البحث عن اليقين والفهم العقلي للمعرفة
تبيَّن لنا من الفصل السابق أن أصل المفاهيم الغامضة للمذاهب الفلسفية يرجع إلى نوع من النوافع الخارجة عن مجال المنطق، التي تتدخل في عملية التفكير؛ فعن طريق اللغة المجازية، يقدِّم الفيلسوف إرضاءً وهميًّا لسعيه المشروع إلى تقديم تفسير يتسم بالعمومية. ومما يُغري على إقحام الشعر في مجال المعرفة على هذا النحو، الميل إلى تشييد عالم خيالي من الصور، وهو ميلٌ يمكن أن يصبح أقوى من السعي إلى الحقيقة، ويستحق هذا الميل إلى التفكير المجازي أن يُسمَّى دافعًا خارجًا عن مجال المنطق؛ لأنه لا يمثِّل نوعًا من التحليل المنطقي، وإنما يرجع أصله إلى حاجات ذهنية لا تنتمي إلى مجال المنطق.
وهناك دافعٌ ثانٍ خارج عن مجال المنطق، كان في كثير من الأحيان يتدخل في عملية التحليل. فعلى الرغم من أن المعرفة المُكتسَبة بالملاحظة الحسية هي على وجه العموم ناجحة في الحياة اليومية، فإن في وسعنا أن ندرك منذ وقت مبكِّر أننا لا نستطيع الاعتماد عليها أكثر مما ينبغي. فهناك بضعة قوانين فيزيائية بسيطة يبدو أنها تصح بلا استثناء، كالقانون القائل إن النار ساخنة، أو إن البشر فانون، أو إن الأجسام التي لا ترتكز على شيءٍ تهوي. غير أن هناك قواعد أخرى كثيرة جدًّا لها استثناءات، كالقاعدة القائلة إن البذرة التي تُغرَس في الأرض تنمو، أو كقواعد الطقس أو قواعد شفاء الأمراض البشرية. وكثيرًا ما تؤدي الملاحظة الأكثر شمولًا إلى كشف استثناءات حتى في القوانين ذات الصبغة الأدق. مثال ذلك أن نار حشرة «ذبابة النار» ليست ساخنة، وذلك على الأقل بالمعنى المعتاد لكلمة «ساخنة»، كما أن فقاعات الصابون قد ترتفع إلى أعلى (وإن لم تكن مرتكزة على شيء). وعلى حين أن من الممكن تفسير هذه الاستثناءات بوضعِ صيغةٍ أدق للقانون، تحدِّد شروط سريانه ومعاني ألفاظه بطريقةٍ أدق، فإننا نظل مع ذلك نشكُّ إن كانت الصيغة الجديدة خالية من الاستثناء، أو إن كانت ستظهر كشوف جديدة تكشف عن نوع من النقص في الصيغة المعدَّلة. ولا شك أن لهذا الشك مبرِّراته القوية، التي ترجع إلى ما أدَّى إليه تطوُّر العلم مرارًا من استبعاد للنظريات القديمة والاستعاضة عنها بنظريات جديدة.
وهناك مصدرٌ آخر للشك، هو أن تجاربنا الداخلية تنقسم إلى عالم للواقع وعالم للأحلام. ولقد كانت ضرورة القيام بهذا التقسيم، من الوجهة التاريخية، كشفًا تم في فترة متأخرة إلى حدٍّ ما مِن تطور الإنسان. فنحن نعلم أن الشعوب البدائية في عصرنا هنا لا تضع بين العالمَين حدًّا فاصلًا واضحًا؛ فالإنسان البدائي الذي يحلم بأن شخصًا آخر هاجَمه قد يعُد حلمه حقيقة، ويقتل الرجل الآخر، أو قد يحلم بأن زوجته تخدعه مع رجل آخر، فيقوم بأعمال انتقامية مماثلة أو يتخذ تدابير للقصاص، وذلك تبعًا لوجهة نظره إلى الموضوع. وقد يكون المحلِّل النفسي على استعداد لالتماس عذر لهذا الرجل إلى حدٍّ ما، وذلك بأن يُشير إلى أن مثل هذه الأحلام ما كانت لتحدث دون أسباب، وأنها تبرِّر الشك على الأقل، إن لم تكن تبرِّر العقاب. غير أن الإنسان البدائي لا يسلك على أساس اعتبارات التحليل النفسي، وإنما يسلك لافتقاره إلى تمييز واضح بين الحلم والواقع. وعلى الرغم من أن الإنسان العادي في عصرنا هذا يشعر بأنه في مأمن من هذا الخلط، فإن قليلًا من التحليل يبيِّن لنا أن ثقته هذه لا ترقى إلى مرتبة اليقين؛ ذلك لأننا عندما نحلم لا نعلم أننا نحلم، وإنما نعرف أن حلمنا كان حلما فيما بعد؛ أي عندما نستيقظ فقط. فكيف ندَّعي أن تجاربنا الحالية يمكن الاعتماد عليها أكثر من الحلم؟ إن كون هذه التجارب مقترنة بشعور من الواقعية لا يجعلها أكثر قابلية للاعتماد عليها؛ إذ إن هذا الشعور ذاته يكون لدينا في الحلم، فليس في وسعنا أن نستبعد تمامًا احتمال أن التجارب التالية ستُثبِت أننا نحلم الآن. وليس الغرض من إثارة هذه الحجة هو زعزعة ثقة الإنسان العادي في تجاربه، وإنما تبيِّن هذه الحجة أننا لا نستطيع أن نعتمد على هذه الثقة اعتمادًا مُطلَقًا.
ولقد كان الفيلسوف يشعر على الدوام بالقلق؛ لأن من غير الممكن الاعتماد على الإدراك الحسي. وقد عبَّر عن هذا القلق بأفكار كتلك التي قدَّمناها، كما أنه تحدَّث عن خداع الحواس في حالة اليقظة، كالالتواء البادي للعصا عندما تُغمَر في الماء، أو كالسراب في الصحراء؛ لذلك كان يشعر بالابتهاج عندما يجد مجالًا واحدًا على الأقل من مجالات المعرفة يبدو له بمنأًى عن الخداع، وهو مجال المعرفة الرياضية.
غير أن فكرة المعرفة التجريبية كانت خليقة بأن تبدو مُمتنِعة في نظر أفلاطون؛ فعندما وحَّد بين المعرفة وبين المعرفة الرياضية، أراد أن يقول إن الملاحظة لا ينبغي أن يكون لها دور في المعرفة. ولقد قال أحد تلاميذ سقراط في محاورة فيدون: «إن الحجج المبنية على الاحتمالات زائفةٌ.» ذلك لأن أفلاطون كان يطلب اليقين، لا الترجيح الاستقرائي الذي ترى الفيزياء الحديثة أنه الهدف الوحيد الذي يمكنه بلوغه.
ومن الصحيح، بطبيعة الحال، أن اليونانيين لم يكن لديهم علمٌ فيزيائي يمكن مقارنته بعلمنا، وأن أفلاطون لم يكن يعلم مدى ما يمكن تحقيقه عن طريق الجمع بين المنهج الرياضي والتجربة. ومع ذلك فهناك علمٌ طبيعيٌّ واحدٌ أحرز، حتى في أيام أفلاطون، نجاحًا كبيرًا بفضل هذا الجمع، هو علم الفلك؛ ذلك أن القوانين الرياضية لدوران النجوم والكواكب كانت قد كُشفت، بدرجة كبيرة من الإحكام، بفضل الملاحظة الدقيقة والاستدلال الهندسي، غير أن أفلاطون لم يكن على استعداد للاعتراف بدور الملاحظة في الفلك، وإنما أكَّد أن الفلك لا يكون علمًا إلا بقدر ما تفهم حركات النجوم ﺑ «العقل والذهن». ففي رأيه أن ملاحظات النجوم لا تُنبِئنا بالكثير عن القوانين الخاصة بدورانها؛ لأن حركتها الفعلية غير كاملة، ولا تخضع للقوانين خضوعًا دقيقًا. ويقول أفلاطون إن من غير المعقول أن نفترض أن الحركات الحقيقية للنجوم «أزلية ولا تتعرض لأي انحراف». وهو يذكُر بوضوحٍ كاملٍ رأيَه في الفلكي الذي يعتمد على الملاحظة: «فإذا كان ما يدرسه المرء شيئًا حسيًّا، فإنه سواءٌ تطلَّع مشدوهًا إلى أعلى، أم خفض عينَيه إلى أسفل، فلن تكون هذه معرفة على الإطلاق؛ إذ لا يمكن أن يكون ثمةَ عِلم بالمحسوس. فالنفس في هذه الحالة إنما تنظر إلى أسفل، سواء أكان المرء يدرس وهو راقد على ظهره، أم وهو طافٍ على الماء.» وبدلًا من ملاحظة النجوم، علينا أن نحاول الاهتداء إلى قوانين دورانها بالفكر؛ فمن واجب الفلكي أن «يترك السماء المُحتشِدة بالنجوم جانبًا»، وأن يخوض موضوعه باستخدام «الجزء العاقل بطبيعته في نفوسنا» (الجمهورية، الكتاب السابع، ٥٢٩-٥٣٠). إنه لَمِن المُحال أن نجد كلماتٍ أقوى من هذه تعبِّر عن رفض العلم التجريبي، وعن الاعتقاد بأن معرفة الطبيعة لا تحتاج إلى ملاحظة، وإنما يمكن بلوغها بالعقل وحده.
فكيف يمكن تفسير هذا الموقف المُعادي للتجريبية على أساسٍ نفسي؟ إن البحث عن اليقين هو الذي يجعل الفيلسوف يتجاهل دور الملاحظة في المعرفة. ولما كان يستهدف معرفةً ذات يقين مُطلَق، فإنه لا يستطيع أن يقبل نتائج الملاحظات، ولما كانت الحجج المبنية على أساس احتمالات حججًا للحقيقة. وهكذا فإن المثل الأعلى الذي يتجه إلى صبغ المعرفة بصبغة رياضية كاملة، وإلى جعل الفيزياء من نفس نمط الهندسة والحساب، ينشأ عن الرغبة في الاهتداء إلى يقينٍ مُطلَق لقوانين الطبيعة، وهو يؤدي إلى ذلك المَطلب المُمتنِع، وأعني به أن ينسى عالم الفيزياء ملاحظاته، وأن يحوِّل عالم الفلك عينَيه بعيدًا عن النجوم.
ولم يكن أفلاطون هو أول العقليين؛ فقد كان أهم المفكرين الذين سبقوه في هذا الاتجاه، الفيلسوف الرياضي فيثاغورس (حوالى ٥٤٠ق.م) الذي كان لتعاليمه تأثيرٌ هائل في أفلاطون. وإنه ليبدو من المفهوم أن يكون الرياضي أكثر من غيره تعرضًا للتحول إلى المذهب العقلي؛ ذلك لأنه حين يدرك مدى نجاح الاستنباط المنطقي في مجال لا يحتاج إلى رجوع إلى التجربة، فقد يميل إلى الاعتقاد بإمكان التوسع في مناهجه بحيث تمتد إلى مجالات أخرى، فتكون النتيجة نظرية للمعرفة تحلُّ فيها أفعال الاستبصار محلَّ الإدراك الحسي، ويُعتقَد فيها أن للعقل قوة خاصة به، يكتشف بواسطتها القوانين العامة للعالم الفيزيائي.
وعندما يتخلى الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية بوصفها مصدرًا للحقيقة، لا تعود بينه وبين النزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة. فإذا كان في استطاعة العقل أن يخلق معرفة، فإن بقية النواتج التي يخلقها الذهن البشري يمكن أن تُعَد بدورها جديرة بأن تُسمَّى معرفة؛ ومِن هذا المفهوم ينشأ مزيجٌ غريب من النزعة الصوفية والنزعة الرياضية، لم يحتف من مسرح الفلسفة منذ بداية ظهوره عند فيثاغورس؛ فقد أدَّى تبجيل فيثاغورس الديني للعدد والمنطق إلى قوله بأن كل الأشياء أعداد، وهي فكرة لا يكاد يكون من الممكن ترجمتها إلى عبارات ذات معنًى. ولقد كانت نظرية تناسخ الأرواح، التي تحدَّثنا عنها في صدد نظرية المُثل عند أفلاطون، من التعاليم الرئيسية عند فيثاغورس، الذي يفترض أنه اقتبسها من عقائد شرقية، وإنا لنعلَم أن أفلاطون قد عرف هذه النظرية بفضل ارتباطه بالفيثاغورين. كذلك فإن الفكرة القائلة إن الاستبصار المنطقي يمكنه أن يكشف خصائص العالم المادي هي بدورها فكرةٌ ترجع إلى أصل فيثاغوري؛ فقد كان أتباع فيثاغورس يُمارسون نوعًا من العبادة الدينية، يتضح طابعه الصوفي في محرَّمات معيَّنة، يُقال إن أستاذهم قد فرضها عليهم. مثال ذلك أنهم تعلَّموا أن من الخطر أن يترك المرء انطباعًا لجسمه على سريره، وكان لزامًا عليهم أن يرتِّبوا ملاءات أسِرَّتهم ويمدُّوها عندما يستيقظون في الصباح.
وللنزعة الصوفية أشكالٌ أخرى لا ترتبط بالرياضيات؛ فالصوفي عادةً متحاملٌ على العقل والمنطق، وهو يُبدي ازدراءً لقوة العقل. ويدَّعي الصوفي أن لديه نوعًا من التجربة فوق الطبيعية، تكشف له عن حقيقة معصومة برؤية مباشرة. ويُعَد المتصوفة الدينيون مصدرًا لهذا النوع من النزعة الصوفية. أما خارج مجال الدين، فلم يكن للنزعة الصوفية المضادة للعقل دورٌ هام؛ لذلك ففي استطاعتي أن أتجاهلها في هذا الكتاب الذي يأخذ على عاتقه مهمة تحليل أشكال الفلسفة المتصلة بالتفكير العلمي، والتي أسهمت في النزاع الهائل بين الفلسفة والعلم. فالنزعة الصوفية ذات الاتجاه الرياضي هي وحدها التي تدخل ضمن نطاق هذا التحليل. والصفة التي تجمع بين هذه النزعة الصوفية الرياضية، وبين الأشكال غير الرياضية للنزعة الصوفية، هي إشارتها إلى أفعال الرؤية فوق الحسية، ولكن ما يميِّزها عن تلك الأشكال الأخرى هو استخدام تلك الرؤية في إثبات حقيقية عقلية.
على أن المذهب العقلي ليس صوفيًّا على الدوام بطبيعة الحال؛ فالتحليل المنطقي قد يُستخدَم هو ذاته في إثبات نوع من المعرفة يُعَد ذا يقين مُطلَق، وإن يكن يرتبط بمعرفة الحياة اليومية أو المعرفة العلمية. وقد ظهرت في العصر الحديث مذاهب عقلية متعدِّدة من هذا النمط العلمي غير الصوفي.
ويبني ديكارت برهانه على اليقين المُطلَق عن طريق خدعة منطقية؛ فهو يقول إنني أستطيع أن أشكَّ في كل شيء، فيما عدا أمرًا واحدًا، هو أنني أشك، ولكنني عندما أشك أفكر، وعندما أفكر لا بد أن أكون موجودًا. وهكذا يزعم أنه قد أثبت وجود الأنا بالاستدلال المنطقي؛ وبذلك تكون الصيغة السحرية هي: أنا أفكر؛ إذن أنا موجود. على أنني عندما أسمِّي هذا الاستدلال خدعة منطقية، لا أود أن أقول إن ديكارت قد تعمَّد أن يخدع قُراءه، وإنما أود أن أقول إنه هو ذاته كان ضحية هذا النوع الخادع من الاستدلال. أما إذا تحدَّثنا من وجهة النظر المنطقية، لقلنا إن الانتقال الذي قام به ديكارت في استدلاله من الشك إلى اليقين هو أشبه ﺑ «خفة اليد»؛ فهو ينتقل من الشك إلى النظر إلى الشك على أنه فعلٌ يقوم به الأنا؛ وبذلك يعتقد أنه قد اهتدى إلى حقيقة لا يتطرق إليها الشك.
ولقد كشف التحليل الذي تم في عهود لاحقة عن المغالطة في حجة ديكارت؛ فليس لمفهوم الأنا تلك الطبيعة البسيطة التي كان يُؤمِن بها ديكارت؛ إذ إننا لا نرى أنفُسنا بنفس الطريقة التي نرى بها البيوت والناس من حولنا. قد نتحدث عن ملاحظة أفعالنا في حالة الفكر أو الشك، غير أننا لا ندرك هذه الأفعال على أنها نواتج للأنا، وإنما على أنها موضوعات منفصلة، وعلى أنها صور تُصاحبها مَشاعر؛ فالقول «أنا أفكر» يتجاوز نطاق التجربة المباشرة من حيث إن هذه الجملة تستخدم لفظ «أنا».
وعبارة «أنا أفكر» لا تمثِّل مُعطًى يمكن ملاحظته، وإنما هي نهاية حلقات طويلة من التفكير تكشف عن وجود «أنا» متميِّز عن «أنا» الأشخاص الآخرين. وكان حريًّا بديكارت أن يقول: «هناك تفكير.» وبذلك يوضِّح طريقة الحدوث المنفصل لمحتويات الفكر، وظهورها مستقلة عن أفعال الإرادة أو غيرها من الاتجاهات التي يشترك فيها الأنا، ولكن لو كان ديكارت قد فعل ذلك لما عاد استدلاله ممكنًا؛ ذلك لأنه إذا لم يكن الوعي المباشر ضمانًا لوجود الأنا، فلا يمكن تأكيد وجوده بيقين يزيد على يقين الموضوعات الأخرى المستمَدة عن طريق إضافات مقبولة إلى معطيات الملاحظة.
ولا تكاد تكون بحاجة إلى القيام بتفنيدٍ أكثر تفصيلًا لاستدلال ديكارت؛ فحتى لو كان الاستدلال مقبولًا لما أثبت الكثير، ولما كان دليلًا على يقين معرفتنا بالأشياء المغايرة للأنا، وهو ما يتضح من الطريقة التي يُواصل بها عرض حجته؛ فهو يستدلُّ أولًا على أن وجود الأنا يستتبع حتمًا وجود الله، وإلا لما كانت للأنا فكرة عن كائنٍ لا متناهٍ، ثم ينتقل إلى الاستدلال على أن الأشياء المحيطة بنا لا بد أن تكون موجودة بدورها، وإلا لكان الله خادعًا. وتلك حجة لاهوتية تبدو غريبة حقًّا حين تصدُر عن رياضي ممتاز مثل ديكارت. والسؤال الهام هو: كيف أمكن أن تعالج مشكلة منطقية، هي إمكان الوصول إلى اليقين، عن طريق مجموعة معقَّدة من الحجج قوامُها بعض الخدع والتفكير اللاهوتي، وهي حُجَج لا يمكن أن يأخذها أي قارئ ذي عقلية علمية في عصرنا هذا مأخذَ الجد؟
إن البحث النفسي للفلاسفة مشكلةٌ تستحقُّ من الانتباه أكثر مما يُبديه بها الكُتاب الذين يعرضون تاريخ الفلسفة، وإن دراسة هذا الموضوع لهي خليقة بأن تُلقي على معنى المذاهب الفلسفية ضوءًا أعظم مما تلقيه عليها كل محاولات التحليل المنطقي لهذه المذاهب؛ ففي استدلال ديكارت منطق هزيل، غير أننا نستطيع أن نستخلص منه قدرًا كبيرًا من المعلومات النفسية؛ ذلك لأن البحث عن اليقين هو الذي جعل هذا الرياضي الممتاز ينجرف في تيار هذا المنطق المتخبِّط. ويبدو أن البحث عن اليقين يمكن أن يُعمي بصيرة المرء عن مصادرات المنطق، وأن محاولة بناء المعرفة على أساس العقل وحده كفيلةٌ بأن تجعله يتخلى عن مبادئ التفكير السليم.
ويفسِّر علماء النفس السعي إلى اليقين بأنه الرغبة في العودة إلى العهود الأولى للطفولة، وهي العهود التي لم يكن يعكِّرها الشك، وكانت تسترشد بالثقة في حكمة الوالدَين. وتقوى هذه الرغبة عادةً بفضل التربية التي تعوِّد الطفل على أن يرى في الشك خطيئة، وفي الثقة فضيلة يحضُّ عليها الدين. وفي استطاعة من يكتب تاريخ حياة ديكارت أن يحاول الجمع بين هذا التفسير العام وبين الطابع الديني لشكوك ديكارت، ودعائه من أجل الاستنارة، وذهابه إلى الحج، وكلُّها أمور تدل على أن هذا الرجل كان في حاجة إلى مذهبه الفلسفي لكي يتغلب على عقدة من الحيرة وانعدام اليقين مُتغلغِلة فيه بعمق. وعلى الرغم من أننا لا نودُّ القيام بدراسة مفصَّلة لحالة ديكارت، ففي استطاعتنا أن نستخلص منها نتيجة هامة، هي أنه إذا كانت هناك غاية محدَّدة مُقدَّمًا، تتحكم في نتيجة البحث المنطقي، وإذا جعلنا من المنطق أداة للبرهنة على نتيجة نرغب في إثباتها لسبب آخر معيَّن، فإن منطق الحجة يصبح مُعرَّضًا للخطأ والمغالطة؛ ذلك لأن المنطق لا يزدهر إلا في جوٍّ من الحرية التامة، وفي تربة لا تُثقِل ثمارَها مخلفاتُ الخوف والتحامل. وعلى من يبحث في طبيعة المعرفة أن يفتح عينَيه جيدًا، ويكون على استعداد لقبول أية نتيجة يأتي بها الاستدلال السليم، ولا يهتم إذا جاءت النتيجة مناقضة لتصوره الخاص لما ينبغي أن تكون عليه المعرفة. فعلى الفيلسوف ألا يجعل من نفسه عبدًا لرغباته.
هذه النصيحة تبدو ضئيلة الشأن، ولكنها لا تبدو كذلك إلا لأننا لا ندرك مدى صعوبة اتباعها. فالسعي إلى اليقين مِن أخطر مصادر الخطأ؛ لأنه يرتبط بادِّعاء معرفة عُليا. وهكذا يُعَد يقين البرهان المنطقي مثلًا أعلى للمعرفة، ويُشترَط في كل معرفة أن يكون من الممكن إثباتها بمناهج تُماثل المنطق في إمكان الاعتماد عليها. ولكي ندرك النتائج المترتبة على هذه النظرية، علينا أن ندرس طبيعة البرهان المنطقي بمزيد من الدقة.
وإن قيمة الاستنباط لترجع إلى كونه فارغًا؛ ذلك لأن كون الاستنباط لا يضيف أي شيء إلى المقدمات، هو ذاته السبب الذي يُتيح على الدوام تطبيقه دون خوف من أن يؤدي إلى الإخفاق. وبعبارة أدق، فليست النتيجة بأقل يقينًا من المقدمة؛ فالوظيفة المنطقية للاستنباط هي نقل الحقيقة من القضايا المعطاة إلى قضايا أخرى، ولكنه لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك؛ فهو لا يستطيع أن يُثبِت الحقيقة التركيبية إلا إذا كُنا نعرف مِن قبلُ حقيقة تركيبية أخرى.
ومِن المُلاحَظ أن مقدمتَي المثال السابق، وهما «كل إنسان فانٍ» «وسقراط إنسان»، هما معًا حقيقتان تجريبيتان؛ أي إنهما حقيقتان مستمَدتان من الملاحظة؛ ومِن ثَم فإن النتيجة، وهي «سقراط فان»، هي بدورها حقيقةٌ تجريبية، وليس فيها من اليقين أكثر مما في المقدمتَين. ولقد ظل الفلاسفة دائمًا يحاولون الاهتداء إلى مقدمات من نوعٍ أفضل، لا تتعرض لأي نوع من النقد، وكان ديكارت يعتقد أن لديه حقيقة لا يتطرق إليها الشك في مقدمته «أنا أفكر». وقد أوضحنا من قبلُ أن لفظ «أنا» في هذه المقدمة يمكن الشك فيه، وأن الاستدلال لا يأتينا بيقينٍ مُطلَق. ومع ذلك فإن صاحب المذهب العقلي لا يستسلم، وإنما يظل يبحث عن مقدمات لا يتطرق إليها الشك.
على أن هناك بالفعل مقدمات من هذا النوع، هي تلك التي تقدِّمها لنا مبادئ المنطق؛ فالقول إن كل شيء في هوية مع ذاته، وإن كل جملة إما صادقة وإما كاذبة — أي «أن تكون أو لا تكون» بالمعنى المنطقي — هي مقدمات لا يتطرق إليها الشك، ولكن عيبها أنها بدورها فارغة؛ فهي لا تذكُر شيئًا عن العالم الفيزيائي، وإنما هي قواعد نستخدمها في وصف العالم الفيزيائي، دون أن تُسهم بشيء في مضمون الوصف، فهي تتحكم في صورته وحدها؛ أي في لغة وصفنا؛ وإذن فمبادئ المنطق تحليلية (وقد سبق أن أشرنا إلى هذا اللفظ على أنه يعني «ما هو فارغ ويشرح ذاته بذاته»). وفي مقابل ذلك تكون القضايا التي تُنبِئنا بواقعة، كمشاهدات عيوننا، قضايا تركيبية؛ أي قضايا تضيف شيئًا إلى معرفتنا، غير أن كل القضايا التركيبية التي تقدِّمها لنا التجربة معرَّضة للشك، ولا يمكنها أن تأتينا بمعرفة ذات يقين مُطلَق.
ومن السهل أن نتبين الطبيعة المغالطة لهذا الاستدلال من نتائجه الممتنعة؛ فإذا كان مِن حقنا أن نستدل على الوجود من تعريف، لكان في استطاعتنا إثبات وجود قط ذي ثلاثة ذيول، عن طريق تعريف مثل هذا الحيوان بأنه قط له ثلاثة ذيول ويتصف بالوجود. وتنحصر المغالطة، من وجهة النظر المنطقية، في الخلط بين الكليات والجزئيات؛ فمن التعريف لا يمكننا أن نستدل إلا على القضية الكلية القائلة: إنه إذا كان شيءٌ ما قطًّا ذا ثلاثة ذيول فإنه موجود، وهي قضية صحيحة. أما القضية الجزئية القائلة إن هناك قطًّا ذا ثلاثة ذيول فلا يمكن أن تستخلص. وبالمثل لا يمكننا أن نستدل مِن تعرُّف أنسلم إلا على القضية القائلة إنه إذا كان شيءٌ ما كائنًا مُطلَق الكمال فإنه موجود، لا أن نستدل على أن مثل هذا الكائن موجود (وبهذه المناسبة فإن الخلط الذي وقع فيه أنسلم بين الكليات والجزئيات يُشبِه خلطًا مماثلًا وقعت فيه نظرية القياس الأرسططالية).
إذا كان مَظهر التقدم في الفلسفة هو كشف أسئلة ذات دلالة، فمِن الواجب أن ننسب إلى «كانت» مكانة رفيعة نظرًا إلى سؤاله المتعلِّق بوجود المعرفة التركيبية القبلية. ومع ذلك فإنه، شأنه شأن غيره من الفلاسفة، يُطالب لنفسه بمكانة رفيعة، لا على أساس السؤال، وإنما على أساس إجابته عليه، بل إنه يصوِّغ السؤال على نحوٍ مختلف إلى حدٍّ ما؛ إذ إن اقتناعه بوجود المعرفة التركيبية القبلية بلغ حدًّا جعله لا يرى ضرورة في التساؤل عن وجودها، وإنما وضع السؤال في صيغة: كيف تكون المعرفة التركيبية القبلية ممكنة؟ وهو يردُّ على هذا السؤال بالقول: إن الدليل على وجودها مستمَدٌّ من الرياضيات والفيزياء الرياضية.
والواقع أن هناك أمورًا كثيرة جدًّا يمكن أن تُقال دفاعًا عن موقف «كانت»؛ فنظرته إلى بديهيات الهندسة على أنها تركيبية قبلية، تشهد بعمق فهمه للمشكلات الخاصة التي تُثيرها الهندسة. ولقد أدرك «كانت» أن هندسة إقليدس لها مركزٌ فريد، من حيث إنها كشفٌ عن علاقات ضرورية تسري على موضوعات تجريبية، وهي علاقات لا يمكن أن تُعَد تحليلية. وهو في هذه النقطة أصرح وأوضح بكثير من أفلاطون؛ فقد أدرك «كانت» أن دقة البرهان الرياضي لا يمكن أن تفسِّر الصحة التجريبية للنظريات الهندسية. فالقضايا الهندسية، كالنظرية المتعلقة بمجموع زوايا المثلث، أو نظرية فيثاغورس، تُستخلَص باستنباط منطقي دقيق من المقدمات، غير أن هذه المقدمات ذاتها لا تُستخلص على هذا النحو؛ إذ لا يمكن استخلاصها؛ لأن كل استخلاص لنتائج تركيبية ينبغي أن يبدأ بمقدمات تركيبية. وإذن فمِن الواجب إثبات صحة البديهيات بوسائل أخرى غير المنطق، فلا بد أن تكون تركيبية قبلية. وعندما نعرف أن المقدمات تصدُق على الموضوعات الفيزيائية، يضمن المنطق بعدئذٍ انطباق النظريات على هذه الموضوعات، ما دامت صحة البديهيات تنتقل بالاستنباط المنطقي إلى النظريات. وبالعكس، فإذا اقتنع المرء بأن النظريات الهندسية تنطبق على الواقع الفيزيائي، كان في ذلك اعتراف بصحة البديهيات؛ وبالتالي بالمعرفة التركيبية القبلية. والواقع أن نفس الأشخاص الذين لا يودُّون أن يعترفوا صراحةً بالمعرفة التركيبية القبلية، يسلكون على نحوٍ ينمُّ عن إيمانهم بها؛ إذ إنهم لا يتردَّدون في تطبيق نتائج الهندسة على قياسات عملية. ويرى «كانت» أن هذه الحجة تُثبِت وجود معرفة تركيبية قبلية.
ويعتقد «كانت» أن من الممكن الإتيان بحجج مماثلة بالنسبة إلى الفيزياء الرياضية؛ فهو يقول إننا لو سألنا عالم الفيزياء عن وزن الدخان لتوصَّل إليه عن طريق وزن المادة قبل الاحتراق، ثم طرح وزن الرماد. وفي تحديد وزن الدخان على هذا النحو نعبِّر عن تسليمنا بأن المادة لا تفنى. وهكذا يتضح، كما يقول «كانت»، أن مبدأ بقاء المادة حقيقةٌ تركيبية قبلية، يعترف بها الفيزيائي في طريقة إجرائه لتجربته. ونحن نعلَم اليوم أن الحساب الذي أوضحه «كانت» يؤدي إلى نتيجة غير صحيحة؛ إذ إنه لا يأخذ بعين الاعتبار وزن الأكسجين الذي يدخل في تفاعل كيميائي مع المادة المُحترِقة.
ومع ذلك فلو كان «كانت» قد عرف هذا الكشف الذي ظهر فيما بعد، لقال إنه على الرغم من كونه يؤدي إلى تعديل طريقة الحساب، فإنه لا يُناقض مبدأ بقاء المادة، وسيظل هذا المبدأ هو الذي يكوِّن إطار الحساب إذا أخذنا وزن الأكسجين في الاعتبار.
وهناك مبدأٌ تركيبي قبلي آخر يأخذ به عالم الفيزياء في نظر «كانت»، هو مبدأ العِلِّية؛ فعلى الرغم من أننا نعجز في كثير من الأحيان عن الاهتداء إلى سبب لحادث مُلاحَظ، فإننا لا نفترض أنه حدث بلا سبب، وإنما نقتنع بأننا سنهتدي إلى السبب لو أننا مضينا في البحث عنه. هذا الاقتناع يتحكم في منهج البحث العلمي، وهو القوة الدافعة لكل تجربة علمية؛ إذ إننا لو لم نكن نُؤمِن بالعِلِّية، لما كان هناك عِلم. وهكذا فإن «كانت» يُثبِت المعرفة التركيبية القبلية في هذه الحالة، كما في حججه الأخرى، بالرجوع إلى طريقة سير العلم؛ أي إن أساس مذهب «كانت» الفلسفي هو القول إن العلم يفترض المعرفة التركيبية القبلية مُقدَّمًا.
والواقع أن الأساس العلمي لموقف «كانت» هو مصدر قوة هذا الموقف؛ فسعيُه إلى اليقين ليس من النوع الصوفي الذي يلجأ إلى القول برؤية لعالم المُثل، وليس من النوع الذي يلجأ إلى خدع منطقية تستخلص اليقين من مقدمات فارغة، مثلما يستخلص الحواة أرنبًا من قبعة خالية، وإنما يستعين كانت بالعلم السائد في عصره لكي يُبرهِن على إمكان بلوغ اليقين. وهو يذهب إلى أن حلم اليقين لدى الفيلسوف يجد له في نتائج العلم دعامة يرتكز عليها؛ أي إن «كانت» يستمدُّ قوته من إهابته بسُلطة العالم.
غير أن الأرض التي ارتكز عليها «كانت» لم تكن من الرسوخ بقدر ما تصوَّر؛ فهو قد رأى في فيزياء نيوتن المرحلة الأخيرة لمعرفة الطبيعة، ورفع هذه الفيزياء فكريًّا إلى مرتبة المذهب الفلسفي. وهكذا كان يعتقد أنه، باستخلاصه مبادئ نيوتن من العقل الخالص، قد توصَّل إلى تبرير عقلي كامل للمعرفة، وحقَّق الهدف الذي عجز السابقون عليه عن بلوغه. ويدل عنوان كتابه الأكبر «نقد العقل الخالص» على البرنامج الذي استهدفه، وهو أن يجعل العقل مصدرًا للمعرفة التركيبية القبلية؛ وبالتالي أن يُثبِت، على أساس فلسفي، أن الرياضيات والفيزياء السائدة في أيامه حقيقةٌ ضرورية.
ومن غرائب الأمور المشاهدة بالفعل أن أولئك الذين يرقبون البحث العلمي من الخارج ويُعجَبون به، يكون لديهم في كثير من الأحيان ثقةٌ في نتائج هذا البحث العلمي تفوق ثقةَ أولئك الذين يُسهِمون في تقدمه؛ فالعالم يعرف الصعوبات التي كان عليه أن يذلِّلها قبل أن يُثبِت نظرياته، وهو يعلَم أن الحظ قد حالفه في كشف النظريات التي تُلائم ما لديه من ملاحظات، وفي جعل الملاحظات التالية تُلائم نظرياته، وهو يدرك أنه قد تظهر في أية لحظة ملاحظاتٌ متعارضة أو صعوبات جديدة، ولا يزعم أبدًا أنه قد اهتدى إلى الحقيقة النهائية. أما فيلسوف العلم، الذي هو أشبه بالحواريين حين يكونون أشد تعصبًا من النبي ذاته، فإنه مُعرَّض لخطر الثقة بنتائج العلم إلى حدٍّ يفوق ما يُجيزه أصل هذه النتائج، المبني على الملاحظة والتعميم.
على أن الإفراط في الثقة بنتائج العلم لا يقتصر على الفيلسوف، وإنما أصبح سمةً عامة للعصر الحديث؛ أي للفترة التي تبدأ من عهد جاليليو إلى وقتنا الحالي، وهي الفترة التي خُلق فيها العلم الحديث. فالاعتقاد بأن لدى العلم الإجابةَ على كل سؤال — أي بأن كل ما على المرء، إذا كان في حاجة إلى معلومات فنية، أو كان مريضًا، أو يُعاني مشكلةً ما، هو أن يسأل العالم ليجد لديه الجواب — قد بلغ من الانتشار حدًّا جعل العلم يضطلع بوظيفة اجتماعية كانت في الأصل من مهام الدين، وأعني بها وظيفة كفالة الطمأنينة القصوى؛ ففي حالات كثيرة حلَّ الإيمان بالعلم محلَّ الإيمان بالله، وحتى عندما كان الدين يُعَد متمشِّيًا مع العلم، كان يُعدَّل بحيث يُلائم عقلية المُؤمِن بالحقيقة العلمية. وإذا كان عصر التنوير، الذي ينتمي إليه «كانت»، قد رفض التخلي عن الدين، فإنه قد حوَّل الدين إلى عقيدة للعقل، وجعل الله أشبه بعالم رياضي يعرف كل شيء لأن لديه استبصارًا كاملًا بقوانين العقل. فلا عجب إذن إن بدا العالم الرياضي أشبهَ بأنه صغيرٌ ينبغي أن تُقبَل تعاليمه على أساس أنها بمنأًى عن الشك. وهكذا فإن كل مَخاطر اللاهوت، من قطعية جازمة وتحكُّم في الفكر من أجل ضمان اليقين، تعود إلى الظهور في أية فلسفة تعُد العلم معصومًا من الخطأ.
ولو كان «كانت» قد عاش ليشهد العلم الفيزيائي والرياضي في عصرنا هذا، لَتخلَّى، على الأرجح، عن فلسفة المعرفة التركيبية القبلية، وإذن فلننظر إلى كتبه على أنها وثائق تنتمي إلى عصرها الخاص، وعلى أنها محاولة بذلها لإشباع نهمه إلى اليقين، عن طريق إيمانه بفيزياء نيوتن. والواقع أن مذهب «كانت» ينبغي أن يُعَد بناء علويًّا أيديولوجيًّا، شُيِّد على أساس علم فيزيائي يُلائم فكرة المكان المُطلَق، والزمان المطلق، والحتمية المطلقة للطبيعة. وهذا الأصل يفسِّر نجاح المذهب وإخفاقه؛ أي إنه يوضِّح السبب الذي يُعَد «كانت» من أجله، في نظر الكثيرين، أعظمَ الفلاسفة في كل العصور، والذي تعجز فلسفته من أجله عن أن تقدِّم أي شيء لمن يعيشون مثلنا في عصر فيزياء أينشتين وبور.
كذلك فإن هذا الأصل يعلِّل تلك الحقيقة النفسية، وأعني بها أن «كانت» لم يدرك نقطة الضعف في البناء المنطقي الذي كان يريد أن يبرِّر به المعرفة التركيبية القبلية؛ ذلك لأن الغرض الذي يُحدَّد مُقدَّمًا، هو الذي يُعمي الفيلسوف عن إدراك المُسلَّمات التي أدخلها ضمنًا في فلسفته. ولكي أوضِّح نقدي هذا، فسوف أناقش الآن الجزء الثاني من نظرية «كانت» في المعرفة التركيبية القبلية، وهو الجزء الذي حاول فيه الإجابة عن السؤال: «كيف تكون المعرفة التركيبية القبلية ممكنة؟»
لقد ذهب «كانت» إلى أنه يستطيع تفسير حدوث المعرفة القبلية التركيبية بواسطة نظرية تبيِّن أن المبادئ القبلية شروطٌ ضرورية للتجربة؛ فهو يرى أن الملاحظة وحدها لا تأتينا بمعرفة، وأن من الواجب تنظيم الملاحظات وترتيبها قبل أن يتسنى لها أن تصبح معرفة. وهو يعتقد أن تنظيم المعرفة يتوقف على استخدام مبادئ معيَّنة، كالبديهيات الهندسية، ومبدأَي العِلَّية وبقاء المادة، وهي مبادئ كامنة في الذهن البشري، نستخدمها مبادئ تنظيمية عند تشييدنا للعلم. وهكذا يخلص من ذلك إلى أنها ذات صحة ضرورية؛ لأن العلم يكون بدونها مستحيلًا. وهو يُسمِّي هذا البرهان باسم الاستنباط الترنسندنتالي للمعرفة التركيبية القبلية.
وينبغي أن نعترف بأن تفسير «كانت» للمعرفة التركيبية القبلية أرفَعُ بكثير من تحليل أفلاطون لهذا الموضوع؛ ذلك لأن أفلاطون يفترض، من أجل تفسير قدرة العقل على معرفة الطبيعة، وجودَ عالم من الأشياء المثالية التي يُدركها العقل، والتي تتحكم على نحوٍ ما في الأشياء الفعلية، أما «كانت» فلا نجد عنده مثل هذه النزعة الصوفية، وإنما تقول حجته إن للعقل معرفة بالعالم الفيزيائي؛ لأنه يشكِّل الصورة التي نُشيِّدها للعالم الفيزيائي؛ فالمعرفة التركيبية القبلية ترجع إلى أصل ذاتي، وهي شرط يفرضه الذهن البشري على المعرفة البشرية من أعلى.
هذا المثل لا يرجع إلى «كانت»، بل إنه يبدو في الواقع غريبًا عن روح مؤلِّف تلك الكتب الغامضة التي تحفل بأفكار مجردة مصوغة بلغة معقَّدة، تجعل القارئ متعطِّشًا إلى أمثلة عينية ملموسة. ولو كان «كانت» قد اعتاد شرح أفكاره باللغة الواضحة البسيطة التي يستخدمها العالم، لجاز أن يكتشف عندئذٍ أن استنباطه الترنسندنتالي ذو قيمة مشكوك فيها، ولأدرك أن حجته، إذا ما امتدَّت أبعدَ مِن ذلك، تؤدي إلى تحليل من النوع الآتي:
هبْ أن من الصحيح أنه لا توجد تجربة تستطيع تكذيب المبادئ القبلية، فمعنى ذلك أن أية ملاحظات نقوم بها يمكن على الدوام أن تُفسَّر أو تُرتَّب بطريقة تتفق وهذه المبادئ. مثال ذلك أنه لو كانت النتائج التي نتوصل إليها من قياس زوايا مثلث، تتناقض مع النظرية المتعلِّقة بمجموع زوايا المثلث، لعزَونا الفوارق إلى أخطاء في الملاحظة، ولأدخلنا «تصحيحات» على المقادير التي قِيسَت بحيث تتفق مع النظرية الهندسية، أما إذا استطاع الفيلسوف أن يُثبِت أن هذا الإجراء ممكن دائمًا بالنسبة إلى جميع المبادئ القبلية، لَتبيَّن أن هذه المبادئ فارغة؛ وبالتالي تحليلية، وفي هذه الحالة لا تكون هذه المبادئ شروطًا تقيِّد التجارب الممكنة، ولا تُنبِئنا بشيء عن خصائص العالم الفيزيائي. وبالفعل حاول «هنري بوانكاريه» أن يمتدَّ بنظرية «كانت» في هذا الاتجاه، وذلك فيما أسماه بالمذهب الاصطلاحي؛ فهو ينظر إلى هندسة إقليدس على أنها اصطلاحٌ مُتعارَف عليه؛ أي على أنها قاعدة نفرضها باختيارنا على النظام الذي نُرتِّب به تجاربنا. وسوف نوضِّح في الفصل الثامن ما في هذه النظرية من قصور. ولكي نضرب مثلًا لمعنى المذهب الاصطلاحي في مجال غير مجال الهندسة، فلنتأمل القضية القائلة إن جميع الأعداد التي تزيد على ٩٩ ينبغي أن تُكتَب بثلاثة أرقام على الأقل. هذه القضية لا تصدَق إلا على النظام العشري، وهي تخفق في حالة الطُّرق الأخرى للتدوين، كالنظام الاثنَي عشري عند البابليين، الذي استخدم العدد ١٢ أساسًا لنظامه العددي. فالنظام العشري اصطلاحٌ نستخدمه في طريقتنا الخاصة في تدوين الأرقام، ونحن نستطيع أن نُثبِت أن جميع الأعداد يمكن أن تُكتَب بهذه الطريقة في التدوين؛ وعلى ذلك فالقضية القائلة إن جميع الأعداد التي تزيد على ٩٩ ينبغي أن تُكتَب بثلاثة أرقام على الأقل، هي قضية تحليلية عندما تُشير إلى هذا النظام. فإذا أردنا أن نفسِّر فلسفة «كانت» بأنها مذهب اصطلاحي، لكان علينا أن نُبرهِن على أن مبادئ كانت يمكن التمسك بها إزاء كل التجارب المُمكِنة.
غير أننا لا نستطيع تقديم برهان كهذا، بل إنه لو كانت المبادئ القبلية تركيبية، كما اعتقد «كانت»، لكان مثل هذا البرهان مستحيلًا؛ ذلك لأن كلمة «تركيبية» تعني أننا نستطيع تصوُّر تجارب تُناقِض المبادئ القبلية. وإذا كان في استطاعتنا أن نتخيل تجارب كهذه، فليس لنا أن نستبعد إمكان مجيء يوم تكون لنا فيه مثل هذه التجارب بالفعل. على أن «كانت» قد يردُّ بقوله إن مثل هذه الحالة لا يمكن أن تحدث؛ لأن المبادئ شروطٌ ضرورية للتجربة، أو بعبارة أخرى، لأن التجربة بوصفها نسقًا مُنظَّمًا من الملاحظات، لن تكون في الحالة المذكورة مُمكِنة. ولكن كيف يعرف أن التجربة ستكون دائمًا ممكنة؟ إن «كانت» لا يملك دليلًا على أننا لن نصل أبدًا إلى مجموع من الملاحظات لا يمكن تنظيمه في إطار مبادئه الأولية، ويجعل التجربة — أعني التجربة بالمعنى الكانتي على الأقل — مستحيلة. ولو عبَّرنا عن هذه المسألة من خلال المثال السابق، لقلنا إن هذه الحالة يمكن أن تحدث لو لم تكن في العالم الفيزيائي أشعةٌ ضوئية لها طول الموجة المُناظرة للأزرق، فعندئذٍ لا يرى الرجل ذو النظارة الزرقاء شيئًا. ولو حدثت الحالة المناظرة في العِلم، أعني إذا أصبحت التجربة من النوع الذي يقول به «كانت» مستحيلة، لاتَّضح أن مبادئ «كانت» لا تسري على العالم الفيزيائي. ولما كان مثل هذا التفنيد ممكنًا، فلا يمكن أن تُسمَّى المبادئ قبلية. وهكذا فإن المصادرة القائلة إن التجربة في إطار المبادئ القبلية ينبغي أن تكون ممكنة، هي المقدمة التي لم يُبرهِن عليها «كانت»، والتي يرتكز عليها مذهبه، ويدلُّنا عدم تصريحه بالمقدمة التي يرتكز عليها، على أن البحث عن اليقين جعله يُغفِل نواحي القصور في حجته.
على أنني لا أودُّ أن أظهر بمَظهر عدم الاحترام نحو فيلسوف عصر التنوير. فنحن نستطيع أن نُثير هذا الاعتراض؛ لأننا رأينا الفيزياء تدخل مرحلةً ينهار فيها إطار المعرفة الكانتية، ولم تعُد الفيزياء في أيامنا هذه تعترف ببديهيات الهندسة الإقليدية، ومبدأَي العِلَّية والجوهر. ونحن نعلم أن الرياضة تحليلية، وأن جميع تطبيقات الرياضة على الواقع الفيزيائي، وضِمنها الهندسة الفيزيائية، لها صحة تجريبية، ويمكن أن تصحِّحها التجارب اللاحقة؛ أي إننا نعلم، بعبارة أخرى، أنه لا توجد معرفة تركيبية قبلية، غير أننا لم نكتسب هذه المعرفة إلا في الوقت الحالي، بعد أن تم تجاوُز فيزياء نيوتن وهندسة إقليدس. وإنه لمن الصعب أن يتصور المرء إمكان انهيار نسق علمي عندما يكون ذلك النسق في أوجِه، أما بعد أن يصبح هذا الانهيار حقيقة واقعة، فما أسهلَ الإشارةَ إليه!
لقد جعلتنا هذه التجربة من الحكمة بحيث نتوقع انهيار أي نسق. ومع ذلك فإنها لم تثبِّط همتنا؛ فقد أثبتت الفيزياء الحديثة أن في وسعنا اكتساب معرفة خارج إطار المبادئ الكانتية، وأن الذهن البشري ليس قائمة متحجِّرة من المقولات يكدِّس العقل في داخلها كل التجارب، بل إن مبادئ المعرفة تتغير بتغير مضمونها، ويمكن تكييفها مع عالمٍ أعقد بكثير من عالم ميكانيكا نيوتن. وإنا لنأمل أن يكون لأذهاننا، في أي موقف في المستقبل، من المرونة ما يُتيح لها الإتيان بوسائل للتنظيم المنطقي تستطيع أن تعالج مادة الملاحظة المعطاة، ولكن هذا مجرد أمل، وليس اعتقادًا نزعم أن لدينا دليلًا فلسفيًّا عليه. ففي استطاعتنا الآن أن نستغني عن اليقين، ولكن كان لا بد من السير في طريق طويل قبل أن نصل إلى موقف من المعرفة متحرِّر على هذا النحو. وكان من الضروري أن يهدم البحث عن اليقين نفسه في المذاهب الفلسفية الماضية قبل أن نتمكن مِن تصوُّر مفهوم للمعرفة يستغني عن جميع ادِّعاءات الحقيقة المُطلَقة.