مقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة
أودُّ في هذا الفصل أن ألخص النتائج الفلسفية التي أسفر عنها تحليل العلم، وأن أقارنها بالمفاهيم التي نادت بها الفلسفة التأمُّلية.
فقد كانت الفلسفة التأملية تسعى إلى اكتساب معرفة بالعموميات، أي بأهم المبادئ التي تحكم الكون. وأدَّى بها ذلك إلى تشييد مذاهب فلسفية تتضمَّن وصولًا ينبغي أن نعدها اليوم محاولات ساذجة لتكوين فيزياء شاملة، أعني فيزياء تقوم فيها تشبيهات بسيطة بتجارب الحياة اليومية بمهمة التفسير العلمي. وقد حاولت هذه الفلسفة أن تقدم تفسيرًا لمنهج المعرفة باستخدام تشبيهات مماثلة، وأجابت على الأسئلة الخاصة بنظرية المعرفة باستخدام لغة مجازية، لا باستخدام التحليل المنطقي. أما الفلسفة العلمية فإنها تترك للعالم مهمة تفسير الكون بأسرها، وتبني نظرية المعرفة عن طريق تحليل نتائج العلم، وتدرك عن وعي أن من المستحيل فهم فيزياء الكون أو فيزياء الذرة من خلال تصورات مستمَدة من الحياة اليومية.
ولقد كانت الفلسفة التأمُّلية تسعى إلى اليقين المطلَق. فإن كان من المحال التنبؤ بالحوادث الفردية، فإن القوانين العامة المتحكمة في جميع الحوادث، على الأقل، تعدُّ في نظرها قابلة للمعرفة، ومن الواجب استخلاص هذه القوانين بقوة العقل الخالص. فالعقل، وهو مشرِّع الكون، قد كشف للذهن البشري الطبيعة الكامنة للأشياء جميعًا — ذلك رأي يكمن في أساس المذاهب التأملية بكل صورها. أما الفلسفة العلمية فهي ترفض أن تقبل أية معرفة بالعالم الفيزيائي على أنها تتصف باليقين المطلَق. فليس من المُمكن التعبير عن الحوادث الفردية، ولا عن القوانين التي تحكمها، بصورة مطلَقة. بل إنَّ المجال الوحيد الذي يُمكن بلوغ اليقين فيه هو مبادئ المنطق والرياضة، غير أن هذه المبادئ، تحليلية وفارغة. فيقين أي مبدأ إذن لا يَنفصل عن كونه فارغًا، وليس ثمة معرفة تركيبية قبلية.
ولقد كانت الفلسفة التأملية تسعى إلى إقامة التوجيهات الأخلاقية بنفس الطريق التي تشيد بها معرفة مطلَقة. فكانت تنظر إلى العقل على أنه هو الذي يسنُّ القانون الأخلاقي مثلما يضع القانون المعرفي، ومن الواجب في نظرها كشف القواعد الأخلاقية بعملية تبصُّر، مشابه لذلك التبصر الذي يكشف القواعد النهائية للكون. أما الفلسفة العلمية فقد تخلت نهائيًّا عن خطة وضع قواعد أخلاقية. فهي تنظر إلى الغايات الأخلاقية على أنها نواتج لأفعال إرادية، لا للمعرفة، وكل ما يمكن أن تتناوله المعرفة هو العلاقات بين الغايات، أو بين الغايات والوسائل. أما القواعد الأخلاقية الأساسية فلا يمكن تبريرها من خلال المعرفة، وإنما السبب الوحيد للأخذ بها هو أن أناسًا يريدون هذه القواعد ويريدون من الآخرين أن يتبعوها. فالإرادة لا يمكن استخلاصها من المعرفة، بل إن الإرادة البشرية هي التي تولد ذاتها وتحكم على ذاتها.
هذه هي الصورة الختامية المجملة للمقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة. أن الفيلسوف الجديد يتخلَّى عن الكثير جدًّا، ولكنه أيضًا يكسب الكثير جدًّا. فما أعظم الفارق بين العلم المبني على أساس التجارب، وبين العلم المستمد من العقل وحده! وما أعظم الضمان الذي تمنحه لنا تنبؤات العالم، على الرغم من افتقارها إلى اليقين، بالقياس إلى تنبؤات الفيلسوف الذي كان يدعي أن لديه استبصارًا مباشرًا بالقوانين النهائية للكون! وكم يظهر بوضوح سمو الأخلاق التي لا تقيدها قواعد تمليها سلطة عُليا مزعومة، عندما تطرأ ظروف اجتماعية جديدة لم تكن تدخل في حسبان المذاهب الأخلاقية القديمة!
ومع ذلك كله، فهناك فلاسفة يأبون أن يعترفوا للفلسفة العلمية بمكانة داخل الفلسفة، ويرون أن نتائجها ينبغي أن تكون منتمية إلى العلم بوصفِها فصلًا تمهيديًّا له، ويدعون أن هناك فلسفة مستقلة، لا شأن لها بالبحث العلمي، وتستطيع أن تصلَ إلى الحقيقة مباشرة. غير أن هذه الادِّعاءات تكشف، في رأيي، عن افتقار إلى القدرة على الحكم النقدي. فأولئك الذين لا يُدركون أخطاء الفلسفة التقليدية لا يرغبون في التخلِّي عن مناهجها أو نتائجها، ويُفضلون مواصلة السير في طريق تخلَّت عنه الفلسفة العلمية. وهم يحتفظون باسم الفلسفة لمحاولاتهم الباطلة في الوصول إلى معرفة تعلو على العلم، ويأبون الاعتراف بأن المنهج التحليلي الذي وضع على نمط البحث العلمي هو منهج فلسفي.
إن ما يلزم الفلسفة العلمية هو إعادة توجيه رغبات الفيلسوف وأهدافه. فما لم يعترف باستحالة بلوغ أهداف الفلسفة التأملية، فلن تفهم النتائج التي تُحققُها الفلسفة العلمية. إن لغة الصور هي الطريقة الطبيعية للتعبير عند الشاعر، أما الفيلسوف فينبغي عليه أن يتخلَّى عن استخدام الصور الإيحائية فيما يقدمه من تفسيرات؛ وذلك إذا شاء أن يفهم الفلسفة العلمية. وقد تبدو لنا الرغبة في بلوغ اليقين المطلَق هدفًا طموحًا جديرًا بالإعجاب، ولكن الفيلسوف العلمي ينبغي عليه أن يتجنَّب مغالطة النظر إلى العادات المألوفة على أنها مصادرات للعقل، ويجب أن يتعلم أن المعرفة الاحتمالية تكون أساسًا يبلغ من المتانة حدًّا يكفي للإجابة عن جميع الأسئلة التي يكون من المعقول سؤالها. كذلك فإن الرغبة في إقامة التوجيهات الأخلاقية على أساس من المعرفة الأخلاقية تبدو رغبة مفهومة، ولكن على الفيلسوف العلمي أن يتخلى عن السعي إلى التوجيه الأخلاقي الذي ضلَّل الآخرين فجعلهم يتصوَّرون الأخلاق نوعًا من المعرفة التي تكتسب بتبصر يكشف لنا عالمًا أعلى. إن الحقيقة تأتي من الخارج؛ فملاحظة الموضوعات الفيزيائية تنبئنا بما يتصف بصفة الحقيقة. أما الأخلاق فتأتي من الداخل؛ فهي تعبر عما أريده، لا عما هو موجود بالفعل. هذه هي الوجهة الجديدة التي ينبغي أن تتخذهما الرغبات الفلسفية عند الفيلسوف العلمي. ولا بد أن يكتشف أولئك الذين يمكنهم التحكم في رغباتهم، أنهم يكسبون أكثر بكثير مما يخسرون.
والواقع أن الكسب ضخم بحقٍّ إذا ما قورن بنتائج المذاهب الفلسفية التقليدية. وأودُّ أن أؤكِّد مرةً أخرى إنني لا أنكر المزايا التاريخية لهذه المذاهب. فهناك شوط طويل لا بد من قطعه بين إدراك المشكلة لأول مرة وبين صياغتها بوضوح، وشوط طويل آخر بين صياغتها وبين حلِّها. وكثير من الحلول الحاضرة يُمكن تتبعها إلى أصول في تلك التشبيهات واللفة المجازية التي كمان يقدمها فيلسوف قديم معين. وسع ذلك فلا شيء أخطر على الفهم النقدي للفلسفة من النظر إلى هذه المجازات والتشبيهات على أنها استباقات تنبئية للكشوف الجديدة. فكثيرًا ما يكون الإدراك الأول للمُشكلة نابعًا عن الدهشة الساذجة، لا عن استبصار بما تنطوي عليه من أبعاد واسعة المدى. ومن المُمكن أن يكون الجهد والعناء المبذول في التطور الذي أدَّى إلى الحل الحديث معادلًا في ضخامته، وربما أضخم، من الدور الذي أسهم به من بدءوا هذا التطور. فالاحترام الواجب نحو القدماء يَنبغي ألا يجعلنا نغفل الإنجازات التي حقَّقها عصرنا. ولا بد من استقلال في الحكم ودقة في النقد من أجل كشف تلك القلة من المشكلات الأصيلة، من بين تلال التصورات الغامضة والثرثرات الدجماطيقية التي ورثناها عن الفلسفة التقليدية. ولا يُمكن أن يكتسب الفيلسوف الأدوات اللازمة لحل هذه المشكلات إلا عن طريق الفهم العميق للمنهج العلمي الحديث.
ولقد حاولنا في هذا الكتاب أن نقدم عرضًا للإجابات التي قدمتها الفلسفة العلمية الحديثة للمشكلات التي كان لها دور في الفلسفة التقليدية منذ بدايتها في التفكير اليوناني. فهناك مشكلة أصل المعرفة الهندسية، التي كانت الإجابة عنها هي التمييز بين الهندسة الفيزيائية، التي هي تجريبية، وبين الهندسة الرياضية، التي هي تحليلية. وهناك مسألة السببية والتحديد العام لجميع الحوادث الفيزيائية، وهي المسألة التي كانت الإجابة عنها سلبية: فالسببية قانون تجريبي، ولا يسري إلا على موضوعات العالم الكبير، على حين أنه يَنهار في المجال الذري. وهناك مسألة طبيعة الجوهر والمادة، التي كانت الإجابة عنها هي ثنائية الموجات والجزئيات، وهو تصور أهرب من أي نوع من الخيال تمخَّضت عنه المذاهب الفلسفية في أي وقت، وهناك مسألة المبدأ المتحكم في التطور، وهو المبدأ الذي تم الاهتداء إليه في انتقاء إحصائي مقترن بالقوانين السببية. وهناك مسألة طبيعة المنطق، وهو المبحث الذي تبين أنه نظام لقوانين اللغة، لا يقيد أيَّة تجارب ممكنة، وبالتالي لا يعبر عن أية خصائص للعالم الفيزيائي. وهناك مسألة المعرفة التنبئية، التي أجيب عنها بنظرية في الاحتمال والاستقراء، بمقتضاها تكون التنبؤات ترجيحات، وتكون هي أفضل الأدوات المتوافِرة للتنبُّؤ بالمستقبل إن كان مثل هذا التنبؤ ممكنًا. وهناك مسألة وجود العالم الخارجي والذهن البشري، التي تبين أنها مسألة متعلِّقة بالاستخدام الصحيح للغة، وليست مسألة «حفيفية متعالية». وهناك أخيرًا مسألة طبيعة الأخلاق، التي أجيب عنها بالتمييز بين الأهداف وبين علاقات اللزوم بين الأهداف، وهي إجابة تؤدِّي إلى جعل علاقات اللزوم هذه هي وحدها التي تقبل حكمًا معرفيًّا، أما الأهداف الأولية فهي في نظرها قرارات نابعة عن الإرادة.
إن هناك مجموعة من النتائج الفلسفية أمكن إثباتها بواسطة منهج فلسفي لا يقلُّ دقة وإحكامًا عن منهج العلم، وفي استطاعة التجريبي الحديث أن يستشهد بهذه النتائج إذا ما طلب إليه أن يقدم الدليل على أن الفلسفة العلمية أرفع من التأمل الفلسفي. فهناك إذن معرفة فلسفية متراكمة. ولم تعد الفلسفة قصة أناس حاولوا عبثًا أن «يقولوا ما لا يمكن أن يقال» بصور مجازية أو تراكيب لفظية لها صورة منطقية وهمية. بل إن الفلسفة هي التحليل المنطقي لجميع أشكال الفكر البشري ومن الممكن التعبير عما تودُّ أن تقوله بعبارات مفهومة. وليس ثمة شيء «لا يُمكن أن يقال» يتعين عليها أن تستسلم لشروطه، بل إن الفلسفة علمية في مناهجها؛ فهي تجمع النتائج التي تَقبل البرهان، والتي يقبلها أولئك الذين اكتسبوا خبرة كافية في المنطق والعلم. وإذا كانت لا تزال تنطوي على مشكلة لم تُحل، ما زالت تُثير الجدل؛ فهناك أمل حقيقي في أن تحل في المستقبل بنفس الطرق التي أدت، في حالة مشكلات أخرى، إلى حلول يشيع قبولها اليوم.
والحق أن المرء ليدهش، حين يعقد هذه المقارنة الختامية بين الفلسفة القديمة والحديثة، من استمرار وجود كل هذه المعارضة للمنهج الفلسفي ونتائجه. وأود الآن أن أناقش الأسباب النفسية المُحتمَلة لهذه المعارضة.
أول هذه الأسباب هو أنه لا بد من القيام بجهد فني معقد من أجل فهم الفلسفة الجديدة. ذلك لأن فيلسوف المدرسة القديمة هو عادة شخص اكتسب خبرة في ميدان الأدب والتاريخ، ولم يتدرَّب أبدًا على المناهج الدقيقة للعلوم الرياضية، ولم يشعر باللذة التي تجلبها البرهنة على قانون طبيعي بتحقيق جميع نتائجه. ولو تأملنا التعليم الذي تقدمه المدارس الثانوية لما وجدْناه يزيد على مدخل بسيط إلى الرياضة والعلوم — فمن يستطيع إذن أن يحكم على نظرية المعرفة إن لم يكن قد رأى المعرفة في أكثر صورها نجاحًا؟
والحجة التي تقدم عادة دفاعًا عن هذا الموقف هي أن الفلسفة العلمية موجهة أكثر مما يَنبغي نحو العلوم الرياضية، ولا تعطي العلوم الاجتماعية والتاريخية حقًّا من الاهتمام. غير أن هذه الحجة ليست إلا دليلًا جديدًا على سوء فهم برنامج الفلسفة العلمية. فالفيلسوف العلمي يرحب بأية محاولة لبحث العلوم الاجتماعية بمنهج فلسفي قريب من ذلك المنهج الذي طبق بنجاح كبير في العلوم الطبيعية. ولكن ما يرفض قبوله هو تلك الفلسفة التي تضع حدًّا فاصلًا بين العلوم الاجتماعية والطبيعية، والتي تدَّعي أن لتلك المفاهيم الأساسية، من أمثال مفهوم التفسير، أو القانون العلمي، أو الزمان، معاني مختلفة في كلا الميدانين. ذلك لأن مصدر هذه الادعاءات هو في كثير من الأحيان سوء فهم العلوم الرياضية. والواقع أن تحليل السببية، الذي يتمُّ في الفيزياء، يقرب بين ذلك العلم وبين علم الاجتماع إلى حدٍّ لم يعرف من قبل على الإطلاق، إذ إن الاعتراف بأن القوانين الفيزيائية علاقات لزوم احتمالية، وليست قواعد يمليها العقل الخالص، لا بد أن يشجع عالم الاجتماع على صياغة قوانين حتى لو لم تكن قوانينه تسري إلا على غالبية الأمثلة. وأن التعقد الشديد للظروف الاجتماعية، الذي يجعل من المستحيل رؤية قانون اجتماعي يتحقَّق في حالة مُثلى، ليذكر المرء بالوضع المماثل في علم فيزيائي هو علم الأرصاد الجوية. فعلى الرغم من أن التنبؤات الدقيقة بحالة الجو مستحيلة، فإن أحدًا من علماء الفيزياء لا يشك في أن حالة الجو تخضع لقوانين الديناميكا الحرارية والديناميكا الهوائية. وعلى ذلك فحتى لو كان من الصعب إلى حدٍّ بعيد التنبؤ بالمناخ السياسي، فلماذا يرفض معظم علماء الاجتماع الاعتقاد بوجود قوانين لعلم الاجتماع؟
إن الحجة القائلة إن الحوادث متفرِّدة، وأنها لا تتكرر، تنهار لأن نفس الحكم يصدق على الحوادث الفيزيائية. فالطقس في يوم ما لا يمكن أن يكون هو ذاته الطقس في يوم آخر. وحالة قطعة معينة من الخشب لا يمكن أن تكون هي ذاتها حالة أية قطعة أخرى. ولكن العالم يتغلب على هذه الصعوبات بإدماج الحالات الفردية في فئة، وبالبحث عن القوانين التي تتحكَّم في مختلف الظروف الفردية في معظم الحالات على الأقل. فلماذا يعجز عالم الاجتماع عن أن يفعل نفس الشيء؟
إن الزعم بأن هناك هوة لا تُعبَر بين العلوم الاجتماعية والطبيعية، يبدو أشبه بمحاولة ترك مكان خاص، في فلسفة العلوم الاجتماعية، لأولئك الفلاسفة الذين يَخشون تطبيق الأسلوب المنطقي والرياضي الذي لم يعد من المُمكن بناء نظرية في المعرفة بدونه. ولكن من حسن الحظ أن هناك أيضًا مجموعة من العلماء الاجتماعيِّين يتطلَّعون إلى الفلسفة العلمية لكي تُعينهم في صراعهم من أجل فهم منهج علمهم، ويعترفون بضرورة القيام بعملية تطهير واسعة قبل أن يتسنى بناء فلسفة للعلوم الاجتماعية. وإني لآمل أن تتمكَّن الفلسفة العلمية في المستقبل من اجتذاب أشخاص ينتمون إلى جميع مجالات المعرفة، يتحولون من البحث في ميادينهم الخاصة إلى الدراسة الفلسفية.
وهناك أسباب أخرى تدعو إلى الترحيب بمساعدة الباحثين النزيهين الذين يَنتمون إلى مجالات العلوم غير الرياضية، والذين يتقدمون للمعاونة في هذا الميدان. فعلى الرغم من أن البحث الرياضي والمنطقي قد أسهم بالكثير في بناء الفلسفة الجديدة، فإن هذا العمل لا يرتبط في ذاته ضرورة بموقف فلسفي نقدي. فهناك رياضيون، بل مناطقة رياضيون، لم يَشعروا أبدًا بالحاجة إلى الامتداد بمناهجهم الدقيقة بحيث تطبق على التحليل المنطقي للمعرفة التجريبية، أو يعتقدون أن أي امتداد كهذا ينبغي إكماله بالإهابة بتبصر يعلو على التجربة، أعني تبصرًا بحقيقة غير تحليلية. وهم يعدون الفلسفة ضربًا من التخمين الذي لا يُمكن أن يؤدِّي أبدًا إلى نتائج جادة، أو ينظرون إلى تلك الأمور التي يقتنع بها الإنسان في موقفه الطبيعي على أنها شروط سابقة لا مفرَّ منها للفلسفة، ويُنكرون إمكان نقدها، أو يعتقدون أن اللغة الغامضة الخيالية للفيلسوف التأملي هي الوسيلة الوحيدة لمعالجة المشكلات الفلسفية؛ ذلك لأن التمرُّس في الرياضيات ليس ضمانًا لفهم المشكلات الفلسفية؛ ذلك لأن التمرُّس في الرياضيات ليس ضمانًا لفهم مشكلات نظرية المعرفة الحديثة ومناهجها، وحتى لو أدركت المشكلات، فقد تظلُّ الحلول تلتمس بتلك الطرق التي ظل التراث القديم العهد يمجدها، والتي لم يتعلم الطالب في جامعاتنا، خلال سنوات تنشئته على اكتساب المعرفة العلمية، أن ينتقدها.
إن الحد الفاصل بين الفلسفة القديمة والجديدة لا يؤدِّي إلى استبعاد الرياضة من الفلسفة التأملية، بل إنه يفصل بين الشخص الذي يحسُّ بالمسئولية عن كل كلمة ينطقها، وبين الشخص الذي يستخدم الكلمات من أجل نقل تخمينات حدسية وتكهنات لم تخضع للتحليل، أعني بين ذلك الذي يكون على استعداد لتعديل فهمه للمعرفة، بحيث يتلاءم مع ضروب المعرفة التي يُمكن بلوغها، وذلك الذي لا يستطيع التخلي عن الإيمان بحقيقة تعلو على التجربة، أو بين من يعتقد أن المناهج الرياضية الدقيقة يمكنها أن تسري على تحليل المعرفة، ومن ينظر إلى الفلسفة على أنها مجال خارج عن المنطق، متحرِّر من قيود الضوابط المنطقية، يتحكَّم فيه الرضاء الناتج عن استخدام الكلام المجازي وارتباطاته الانفعالية. فالتفرقة بين هذين النوعين من العقليات نتيجة لا مفر منها للفلسفة الجديدة.
أما السبب المحتمَل الثاني لمعارضة الفلسفة العلمية فهو الرأي القائل إن الفيلسوف العلمي لا يفهم الجانب الانفعالي للحياة، وأن التحليل المنطقي بسلب الفلسفة دلالتها الانفعالية. فكم من دارس للفلسفة يُقبل على محاضرات الفلسفة بحثًا عن المواعظ والإرشادات، ويقرأ أفلاطون مثلما يقرأ الإنجيل أو شكسبير، ويشعر بخيبة الأمل حين يُضطر، في درس للفلسفة، إلى سماع عرض للمنطق الرمزي أو نظرية النسبية. وكل ما أستطيع أن أقوله إزاء هذا الموقف هو أن على من يريدون مواعظ وإرشادات أن يُحضِّروا دروسًا في الإنجيل أو شكسبير، وليس لهم أن يتوقَّعوا الاهتداء إليها في مكان لا مجال لها فيه. إن الفيلسوف العلمي لا يودُّ أن يُقلل من قيمة الانفعالات، ولا يود أن يعيش بدونها، وقد لا تقلُّ حياته، من حيث ما فيها من مشاعر وأحاسيس، عن حياة أي أديب غير أنه يرفض الخلط بين الانفعال والمعرفة، ويحب أن يَستنشِق الهواء النقي للبصيرة والعمق المنطقي. وإذا جاز لي أن أستخدم تعبيرًا أقرب إلى الأمور الواقعة، فإني أقول أن طعم التحليل المنطقي مشابه لطعم المحار، من حيث إن على الإنسان أن يتعلَّم كيف يُحبه. ولكن مثلما أن ذلك الذي يأكل المحار يقبل عن طيب خاطر كأسًا من النبيذ، فإن دارس المنطق ليس في حاجة إلى التخلي عن نبيذ التجارب الانفعالية الذي تقدمه الاهتمامات ذات الطابع الأبعد عن المنطق.
والحق أن القول بأن العقلية الرياضية والمنطقية لا تقدر قيمة الفن إنما هو أسطورة. ذلك لأن رياضيًّا مشهورًا قد قام بطبع مؤلَّفات شاعر غنائي، وكثير من مشاهير علماء الفيزياء يعزفون على «الفيولينه» في ساعات فراغهم، وهناك عالم بيولوجي مشهور كان مصورًا، وتتَّضح مواهبه الفنية في تصويره لملاحظاته المجهرية. إن الفن والعلم لا يستبعد كل منهما الآخر، ولكن من الواجب الامتناع عن التوحيد بينهما. فالقول أن «الحقيقة هي الجمال، والجمال هو الحقيقة.» هو تعبير جميل، ولكنه لا يعبر عن حقيقة، وبذلك يكون فيه تفنيد لمضمونه ذاته.
وربما قيل إن الحجة التي أقدمها لا تمسُّ صميم الموضوع. فقد يعترض على بأن الموقف الشخصي للفيلسوف العلمي ليس هو موضوع المناقشة، ولن ينكر أحد أن الفيلسوف العلمي قد يكون صاحب ذوق سليم، ومتفتحًا للمشاعر، ولكن ما يعاب عليه هو أنه لا يعزو مكانًا للفن والانفعال في مذهبه الفلسفي، أما الفلاسفة التأمليون فكانوا يَنسبون للفن مكانة رفيعة؛ إذ يضعون الفن على قدم المساواة مع العلم والأخلاق. فالحق والخير والجمال كانوا في نظرهم التاج الثلاثي لكل ما يسعى الإنسان إليه ويَصبو إلى بلوغه. أما تاج الفيلسوف العلمي فيبدو أنه لا ينطوي إلا على درَّة واحدة. فلماذا نبذ الأُخريَين؟
إن ردِّي على ذلك هو أن السبب يَنحصِر في أن العلاقة بين الحقيقة والجمال ليست مسألة تيجان أو شرف، فمسألة كيفية تصنيف الفنون هي مسألة منطقية، وبالتالي فهي مسألة متعلقة بالحقيقة. ولكن مسألة الطبيعة المنطقية للتقويمات هي التي لا ينبغي أن تقدم الإجابة عنها من خلال تقويمات. أما كون الإجابة ترضي رغباتنا الانفعالية أو لا ترضيها فهي مسألة خارجة عن الموضوع.
إن الفن تعبير انفعالي، أي إن الموضوعات الجمالية رموز تعبر عن حالات انفعالية. والفنان، فضلًا عن الشخص الذي يتطلع إلى العمل الفني أو يستمع إليه يضفي معاني انفعالية على موضوعات فيزيائية تتألف من طلاء موزع على قماش أو أصوات تحدثها آلات موسيقية. فالتعبير الرمزي عن المعاني الانفعالية هدف طبيعي، أي إنه يُمثِّل قيمةً نصبو إلى الاستمتاع بها. والتقويم هو صفة عامة لأوجه النشاط الهادفة لدى الإنسان، ومن المستحب دراسة طبيعته المنطقية في أهم صورها، دون اقتصار على تحليل الفن وحده.
والواقع أن كل نشاط بشري يخدم، بمعنى ما، هدفًا معينًا، سواء أكان قوامه أداء عمل لازم لكسب العيش، أم حضور اجتماع سياسي يريد المرء عن طريقه أن يُسهم في اتخاذ قرارات سياسية معينة، أم زيارة قاعة فنية يريد المرء أن يرى فيها صورًا لمناظر طبيعية أو لأشخاص أو صورًا تجريدية من خلال عين الفنان، أو أداء رقصة والاستمتاع بالتأثير الانفعالي للإيقاع والموسيقى. ومع ذلك، ففي كل أوجه النشاط هذه، تكون هناك لحظات يتعين فيها القيام باختيار، وفي هذه اللحظات يكشف السلوك عن تقويم. وليس من الضروري أن يذكر التقويم صراحة، أو أن يتمَّ بالتفكير الواعي والمقارنة، بل إنه قد يتحقق في ذلك الدافع التلقائي الذي يدعو الإنسان إلى قراءة كتاب أو رؤية صديق أو حضور حفل موسيقى. ولكننا نعبر في القرار الذي نتَّخذه من تفضيلاتنا، وبذلك يدل سلوكنا على النظام التقويمي الذي يكون خلفية أفعالنا.
ويتولى عالم النفس مهمة الدراسة الواعية لهذا النظام التقويمي. فهو يعرف أن هذا النظام لا يكون واحدًا في جميع الحالات، وأن التفضيلات تتفاوَت تبعًا للظروف الوقتية، وللبيئة، وللسن. وفي استطاعته أن يُحاول إيجاد نوع من النظام المتوسط، الذي يستدل عليه من الدراسة الإحصائية للسلوك الهادف. كما أنه يستطيع الانتقال إلى تصنيف السلوك الهادف إلى أنواع متباينة. فهناك الميل الفسيولوجي للغذاء والجنس والراحة، وهناك الميل إلى الاعتراف الاجتماعي والنفوذ الاجتماعي، بل إلى السلطة الاجتماعية. وهناك الميل الخلاق الذي يدفع الإنسان إلى تأليف كتاب أو صنع سور لحديقته بنفسه. وهناك الرغبة في لعب كرة القدم أو في مشاهدة الآخرين وهم يلعبونها. وهناك الميل إلى التعبير الانفعالي الذي يتمثل في الاستماع إلى رباعية وترية أو التطلع إلى الألوان الزاهية للشفق. وهناك الميل إلى المعرفة، الذي نرضيه بقراءة الكتب العلمية أو القيام بتجارب علمية. على أن أي تصنيف كهذا لا بد أن يكون ناقصًا، ولا بد أن يشوب النقص محاولات تكوين نظام منطقي محكم، نتيجة لتداخل مختلف الأهداف في كل سلوك.
ومع ذلك فهناك سمة مشتركة يمكن الاهتداء إليها في جميع ضروب النشاط الهادف. فاختيار هدف ليس فعلًا يشابه إدراك الحقيقة. صحيح أن هذا الاختيار ينطوي على عناصر معرفية، مثلما يقتضي هدفُ كسب الرزق تحمُّل المتاعب المهنية، غير أن اختيار الهدف ليس فعلًا منطقيًّا، وإنما هو تأكيد تلقائي للرغبات أو الإرادات التي تأتينا مصحوبة بميول لا تقهر، أو بلذة متوقعة طاغية، أو بالانسياب الطبيعي للعادات التي نقبلها على علاتها، فلا جدوى من أن نطلب إلى الفيلسوف تبرير التقويمات، كما أنه لا يستطيع أن يقدم سلمًا متدرجًا للنظام التقويمي، نميز فيه بين القيم العليا والدنيا؛ ذلك لأن مثل هذا السلم هو في ذاته تقويمي لا معرفي. وقد يستطيع الفيلسوف، بوصفه رجلًا مثقفًا ذا خبرة، أن يقدم نصيحة قيِّمة يشأن التقويمات، أي أن يُؤثر في الأشخاص الآخرين لكي يَقبلوا سلمه التقويمي إلى حدٍّ أعظم أو أقل. غير أنَّ المشتغلين بالمهن الأخرى قد لا يقلُّون عنه قدرة على أداء هذه الوظيفة التعليمية. بل إنهم لو كانوا مربِّين أو علماء نفس متخصِّصين، لكان من الجائز أن يكونوا أقدر منه على القيام بها.
إن الفيلسوف العلمي لا ينظر إلى مشكلات التقويم على أنها خارجة عن نطاق اهتمامه؛ إذ إنها تهمه بقدر ما تهم أي شخص آخر. غير أنه يعتقد أنها لا يُمكن أن تُحلَّ بوسائل فلسفية. فهي تنتمي إلى علم النفس، ومن الواجب تقديم تحليلها المنطقي في سياق التحليل المنطقي للتصورات النفسية بوجه عام.
أما السبب المحتمل الثالث لمعارضة الفلسفة العلمية فهو أن نتائجها لا تؤدي إلى أي إرشاد أو توجيه أخلاقي. وكم من طالب تهرب من تعاليم الفلسفة العلمية خوفًا من ذلك التمييز القاطع بين الأخلاق والعلم. أو بين الإرادة والمعرفة فقد كان فيلسوف الطراز القديم يقدم إليه نصائح توجهه في طريقة حياته. ويعده بأنه إذا درس الكتب الفلسفية دراسة كافية، فسوف يعرف ما هو خير وما هو شر. أما الفيلسوف العلمي فيقول له صراحة أنه إذا أراد أن يعرف كيف يحيا حياة طيبة فليس له أن ينتظر من تعاليمه شيئًا.
على أن مما يخفف من تأثير امتناع الفلسفة العلمية عن تقديم نصائح أخلاقية، أن هذه الفلسفة تشجع على استخدام التفكير المعرفي في دراسة العلاقات بين مختلف الغايات الأخلاقية؛ فعلاقات اللزوم بين الغايات والوسائل، وبين الغايات الأولية والثانوية، ذات طبيعة معرفية، وينبغي ألا يَنسى المرء أن هذه الحقيقة تؤدي إلى تسوية قدر كبير من الخلافات الأخلاقية. فمعظم القرارات التي نواجهها لا تتعلق بغايات أولية، وإنما بغايات ثانوية، وكل ما نحتاج إليه هو تحليل الدور الذي سيُؤديه القرار موضوع البحث في تحقيق غاية أساسية معينة. وتكاد القرارات السياسية أن تكون لها تقريبًا من هذا النوع. مثال ذلك أن مسألة ضرورة تحديد الحكومة للأسعار هي مسألة يجاب عليها بالتحليل الاقتصادي، أما الغاية الأخلاقية المتعلقة بإنتاج أكبر قدر ممكن من السلع بأقل سعر مُمكن فليست في هذه الحالة موضوع بحث، غير أن الفيلسوف العلمي حين يصنف علاقات اللزوم الأخلاقية بأنها معرفية، يستبعد مناقشة هذه العلاقات من مجال الفلسفة، ويجعل لها مكانًا داخل العلوم الاجتماعية. فالتحليل المنطقي للأخلاق، شأنها شأن علم الفيزياء، يدلُّ على أن كثيرًا من المسائل التي كانت تعدُّ فلسفية ينبغي أن يجيب عنها العلم التجريبي. وأن تاريخ الفلسفة ليثبت مرارًا وتكرارًا أن الأسئلة التي توجه إلى الفيلسوف تنتقل إلى العالم، وفي هذه الحالة لا بد أن تصبح الإجابة أعمق وأقوى ضمانًا. وعلى من يلتمسون لدى الفيلسوف توجيهًا في الحياة أن يشكروه إذا أحالهم إلى عالم النفس أو العالم الاجتماعي؛ إذ إن المعرفة المكتسبة في هذين العلمين التجريبيين تبشر بتقديم إجابات أفضل بكثير من تلك التي تكدست في كتابات الفلاسفة. فكثيرًا ما تكون المذاهب الأخلاقية للفلسفة التأملية مبنية على الظروف النفسية والبناء الاجتماعي لعصور مضت، وهي — كالمذاهب النظرية — تعرض ما لا يعدو أن يكون نتاجًا لمرحلة مؤقتة للمعرفة، على أنه نتائج فلسفية. أما الفيلسوف العلمي فيَبتعِد عن هذه الأخطاء؛ إذ يقصر الدور الذي يسهم به في الأخلاق على إيضاح تركيبها المنطقي.
وعلى الرغم من أن الفيلسوف العلمي يرفض تقديم النصح الأخلاقي، فإنه عند تنفيذه لبرنامجه يُبدي استعداده لمناقشة طبيعة النصح الأخلاقي، وبالتالي للامتداد بطريقته في الإيضاح إلى دراسة الجائب المنطقي لهذا النشاط البشري. فمن الممكن تقديم النصح الأخلاقي على ثلاث صور. في الصورة الأولى يُحاول مقدم النصح أن يقنع الشخص بقبول الغايات الأخلاقية التي يعدُّها مقدم النصح ذاته خيرًا. وفي الصورة الثانية يسأل مقدم النصح الشخص الآخر عن غاياته، ثم ينبئه بالنتائج اللازمة التي تساعده على بلوغ غاياته. وفي الصورة الثالثة يكتسب مقدم النصح معلومات عن أهداف الشخص، لا عن طريق توجيه الأسئلة إليه، بل عن طريق ملاحظة سلوكه والاستدلال منه على الأهداف التي ينبغي أن يسعى إليها الشخص. وبعد ذلك يصوغ هذه الأهداف في ألفاظ، ويُنبئ الشخص، كما في الحالة السابقة، بالنتائج اللازمة لبلوغه هذه الأهداف.
ومن قبيل النوع الأول من النصح، ما يقدمه السياسيون ومُمثلو العقائد وغيرهم من دعاة أخلاق السلطة. أما في النوع الثاني، فإن مقدم النصح يقوم بوظيفة الباحث النفسي، كالمتخصِّص في التوجيه المهني، الذي يُجيب على الأسئلة المتعلقة بالإعداد لمختلف المهن. وفي النوع الثالث يأخذ مقدم النصح على عاتقه مهمة تفسير سلوك المرء. فلما كان الناس لا يدركون أهدافهم، في كثير من الأحيان، بوضوح كامل، ويَفعلون أمورًا كثيرة دون تفكير في مقاصدهم، فإن مقدم النصح قد يتمكَّن أحيانًا من أن ينبئ الشخص بما «يريده هو ذاته حقيقة». ومعنى ذلك أنه يستطيع تقديم تفسير متَّسق لسلوك الشخص، ويشجعه على أن يرغب صراحة في شيء لم يكن يرغب فيه حتى ذلك الحين على نحو صريح. وعلى هذا النحو يُمكن أن يكون مقدم النصح ذا تأثير هائل في التكوين النفسي للشخص، ويُساعده على إيضاح رغباته، وهي وظيفة مشابهة من بعض النواحي لإيضاح المعاني الذي يتم عن طريق التحليل المنطقي. هذا النوع من النصح هو أكثر الأنواع فعالية، وهو يقتضي مؤهلات رفيعة من مقدم النصح؛ إذ يتطلب فهما نفسيًّا، فضلًا عن معرفة واسعة بالظروف الاجتماعية.
على أن العنصر الذاتي في النُّصح لا يظهر بوضوح إلا في النوع الأول، وإن كان هناك عادة عنصر ذاتي في النوعين الثاني والثالث بدورهما. فمقدم النصح لن يكون على استعداد لتعريف الشخص بوسائل بلوغ أهدافه إلا إذا كان يوافق على هذه الأهداف، إلى مدى معيَّن على الأقل. مثال ذلك أن نصير الأخلاق الديمقراطية لن يستطيع تقديم النصح إلى حكومة شمولية حول طريقة تحقيقها لأهدافها، ما لم يكن قد «باع نفسه» وهو عمل يعدُّه معظم الناس لا أخلاقيًّا. وعلى ذلك فإن النصح الأمين لا يُمكن أبدًا أن يكون موضوعيًّا خالصًا، بل لا بد أن يكون مقدم النصح مشاركًا بطريقة إيجابية في تكوين هذه الأهداف، وفاعلًا أخلاقيًّا، وهو يقوم بدور تنفيذي إلى جانب الدور المعرفي في عمله.
وقد يُقال أحيانًا إن النصح موضوعي لأن متلقيه عندما يقبل النصيحة ويُحققها في حياته الشخصية، يعترف في كثير من الأحيان بأنه أصبح يعرف الآن ما يريد، ويشعر بأنه أسعد مما كان من قبل. على أن مثل هذه النتيجة ليسَت دليلًا على الموضوعية؛ ذلك لأن الشخصيات الإنسانية قابلة للتشكيل، وقد يخضع الشخص لتأثير مرشدين يُوجهونه نحو أهداف مختلفة كل الاختلاف، ويظلُّ مع ذلك يؤيد نصحهم بأن يحس أنه أصبح سعيدًا وازداد استنارة. فكثيرًا ما يكون أفراد المجتمع الشمولي مُماثلين لأفراد المجتمع الديمقراطي في سعادتهم ووثوقهم بأنفسهم، ومع ذلك فهناك احتمال كبير في أن أحدًا منهم لم يكن ليقبل الأهداف المضادَّة لو كان قد نشأ في البيئة المناظرة. يمكن تبرير النصح الأخلاقي على أساس نجاحه النفسي. وعلى مقدم النصح أن يعلم أنه يحض الشخص الآخَر على القيام بشيء يمده مقدم النصح ذاته صوابًا، وأن المسئولية إنما تقع على عاتق مقدم النصح، وأنه لا مفر من التزام المرء برغباته الإرادية الخاصة في الأخلاق الموضوعية، وهي الرغبات التي تتكشَّف من خلال الدراسات النفسية للسلوك البشري. ففي استطاعة علم النفس أن ينبئنا بما يريده الناس، ولكنه لا يستطيع أن يُنبئنا بما ينبغي أن يريده الناس، إذا فهمت كلمة «ينبغي» بمعنى غير لزومي — كما أن كلمة «ينبغي» بمعناها اللزومي لا يمكن أن تؤدِّي إلى قيام أخلاق موضوعية؛ لأنها لا تستطيع إثبات الأهداف الأولية.
والواقع أن الحل الذي تُقدمه الفلسفة العلمية لمشكلة الأخلاق يشبه في نواحٍ متعدِّدة الحل الذي توصلت إليه بالنسبة إلى مشكلة الهندسة. وقد أوضحنا هذا الحل في الفصل الثامن؛ فعلى حين أن الرياضيين القدماء كانوا ينظرون إلى الهندسة بأسرها على أنها ضرورة رياضية، فإن الرياضيين اليوم يقصرون الطابع الضروري على علاقات اللزوم بين البديهيات والنظريات، ويَستبعدون البديهيات ذاتها من مجال التأكيدات الرياضية. وبالمثل فإن الفيلسوف العلمي يفرق بين البديهيات أو المقدِّمات الأخلاقية، وبين علاقات اللزوم الأخلاقية، ويرى أن هذه الأخيرة هي وحدها التي يُمكن البرهنة عليها منطقيًّا. ومع ذلك فهناك فارق أساسي. فمن الممكن أن تُصبح بديهيات الهندسة قضايا صحيحة إذا نُظِر إليها على أنها قضايا فيزيائية، مبنية على تعريفات إحداثية، وتثبتها الملاحظة، وعندئذٍ تكون لها حقيقة تجريبية. أما بديهيات الأخلاق فلا يُمكن أن تعد فيه صحيحة، وإنما هي قرارات إرادية. وعندما يُنكر الفيلسوف العلمي إمكان وجود أخلاق علمية، فهو إنما يشير إلى هذه الحقيقة. وهو لا يستطيع أبدًا أن ينكر أن العلوم الاجتماعية تقوم بدور هام في جميع تطبيقات القرارات الأخلاقية. وهو لا يودُّ أن يقول إن ما يسمى بالبديهيات هي مقدمات لا تتغير، تسري على كل العصور والظروف. فحتى المقدمات الأخلاقية العامة ذاتها قد تتغيَّر بتغيُّر البيئة الاجتماعية، وعندما تُسمى بديهيات فإن كل ما يعنيه هذا اللفظ هو أنها لا توضع موضع الشك في السياق الذي يتعلق به البحث فحسب.
إنَّ الأخلاق تشتمل على عنصر معرفي وعنصر إرادي، ولا يمكن أبدًا أن تؤدِّي علاقات اللزوم المعرفية إلى استبعاد القرارات الإرادية استبعادًا تامًّا، وإن كانت تستطيع أن تنقص عدد هذه القرارات وعلاقات اللزوم بوضوح من خلال التحليل الآتي: فلنفرض أن شخصًا يريد كلًّا من الهدفين «أ» و«ب». ولكن العالم الاجتماعي يثبت له أن «أ» يلزم عنها لا-«ب». فهل يتعين عليه إذن أن يتخلى عن «ب»؟ كلَّا بالتأكيد؛ ففي استطاعته أيضًا أن يتخلَّى عن «أ» ويختار «ب»، إذا كانت «ب» تبدو له الهدف الأفضل. وعلى ذلك فاللزوم الأخلاقي لا ينبئ الشخص بما ينبغي عمله، وإنما هو يُواجهه باختيار فحسب. والاختيار مسألة ترجع إلى إرادته، ولا يُمكن أن يعفيه أي لزوم معرفي من هذا الاختيار الشخصي.
فمثلًا، قد يريد شخص السلام بين الدول، ولكنه يريد أيضًا التحرر من الاستعباد. فيتَّضح له أن من المستحيل أحيانًا التخلُّص من الاستعباد إلا بقوة السلاح. فهل يلزم عن ذلك أنه إذا حدثت هذه الظروف كان لا بد من الدعوة إلى الحرب ضد الاستعباد؟ مثل هذا الاستنتاج سيكون باطلًا؛ إذ إن النتيجة التي تترتب على ما سبق هي أنه لا يستطيع أن يحصل على السلام وعلى الحرية معًا، وعليه هو أن يحدِّد أي هذين الهدفين يُفضِّل. فاللزوم المعرفي: «الحرية يلزم عنها الحرب» لا يؤدِّي إلى شيء سوى إلزامه بالقيام بهذا الاختيار، ولكنه لا ينبئه بما ينبغي عليه أن يختار.
هذا التحليل يُوضِّح أيضًا أنه لا توجد أهداف مطلَقة، أعني أهدافًا يسعى إليها الناس في جميع الظروف. فمن الممكن أن يحكم على كل هدف على أساس نتائجه. ولو كان الهدف يقتضي استخدام وسيلة نعدُّها ضارة بأهداف أخرى، وكانت هذه الأهداف في نظرنا أرفع من الأول، فإننا في هذه الحالة نتخلَّى عن الهدف الأول. فإذا كان صحيحًا أن الغاية تُبرِّر الوسيلة، فإن من الصحيح، على عكس ذلك، أن الوسيلة يُمكن أن تقتضيَ رفض الغاية. فعلاقة اللزوم بين الغاية والوسيلة لا تُقدِّم دليلًا على أن من الواجب اتباع الوسيلة، وإنما هي تَقتصِر على إثبات ضرورة الاختيار بين أمرين. فهيَ تُثبت أن علينا أن نطبق الوسيلة أو نتخلَّى عن الغاية. وهذا اختيار ينبغي على كل شخص أن يقوم به بنفسه.
وقد يكون من المفيد أحيانًا أن نعرف مزيدًا من علاقات اللزوم. فإذا كان يتعيَّن الاختيار بين «أ» و«ب»، فقد يكون من المفيد أن نعرف أن «أ» لازم للهدف «ج»، وأن «ب» لازم للهدف «د». وبدلًا من أن نقارن بين «أ» و«ب» فقد نقارن عندئذٍ بين «ج» و«د». فقد تَعرِض على شخص، مثلًا، وظيفة ذات مرتَّب كبير، ولكنها تُلزمه بتأييد آراء سياسية ظلَّ حتى ذلك الحين يَرفضُها بشدة. على أنه يحتاج إلى المال لإكمال تعليم أبنائه، ومع ذلك فإنه لو أصبح عميلًا سياسيًّا لفقَد احترامه لنفسه واحترام أصدقائه له. وهكذا يرتدُّ الاختيار الأصلي بين الوظيفة ذات المرتَّب الكبير والولاء لآرائه السياسية إلى اختيار بين امتلاكه للوسيلة اللازمة لتعليم أبنائه وبين احتفاظه بكرامته الشخصية. هذا المثل يُوضِّح أن إرجاع القرارات إلى قرارات أخرى لا يكاد يُخفِّف من صعوبة الاختيار بينها. وقد يكون الاختيار بين الهدفين «ج» و«د»، في حالات أخرى، أسهل من الاختيار بين الهدفين «أ» و«ب». ومع ذلك فمن الواضح أن أي ردٍّ أو إرجاع كهذا يَجعلنا إزاء اختيار لا يُمكن البتُّ فيه بالوسائل المعرفية؛ فإرادتنا هي الأداة النهائية لاختيارنا.
وإني لأودُّ أن أُعرب عن الأمل في أن تؤدِّيَ هذه الصياغة التي قدمتها إلى فتْح باب التفاهم مع الفلاسفة البرجماتيين الذين يؤكِّدون وجود أخلاق علمية. فالفارق بين صياغتهم وبين صياغتي ليس إلا فارقًا لفظيًّا عندما يكون المقصود من تعبير «الأخلاق العلمية» أن يدلَّ على أخلاق تَستخدم المنهج العِلمي في إثبات علاقات اللزوم بين الغايات والوسائل. وربما كان هذا هو كل ما يُريد البرجماتيون أن يقولوه، ومع ذلك فسوف يكون من دواعي سروري العظيم أن أجد في كتابات البرجماتيين عبارة واضحة تدلُّ على أنهم يحملون صراحة على جميع محاولات إثبات صحة الأهداف الأولية بوسائل معرفية، على أساس أنها محاولات غير علمية؛ فالبرجماتي يتحدث عن حاجات بشرية، ولكن وجود حاجات للناس لا يثبت أن هذه الحاجات خير. فإذا كان من الممكن الاستدلال على هذه الحاجات أو الأهداف من سلوك الإنسان، فقد يكون من المفيد إلى أبعد حدٍّ ذكر هذه الأهداف صراحة، ولكن من يقدم نصيحة يقصد منها إيضاح الحاجات وإشباعها ينمُّ، من خلال سلوكه هو، على أنه لا يكتفي بأن يعد هذه الحاجات موجودة فحسب، بل هو يعدُّها خيرًا. فإذا ظهر بوضوح أن لفظ «خير» المستخدم هنا يَعني أن مقدم النُّصح يُؤيِّد الأهداف التي كشف عنها، فإن من الواجب الترحيب بالبرجماتي حين يقوم بمهمَّة تقديم النصح الأخلاقي.
ولكن قد يَحدُث مثلًا أن يصرَّ من يُقدم النصح، مع اعترافه بهذا التفسير صراحة، على ضرورة التزام الطبيب لسرِّ مهنتِه، ما دام مما يضرُّ بهدف الطبيب في شفاء المرضى ألا يكون المرضى واثقين من أن تاريخ أحوالهم الشخصية سيظلُّ طي الكتمان. أو قد يقول إنَّ البحث العلمي، وإن كان معرفيًّا تمامًا في منهجه، فإنه سعيٌ وراء أهداف تَنطوي في داخلها على التزامات اجتماعية، فالبحث عن الحقيقة لا يُقدَّر له النجاح إلا في جو من الحرية والأمانة، والعالم الذي لا يكون على استعداد للدفاع عن هذه المصادرات الأخلاقية يعمل لغير صالح أبحاثه الخاصة. وهذه الحُجة لا تعني أن النظريات العلمية تنطوي على أوامر أخلاقية، بل تعني أن الأهداف الأخلاقية التي يدلُّ عليها نشاط العلم تنطوي على أوامر كهذه.
والواقع أن بناء أخلاق اجتماعية من هذا النوع إنما هو إسهام قيم يُساعد الكيان الاجتماعي على أداء وظيفته؛ فهو يعني استخدام علم الاجتماع في وضع قواعد للسلوك مناسبة لمكانة الشخص في المجتمع البشري. وليس لديَّ اعتراض على تسمية هذا النظام الأخلاقي بالأخلاق العلمية، إن كان هناك اتِّفاق على أنه ليس علمًا. فهو علمي بنفس المعنى الذي يكون به الطب وصناعة الآلات علميَّين، وهو نوع من هندسة المجتمَع، أي إنه نشاط يُنتفَع بواسطته من نتائج العلم المعرفي في سبيل تحقيق الأهداف البشرية. أما هذه الأهداف ذاتها فلا تُثبِت صحتها المعرفة ولا العلم، وإنما هي تُعبِّر عن قرارات إرادية، وليس في وسع أي عالم أن يُعفيَ أي شخص من مسئولية الاستماع إلى صوت إرادته، بل إن العالم لا يستطيع أن يُقدِّم نصيحة أخلاقية بدون الاستماع إلى صوت إرادته هو؛ فهو حين يقوم بمهمة المرشد الأخلاقي يتجاوز نطاق العلم وينضمُّ إلى أولئك الذين يُشكِّلون المجتمَع البشري تبعًا لأنموذج يَعتقِدون أنه هو الصحيح.
إن الفلسفة العلمية لا تستطيع أن تقدم توجيهًا أخلاقيًّا، هذه إحدى نتائج تلك الفلسفة، وهي نتيجة لا يُمكن أن تُؤخَذ عليها. فهل تريد الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة؟ إذن لا تَطلب من الفيلسوف توجيهات أخلاقية. أما أولئك الفلاسفة الذين يُبدون استعدادهم لاستخلاص توجيهات أخلاقية من فلسفاتهم فلا يُقدِّمون إليك إلا دليلًا باطلًا. فلا تسْعَ إلى أهداف يستحيل بلوغها.
وعلى ذلك فإن الإجابة على طلب التوجيهات الأخلاقية هي نفس الإجابة على طلب اليقين؛ فكلاهما يطلب غايات لا يُمكن بلوغها. ويُمكِن القول إن الفلسفة العلمية الحديثة، حين أوضحت أن هذه الأهداف لا يمكن بلوغها لأسباب منطقية، قد وصلت إلى نتيجة معرفية لها أهمية عُظمى في توجيه الإنسان إزاء الأهداف الفلسفية التقليدية؛ فهي تطالبنا بالتخلي عن هذه الأهداف. ولكن التخلي عن المستحيل لا يعني الاستسلام، بل إن الحقيقة السلبية تستدعي توجيها إيجابيًّا هو: كيِّف أهدافك مع ما يُمكن بلوغه. هذا التوجيه يترتَّب على رغبة المرء في بلوغ أهدافه؛ فهو يُعبِّر عن علاقة لزوم واضحة كل الوضوح، هي: إذا أردت أن تَبلُغ أهدافك، فلا تسْعَ إلى أهداف يستحيل بلوغُها.
لقد كان معبد «ديلوس» في اليونان القديمة يضم مذبحًا ذهبيًّا له شكل مكعَّب عظيم الدقة، وحدَث في وقتٍ ما أن تفشَّى الوباء، والْتمسَ أهل ديلوس المشورة في النبوءات، فقيل لهم إن عليهم، من أجل إرضاء آلهتهم، أن يُضاعِفوا حجم المذبح الذهبي بدقة، بحيث يكون له مرة أخرى شكل المكعب. وتوجَّه الكهنة إلى الرياضيِّين بالسؤال عن كيفية حساب طول ضلع المكعب الذي يكون حجمه ضعف مكعب معلوم، ولكن الرياضيِّين عجزوا عن الاهتداء إلى حلٍّ صحيح للمشكلة، وأنا على ثقة من أن إلهًا كآلهة اليونان كان خليقًا بأن يكتفيَ بمكعَّب يَقترب من ضعف الحجم المطلوب، ومن المؤكد أنه كان في استطاعة صائغ يوناني أن يُقرِّب كل الاقتراب من الحجم المطلوب. غير أن الرياضيين اليونانيين ما كانوا ليَقبلوا حلًّا ناقصًا كهذا، وإنما أرادوا الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، وقد استغرق الاهتداء إلى الجواب الصحيح ألفَي عام، وكان ذلك الجواب الصحيح سلبيًّا؛ فمن المستحيل مضاعَفة حجْم مكعَّب معيَّن بدقة، عن طريق الوسائل الهندسية بمعناها المعتاد، فهل كان الرياضيون اليونانيون خليقين بأن يرفضوا هذه الإجابة لأنها سلبية؟ إن على من يريد الحقيقة ألا يَخيب أمله عندما تكون الحقيقة سلبية. فخير للمرء أن يعرف حقيقة سلبية، من أن يَطلُب ما يستحيل بلوغه.
إن من المستحيل أن تكون للمرء معرفة بالعالم يكون لها يقين الحقيقة الرياضية، ومن المستحيل وضع توجيهات أخلاقية تكون لها تلك الموضوعية المُلزمة التي تتَّصف بها الحقيقة الرياضية، أو حتى الحقيقة التجريبية. هذه إحدى الحقائق التي كشفَت عنها الفلسفة العلمية؛ فحل مشكلة اليقين المطلق، فضلًا عن حل مشكلة تشييد أخلاق على مثال المعرفة، هو حلٌّ سلبي، وهذه هي الإجابة الحديثة على سؤال قديم العهد. فإذا قال امرؤ إنَّ الفلسفة العلمية قد خيَّبت أمله لأنها لا تأتيه باليقين، أو لا تقدم توجيهات أخلاقية، فلتروِ له قصَّة مُكعَّب أهل ديلوس.
إن المقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة مسألة تخصُّ المؤرخ؛ ولا بد أن تكون لها أهميتها عند كل من نشئوا في ظل الفلسفة القديمة ويودُّون أن يفهموا الفلسفة الجديدة. أما أولئك الذين يعملون في ميدان الفلسفة الجديدة فلا يَنظرون إلى الوراء؛ إذ إنَّ الاعتبارات التاريخية لن تفيد عملهم في شيء؛ فهم يُماثلون أفلاطون أو «كانت» في ابتعادهما عن التاريخ؛ إذ إنهم لا يهتمون، شأنهم شأن هذَين القطبين في فترة سابقة للفلسفة، إلا بالموضوع الذي يَشتغلون به، لا بعلاقاته بالعهود الماضية. وليس معنى ذلك أنني أودُّ الإقلال من شأن تاريخ الفلسفة، ولكن على المرء أن يذكر دائمًا أن هذا تاريخ، وليس فلسفة. ومن الواجب أن يتمَّ البحث فيه، كما يتمُّ كل بحث تاريخي آخر، من خلال المناهج العلمية والتفسيرات النفسية والاجتماعية، غير أن تاريخ الفلسفة لا ينبغي أن يُعرَض بوصفه مجموعة من الحقائق. ففي الفلسفة التقليدية من الخطأ أكثر مما فيها من الصواب، وعلى ذلك فإن أصحاب العقول النقدية هم وحدهم الذين يُمكن أن يكونوا مؤرِّخين أكْفاء. أما تمجيد الفلسفات الماضية، وعرض مختلف المذاهب كما لو كانت صيغًا مختلفة للحكمة، لكل منها الحق في أن يُوصف بهذه الصفة، فإنه أدَّى إلى إضعاف المقدرة الفلسفية لدى الجيل الحالي. وهو قد شجع الطالب على أن يأخذ بالنسبية الفلسفية، ويعتقد بأنه لا توجد إلا آراء فلسفية، ولكن لا توجد حقيقة فلسفية.
أما الفلسفة العلمية فإنها تُحاول الابتعاد عن النزعة التاريخية والوصول عن طريق التحليل المنطقي إلى نتائج تبلغ من الدقة والإحكام والوثوق ما تبلغه نتائج العلم في عصرنا هذا. وهي تؤكِّد أن من الضروري إثارة مشكلة الحقيقة في الفلسفة بنفس المعنى الذي تثار به في العلوم. وهي لا تزعم أنها تملك حقيقة مطلقة؛ إذ إنها تُنكِر أن تكون للمعرفة التجريبية حقيقة من هذا النوع. وعلى قدر إشارة الفلسفة الجديدة إلى الحالة الراهنة للمعرفة، واستخلاصها لنظرية هذه المعرفة الموجودة الآن، فإنها هي ذاتها تعد فلسفة تجريبية، وتقنع بالحقيقة التجريبية. فليس في وسع الفيلسوف العلمي، شأنه شأن العالم، إلا أن يبحث عن أفضل ترجيحاته. ولكن ذلك هو ما يستطيع أداءه، وهو على استعداد لأدائه بروح المثابرة والنقد الذاتي والترحيب بالمحاولات الجديدة، التي لا غناء عنها للعمل العلمي، ولو عمل الناس على تصويب الخطأ كلما تَكشَّف لهم بطلانه، لكان طريق الخطأ هو ذاته طريق الحقيقة.