا مع رأيي القائل بأن لكل شخص أن يضع أوامر للأشخاص الآخرين. فلأبين الآن كيف أن هذا المبدأ ليس متناقضًا مع نفسه. فلنفرض مثلًا أنني وضعت الأمر القائل إنه إذا كانت هناك أكثر من حجرة لكل شخص في بيتٍ ما، فمن الواجب فتح الحجرات الزائدة للأشخاص الذين لا يملكون حجرات خاصة بهم. أما أنت فتضع الأمر القائل إنه لا ينبغي إرغام أي شخص على أن يفتح باب بيته للآخرين. فلديك حجرة زائدة في بيتك، وأنا أطالب بفتحها لشخص يعاني من أزمة المساكن، ولو كانت لدى القدرة على تنفيذ طلبي من خلال سلطة الحكومة، وذلك بأن أجعل من هذه القاعدة قانونًا عن طريق استفتاء مثلًا، فإنني سأذهب إلى حد أن أُنفِّذ ذلك فعلًا. ومع ذلك فإن ما يحول بين مبدئي وبين أن يصبح تناقضًا هو الفرق بين الحق في السلوك والحق في المطالبة بسلوك معيَّن. فأنا أطالب بأن تسلك على نحو معين، ولكني لا أطالبك بالتخلِّي عن مطلبك العكسي. وهذه ديمقراطية صحيحة، وهي في الواقع تتمشَّى مع الطريقة الفعلية التي تواجه بها مشكلة اختلاف الإرادات في المجتمع الديمقراطي.
إنني لا أستمدُّ مبدئي من العقل الخالص، ولا أعرضه على أنه نتيجة الفلسفة. وكل ما أفعله هو أنني أصوغ مبدأ هو أساس الحياة السياسية بأسرها في البلدان الديمقراطية، وأنا أعلم أنني أبدو، بالتزامي هذا المبدأ، نتاجًا لعصري. ولكنني قد وجدت أن هذا المبدأ يُتيح لي فرصة نشر رغباتي، وتحقيقها إلى حد بعيد، ومن ثم فإني أتَّخذ منه أمرًا أخلاقيًّا لي. وأنا أزعم أنه يَنطبق على جميع أشكال المجتمع. فلو وُضعتُ أنا، الذي أَعدُّ نفسي نتاجًا لمجتمع ديمقراطي، في مجتمع مخالف، فقد أكون على استعداد لتعديل مبدئي. ولكن لنختبر هذا المبدأ الذي يبدو أصلح المبادئ للمُجتمَع الذي أعيش فيه.
ليس هذا المبدأ مذهبًا أخلاقيًّا، يجيب عن جميع الأسئلة المتعلقة بما ينبغي عمله، وإنما هو مجرد دعوة للقيام بدور إيجابي في الصراع بين الآراء. فالاختلاف بين الإرادات لا يُمكن تسويته بالالتجاء إلى مذهب أخلاقي يضعه بعض أهل العلم. بل إن الوسيلة الوحيدة للتغلُّب على هذه الاختلافات هي تُصادم الآراء، عن طريق الاحتكاك بين الفرد وبيئته، وعن طريق الجدل والخضوع لمنطق الموقف. والحق أن التقويمات الأخلاقية إنما تتكوَّن خلال ممارستنا لنشاطنا، فنحن نسلك، ونفكر فيما فعلناه، ونتحدث مع الآخرين عنه، ونسلك ثانية على نحو نعتقد أنه أفضل. وما أفعالنا إلا محاولات للاهتداء إلى ما نريد، ونحن نتعلم من خلال الخطأ، وكثيرًا ما يحدث أن نظل لا نعلم أننا نرغب في القيام بالقعل إلا بعد أن نكون قد قمنا به فعلًا. فالغايات الإرادية لا تأتينا عادة بنفس الوضوح الذي ندرك به موضوعًا للإبصار، بل إنها في أكثر الأحيان تكون خلفية لا شعورية أو نصف شعورية لاتجاهاتنا وميولنا، أما تلك تبدو منها واضحة ساطعة، كالنجوم التي تَهدينا في طريقنا، فكثيرًا ما تفقد كل ما فيها من جاذبية بمجرَّد أن نُحققها.
وعلى ذلك، فإن على من يريد دراسة الأخلاق ألا يطرق باب الفيلسوف، وإنما ينبغي عليه أن يذهب حيثما يدور صراع حول المشكلات الأخلاقية العملية. فعليه أن يعيش وسط جماعة تتدفق حيوية بفضل التنافس بين الإرادات. سواء أكانت هذه جماعة سياسية، أم اتحادًا عماليًّا، أم منظمة مهنية، أم ناديًا رياضيًّا، أم جماعة يؤلف بينها الاشتراك في الدرس في قاعة محاضرات واحدة. هناك سيشعر بمعنى وضع المرء لإرادته في مقابل إرادات الآخرين. وبمعنى تكيُّف المرء مع إرادة الجماعة. ذلك لأن الأخلاق إذا كانت ممارسة للرغبات الإرادية، فهي أيضًا تكيف لهذه الرغبات من خلال بيئة جماعية. ولا شك أن من يدعو إلى الفردية يكشف عن قصر نظره حين يغفل ذلك الرضاء الذي تشعر به الإرادة نتيجة للانتماء إلى جماعة، أما كوننا ننظر إلى تكيف الإرادات خلال الجماعة على أنه عملية نافعة أو ضارة، فذلك أمر يتوقف على تأييدنا أو معارضتنا للجماعة، ولكن ينبغي أن نعترف بأن تأثير الجماعة هذا موجود بالفعل.
فكيف إذن يتسنَّى تعديل الإرادات وتحقيق الانسجام بينها في الجماعة؟ وما هي العملية التي تؤدِّي إلى تكيف الإرادات؟
ليس من شك في أن هذه العملية هي، إلى حدٍّ بعيد، تعلم لعلاقات معرفية. ولقد قلت من قبل إن علاقات اللزوم بين الأوامر تقبل البرهنة المنطقية. والواقع أن الدور الذي تقوم به علاقات اللزوم هذه أعظم بكثير مما يقال به عادة. فكثيرًا ما نُخطئ، في العلاقات بين أهدافنا، فإذا كانت بعض الأهداف الأساسية متماثلة، تحوَّل عدد كبير من المشكلات الأخلاقية إلى مشكلات منطقية. مثال ذلك أن مسألة كون الملَكية الخاصة مقدَّسة لا تعود مسألة أخلاقية، بمجرد أن نعترف بهدف ضرورة ضمان حد أدنى من ظروف الحياة الضرورية لجميع المواطنين. وعندئذٍ يكون التفضيل بين نظام حرية الأعمال، ونظام مِلكية الدولة لوسائل الإنتاج، من حيث قدرة كلٍّ منهما على تحقيق هذا الهدف، يكون ذلك التفضيل أمرًا يختص به التحليل الاجتماعي. وإنما ترجع الصعوبات التي نُصادفها عندئذٍ إلى الحالة القاصرة التي يتصف بها علم دراسة المجتمع؛ إذ إن هذا العلم لا يستطيع أن يقدم إجابات لا لبس فيها ولا غموض، مشابهة للإجابات التي تقدمها الفيزياء. فمعظم المشكلات السياسية يمكن أن تردَّ، عند أنصار الديمقراطية، إلى مجادلات معرفية. لذلك فإن الأمل معقود على أن تُسوَّى هذه المشكلات بالمناقشة العامة والتجارب السِّلمية، بدلًا من أن تسوَّى بالالتجاء إلى الحرب.
والواقع أن معظم القرارات الإرادية التي نُواجهها هي قرارات مُستخلَصة من أهداف أكثر منها أساسية، نتَّخذها غايات لأنفسنا، ولهذا السبب كان للإيضاح المعرفي أهميته في المسائل الأخلاقية. ونستطيع أن نذكر في هذا الصدد، إلى جانب المسائل السياسية، المسائل التعليمية والصحية والحياة الجنسية والقانون المدني والقانون الجنائي ومعاقَبة المجرمين. مثال ذلك أن مسألة ما إذا كان من الواجب وضع المجرم المحكوم عليه في إصلاحية، ليست مسألة أخلاقية، وإنما هي مسألة نفسية في نظر كلِّ مَن يُوافقون على أن تشريع الدولة ينبغي أن يسعى إلى تكوين أكبر عدد مُمكن من المواطنين المتكيفين اجتماعيًّا. ولكن ما أكثر التجارب التي تشهد بأن الأشخاص الذين يخرجون من الإصلاحيات يكونون عادة مهيئين لعكس هذه الغاية!
ومع ذلك، فمن الحقائق النفسية المعترف بها أنه حتى عندما يتسم التوصل إلى إيضاح معرفي، يكون من العسير تغيير الاتجاهات الإرادية. فقد نعلم أننا ما كنا نرغب في هدف أساسي معين، فلا بد لنا أيضًا من قبول قرار آخر معيَّن، ومع ذلك نتردَّد في قبول هذا القرار. فقد نكون مقتنعين بأن المُجرم ينبغي ألا يعاقب، وإنما يجب أن يوضع في بيئة تُتيح له فرص إعادة التكيف من جديد. ومع ذلك فقد يكون من العسير التغلُّب على نداء العقاب، والرغبة في القصاص، وهي الرغبة التي أملت عددًا كبيرًا من النظم الشائعة في معاملة المجرمين. كذلك فإن أخلاق العلاقات الجنسية حافلة بعدد كبير من التحريمات، إلى حد أنه يَصعُب جدًّا التغلب على مظاهر التحامل المعتادة، حتى عندما تكون الاعتبارات النفسية قد أوضحت أن من واجبنا تغيير بعض تقويماتنا التقليدية إذا ما شئنا أن يكون الرجال والنساء في مجتمعنا أسعد وأصح. ففي كل هذه الحالات، ينغي أن تدعم النتيجة المعرفية بإعادة تكييف اتجاهاتنا الإرادية. وفي هذا الصدد تقوم التربية من خلال الجماعة بدور أساسي. فنحن لا نتعلَّم أننا نستطيع قبول التقويمات الجديدة إلا بالعيش في بيئة تطبق فيها هذه التقويمات، وفي مثل هذه البيئة وحدها تكتسب القوة التي تُمكِّننا من أن نريد ما أثبت الاستنتاج المنطقي أنه نتيجة لأهدافنا الأساسية. فليست الحجج المنطقية بكافية لتسوية المشكلات النفسية المتعلِّقة بالاتجاهات الإرادية، بل إن المنطق، مقترنا بتأثير الجماعة، هو الذي يساعدنا على تنظيم تكويننا الإرادي.
فهل يكون من الممكن رد جميع المسائل الأخلاقية إلى أهداف أساسية مشتركة؟ الواقع أن كوننا جميعًا من بني البشر، إنما هو شاهد يؤيد هذا الافتراض؛ إذ يبدو من المعقول أن تكون أوجه الشبه الفسيولوجية بين البشر منطوية على تشسه في الأهداف الإرادية. ولكن هناك وقائع أخرى تناهض هذا الافتراض؛ إذ إن هناك جماعات معينة، كالنبلاء في المجتمعات الإقطاعية، أو الرأسماليين في الدولة الرأسمالية، أو أعضاء الحزب المسيطرين على دولة تأخذ بنظام الحزب الواحد. تتمتع بمزايا واضحة نتيجة لاحتفاظها بامتيازات طبقتها.
وإني لأعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال ليست على هذا القدر من البساطة. فقد رأينا أن معرفة وجود علاقة لزوم بين الأهداف لا تؤدي بذاتها إلى تغيير في الاتجاهات الإرادية، أي أنه، إذا كان لهذه المعرفة أن تؤدِّي إلى إعادة نظر في القرارات، فلا بد أن تكون مصحوبة بتهيئة للرغبات الإرادية على نحو معين. فإذا كانت هذه التهيئة ضرورية وممكنة، فلا يهم كثيرًا أن تكون متعلِّقة بقرارات أساسية أو بقرارات مُستنتَجة. فحتى الرغبات الأساسية تخضع لتأثير الجماعة، ومن الممكن أن تتغير نتيجة للقوة الإيحائية لبيئة تتمثل فيها رغبات أخرى ونتائجها.
وليس المقصود من ذلك أن التجريبي شخص يسهل عليه التلون حسبما يقتضيه الموقف. فهو على الرغم من استعداده للتعلم من الجماعة، يكون أيضًا ميالًا إلى توجيه الجماعة في اتجاه رغباته الإرادية الخاص. فهو يعلم أن التقدم الاجتماعي كثيرًا ما يكون راجعًا إلى مثابرة أفراد معيَّنين كانوا أقوى من الجماعة. وهو يحاول مرارًا وتكرارًا أن يغير الجماعة على قدر استطاعته. ولهذا التفاعل بين الجماعة وبين الفرد تأثيره في الفرد والجماعة معًا.
وعلى ذلك فإن التوجيه الأخلاقي للمجتمع البشري إنما هو حصيلة عملية تكيف متبادل. ولا يقوم الاعتراف بالعلاقات بين مختلف الأهداف إلا بدور محدود في هذه العملية. أما الدور الأكبر فتقوم به مؤثرات نفسية من نوع غير معرفي، تصدر من الأفراد لأفراد آخرين، ومن الأفراد إلى الجماعة، ومن الجماعة إلى الأفراد. فالاحتكاك بين الإرادات والرغبات هو القوة الدافعة لكل تطور أخلاقي. لذلك كان من المُمكن الاعتراف بأن القوة تقوم بدور رئيسي في تغيير التقويمات الأخلاقية وذلك إذا قيست القوة بأي شكل من أشكال النجاح في تأكيد رغبات المرء في مقابل رغبات الآخرين. على أن هذا المعنى، الذي هو أوسع المعاني، لهذا اللفظ، لا يقتصر على قوة السلاح؛ فمن الممكن أن تكون هناك صور أخرى للقوة لها نفس الفعالية، وربما أكثر؛ كقوة التنظيم الاجتماعي، وقوة طبقة اجتماعية اكتشفت مصالحها المشتركة، وقوة الجماعات المتعاونة، وقوة الكلمة المنطوقة والمكتوبة، وقوة الفرد الذي يشكل أنموذجًا للجماعة عن طريق ضرب مثل رائع للسلوك. فالقوة حقًّا هي التي تتحكَّم في العلاقات الاجتماعية.
إن من واجبنا ألا نقع في خطأ الاعتقاد بأن الصراع على القوة خاضع لتحكم سلطة تعلو على مستوى البشر، تؤدِّي بهذا الصراع إلى غاية نهائية خيرة، كما ينبغي ألا نقع في خطأ آخر يرتبط بالخطأ السابق، وهو الاعتقاد بأن من الواجب تعريف الخير بأنه هو الأقوى؛ فقد رأينا أن ما نعده لا أخلاقية يحرز انتصارات كثيرة، وأن الخسة والأنانية الطبقية تحقق نجاحًا كبيرًا، ولكننا نحاول أن نحقق أهدافنا الإرادية، لا بتعصُّب المؤمن بحقيقة مطلقة، وإنما بإصرار الشخص الذي يثق في إرادته الخاصة. ولسنا ندرى إن كنا سنبلغ هدفنا. فمشكلة السلوك الأخلاقي، شأنها شأن مشكلة التنبؤ بالمستقبل، لا يمكن أن تحل بوضع قواعد تضمن النجاح؛ إذ إن مثل هذه القواعد لا وجود لها.
ولا وجود أيضًا لقواعد نستطيع أن نكتشف بها هدفًا أو معنى للكون. فهناك بعض الأمل في أن يكون تاريخ البشرية سائرًا نحو التقدم، ومؤديًّا إلى مجتمع بشري أفضل تكيفًا، على الرغم من أن هناك اتجاهات قوية تدلُّ على عكس ذلك. أما الاعتقاد بأن العالم الفيزيائي يسير نحو التقدم بالمعنى البشري، فهو اعتقاد ممتنع. فالكون يسير تبعًا لقوانين الفيزياء، لا تبعًا لأوامر الأخلاق. وقد تمكَّنا، إلى مدًى معيَّن، من استغلال قوانين الفيزياء لمصلحتنا. وليس من المستبعد أن يجيء يوم نتمكن فيه من السيطرة على أجزاء أكبر من الكون، وإن لم يكن ذلك أمرًا شديد الترجيح، وإنما الأرجح أن ينتهي الأمر بالجنس البشري إلى الفناء مع الكوكب الذي بدأت عليه حياته.
وإذن، فلو أتاك فيلسوف يُنبئك بأنه اهتدى إلى الحقيقة النهائية، فلا تثق به. وإن قال لك إنه يعرف الخير الأسمى، أو لديه ما يثبت أن الخير لا بد أن يُصبح حقيقة واقعة، فلا تثق به أيضًا، فهو إنما يردِّد أخطاء ظل أسلافه يَرتكبونها طوال ألفَي عام. ولقد حان الوقت لوضع حد لهذا النوع من الفلسفة. فلتطلب إلى الفيلسوف أن يكون متواضعًا كالعالم، وعندئذٍ قد يحرز من النجاح ما أحرزه رجل العلم. ولكن لا تطلب إليه أن يُنبئك بما ينبغي عليك عمله، بل أنصت جيدًا إلى صوت إرادتك، وحاول أن تُوحد بين إرادتك وبين إرادة الآخرين. فليس في العالم من الغايات أو من المعاني أكثر مما تضعه أنت ذاتك فيه.