البحث عن التوجيهات الأخلاقية والتوازي بين مجالَي الأخلاق والمعرفة
إذا كانت علمًا أو معرفة أو شيئًا غير العلم والمعرفة فسوف يكون من الممكن تعليمها أو لا يكون. أليس من الواضح على الأقل أن الإنسان لا يمكنه أن يتعلم إلا ما هو علم أو معرفة؟
في هذه الفقرة من محاورة «مينو»، وهي فقرة نعرضها هنا في صورة مختصرة، يناقش سقراط مسألة الفضيلة وهل هي علم. وكما فعل سقراط في محاورةٍ أسبق ناقَش فيها نفس هذه المسألة، وهي «بروتاجوراس»، فإنه لا يقدِّم إجابة واضحة بنعم أو لا، وهو لا يستطيع الوصول إلى جواب قاطع نظرًا إلى استخدامه لكلمتَي «المعرفة» والتعليم بمعنًى مزدوج. إن سقراط يؤكِّد في كثير من الأحيان أنه لا يعلم أبدًا، وإنما يقتصر على أن يساعد شخصًا على رؤية الحقيقة بعينَيه هو، والمنهج الذي يستخدمه هو توجيه الأسئلة. ويتعلم التلميذ لأن الأسئلة تُوجِّه انتباهه إلى نقاط معيَّنة، وهكذا يعرف الجواب الصحيح بالتركيز على العوامل المتصلة بالموضوع، واستخلاص النتائج اللازمة. ومِن هذا القبيل تعليم الهندسة اللازمة لبرهان معيَّن يُترَك دائمًا للتلميذ، وكل ما يفعله المعلِّم هو أن يُعينه على أداء أفعال الاستبصار هذه، ولكن إذا «تعلَّم» نتيجة لهذا المنهج المسمَّى بالمنهج الديالكتيكي، فإن من الممكن جدًّا أن يقال عن الشخص الذي يجعله يتعلم إنه «يعلم». والواقع أنه لو توسَّع سقراط في استخدام مصطلحه الغريب بحيث يمتد إلى مجال الهندسة، وأنكر إمكان تعليم الهندسة (وهو ما يفعله أحيانًا)، لكان معنى ذلك أن الهندسة ليست معرفة (وهي نتيجة لا يستخلصها)؛ لذلك يبدو أن من الصواب تفسير رأي سقراط بالقول إنه يعني أن الفضيلة ضربٌ من المعرفة، بنفس المعنى الذي يمكن أن تُسمَّى به الهندسة ضربًا من المعرفة.
والواقع أن طريقة عرض سقراط ذاته للمشكلة تبرِّر هذا التفسير؛ فهو يريد أن يبيِّن لمينو الطريقة التي يمكن بها حل المشكلات الأخلاقية، ويشير لهذا الغرض إلى عملية اكتساب المعرفة الهندسية، وعند هذه النقطة تدبُّ الحياة في المحاورة في المشهد المذكور من قبل، الذي يعمل فيه سقراط على جعلِ عبدٍ صغير يفهم نظرية هندسية؛ فهو يريد أن يضرب مثلًا لرأيه القائل إن المرء ينبغي عليه، لكي يعرف ما الفضيلة وما الخير، أن يقوم بفعل استبصار من نفس النوع اللازم لفهم البراهين الهندسية. وهكذا تُعرَض الأحكام الأخلاقية كما لو كانت تُكتشف بنوع خاص من الرؤية، مُشابِه للتبصر بالعلاقات الهندسية. وباستخدام هذه الحجة يُقدَّم إلينا الاستبصار الأخلاقي على أنه مُوازٍ للاستبصار الهندسي؛ فإن كان ثمةَ معرفةٌ هندسية، فلا بد أن تكون هناك أيضًا معرفةٌ أخلاقية؛ تلك هي النتيجة التي تبدو محتومة، عندما يتحرر المذهب السقراطي الأفلاطوني من ذلك المصطلح السفسطائي الذي يصاغ به؛ وبهذا المعنى يمكن التعبير عن هذا المذهب في القضية القائلة إن الفضيلة هي العلم.
وعن طريق هذه القضية، أثبت أفلاطون التوازي بين مجالَي الأخلاق والمعرفة؛ أي أثبت النظرية القائلة إن الاستبصار ضربٌ من المعرفة أو العلم؛ فإذا ارتكب شخص فعلًا لا أخلاقيًّا، فهو جاهل بنفس المعنى الذي يكون به الشخص الذي يرتكب أخطاءً في الهندسة جاهلًا؛ أي إنه عاجز من القيام بفعل الرؤية الذي يكشف له عن الخير، وهي رؤية مِن نفس النوع الذي يكشف له عن الحقيقة الهندسية.
فإذا ما قارنَّا بين هذا الرأي وبين الصورة التي تُعرَض بها المبادئ الأخلاقية في الكتاب المُقدَّس، لظهر لنا فارقٌ واضح؛ فالكتاب المقدس يعرض القواعد الأخلاقية على أنها كلمة الله؛ أي إله العبرانيين الذي يوجِّه الوصايا العشر إلى موسى على جبل سيناء: «لا تقتل!» و«لا تسرق!» ولا شك أن الصيغة الآمِرة التي تتسم بها القواعد تدل بوضوح على أن المقصود منها أن تكون أمرًا، لا أن تكون إقرارًا لأمر واقع. ويبدو أن تحوُّل القواعد الأخلاقية إلى ضرب من المعرفة كان اختراعًا متأخرًا؛ فالعبرانيون كانوا خليقين بأن يروا في المساواة بين الوصايا العشر وبين قانون للطبيعة أو قانون رياضي استخفافًا بكلمة الله. وفي الوقت الذي ظهرت فيه أسفار موسى، لم تكن المعرفة قد اتخذت صورةَ نسقٍ مُنظَّم؛ إذ لم تكن هندسة المصريين القدماء سوى مجموعة من القواعد العملية التي تفيد في مسح الأرض وتشييد المعابد، وكان أحد اليونانيين هو الذي اكتشف أن من الممكن إثبات الهندسة في شكل برهان منطقي؛ وعلى ذلك فإن النظرة إلى الفضيلة على أنها علم هي طريقة يونانية خالصة في التفكير. ولقد كان من الضروري، قبل أن يتسنى النظر إلى المعرفة على أنها هي التي تمدُّنا بأساس القواعد الأخلاقية، أن تتخذ المعرفة أولًا ذلك الطابع الذي أضفَته عليها الروح اليونانية، بما فيه من كمال وشرف، عن طريق بناء الرياضيات بوصفها نسقًا منطقيًّا. وكان لا بد من الاعتراف أولًا بأن قوانين الطبيعة والرياضة قوانين بالمعنى الصحيح؛ أعنى علاقات تفرض علينا احترامها، ولا تحتمل أية استثناءات، قبل أن يمكن تصوُّر هذه القوانين على أنها مُوازية للقوانين الأخلاقية. وإن المعنى المزدوج لكلمة «القانون»، بوصفه أمرًا أخلاقيًّا وقاعدة للطبيعة أو العقل، ليشهد بتحقق هذه الموازاة.
ويبدو أن الدافع إلى فكرة الموازاة هو الرغبة في إقامة الأخلاق على أساسٍ أقوى من ذلك يزوِّدها به الدين؛ فقد تكفي أوامر الآلهة لإرضاء ذهن ساذج لا يؤرِّقه أي شك في علو مكانة الأب، غير أن الشعب الذي وضع الصورة المنطقية للرياضة قد اكتشف شكلًا جديدًا للأوامر، هو الأوامر العقلية. وإن الطابع اللاشخصي لهذا الأمر ليجعله يبدو من نوعٍ أرفع؛ إذ إنه يقتضي الاحترام سواءٌ أكُنا نعترف بوجود الآلهة أم لا، وهو يستبعد السؤال عما إذا كانت أوامر الآلهة خيرًا، ويحرِّرنا من النظرة التشبيهية بالإنسان، القائلة إن فعل الخير ينحصر في الامتثال لإرادة أعلى؛ فلا عجب إذن إن بدت أفضل طريقة لإثبات أن القواعد الأخلاقية مُلزِمةٌ للجميع هي إقرار التوازي بين مجالَي الأخلاق والمعرفة، والقول بأن الفضيلة هي العلم.
وهناك مذهب فلسفي يعرض فكرة التوازي بين مجالَي الأخلاق والمعرفة في صورتها المتطرِّفة، هو المذهب الأخلاقي عند اسبينوزا (١٦٣٢–١٦٧٧م)؛ ففي هذا المذهب يذهب اسبينوزا إلى حد محاكاة طريقة إقليدس في تقديم الهندسة على شكل بديهيات ونظريات، آملًا بذلك أن يَشيد الأخلاق على أساس مَتين كأساس الهندسة؛ فهو يبدأ، مثل إقليدس، ببديهيات ومصادرات، ثم يستخلص نظرية بعد الأخرى. والواقع أن كتابه «الأخلاق» يبدو عند قراءته أشبه بكتاب تعليمي في الهندسة، على أن الكتاب في أجزائه الأولى ليس أخلاقيًّا بالمعنى الذي نقصده، وإنما يقدِّم نظرية عامة في المعرفة، ثم ينتقل بعد ذلك إلى بحث الانفعالات. ويعرض اسبينوزا نظريته القائلة إن الانفعالات تنشأ من أفكار غير كافية في النفس، وهي نظرية تتمشى مع نظرية سقراط القائلة إن الرذيلة جهل. وهو يحاول أن يبيِّن، في فصل عنوانه «في عبودية الإنسان، أو قوة الانفعالات» أن الانفعالات تسبِّب الحزن والكدر؛ وبالتالي فهي شر؛ فنحن نصل إلى السعادة عندما نتغلب على قوة الانفعالات. وفي فصل آخر بعنوان «قوة العقل، أو في حرية الإنسان» يوضِّح أن القدرة على هذا التحرر كامنة في العقل. وهكذا فإن أخلاقه رواقية، وهو يرى أن الخير ليس إلا اللذة العقلية للمعرفة، أما السعادة، تستمد من إرضاء الانفعالات ومن متع الحياة، فهي وإن لم تكن في نظره مُنافية للأخلاق، تبدو له خارجة عن مجال الأخلاق، وهو لا يحبِّذها، بقدر مُعتدل، إلا بوصفها غذاءً للبدن، لازمًا لحفظ قدرة الجسم على أداء كل ما تقدر عليه طبيعته من أفعال.
ويتمتع اسبينوزا بسُمعة طيِّبة بين الفلاسفة، ولكني أعتقد أن الفضل في هذه السمعة يرجع إلى شخصيته أكثر مما يرجع إلى فلسفته؛ فقد كان رجلًا مُتواضعًا شجاعًا، تصدَّى للدفاع عن نظرياته، وطبَّق مذهبه الأخلاقي في حياته، وكان يكتسب رزقه بقطع عدسات المناظير، ورفض مَنصبًا جامعيًّا لأنه قد يؤدي إلى الحد من حرية تفكيره. ولقد تعرَّض لهجمات متعدِّدة وصَفَته بأنه مُلحِد، وطُرد من الطائفة اليهودية في أمستردام لمُروقه، ولكنه ظل غير عابئ بأي انتقاد، وكان عطوفًا على الجميع، ولم يُبدِ كراهية لأحد.
فإذا ما جرَّدنا مذهبه الأخلاقي من صورته المنطقية، لبدا لنا عقيدة لشخص مُتَّزن يبدو في نظره ضبط النفس والعمل العقلي أسمى الفضائل. على أنه حين عرض مذهبه الأخلاقي بصورة منطقية، أثبت أن إعجابه بالمنطق يفوق مقدرته في مجال المنطق. والواقع أن منطق استنتاجاته هزيل، ولا يمكن أن تُفهَم هذه الاستنتاجات بدون كثير من الإضافات الضمنية والتفسيرات النفسية، ولا يمكن أن يُعَد مذهبه مُتَّسقًا داخليًّا على الأقل؛ أي لا يمكن أن تُستخلَص نتائجه بطريقة صحيحة من بديهياته؛ إذ إن هذه النتائج تتجاوز مضمون مقدماته بكثير. مثال ذلك أنه يقول بالدليل الأنطولوجي على وجود الله. غير أن التركيبات المنطقية غير الصحيحة يمكن أن تظل لها تلك الوظيفة النفسية في دعم المعتقدات الذاتية، والاستدلال الباطل يمكن أن يكون أداة لا غناء عنها في يد العقيدة الشخصية. ولقد كان اسبينوزا في حاجة إلى ذلك الهيكل الذي يتخذ صورة منطقية؛ لكي يرتكز عليه في قمعه للانفعالات، وفي عدم اكتراثه الغريب بملذات الرغبات. وهكذا فإنه استخدم الطابع العقلي الذي أضفاه سقراط على الأخلاق، كما فعل الكثير من سابقيه، في تشييد مذهب أخلاقي يقلِّل من شأن الانفعالات. وربما كانت هذه أسوأ نتائج الموازاة بين مجالَي الأخلاق والمعرفة؛ فمنذ عهد الرواقيين سادت بين جماهير الناس تلك النظرة إلى الفيلسوف على أنه إنسان بلا انفعال، وأدَّت تلك النظرة إلى شعور غير الفلاسفة من الناس بأن فيهم نقصًا، وذلك عندما يجدون أنفسهم عاجزين عن تحقيق مثل هذه الحكمة، ولكني لا أستطيع أن أرى سببًا يدعو الفلاسفة إلى تمجيد هذا النمط غير المنفعل؛ فأنا لا أود أن أصرف أولئك الذين يجدون متعة في عدم الانفعال، عن هذا النوع الخاص بهم من اللذة، ولكني لا أرى سببًا يدعو البقية منَّا، ممن تتخذ لذَّاتهم صبغة أكثر إنسانية، إلى أن يشعروا بالنقص. فما يجعل الحياة جديرة بأن تُعاش هو الانفعال، وهذه القاعدة تنطبق على الفلاسفة بدورهم. ويبدو أن انفعال اسبينوزا المُؤسِف نحو المنطق لم يكن يختلف كثيرًا عن تلك الأنواع الأكثر إثارة، التي يتبدَّى عليها الانفعال لدى الأشخاص الآخرين.
ولقد كان البناء الاستنباطي للأخلاق عند اسبينوزا، الذي كان يهدف إلى إثبات إمكان الإتيان ببرهان منطقي على القواعد الأخلاقية، مجردَ صورة أكثر تفصيلًا وتعقيدًا لفكرة سقراط القائلة إن الفضيلة هي العلم، بل إن مذهب اسبينوزا يبني هذه الفكرة على أساسٍ أمتن؛ لأنه يبيِّن أن المعرفة الأخلاقية ليست نتاجًا لاستبصار عقلي فحسب، بل إن من الممكن أيضًا أن يُطبَّق عليها أقوى أساليب التفكير العقلي، وأعني به الاستنباط المنطقي. فبديهيات الأخلاق، شأنها شأن بديهيات الهندسية؛ ليست إلا نقطة البداية في بناءات استنباطية تؤدي، عن طريق سلسلة من الاستدلالات، إلى نتائج يتسع نطاقها بالتدريج. فالأخلاق علم، ليس فقط لأن مبادئها الأولى تبدو «صحيحة»، بل أيضًا لأنها خاضعة لمبادئ الاستدلال المنطقي، ويمكن أن يُطبَّق عليها أسلوب البرهان المنطقي من أجل إثبات العلاقات بين القوانين الأخلاقية. تلك هي الحجة التي تعبِّر عن موقف اسبينوزا مثلما تعبِّر عن موقف سقراط وأفلاطون.
ولكي نوضِّح هذا التوازي، سنضرب أمثلة لاستنباطات مختارة من الميدانَين المعرفي والأخلاقي؛ فعملية الاهتداء إلى الخير، شأنها شأن عملية اكتساب المعرفة، ذاتُ طبيعة متدرِّجة، وتتم عن طريق خطوات من الاستبصار الذي يزداد وضوحًا بالتدريج. وتعليم الحقيقة أو تعليم الفضيلة، ينحصر في مساعدة الشخص على أن يصعد خطوات السلم هذه. فنحن نسأل مثلًا إن كان من الممكن رسم دائرة داخل مثلث تكون أضلاعه مُماسَّات للدائرة، فنتخيل صورًا تبيِّن دوائر ومثلثات لها هذه العلاقة، ولكنا لا نعلم بعدُ إن كان من الممكن تحقيق ذلك بالنسبة إلى كل أنواع المثلثات، أو إن كان من الممكن تحقيقه بأكثر من طريقة واحدة. وأخيرًا نهتدي إلى البرهان الهندسي القائل إن من الممكن تحقيق ذلك بالنسبة إلى كل مثلث، وبطريقة واحدة بالنسبة إلى المثلث الواحد. هذا الكشف يتم على خطوات، سواء أكُنا نحن الذين نهتدي إلى البرهان أم كان هناك معلِّم يوضِّحه لنا. وبالمثل قد نتساءل إن كان الكذب على الغير خيرًا، وربما أجبنا أنه خير أحيانًا وشر أحيانًا أخرى، ولكنا إذا مضينا في التحليل أبعد من ذلك اتضح لنا أنه على الرغم من أن الكذب قد يفيدنا أحيانًا فإنه ليس خيرًا؛ لأن مثل هذا السلوك مِن جانبنا قد يشجِّع الآخرين على أن يسلكوا بنفس الطريقة، فتكون النتيجة زوال الثقة المتبادلة في العلاقات بين أفراد البشر. وهكذا تبدو العملية المتدرِّجة في هذا البحث مشابهة للتفكير الرياضي؛ وبذلك نعرف لماذا كانت القواعد الأخلاقية قابلة لأن تُعلَّم.
غير أن دراسة عمليات الاستنباط تؤدي أيضًا إلى إظهار النظرة المعرفية للأخلاق في ضوء جديد؛ فالاستنباط المنطقي ليس وسيلة للاهتداء إلى حقيقة نهائية، وإنما هو مجرد أداة للربط بين حقائق مختلفة. وقوام الاستنباط الرياضي، في المثال الذي قدَّمناه من قبل، هو البرهان على أننا إذا سلَّمنا ببديهيات معيَّنة، فإن النتيجة المتعلقة بالدائرة المرسومة داخل المثلث تلزم عنها، والاستنباط الأخلاقي المشار إليه من قبلُ هو برهان على أننا إذا رغبنا في غايات معيَّنة، فمن الواجب أن نُطيع القاعدة الأخلاقية التي تقضي بالامتناع عن الكذب. وبعبارة أوضح، فإن ما برهنَّا عليه هو أننا إذا أردنا نظامًا اجتماعيًّا تقوم فيه العلاقات بين أفراد البشر على أساس الثقة المتبادلة، فمن الواجب ألا نكذب.
وفي كلتا الحالتَين نجد أن علاقة «إذا كان … فإن …» هي القابلة للبرهان، كما أن المثلَين إنما يتطابقان في إمكان استنباط هذه العلاقة فيهما معًا؛ أي إن كون الفضيلة قابلة لأن تُعلَّم، هو نتيجة تترتب على كون الاعتبارات الأخلاقية، شأنها شأن الاستنباطات الرياضية، تنطوي على عنصر منطقي قابل لأن يُحلَّل بخطوات منطقية، تُناظر الخطوات المنطقية في البرهان الرياضي.
ولسنا بحاجة إلى أن نؤكد أن الاستنباط المنطقي لا يمكنه أن يخلق نتائج مستقلة، وإنما هو أداة للربط فحسب؛ فهو يستمدُّ نتائجه من بديهيات معطاة، ولكنه لا يستطيع أن يُنبِئنا بشيء من حقيقة البديهيات، وعلى ذلك فإن بديهيات الرياضة تحتاج إلى معالجة مستقلة، ومسألة كونها صحيحة تؤدي، كما أوضحنا من قبل، إلى أسئلة من قبيل السؤال عما إذا كانت هناك معرفة تركيبية قبلية. ويؤدي تحليل الاستنباطات الأخلاقية إلى نتائج مُماثلة. فبديهيات الأخلاق، شأنها شأن بديهيات الرياضة، ينبغي أن تُميَّز من النظريات الأخلاقية المستنبطة منها، والعلاقة بين الاثنين؛ أعني العبارة الموضوعة في صيغة «إذا كان … فإن …»، وهي «إذا قُبلت البديهيات فإن من الضروري أن تُقبَل النظرية»، هي وحدها التي يمكن البرهنة عليها منطقيًّا؛ وعلى ذلك فإن التحليل يبيِّن لنا أن صحة الأخلاق يمكن أن تُرَد إلى صحة البديهيات الأخلاقية. وكل ما يستطيع منهج الاستنباط أن يقوم به في ميدان الأخلاق، كما في ميدان الرياضة، هو أن ينقل السؤال عن الصواب من النظريات إلى البديهيات، ولكنه لا يستطيع تقديم إجابة على هذا السؤال.
فلا بد لكي نُثبِت أن الفضيلة علم، وأن الأحكام الأخلاقية من نوعٍ معرفي، مِن أن نُثبِت أن بديهيات الأخلاق من نوعٍ معرفي، غير أن إمكان تطبيق الاستنباط المنطقي على المشكلات الأخلاقية لا يُثبِت أي شيء في هذا الصدد. وهكذا فإن السؤال عن طبيعة الأخلاق يردُّ إلى السؤال عن طبيعة البديهيات الأخلاقية.
وهنا نجد لزامًا علينا مرةً أخرى أن ننسب الفضل في إدراك هذه الحقيقة، وأعني بها كون مشكلة الأخلاق هي مشكلة البديهيات الأخلاقية، إلى إمانويل كانت؛ فقد أدرك أن من المستحيل، نتيجةً للطبيعة التحليلية للاستنباط، أن نجعل صحة القواعد الأخلاقية مرتكزة على الاستنباط وحده، وهي حقيقة تصدق على الرياضيات بدورها. وأكَّد أن طبيعة الأخلاق لا تُفهَم إلا بعد الإجابة على السؤال عن بديهيات الأخلاق، ولكن لنقُل مرةً أخرى إن «كانت» لا يدَّعي لنفسه الفضل في تقديم السؤال، وإنما في تقديم الإجابة عنه. وإنه لمن المفيد أن ندرس هذه الإجابة، التي تمثِّل — شأنها شأن إجابته على مشكلة بديهيات الرياضة والفيزياء — آخرَ بناء قوي شيَّده المذهب العقلي.
ولم يكن في استطاعة «كانت» أن يدرك، في وقته، أن هذه الموازاة ذاتها هي التي تؤدي آخرَ الأمر إلى انهيار مذهبه الأخلاقي؛ فلقد أوضحنا في الفصل السابق أنه لا يوجد عنصر تركيبي قبلي في مجال المعرفة، وأن الرياضة تحليلية، وأن جميع الصِّيَغ الرياضية للمبادئ الفيزيائية ذات طابع تجريبي. فلو كان القانون الأخلاقي في داخل من نوع القانون الذي تكشفه لي السماء المرصَّعة بالنجوم، لكان إما تعبيرًا تجريبيًّا عن سلوك البشر، وإما قضية فارغة تعبِّر عن علاقة لزوم بين البديهيات والنتائج الأخلاقية، كالنظريات الرياضية، ولكنه لن يعود في هذه الحالة أمرًا غير مشروط، أو أمرًا مُطلَقًا (حمليًّا) بلغة المنطق التقليدي التي استخدمها «كانت»؛ وإذن فإخفاق مذهب «كانت» الأخلاقي يرجع إلى نفس السبب الذي يرجع إليه إخفاق نظريته في المعرفة؛ فهو ناشئ عن الفكرة الباطلة القائلة إن في وسع العقل أن يضع قضايا تركيبية.
على أن هذه ليست إلا إجابة سلبية، تقول إن البديهيات الأخلاقية ليست قضايا تركيبية قبلية، وتبقى بعد ذلك مهمة الاهتداء إلى إجابة إيجابية؛ أي إيضاح طبيعة البديهيات الأخلاقية. ولن أقوم بمناقشة هذه المسألة في الجزء التاريخي من هذا البحث، وإنما سأقوم بتحليلها في الفصل السابع عشر، ومع ذلك فإني أودُّ أن أضيف بضع كلمات عن الأصل النفسي لآراء «كانت».
إننا نكتشف، عندما ندرس نفسية الفيلسوف دراسةً فاحصة، أن القول بالمعرفة التركيبية القبلية في مجال الأخلاق يبعث في «كانت» رضاءً انفعاليًّا أقوى، حتى من ذلك الذي يبعثه القول بالمعرفة التركيبية القبلية في مجال المعرفة؛ فهو في كتاباته الأخلاقية يُقحِم وسط الأسلوب الأكاديمي الجاف الذي يعرض به آراءه، تعبيراتٍ شاعرية يهتف بها ممجِّدًا للقواعد والتصورات الأخلاقية:
«الواجب! أيها الاسم العظيم الجليل، يا من لا تنطوي في ذاتك على أية صفة تجعلك مُحبَّبًا أو باعثًا للإرضاء، ولكنك تُطالِب بالخضوع، ومع ذلك فأنت لا تتوعدنا بأي شيء قد يبعث الرعب أو يولِّد نفورًا طبيعيًّا، أي أصل جدير بك. وأين يجد المرء جذور مَنبتك النبيل؟ إنك لترفض كل وشائج تربطك بالهوى، وإن السير على هديك إنما هو الشرط الضروري لكل قيمة عُليا يُصدِرها الإنسان.»
إن تصوُّر الواجب هو محور مذهب «كانت» الأخلاقي؛ فبقدر ما يكون سلوكنا مبنيًّا على الهوى أو الميل الطبيعي، لا يكون خيرًا ولا شرًّا، حتى لو كان ميلنا يتجه إلى هدف له قيمته، كمساعدة أشخاص محتاجين. فمصدر أخلاقية سلوكنا هو دافع الواجب الذي يجعلنا نسلك. فيا للتشويه الذي لحق بالنزوع الطبيعي إلى مساعدة الآخرين! ويا لالتواء الأخلاق التي تتكشف في هذه الصبغة العقلية التي أضفاها «كانت» على القرارات الخلقية! لقد كان «كانت» ينتمي إلى أسرة من الطبقة المتوسطة، تحيا حياة متواضعة، وكان أبوه نجارًا، وأمه نصيرة متحمِّسة لجماعة دينية محافظة. وفي بيئة كهذه يُعَد الاعتماد على الذات والاستجابة الحرة للميل الطبيعي خطيئةً في كثير من الأحيان، ويبدو أن الابن المشهور قد وجد سعادة وفخرًا في أن يستنبط في كتب فلسفية معقَّدة نفس الاتجاهات الأخلاقية التي تشبَّع بها منذ نعومة أظفاره.
والواقع أن النجاح الذي أحرزته فلسفته في بلاده، والذي جعل منه فيلسوف البروتستانتية والنزعة البروسية، هو دليل آخر على أن الأخلاق التي وضع صيغتها المنظَّمة في مذهبه الفلسفي إنما هي أخلاق طبقة وسطى معيَّنة من الشعب؛ فتمجيد الواجب يمثِّل أخلاق طبقة اجتماعية توجد في ظروف الفاقة، وتعتمد في معيشتها على العمل الشاقِّ الذي لا يترك وقتًا للفراغ، أو هو أخلاق طبقة عسكرية مميَّزة لا بد فيها من الخضوع لأوامر الرؤساء. ولقد كانت كلتا الحالتَين موجودة في بروسيا أيام «كانت»، غير أن رفض «كانت» الاعتراف بسُلطة جماعات أو نُظُم معيَّنة يدل على أنه كان ذا ذهن مستقل؛ مما أدَّى بالفعل إلى قيام نزاع بينه وبين الحكومة البروسية. ولو لم يكن قد دعا إلا إلى قاعدة التعاون الاجتماعي، التي يعبِّر عنها الأمر المُطلَق عنده، لنظرنا إليه على أنه نصير لمجتمع ديمقراطي، ولأدرجناه مع لوك وقادة الثورة الأمريكية، غير أن تقديسه للواجب ينمُّ عن قدر مُفرِط من اللذة المستمَدَّة من الخضوع، والرضا الناجم عن العبودية، وهي صفات مميَّزة للطبقة الوسطى البورجوازية التي ظلت طويلًا تخضع لسلطة فئة حاكمة قوية. وإنها لمأساة فيلسوف المعرفة التركيبية القبلية أن يكون ما قدَّمه إلينا على أنه التركيب النهائي للعقل مُماثلًا إلى حدٍّ يدعو إلى الدهشة للوسط الاجتماعي الذي ترعرع فيه؛ فالعنصر الأوليُّ في المعرفة عنده يتَّفق مع فيزياء عصره، والعنصر الأوليُّ في الأخلاق يتَّفق مع أخلاق طبقته الاجتماعية. فليكن في هذا الاتفاق تحذيرٌ لكل مَن يزعم أنه قد اهتدى إلى الحقيقة النهائية.
ويبدو أن «كانت» كان ينظر إلى تأسيسه للأخلاق على أنه عملٌ يفوق في أهميته نظريتَه في المعرفة بقدرِ ما تفوق الغاية في أهميتها الوسيلة، ويبدو أن هذه النظرة مميِّزة لجميع أنصار الموازاة بين المجالَين الأخلاقي والمعرفي؛ إذ يبدو أن السعي إلى توجيهات أخلاقية هو الدافع إلى أبحاثهم، وأن السبب الرئيسي في نشدانهم لليقين المعرفي هو أنه يمدهم بوسيلة الاهتداء إلى اليقين الأخلاقي. على أن لهذا التحول في الاهتمام من الميدان المعرفي إلى الميدان الأخلاقي تأثيرًا مُؤسِفًا؛ إذ يؤدي إلى تأمل نظرية المعرفة الناتجة بصورة مشوَّهة، وبنائها من أجل غاية معيَّنة، هي أن تكون دعامة للمذهب المُطلَق في الأخلاق؛ وبالتالي لا تكون تفسيرًا منزَّهًا للمعرفة؛ وبذلك يصبح البحث عن التوجيهات الأخلاقية دافعًا خارجًا عن مجال المنطق، يتدخل في التحليل المنطقي للمعرفة. وينبغي أن نبيِّن الآن إلى أي مدًى أثَّرت النتيجة الناجمة عنه، وهي الموازاة بين مجالَي الأخلاق والمعرفة، في الفلسفات المعرفية، وأصبحت مصدرًا رئيسيًّا لنظريات باطلة في المعرفة.
لما كان الإنسان الفعلي لا يسلك، على وجه العموم، سلوكًا أخلاقيًّا، فيبدو من الواضح تمامًا أن الأخلاق لا تبحث في السلوك الفعلي للإنسان. فالفرق بين الطريقة التي ينبغي أن يسلك بها الإنسان، والطريقة التي يسلك بها بالفعل، واضحٌ تمامًا؛ ومن هنا يبدو أن علم الأخلاق يتعلق بسلوك الإنسان المثالي. ولكي يقدِّم الباحث النظري الأخلاقي تعليلًا لهذا الفارق، فإنه يُشير إلى التباين بين القوانين الهندسية والعلاقات التي تسري على الموضوعات الفيزيائية الفعلية، ويميِّز المثلث المثالي (أو العقلي) من المثلث الفعلي، ويذهب إلى أن الرياضي يكشف عن القوانين المعيارية للموضوعات الهندسية بنفس المعنى الذي يُثبِت به الفيلسوف الأخلاقي القوانين المعيارية للسلوك البشري. وهكذا يتصور النظريات الرياضية على أنها قضايا تتعلق بما ينبغي أن يكون، متميِّزًا عما هو كائن، بنفس المعنى الذي يتصور به النظريات الأخلاقية.
على أن أية دراسة نزيهة للرياضة كفيلةٌ بأن تكشف فورًا عن بطلان هذا التشبيه. صحيحٌ أن الأشكال الهندسة المثالية لا توجد في الواقع الفيزيائي، ولكن قوانين الهندسة تُنبِئنا على الأقل بعلاقات تسري تقريبًا على الموضوعات الفعلية. والرياضة تصف الواقع الفيزيائي من حيث إنها تمدُّنا بمعرفة تقريبية للواقع، وهي لا تُنبِئنا بما ينبغي أن يكون عليه الواقع، وإنما بما هو عليه بالفعل. فأي معنًى يمكن أن يكون للقول إن محيط الشجرة ينبغي أن يكون دائرة كاملة؟ إن الدائرة غير الكاملة التي يكوِّنها هذا المحيط بالفعل تخضع للقوانين الهندسية بقدر ما تخضع لها الدائرة الكاملة، وقوانين الدائرة الكاملة مفيدة لنا؛ لأنها تُنبِئنا على وجه التقريب بالعلاقات التي تسري على دوائر غير كاملة مثل محيط الأشجار.
ولنحتفظ بهذا التشبيه، فنحاول تفسير الأخلاق على أنها ذات طبيعة مماثلة؛ أي إنها تُنبِئنا عن السلوك التقريبي للناس. صحيحٌ أن الأخلاق الوصفية، أي الوصف الاجتماعي للقواعد الأخلاقية السائدة، لا تُقدَّم عادةً على هذا النحو، وإنما تُقدَّم من خلال وصف للسلوك الفعلي للناس. ومع ذلك ففي استطاعتنا، نظريًّا على الأقل، أن نشيد أخلاقًا وصفية عن طريق بحث الإنسان المثالي، مثلما يبحث عالم الهندسة في المثلث المثالي. وهذا ممكن لأن القوانين الأخلاقية المثالية تتحقق في حدود تقريبية معيَّنة. والواقع أن معظم الناس، مثلًا، لا يسرقون ولا يقتلون. فالمُثل العليا الأخلاقية تتحقق تقريبيًّا لأنها لو لم تكن تتحقق لما أمكن أن يوجد الناس بوصفهم جماعة اجتماعية. وهكذا نستطيع أن نصل إلى أخلاق وصفية تُنبِئنا عن السلوك الأخلاقي التقريبي للبشر عن طريق وصف سلوكهم المثالي، مثلما تُنبِئنا الهندسة عن العلاقات التقريبية بين مقاييس المكان الفيزيائي عن طريق البحث في أشكال هندسية مثالية.
غير أن هذا ليس ما يريده فيلسوف الأخلاق؛ فهو يريد توجيهات أخلاقية؛ أي قواعد تدلنا على الطريقة التي ينبغي أن نسلك بها، لا أوصافًا للطريقة التي نسلك بها بالفعل. ولما كان يذهب إلى أن العقل، أو رؤية المُثل الفكرية، يستطيع أن يكشف لنا عن هذه القواعد، فإنه يضطر في مقابل ذلك إلى أن ينظر إلى وظيفة الرياضة على أنها معيارية لا وصفية. وهكذا يصل إلى فهم يبدو الذهن فيه مشرِّعًا، أو بتعبير أكثر تواضعًا، يبدو العقل أداة للرؤية تدرك القوانين المعيارية بالتطلع إلى مجال أعلى للوجود. وهذا هو الأصل النفسي لفكرة تعدُّد عوالم الوجود، وهي الفكرة التي كان أفلاطون أكبر دعاتها. وفي هذه الحالة ينظر إلى الطابع غير الكامل للأشكال الهندسية للموضوعات الفيزيائية الفعلية على أنه نقص، أو عيب بالمعنى الأخلاقي، شأنه شأن عيوب السلوك الفعلية لدى البشر، ويقال بوجود عالم من الوجود الأعلى، متحرِّر من هذه النقائص، وذلك على المستوى المعرفي والمستوى الأخلاقي معًا.
ويظهر التقويم الأخلاقي للعلاقات المعرفية في تغلغل الحجج الأخلاقية في العلم اليوناني، كعلم الفلك؛ فالمسارات السماوية للنجوم مثلًا تُعَد دوائر كاملة لأسباب تتعلق بالكرامة، إن جاز هذا التعبير، أما أن محيط الأشجار يمثِّل دائرة غير كاملة فهذا دليل على نقصها؛ ونتيجةً لهذه الآراء نظر إلى الأشياء الفعلية على أنها ناقصة بالقياس إلى الأشياء الفكرية أو المثالية. وتعبِّر نظرية المُثل الأفلاطونية عن هذا التباين في القيمة بين العالم الفيزيائي والعالم المثالي.
وهكذا يؤدي المذهب العقلي إلى تلك النظرة المثالية، التي عُرضت من قبل على أنها شكل خاص من أشكال المذهب العقلي، والتي تذهب لي أن الحقيقة النهائية تقتصر على المُثل أو الأفكار، على حين أن الموضوعات الفيزيائية ليست إلا نُسخًا ناقصة من الموضوعات المثالية. ولقد كانت أكثر الصيغ التي عبَّرت عن هذه النظرية امتناعًا، هي تلك القائلة إن العقل جوهر الأشياء جميعًا، وهي الصيغة التي عبَّرت عنها الفقرة التي اقتبسناها في مُستهلِّ هذا الكتاب. وقد سبق لنا أن تساءلنا عن السبب الذي يُرغِم الفيلسوف على صياغة آرائه على هذا النحو، وفي استطاعتنا الآن أن نأتي بالجواب؛ فهذا السبب هو أن اهتمامه الأول ليس مُنصبًّا على فهم المعرفة، وإنما على شيء آخر؛ فهو يودُّ أن يتصور المعرفة على نحوٍ من شأنه أن يقدِّم أساسًا للتوجيهات الأخلاقية، وهو يودُّ أن يجعل للمعرفة يقينًا لا يمكن أن يبلغه الإدراك الحسي أبدًا؛ وذلك بقصد تشييد معرفة أخلاقية مُطلَقة مُوازية لهذا اليقين، وهو لا يجد غضاضة في عرض مذهبه بلغة مجازية؛ لأنه يُسيء فهم لغة التفسير العلمي.
إن نقطة بداية فلسفة هيجل هي التاريخ، لا العلم؛ فهو يحاول تقديم وصف لتطور الإنسان التاريخي؛ أي لتلك الفترة التي تتوافر لدينا عنها وثائق مكتوبة من فترات التاريخ البشري، عن طريق تكوين بعض الأُطر البسيطة التي يعتقد أنها تفسِّر التطورات التاريخية؛ فهناك إطار من هذه الأُطر يشبِّه التاريخ بنمو الفرد؛ أي إن هناك مرحلة الطفولة التي تمثِّلها الشعوب الشرقية القديمة، ثم مرحلة الشباب التي يحدِّدها بأنها العصر اليوناني، ثم عصر الإنسان الناضج الذي تحقَّق عند الرومان، ثم عصر الكهولة الذي يمثِّله عصرنا. وهو في نظر هيجل ليس عصر انحلال، وإنما عصر نضوج كامل، وأعلى درجات هذا النضوج الكامل هي تلك التي بلغتها الدولة البروسية، التي كان هيجل يشتغل فيها أستاذًا في برلين. ولست أدري ماذا كان هيجل خليقًا بأن يقوله عن بروسيا الهتلرية، ولعله كان يجعل لها مكانًا تُواصِل به خط التطور التاريخي كما تصوَّره، ولكن لعله أيضًا كان يُؤثِر أن يُرجئ حكمه حتى يرى نهاية إمبراطورية هتلر.
ويكشف تاريخ الفكر البشري عن أمثلة متعددة لهذا القانون الديالكتيكي. ومن هذه الأمثلة تطوُّر المفاهيم الفلكية للكون؛ فتصوُّر بطليموس للكون المُرتكِز حول الأرض، أعقبه تصوُّر كوبرنيكس للكون الذي تتحرك فيه الأرض وتكون فيه الشمس مركزًا ثابتًا للمجموعة الشمسية. هذان التصوران المُتضادَّان قد تجاوزهما، كما كوَّن «مركَّبًا» منهما؛ تصوُّر أينشتين النسبي الذي يرى أن من الممكن اتخاذ النظام المرتكز حول الأرض والنظام المرتكز حول الشمس تفسيراتٍ مقبولة، إذا تحرَّرا من ادعاء الحركة المُطلَقة. وهناك مثلٌ آخر يتضح في تطور النظريات الفيزيائية في الضوء، وهي التي انتقلت من نظرية جزيئية إلى نظرية موجية، حتى اتحدت الاثنتان أخيرًا في نظرية ثنائية تقول بإمكان تفسير المادة على أنها جزيئات، وعلى أنها موجات في آنٍ واحد (انظر الفصل الحادي عشر). كذلك يمكننا أن ننظر إلى الطريقة العامة التي يسير بها المنهج التجريبي، وهي طريقة المحاولة والخطأ، والنجاح الذي لا يعدو أن يكون محاولة جديدة، على أنها تكرار لا ينتهي للقانون الديالكتيكي. وتدل هذه الأمثلة، فضلًا عن ذلك، على أن للقانون الديالكتيكي معنًى يتسم بالمرونة؛ فهو لا يعدو أن يكون إطارًا مُريحًا يمكن أن تُدمَج فيه تطورات تاريخية معيَّنة بعد وقوعها، ولكنه لا يبلغ من الدقة ولا من العمومية ما يُتيح استخلاص تنبؤات تاريخية منه، كما أنه لا يمكن أن يُستخدم دليلًا على صحة نظرية علمية معيَّنة؛ فصحة نظرية أينشتين في الحركة لا يمكن أن تُستمدَّ من النمط الديالكتيكي للعملية التاريخية التي أدَّت إلى وضع هذه النظريات، وإنما ينبغي أن تكون مبنية على أُسُس مستقلة.
ولو كان هيجل قد اكتفى بوضع القانون الديالكتيكي وضرب أمثلة له بمجموعة كبيرة من المواد التاريخية والفلسفية، لأصبح مؤرِّخًا عظيمًا، أو عالمًا كبيرًا للتاريخ. ولو كان عالمًا، لأدرك الحدود التي لا يتعداها قانون الخطوات الثلاثية. والأمثلة العديدة التي لا يسري عليها هذا القانون، والبحث عن الشروط الخاصة اللازمة لانطباقه. غير أنه كان فيلسوفًا؛ وبذلك وقع ضحية بحثه عن العمومية واليقين؛ فقد عمَّم قانونه الديالكتيكي بحيث جعل منه قانونًا منطقيًّا، ووضع مذهبًا يكون فيه التناقض كامنًا في المنطق، ويدفع الفكر من موقف متطرِّف إلى الموقف المتطرِّف المضاد، إن جاز هذا التعبير؛ فتحدث بذلك الحركة الديالكتيكية. فهيجل يقول مثلًا: إن القضية «الوردة حمراء» تنطوي على تناقض؛ لأنها تقول عن الشيء الواحد إنه شيئان مختلفان، هما وردة وحمراء. وقد أوضح المناطقة في كثير من الأحيان الخطأ الأوليَّ الكامن في هذا الفهم الذي يخلط بين الانتماء إلى فئة وبين الهوية؛ فالقضية تقول: إن الشيء نفسه ينتمي إلى فئتَين مختلفتَين، هما فئة الورود وفئة الأشياء الحمراء، وهو أمرٌ لا ينطوي على تناقض، وإنما يقوم التناقض لو أكَّدنا أن هناك هوية بين الفئتَين المختلفتَين، غير أن القضية لا تعني هذا. وعن طريق ألاعيب منطقية كهذه، يُحاول هيجل أن يُثبِت أن قانونه الديالكتيكي قانونٌ منطقي يصدُق بلا استثناء.
ويصل هيجل، عن طريق الجمع بين تفسيره للقانون الديالكتيكي وبين تصوره للتطور التقدمي للبشر، إلى آراء كتلك التي عرضناها في الفقرة التي استهلَّ بها هذا الكتاب؛ فجوهر الوجود هو العقل، وهو يدفع الوجود من طرف إلى الطرف الآخر، ويجمع بين النقيضَين على مستوًى أعلى، ثم يبدأ العملية من جديد. وهذه لغة مجازية، غير أن ما يقوله هيجل لا يمكن أن يقال على أي نحوٍ آخر، وإلا لأصبح امتناعه واضحًا للعيان، ولو فسَّرنا رأيه هذا على أنه يعني أن العالم يزداد معقوليةً على الدوام، أو أن كل الأحداث تخدم غرضًا معقولًا، لظهر بطلان هذا الرأي بوضوح؛ ذلك لأن التاريخ البشري، وإن يكن ينطوي على اتجاهات تقدُّم عقلي وأخلاقي، هو ظاهرةٌ أعقَدُ مِن أن تُصنَّف على مثل هذا الأساس البسيط. ومَن ذا الذي يستطيع أن يزعم أن تطور العالم الفيزيائي، أي النُّظم النجمية مثلًا، يتبع مسارًا يُرضي رغبات العقل البشري، أو يحقِّق ما قد يعُدُّه البشر غاية؟ الواقع أن مصدر جاذبية مذهب هيجل إنما هو لغته الشاذة.
ولقد وصف البعض هيجل بأنه خليفة «كانت»، غير أن في هذا إساءة فهم خطيرة ﻟ «كانت»، ورفعًا لمكانة هيجل ليس له ما يبرِّره؛ ذلك لأن مذهب «كانت»، وإن أثبتت التطورات التالية استحالة قبوله، كان محاولة من ذهن عظيم لإقامة المذهب العقلي على أساس علمي. أما مذهب هيجل فهو بناءٌ هزيل لشخص متعصِّب أدرك حقيقة تجريبية واحدة، وحاول أن يجعل منها قانونًا منطقيًّا في إطارِ منطقٍ أبعد ما يكون عن الروح العلمية. وعلى حين أن مذهب «كانت» يمثِّل قمة الاتجاه التاريخي للمذهب العقلي، فإن مذهب هيجل ينتمي إلى فترة تدهور الفلسفة التأملية، وهي الفترة التي تميِّز القرن التاسع عشر. وسوف أتحدث عن هذه الفترة فيما بعد، وحسبي الآن أن أذكر مقدِّمًا ملاحظةً واحدة، هي أن مذهب هيجل قد أسهم، أكثر من أية فلسفة أخرى، في إحداث انشقاق بين العلماء والفلاسفة؛ فقد جعل الفلسفة موضوعًا للسخرية يحرص العالم على التبرؤ منه.
وهكذا نستطيع الآن أن نفهم لماذا كانت الثغرة بين العلم والفلسفة واسعة؛ فالفيلسوف ذو النزعة العقلانية مُعادٍ للعلم في صميم روحه، والعوامل التي تتحكم في تحديد مَسار تفكيره عواملُ خارجة عن مجال المنطق، تتخذ من النتائج والمناهج العلمية أداةً لبلوغ أهداف غير علمية. وعلينا ألا ننخدع بالإعجاب والتمجيد الذي يُبديه أنبياء الفلسفة المثالية في كثير من الأحيان بالرياضيات؛ ذلك لأن الرياضيات ليست في نظرهم إلا مثلًا يوضِّح نظرياتهم، ومرآةً لأفكارهم الخاصة، وهم لا يعلمون ما تعنيه المعرفة — وضمنها المعرفة الرياضية — بالنسبة إلى من يدرس المعرفة لذاتها.
ليس ثمةَ مجالٌ للتوفيق بين العلم والفلسفة التأملية، فلنكفَّ عن محاولة التوفيق بين الاثنين أملًا في الوصول إلى مركَّب أعلى. فليست كل التطورات التاريخية تحدُث وفقًا للقانون الديالكتيكي، بل إن أحد الاتجاهات الفكرية قد يخمد ويُخلِي مكانه لاتجاهٍ آخر ينبثق من جذور مختلفة، شأنه شأن النوع البيولوجي الذي لا يبقى إلا في صورة حفريات عندما يحلُّ محلَّه نوعٌ آخر له قدرات أعظم. والحق أن الفلسفة التأملية لم تجد، بعد أن بلغت قمتها في مذهب «كانت»، إلا ممثِّلين ضعفاء، وهي في طريقها إلى الانحلال، ولكن هناك فلسفة أخرى في صعود، قريبة من العلم، وقد تمكَّنت من إجابة عدد كبير من الأسئلة التي أُثيرت في فلسفة العهود الماضية. وسوف أناقش الجذور التاريخية لهذه الفلسفة قبل أن أعرض ما تقدِّمه من إجابات.