البحث عن العمومية والتفسير الوهمي
البحث عن المعرفة قديمٌ قِدمَ التاريخ البشري؛ فمع بداية التجمع الاجتماعي، واستخدام الأدوات من أجل مزيد من الإرضاء للحاجات اليومية نشأت الرغبة في المعرفة، ما دامت المعرفة لا تنفصل عن السيطرة على موضوعات بيئتنا من أجل تسخيرها لخدمتنا.
وأساس المعرفة هو التعميم؛ فإدراك أن النار تنتج بقدح الخشب على نحو معيَّن، هو معرفة مستخلصة بالتعميم من تجارب فردية؛ إذ إن هذا القول يعني أن قدح الخشب بهذه الطريقة يؤدي دائمًا إلى ظهور النار؛ وعلى ذلك فإن فن الكشف هو فن التعميم الصحيح. ولا بد من أن نستبعد من التعميم ما لا يرتبط بالموضوع، كالشكل أو الحجم الخاص لقطعة الخشب المستخدمة، وأن نُدرِج فيه ما يرتبط به، مثل جفاف الخشب؛ وإذن فمن الممكن تعريف لفظ «الارتباط» على النحو الآتي: يكون العامل مرتبطًا بالموضوع إذا كان ذِكره ضروريًّا لكي يكون التعميم صحيحًا. وهكذا فإن التفرقة بين العوامل المرتبطة بالموضوع والعوامل غير المرتبطة به هي بداية المعرفة.
وفضلًا عن ذلك فإن التعميم هو قوام التفسير ذاته؛ فما نعنيه بتفسير واقعة ملاحظة هو إدراج هذه الواقعة في قانون عام. فنحمن نلاحظ مثلًا أنه كلما تقدَّم النهار هبَّت رياح من البحر إلى اليابس، ونفسِّر هذه الواقعة بإدراجها في القانون العام القائل إن الأجسام تتمدد بالحرارة؛ وتغدو بالتالي أخف في حالة تساوي حجومها، ثم نُدرِك كيف ينطبق هذا القانون على المثل الذي نحن بصدد بحثه؛ إذ إن الشمس تسخِّن الأرض إلى حدٍّ أقوى من تسخينها للماء، بحيث يصبح الهواء فوق الأرض دافئًا، فيرتفع إلى أعلى، ويُخلي مكانه لتيارٍ هوائيٍّ آتٍ من البحر. كذلك فإننا نلاحظ أن الكائنات العضوية الحية تحتاج إلى الغذاء لكي تعيش، وتُفسَّر هذه الواقعة بإدراجها ضمن قانون عام، هو قانون «بقاء الطاقة»؛ فالطاقة التي تبذلها الكائنات العضوية في أوجه نشاطها، لا بد أن تُعوَّض بالسعرات الحرارية للغذاء. كما أننا نلاحظ أن الأجسام تسقط إذا لم ترتكز على شيء، ونفسِّر هذه الواقعة بإدراجها في القانون العام القائل إن الكتل يجذب بعضها بعضًا؛ أي إن الكتلة الهائلة للأرض تشد الكتل الصغيرة نحو سطحها.
وقد يتم التوصل إلى التفسير أحيانًا عن طريق افتراض واقعة لم تُلاحَظ أو لا يمكن ملاحظتها. مثال ذلك أن نباح الكلب يمكن تفسيره بافتراض أن شخصًا غريبًا يقترب من البيت، ووجود الحفريات البحرية في الجبال يمكن تفسيره بافتراض أن الأرض كانت في وقت من الأوقات في مستوًى أكثر هبوطًا، وكان المحيط يغطِّيها، غير أن الواقعة غير الملاحظة لا تكون تفسيرية إلا لأنها تبيِّن أن الواقعة الملاحَظة مَظهرٌ لقانون عام، هي أن الكلاب تنبح عند اقتراب شخص غريب، أو أن الحيوانات البحرية لا تعيش في اليابس؛ وعلى ذلك فالقوانين العامة يمكن أن تُستخدم في الاستدلالات التي تكشف وقائع جديدة، ويصبح التفسير أداة لتكملة عالم التجربة المباشرة بموضوعات وحوادث مستخلصة بالاستدلال.
فلا عجب إذن إن أدى التفسير الناجح لكثير من الظواهر الطبيعية إلى تكوين ميل إلى زيادة التعميم في الذهن البشري؛ ذلك لأن الوقائع الملاحَظة، على كثرتها، لم تكن تُرضي رغبتنا في المعرفة، وإنما كان السعي إلى المعرفة يتجاوز نطاق الملاحظة ويحتاج إلى تعميم. ومع ذلك فإن الأمر الواقع المؤسف هو أن الناس يميلون إلى تقديم إجابات حتى عندما تُعوِزهم وسائل الاهتداء إلى إجابات صحيحة؛ فالتفسير العلمي يقتضي ملاحظة واسعة النطاق، وتفكيرًا نقديًّا فاحصًا، وكلما كان التعميم الذي نسعى إليه أعظم، كانت كمية المادة الملاحظة التي يحتاج إليها أكبر، وكان التفكير النقدي الذي يقتضيه أدق. أما في الحالات التي كان التفسير العلمي يخفق فيها نظرًا إلى قصور المعرفة المتوافرة في ذلك الوقت عن تقديم التعميم الصحيح، فقد كان الخيال يحل محله، ويقدِّم نوعًا من التفسير يُشبِع النزوع إلى العمومية عن طريق إرضائه بمشابهات ساذجة؛ وعندئذٍ كان يشيع الخلط بين التشبيهات السطحية، ولا سيَّما التشبيهات بالتجارب البشرية، وبين التعميمات، وكانت الأولى تؤخذ على إنها تعميمات، وهكذا تتم تهدئة الرغبة في الوصول إلى العمومية، عن طريق تفسيرات وهمية؛ وعلى هذا الأساس نبتت الفلسفة.
مثل هذا الأصل لا يبدو مشرِّفًا، غير أنني لست بسبيل كتابة خطاب توصية وتقريظ للفلسفة، وإنما أود أن أفسِّر وجودها وطبيعتها. ومن الحقائق التي ينبغي الاعتراف بها أن ما في الفلسفة من نواحي الضعف والقوة معًا، يمكن تفسيره عن طريق إرجاعها إلى مثل هذا الأصل المتواضع.
فلأضرب مثلًا لما أعنيه بالتفسير الوهمي. إن الرغبة في فهم العالم الفيزيائي قد أدَّت في كل العصور إلى إثارة السؤال عن كيفية بدء العالم، وفي أساطير الشعوب جميعًا تفسيرات بدائية لأصل الكون، وأشهر قصة للخلق، وهي تلك التي أنتجتها الروح العبرانية الخيالية، متضمَّنةٌ في العهد القديم، وهي ترجع إلى حوالَي القرن التاسع ق.م، وهي تفسِّر العالم على أساس أنه مِن خلق «ياهوا». هذا التفسير من النوع الساذج الذي يُرضي ذهنًا بدائيًّا، أو ذهنًا شبيهًا بأذهان الأطفال؛ إذ يستعين بتشبيهات بشرية؛ فكما يصنع البشر بيوتًا وأدوات وحدائق، فكذلك صنع «ياهوا» العالم. وهكذا فإن السؤال عن منشأ العالم المادي، وهو من أهم الأسئلة وأكثرها أهمية، يجاب عليه عن طريق التشبيه بتجارب من البيئة اليومية. ولقد لاحظ الكثيرون، عن حق، أن هذا النوع من الصور لا يشكِّل تفسيرًا، وأنها لو صحَّت لزادت من صعوبة حل مشكلة التفسير، فقصة الخلق تفسير وهمي.
ومع ذلك، فما أعظمَ القوة الإيحائية الكامنة فيها! لقد قدَّم بنو إسرائيل إلى العالم، وهم لا يزالون في مرحلة بدائية، قصةً تبلغ من الحيوية حدًّا جعلها تخلب ألباب القُراء جميعًا حتى يومنا هذا؛ فخيالنا يفتتن بالصورة الوقور لإله قديم تحرَّكت روحه فوق صفحة المياه، وأوجد العالم كله بقليل من الأوامر، كذلك فإن هذه القصة القديمة الرائعة تُرضي رغباتنا العميقة الكامنة في أن يكون لنا أبٌ قوي، غير أن إرضاء الرغبات النفسية ليس تفسيرًا. والواقع أن الفلسفة ظلَّت على الدوام تتعرض لخطر الخلط بين المنطق والشعر، وبين التفسير العقلي والخيال، وبين العمومية والتشبيه. وكم من المذاهب الفلسفية يُشبِه العهد القديم في كونه عملًا شعريًّا رائعًا، يزخر بالصورة التي تُثير خيالنا، ولكنه يفتقر إلى القدرة على الإيضاح، وهي القدرة المنبعثة من التفسير العلمي.
إن هناك نوعَين من التعميم الزائف، يمكن تقسيمها إلى ضربَين من الخطأ، أحدهما لا يجلب ضررًا، والآخر ضار. أما أخطاء النوع الأول، التي نُصادفها في كثير من الأحيان لدى فلاسفة ذوي أذهان تجريبية، فمن السهل تصحيحها وتقويمها في ضوء المزيد من التجربة؛ وأما أخطاء النوع الثاني، التي تتألف من تشبيهات وتفسيرات وهمية، فتؤدي إلى المجادلات اللفظية الفارغة، وإلى النزعة القطعية الخطيرة. ويبدو أن هذا النوع من التعميمات يسود أعمال الفلاسفة التأمليين.
فلنضرب مثلًا للتعميم الضار، الذي يستخدم تشبيهًا زائفًا بقصد تكوين قانون شامل، بالفقرة الفلسفية التي اقتبسناها في المقدمة. إن الملاحظة التي ترتكز عليها هذه العبارة هي أن العقل يتحكم إلى حدٍّ بعيد في الأفعال البشرية؛ وبالتالي يحدِّد التطورات الاجتماعية تحديدًا جزئيًّا على الأقل. ولمَّا كان الفيلسوف يبحث عن تفسير، فإنه ينظر إلى العقل على أنه يُشبِه جوهرًا يتحكم في خصائص الموضوعات التي تتألف منه. مثال ذلك أن جوهر الحديد يتحكم في خصائص الجسر الذي يُبنى به، ولكن من الواضح أن التشبيه سيئ إلى حدٍّ بعيد؛ ذلك لأن الحديد من نفس نوع المادة التي صُنع منها الجسر، أما العقل فليس مادة كالأجسام البشرية، ولا يمكن أن يكون هو الحامل المادي للأفعال البشرية. وعندما أتى طاليس، الذي اشتهر في حوالَي عام ٦٠٠ق.م بوصفه «حكيم مليتوس» (ملطية)، بنظريته القائلة إن الماء جوهر الأشياء جميعًا، كان في ذلك يقوم بتعميم زائف؛ إذ إن ملاحظة وجود الماء في كثير من المواد، كالتربة أو الكائنات العضوية الحية، قد وسعت بحيث أصبحت تقول إن الماء متضمَّن في كل موضوع. ومع ذلك فإن نظرية طاليس معقولة من حيث إنها تتخذ من جوهر مادي حجر البناء لكل المواد الأخرى؛ فهي على الأقل تعميمٌ — وإن يكن زائفًا — وليست تشبيها. فما أرفعَ لغةَ طاليس بالقياس إلى الفقرة المقتبَسة!
إن عيب اللغة الفضفاضة هو أنها تخلق أفكارًا باطلة، وتظهر هذه الحقيقة بوضوح في تشبيه العقل بالجوهر، ولا شك أن الفيلسوف الذي كتب هذه الفقرة خليقٌ بأن يعترض بشدة على تفسير عبارته بأنها مجرد تشبيه، وإنما هو يدَّعي أنه قد اهتدى إلى الجوهر الحقيقي للأشياء جميعًا، ويسخر من أي تأكيد لمعنى الجوهر المادي؛ فهو يذهب إلى أن للجوهر معنًى «أعمق»، لا يكون الجوهر المادي بالنسبة إليه سوى حالة خاصة. ولو ترجمنا رأيه هذا إلى لغة مفهومة، لكان معناه أن العلاقة بين حوادث الكون وبين العقل هي نفس العلاقة الموجودة بين الجسر وبين الحديد الذي صُنع منه، ولكن من الواضح أن هذه المقارنة غير مقبولة، والمقارنة تُثبِت أن أيَّ تفسيرٍ جادٍّ للتشبيه يؤدي إلى خطأ منطقي؛ فقد يؤدي إطلاق اسم الجوهر على العقل إلى إثارة صور لدى السامع، غير أن الاستمرار في استخدام هذه المجموعة من الألفاظ يضلِّل الفيلسوف، فيجعله يقفز إلى نتائج لا يُقرُّها المنطق. والواقع أن الأخطاء الخطيرة التي تتولد عن التشبيهات الفاسدة كانت، ولا تزال، الآفةَ التي يُعاني منها الفيلسوف طوال العصور.
فالموضوعات الهندسية تتبدى على هيئة صورة متميزة عن المادة التي تتكون، بحيث يمكن أن تتغير الصورة مع بقاء المادة على حالها، ولكن هذه التجربة اليومية البسيطة أصبحت هي المرجع الذي كُتِب على أساسه فصلٌ في الفلسفة لم يكن غموضه بأقل من انتشاره وقوة تأثيره، وما كان ليظهر إلا نتيجةً لإساءة استخدام تشبيه؛ فأرسطو يقول إن صورة التمثال المُقبِل ينبغي أن تكون في كتلة الخشب قبل أن تُنحَت، وإلا لما ظهرت فيها فيما بعد، وبالمثل يكون قوام كل صيرورة هو عملية تشكل المادة في صورة؛ وإذن فلا بد أن تكون الصورة شيئًا. وواضح أن هذا الاستدلال لا يمكن أن يتم إلا عن طريق استخدام غامض للألفاظ؛ فالقول إن صورة التمثال موجودة في الخشب قبل أن يشكِّله النحَّات، يعني أن في استطاعتنا أن نحدِّد في داخل كتلة الخشب، أو أن «نرى» فيها سطحًا مماثلًا للسطح الذي ظهر في التمثال فيما بعد. وحين يقرأ المرء كتابات أرسطو، يشعر أحيانًا بأنه لا يعني بالفعل إلا هذه الحقيقة الضئيلة الشأن، غير أن الفقرات الواضحة المعقولة في كتاباته تعقبها لغة غامضة، فهو يقول أشياء مثل: المرء يصنع كرة من النحاس بواسطة البرونز والكرة، عن طريق وضع الصورة في هذه المادة، ويصل إلى حد النظر إلى الصورة على أنها جوهر يوجد على الدوام بلا تغيُّر.
وهكذا أصبحت استعارة لفظية أصلًا لمبحث فلسفي يُسمَّى بالأنطولوجيا، ويفترض أنه يبحث في الأسس النهائية للوجود. والواقع أن عبارة «الأسس النهائية للوجود» هي ذاتها استعارة لفظية. وليغتفر لي القارئ لو استخدمت اللغة الميتافيزيقية دون مزيد من التفسير، واكتفيت بأن أضيف القول بأن الصورة والمادة عند أرسطو أساسان نهائيان للوجود، من هذا النوع؛ فالصورة في نظره وجودٌ بالفعل، والمادة وجود بالقوة؛ لأن المادة تقبل اتخاذ صور كثيرة متباينة. وفضلًا عن ذلك فإنه يرى أن العلاقة بين الصورة والمادة كامنةٌ من وراء كثير من العلاقات الأخرى؛ فالفَلك الأعلى والأدنى، والعناصر الرفيعة والدنيا، في نظام الكون، وكذلك النفس والجسم، والذكر والأنثى، يرتبطون فيما بينهم بعلاقة الصورة والمادة. ومن الواضح أن أرسطو يعتقد أن هذه العلاقات الأخرى يمكن تفسيرها عن طريق مقارنتها، على نحوٍ متعسِّف، بالعلاقة الأساسية بين الصورة والمادة. وهكذا فإن التفسير الحَرفي للتشبيه يقدِّم تفسيرًا وهميًّا، يؤدي عن طريق الاستخدام غير النقدي لصورة لفظية، إلى إدراج عدة ظواهر مختلفة تحت فئة واحدة.
وإني لعلى استعداد للاعتراف بأنه لا ينبغي الحكم على أهمية أرسطو التاريخية بمقياس نقدي هو نتاج للتفكير العلمي الحديث، ولكننا لو قِسنا ميتافيزيقاه، حتى بالمعايير العلمية لعصره، أو على أساس ما أنجزه في ميادين علم الحياة والمنطق، لما بدت لنا معرفة ولا تفسيرًا، بل لكانت ذات طابع تشبيهي؛ أعني هروبًا إلى اللغة المجازية. وهكذا فإن النزوع إلى كشف التعميمات يؤدي بالفيلسوف إلى نسيان نفس المبادئ التي يطبِّقها بنجاح في ميادين للبحث أضيق حدودًا، ويجعله ينقاد للألفاظ حيث لا تكون المعرفة قد توافرت بعد. وهنا نجد الأساس النفسي لذلك المزيج العجيب من الملاحظة والميتافيزيقا، الذي جعل مِن هذا الباحث البارز في ميدان جمع المواد التجريبية، مفكرًا ذا نزعة نظرية قطعية، يُرضي رغبته في التفسير بنحت ألفاظ وإقامة مبادئ لا يمكن ترجمتها إلى تجارب قابلة للتحقيق.
والواقع أن معلومات أرسطو عن تركيب الكون، أو عن الوظيفة البيولوجية للذكر والأنثى، لم تكن تكفي لإقامة تعميم؛ فقد كانت معارفه الفلكية مرتبطة بالنظام الذي يتخذ من الأرض مركزًا للكون، كما أن معرفته لعملية التناسل لم تكن تشمل ما يُعَد حقيقة أولية بالنسبة إلى علم البيولوجيا الحديث؛ فهو لم يعرف أن الحيوان المنوي للذكر وبويضة الأنثى يتحدان لتكوين فرد جديد. وإذا لم يكن من حق أحد أن يلومه على عدم معرفة نتائج لم يكن من الممكن كشفيًّا بدون التلسكوب أو الميكروسكوب، فإن مما يعاب عليه أنه قد تصوَّر، دون أن تتوافر لديه معلومات كافية، أن التشبيهات الهزيلة تكون تفسيرًا؛ فهو في حديثه عن التناسل مثلًا يقول: إن الذكر يقتصر على طبع صورة على الجوهر البيولوجي للأنثى. غير أن هذا التعبير الغامض، الذي هو مضلِّل حتى بوصفه مجازًا، لا يمكن أن يُعَد الخطوة الأولى في الطريق المؤدي إلى طرقٍ أسلم في التفكير. ولقد كانت بالفعل عائقًا في وجه نمو الفلسفة العلمية، بدلًا من أن تمهِّد لها الطريق بالتدريج؛ فميتافيزيقا أرسطو كان لها تأثيرها في الفكر طوال ألفَي عام، وما زالت تلقى إعجابَ كثير من الفلاسفة حتى اليوم.
ومن الصحيح أن مؤرِّخي الفلسفة المُحدَثين يستبيحون لأنفسهم من آنٍ لآخر توجيهَ انتقادات في سياق التبجيل المعتاد لأرسطو، زاعمين أنهم يميِّزون بين استبصاراته الفلسفية وبين تلك الأجزاء التي يعدُّونها — داخل مذهبه — ناتجة عن قصور المعرفة في عصره، غير أن ما يُقدَّم إلينا على أنه استبصارٌ فلسفي هو في أغلب الأحيان ثرثرةٌ لفظيةٌ فارغة تُملأ بمعانٍ لم تخطر للمفكِّر نفسه على بال؛ فالعلاقة بين المادة والصورة يمكن التعبير عنها في تشبيهات متعددة، ولكنها لا تقدِّم تفسيرًا. ومن هنا فإن تأويل آراء الفيلسوف بطريقة الدفاع والتبرير ليس هو وسيلة التغلب على الأخطاء المتأصلة فيه، وليس مما يساعد على تقدُّم البحث الفلسفي أن نُضفي على أخطاء كبار المفكرين مَعاني تبلغ من التحريف حدًّا تغدو معه هذه الأخطاء تخمينات تنبُّئية، بآراء لم تتوافر للناس الموادُّ والوسائل التي تُعين على إثباتها، إلا في عصور متأخِّرة. ولقد كان تاريخ الفلسفة خليقًا بأن يُحرز تقدمًا أعظم بكثير لو لم يكن أولئك الذين يتخذون منه موضوعًا لأبحاثهم قد أخَّروا مساره إلى هذا الحد.
لقد اتخذت من نظرية المادة والصورة عند أرسطو مثالًا لما أسميته بالتفسير الوهمي، ولدينا في الفلسفة القديمة مثلٌ آخر لهذه الطريقة المُؤسِفة في الاستدلال، وأعني به فلسفة أفلاطون. ولما كان أرسطو قد تتلمذ في وقتٍ ما على أفلاطون، فإن المرء قد يذهب إلى حد الاعتقاد بأن إغراق أستاذه في الالتجاء إلى اللغة المجازية والنزعة التشبيهية هو الذي عوَّده على هذه الطريقة في التفكير، ولكنى أُوثِر أن أختبر فلسفة أفلاطون دون إشارة إلى تأثيرها في أرسطو، وهو التأثير الذي حلَّله الكثيرون؛ فمن الممكن تتبُّع تأثيرها في عدد كبير من المذاهب الفلسفية المتباينة، وهذا وحده سببٌ كافٍ لدراسة أصلها المنطقي بمزيد من التفصيل.
إن فلسفة أفلاطون (٤٢٧–٣٤٧ق.م) مبنيةٌ على نظرية مِن أغرب النظريات الفلسفية، وأقواها تأثيرًا مع ذلك، وأعني بها نظرية المُثل. هذه النظرية، التي لقيت إعجابًا لا حد له، والتي هي لا منطقية في صميمها، قد نشأت من محاولة إيجاد تفسير لإمكان المعرفة الرياضية، وكذلك السلوك الأخلاقي. وسوف أناقش الأصل الثاني لهذه النظرية في الفصل الرابع، أما الآن فسوف أقتصر على تقديم ملاحظات عن الأصل الأول.
كان البرهان الرياضي يُعَد على الدوام منهجًا للمعرفة تتحقق فيه أرفع معايير الحقيقة. ولا شك في أن أفلاطون قد أكَّد سموَّ الرياضة على كل ضروب المعرفة الأخرى، غير أن دراسة الرياضة تؤدي إلى صعوبات منطقية معيَّنة عندما يسير فيها المرء على أساس الموقف النقدي للفيلسوف، وهذا ينطبق بوجهٍ خاص على الهندسة، وهي علم كانت له مكانةٌ بارزة في أبحاث علماء الرياضة اليونانيين. وسوف أشرح هذه الصعوبات بالصورة المنطقية والمصطلحات التي نعرضها بها اليوم، ثم أناقش الحل الذي قدَّمه أفلاطون.
وتتخذ النظريات الهندسية صورة قضايا كلية، أو لزوم عام. مثال ذلك النظرية الآتية: «مجموع زوايا كل مثلث ١٨٠ درجة.» أو نظرية فيثاغورس: «المربَّع المُقام على الوتر، في كل المثلثات القائمة الزوايا، يساوي مجموع المربَّعَين المُقامَين على الضلعَين الآخرين.» فإذا ما أردنا تطبيق أمثال هذه النظريات، كان علينا أن نتأكد من أن الشرط المنصوص عليه قد تحقَّق؛ فعندما نرسم مثلثًا على الأرض مثلًا، ينبغي أن نتأكد باستخدام خيوطٍ مشدودة من أن أضلاعه مستقيمة، وبعد ذلك نستطيع أن نؤكد أن مجموع زواياه ١٨٠ درجة.
والآن ينبغي أن نناقش مسألة الطريقة التي يمكننا بها أن نعرف إن كان اللزوم العام صحيحًا؛ فبالنسبة إلى اللزوم التحليلي يكون الجواب على هذا السؤال يسيرًا؛ إذ إن اللزوم «كل أعزب غيرُ متزوج» يتلو من معنى لفظ «أعزب». أما القضايا التركيبية فأمرُها مختلف؛ ذلك لأن معنى لفظَي «معدن» و«ساخن» لا ينطوي على أية إشارة إلى «التمدد»؛ ولذا لم يكن من الممكن التحقق من هذا اللزوم إلا بالملاحظة؛ فقد اتضح لنا في جميع تجاربنا السابقة أن المعادن تتمدد عندما تُسخَّن؛ لذلك نشعر بأن مِن حقنا أن نقول بهذا اللزوم العام.
غير أن هذا التفسير يبدو عاجزًا إزاء أمثلة اللزوم الهندسي. فهل عرفنا من التجارب الماضية أن مجموع زوايا المثلث ١٨٠ درجة؟ إن بعض التفكير في المنهج الهندسي كفيلٌ باستبعاد الجواب بالإيجاب؛ فنحن نعلَم أن لدى الرياضي برهانًا على النظرية المتعلقة بمجموع زوايا المثلث. في هذا البرهان يرسم خطوطًا على الورق، ويوضِّح لنا علاقات معيَّنة بالنسبة إلى الشكل المرسوم، ولكنه لا يقيس الزوايا؛ أي إنه يلجأ إلى حقائق عامة معيَّنة تُسمَّى بالبديهيات، يستخلص منها النظرية بطريقة منطقية. مثل ذلك أنه يشير إلى البديهية القائلة: إنه لم كان لدينا خطٌّ مستقيم ونقطةٌ خارجة، فهناك خط واحد، وواحد فقط، يمكن أن يُرسَم موازيًا للخط الأول من هذه النقطة. هذه البديهية تظهر في الشكل الذي يرسمه، ولكنه لا يُثبِتها بقياسات، ولا يقيس المسافات بين الخطوط لكي يبيِّن أن المستقيمَين متوازيان.
بل إنه قد يعترف بأن الشكل الذي يرسمه رديء، ولا يقدِّم مثلًا جيدًا لمثلث ومتوازيات، ولكنه يظل يؤكِّد أن برهانه دقيقٌ على الرغم من ذلك؛ فهو يقول: إن المعرفة الهندسية تنبع من الذهن، لا من الملاحظة. أما المثلثات المرسومة على الورق فقد تُفيد في إيضاحِ ما نتحدث عنه، ولكنها لا تمدُّنا ببرهان؛ إذ إن البرهان مسألةُ استدلال، لا ملاحظة. ولكي نقوم باستدلال كهذا نتصور العلامات الهندسية، «ونرى» — بمعنًى «أرفع» لهذه الكلمة — أن النتيجة الهندسية محتومة؛ وبالتالي فهي صحيحة بالمعنى الدقيق. فالحقيقة الهندسية نتاج للعقل، وهذا يجعلها أرفع من الحقيقة التجريبية، التي يُهتدى إليها عن طريق التعميم من عدد كبير من الأمثلة.
ونتيجة هذا التحليل هي أن العقل يبدو قادرًا على كشف الخصائص العامة للموضوعات المادية. وتلك في الواقع نتيجةٌ تدعو إلى الاستغراب؛ إذ لن تكون هناك مشكلة إن كانت حقيقة العقل مقتصرة على الحقيقة التحليلية؛ فمن الممكن أن يعرف العقل وحده أن الأعزب غير متزوج، ولكن لما كانت هذه العبارة فارغة، فإنها لا تُثير مشكلات فلسفية. أما القضايا التركيبية فأمرُها مختلف؛ إذ كيف يتسنَّى للعقل كشف الحقيقة التركيبية؟
على هذه الصورة وجَّه «كانْت» هذا السؤال، بعدما يربو على ألفَي عام من عصر أفلاطون. ولم يكن أفلاطون قد صاغ السؤال بهذا القدر من الوضوح، ولكن لا بد أنه أدرك المشكلة بطريقةٍ مماثلة لهذه. ونحن نستدل على هذا التفسير من الإجابة التي قدَّمها للسؤال؛ أي من الطريقة التي تكلَّم بها عن أصل المعرفة الهندسية.
غير أن الموضوعات الرياضية ليست هي الأشياء الوحيدة التي تُوجَد بصورة مثالية؛ ففي رأي أفلاطون أن هناك مثلًا مِن شتى الأنواع، كمثال القط، والإنسان، أو البيت. وبالاختصار، فكل اسم يدل على فئة (أي اسم لنوع من الموضوعات، أو اسم كلِّي)، يدل على وجودِ مثالٍ مُناظر، وتتميز مثل الأشياء الأخرى، شأنها شأن المُثل الرياضية، بأنها كاملة، بالقياس إلى نُسَخها الناقصة في العالم الواقعي. وهكذا فإن مثال القط تتبدَّى فيه كل الصفات «القططية» بصورة كاملة، ومثال الرياضي يسمو على كلِّ رياضيٍّ فعليٍّ من جميع الأوجه؛ فهو مثلًا يتميز بقوامٍ جسميٍّ مثالي. وبهذه المناسبة فإن كلمة «مثالي»، بالمعنى الذي نستخدمه حاليًا لهذه الكلمة، مستمَدَّة من نظرية أفلاطون.
وينبغي أن ندرك أن أفعال الرؤية، عند أفلاطون، لا يمكنها تقديم معرفة إلينا إلا لأن الأشياء الفكرية (المثالية) موجودة. فالتوسع في مفهوم الوجود أساسي بالنسبة إليه؛ أي إنه لما كانت الأشياء المادية موجودة فمن الممكن أن تُرى، ولما كانت الأفكار موجودة فمن الممكن أن تُرى بعين العقل. ولا بد أن أفلاطون قد وصل إلى هذا الفهم نتيجةً لحجة من هذا النوع، وإن لم يكن قد صاغ هذه الحجة صراحة؛ فهو يتصور الرؤية الرياضية على أنها مشابهة للإدراك الحسي، غير أن هذه هي النقطة التي نجد فيها أن منطق نظريته غيرُ سليم، وذلك حتى لو حكمنا عليه بمعيار للنقد مُلائم لعصره؛ ذلك لأنه يقدِّم إلينا تشبيهًا حيث كان يرمي إلى تقديم تفسير. ومن الواضح أن التشبيه ذاته غير صالح؛ فهو يمحو الفارق الباطن الذي يوجد بين المعرفة الرياضية والمعرفة التجريبية. وهو يتجاهل حقيقةً واضحة، هي أن «رؤية» العلاقات الضرورية تختلف أساسًا عن رؤية الموضوعات التجريبية؛ فالفيلسوف هنا يضع مَجازًا حيث كان ينبغي أن يضع تفسيرًا، ويخترع عالمًا من الوجود المستقل «الأعلى»؛ لأنه يسير على أساس التشبيه بدلًا من التحليل. وكما رأينا من قبل في الأمثلة التي قدَّمناها لفلسفات أخرى، فإن التأويل الحرفي لتشبيهٍ ما، يصبح أصلَ سوءِ الفهم الفلسفي. وهكذا فإن نظرية المُثل، بتعميمها لتصوُّر الوجود، لا تأتينا إلا بتفسيرٍ وهمي.
وقد يحاول المفكِّر ذو النزعة الأفلاطونية أن يدافع عن نفسه بحجةٍ مِن هذا القبيل: إن وجود الأفكار ينبغي ألا يُساء تأويله؛ فليس من الضروري أن يكون وجودها مِن نفس نوع وجود الموضوعات التجريبية تمامًا. ألا يحق للفيلسوف أن يتخذ ألفاظًا معيَّنةً مستمَدَّة من اللغة اليومية، بمعنًى أوسع إلى حدِّ ما، إذا كان في حاجة إلى هذه الألفاظ؟
على أنني لا أعتقد أن هذه الحجة تتضمن دفاعًا مُقنِعًا عن المذهب الأفلاطوني. صحيحٌ أن لغة العلم كثيرًا ما تستعير ألفاظ الحياة اليومية؛ نظرًا إلى تشابهها مع تصورات جديدة يحتاج إليها العالم. مثال ذلك أن لفظ «الطاقة» يُستخدم في الفيزياء بمعنًى مجردٍ مُشابه إلى حدٍّ ما لمعناه في الحياة اليومية، غير أن إعادة استخدام الألفاظ على هذا النحو لا يكون أمرًا مباحًا إلا عندما يُعرَف المعنى الجديد بدقة، ويلتزم المرء في كل استخدام آخر للفظ بمعناه الجديد، لا بمشابهته مع المعنى القديم. فعالم الفيزياء الذي يتحدث عن طاقة الإشعاع الشمسي، لا يسمح لنفسه بأن يقول إن الشمس مليئة بالطاقة والنشاط، شأنها شأن الإنسان المليء بالطاقة والنشاط؛ إذ إن في هذه اللغة عودة إلى المعاني القديمة للفظ. على أن استخدام أفلاطون للفظ «الوجود» ليس من النوع العلمي. ولو كان كذلك، لَعُرفت القضية القائلة إن الموضوعات الفكرية (المثالية) موجودة، من خلال قضايا أخرى لا تنطوي على مثل هذا اللفظ المشكوك فيه، ولَمَا استُخدمت بطريقة مستقلة وكأن لها معنًى مماثلًا لمعنى الوجود المادي. ففي استطاعتنا تعريف وجود المثلث المثالي على أنه يعني أننا نستطيع التحدث عن المثلثات من خلال ما تنطوي عليه من مضمونات، أو لنضرب مثلًا من ميدان الجبر، فنقول إننا نستطيع أن نصرِّح بأنه يوجد حل لكل معادلة جبرية تتعلق بمقدار مجهول، إذا كانت تفي بشروط معيَّنة. في هذا الاستخدام يعني لفظ «يوجد» أننا نعرف كيف نجد الحل، ومثل هذا الاستخدام للفظ «الوجود» هو طريقة في الكلام لا ضرر منها، يلجأ إليها الرياضيون بالفعل في أحيان كثيرة. أما عندما يتحدث أفلاطون عن وجود المُثل، فإن العبارة تعني أكثر — إلى حدٍّ بعيد — من مجرد تعبير يمكن ترجمته إلى معانٍ مقرَّرة.
إن ما يرمي إليه أفلاطون هو تقديم تفسير لإمكان معرفة الحقيقة الرياضية، ونظريته في المُثل تُقدَّم بوصفها تفسيرًا لهذه المعرفة؛ أي إنه يعتقد أن وجود المُثل يمكن أن يفسِّر معرفتنا للموضوعات الرياضية لأنه يُتيح نوعًا من إدراك الحقيقة الرياضية، بنفس المعنى الذي يتيح به وجود الشجرة إدراك شجرة. ومن الواضح أن تفسير وجود المُثل على أنه أسلوب في الكلام فحسب لا يعنيه في شيء، ما دام سيعجز عن تعليل ذلك النوع من الإدراك الحسي الذي قال به بالنسبة إلى الموضوعات الرياضية، وبدلًا من ذلك نراه يصل إلى تصور للوجود المثالي، يشتمل على خصائص الوجود المادي والمعرفة الرياضية معًا، وهو مزيجٌ عجيب من عنصرَين متنافرَين، ظل شبحه يخيِّم على اللغة الفلسفية منذ ذلك الحين.
ولقد ذكَرتُ من قبلُ أن نهاية العلم تأتي عندما نعمل على إرضاء رغبتنا في المعرفة بتقديمِ تفسيرٍ وهمي، وعندما نخلط بين التشبيه والعمومية، ونستخدم مجازات بدلًا من تصورات محدَّدة بدقة؛ لذلك فإن نظرية المُثل عند أفلاطون، شأنها شأن بقية النظريات الكسمولوجية في عصره، ليست علمًا وإنما هي شعر؛ فهي نتاج للخيال، لا للتحليل المنطقي. والواقع أن أفلاطون لم يتردد، عندما توسَّع في عرض نظريته فيما بعد، في التعبير صراحةً عن اتجاهه الفكري الذي كان صوفيًّا أكثر منه منطقيًّا؛ فهو يربط بين نظريته في المُثل وبين فكرة تناسُخ الأرواح.
هذا التحول يحدُث في محاورة «مينو» الأفلاطونية؛ ففي هذه المحاورة يسعى سقراط إلى تفسير طبيعة المعرفة الهندسية، ويوضِّحها بتجربة يجرِّبها على عبدٍ صغير، لم يتلقَّ تعليمًا منظَّمًا في الرياضيات، ويبدو أنه يستخلص منه برهانًا هندسيًّا؛ فهو لا يشرح للصبي العلاقات الرياضية المستخدَمة في الحل، وإنما يجعله «يراها» عن طريق توجيه أسئلة إليه. ويتخذ أفلاطون من هذا الموقف الطريف مثلًا للاستبصار العقلي بالحقيقة الهندسية، وللمعرفة الفطرية غير المستمَدة من التجربة. هذا التفسير، وإن لم يكن مقبولًا من وجهة النظر الحديثة، كان في عصر أفلاطون دليلًا كافيًا على فكرة رؤية المُثل، غير أن أفلاطون لا يكتفي بهذه النتيجة، وإنما يودُّ أن يمضي في التفسير أبعد من ذلك، وأن يفسِّر إمكان المعرفة الفطرية. وفي هذا السياق يُعرِب سقراط عن الرأي القائل إن المعرفة الفطرية تُذكر لرؤية المُثل، كان لدى الناس في «حيوات» سابقة عاشتها أرواحهم؛ فقد كانت مِن بين هذه الحيوات حياةٌ في «السماء التي تعلو على السموات»، كانت المُثل تُرى فيها. وهكذا يلجأ أفلاطون إلى الأسطورة لكي «يفسِّر» معرفة المُثل. وإنه لمن الصعب أن نقتنع بإمكان حدوث هذه الرؤية للمُثل في حياةٍ سابقة إن كانت مستحيلة في حياتنا الحاضرة، أو أن نقتنع بضرورة القول بنظرية للتذكر إن كانت هناك رؤية للمُثل في حياتنا الحاضرة.
غير أنني لا أودُّ أن أسخر من أفلاطون؛ ذلك لأن مَجازاته تتحدث بلغة بلاغية تُثير الخيال، وكل ما في الأمر أن من الواجب ألا تُعَد تفسيرًا؛ فكل ما أبدعه أفلاطون كان شعرًا، ومحاوراته كانت من أروع الأعمال في الأدب العالمي. وإن قصة سقراط الذي يعلِّم الشُّبان بطريقة توجيه الأسئلة، إنما هي مثلٌ رائع للشعر التعليمي، الذي وجد له مكانًا إلى جانب إلياذة هوميروس وتعاليم الأنبياء، ولكن ليس لنا أن نأخذ آراء سقراط مأخذ الجد أكثر مما ينبغي؛ إذ إن المهم هو الطريقة التي يقول بها هذه الآراء، وكيف يستثير تلاميذه للدخول في مناقشة منطقية. ففلسفة أفلاطون إنما هي نتاج لفيلسوف انقلب شاعرًا.
وإنه ليبدو أن الفيلسوف، عندما يُصادف أسئلة يعجز عن الإجابة عليها، يشعر بإغراء لا يُقاوَم لكي يقدِّم إلينا لغةً مَجازية بدلًا من التفسير. ولو كان أفلاطون قد بحث مشكلة أصل المعرفة الهندسية من وجهة نظر العالم، لَوجب أن يكون ردُّه اعترافًا صريحًا هو: «لا أعرف.» فالعالم الرياضي إقليدس، الذي شيَّد بعد جيلٍ واحد من أفلاطون نسقَ البديهيات الهندسي، لم يحاول تقديم تفسير لمعرفتنا بالبديهيات الهندسية. أما الفيلسوف فيبدو عاجزًا عن السيطرة على رغبته في المعرفة. وإنا لنجد العقل الفلسفي، طوالَ تاريخ الفلسفة، مقترنًا بخيال الشاعر؛ فحيثما كان الفيلسوف يسأل، كان الشاعر هو الذي يُجيب؛ لذلك فإن من الواجب، عند قراءتنا للعرض الذي يقدِّمه الفلاسفة لمذاهبهم، أن نركِّز انتباهنا في الأسئلة، لا في الإجابات المقدَّمة؛ ذلك لأن كشف الأسئلة الأساسية هو في ذاته إسهامٌ عظيم الأهمية في التقدم العقلي. وعندما يُنظَر إلى تاريخ الفلسفة على أنه تاريخ للأسئلة، فإن الوجه الذي يتبدَّى عليه يغدو أخصب بكثير من ذلك الذي يبدو لنا عندما ننظر إليه على أنه تاريخ للمذاهب. وهناك بعضٌ من هذه الأسئلة يرجع إلى عهود غابرة في التاريخ، لم يتم التوصل إلى إجابات علمية عليه إلا في أيامنا هذه. ومن هذه الأسئلة، السؤال عن أصل المعرفة الرياضية. وسوف نتناول في الفصول المُقبِلة أسئلةً أخرى كان لها تاريخٌ مُماثل.
إن التحليل الذي قدَّمناه في هذا الفصل هو الإجابة الأولى على السؤال النفسي المتعلِّق باللغة الفلسفية، الذي أُثيرَ عند مناقشة الفقرة التي استهللنا بها هذا الكتاب. فالفيلسوف يتحدث لغةً غير علمية؛ لأنه يحاول الإجابة على الأسئلة في الوقت الذي تُعوِزه فيه الإجابة العلمية. ومع ذلك فإن صحة هذا التفسير التاريخي محدودة النطاق؛ فهناك فلاسفة يظلُّون يتحدثون بلغة مجازية في الوقت الذي تتوافر فيه بالفعل وسائل الوصول إلى حلٍّ علمي. وعلى حين أن التفسير التاريخي ينطبق على أفلاطون، فإنه لا يمكن أن يصدُق على كاتب بالفقرة القائلة: إن العقل هو جوهر الأشياء جميعًا. إذ كان في وُسعِ هذا الكاتب أن يفيد من المعرفة المتراكمة طوالَ ألفَي عام من البحث العلمي بعد عصر أفلاطون، غير أنه لم ينتفع منها.