النظرة التجريبية
ويختلف منهج الفيلسوف التجريبي اختلافًا أساسيًّا عن منهج المذهب العقلي؛ فالفيلسوف التجريبي لا يزعم أنه كشف نوعًا جديدًا من المعرفة يعجز العالم عن الوصول إليه، وإنما هو يقتصر على دراسة المعرفة المستمَدة بالملاحظة وتحليلها، سواء أكانت معرفة علمية أم معرفة عادية، ويحاول فهم معناها ومضموناتها. وليس مما يضير هذا المفكِّرَ أن تُسمَّى نظرية المعرفة المبنية على هذا النحو معرفة فلسفية، غير أنه يرى أنها مُشيَّدة بنفس المناهج التي يستخدمها العالم، ويرفض تفسيرها على أنها نتاج لقدرة فلسفية خاصة.
ومن السهل أن يفهم المرء الرابطة الوثيقة بين المذهب العقلي وبين اللاهوت؛ فنظرًا إلى أن المذاهب الدينية ليست مبنية على الإدراك الحسي، فإنها تقتضي مصدرًا للمعرفة خارجًا عن الحواس. ومن هنا كان الفيلسوف الذي يزعم أنه أهتدى إلى معرفة من هذا النوع حليفًا طبيعيًّا لرجل اللاهوت، وقد استغلَّ اللاهوتيون المسيحيون مذهبَي أفلاطون وأرسطو، فأصبح أفلاطون هو فيلسوف الجماعات ذات العقلية الأقرب إلى التصوف، على حين أصبح أرسطو فيلسوف المدرسية «الاسكلائية». ولقد أدَّت علاقة صاحب المذهب العقلي باللاهوت إلى شعوره دائما بالسموِّ على التجريبي من الناحية الأخلاقية، غير أن العداء بين الجماعتَين، وإن يكن كل طرف منهما يشعر به بقوة لا تقلُّ عن شعور الآخر، لا يتخذ صورة تماثلية؛ فعلى حين أن صاحب المذهب العقلي يعُد التجريبي ذا مستوًى أخلاقي أدنى، فإن التجريبي يرى صاحب المذهب العقلي مُفتقرًا إلى الحس السليم.
وبظهور العلم الحديث، في حوالَي عام ١٦٠٠م، بدأ المذهب التجريبي يتخذ شكل نظرية فلسفية إيجابية قائمة على أسس متينة، يمكن أن تدخل في منافسة ناجحة مع المذهب العقلي، وكان العصر الحديث هو الذي ظهرت فيه أعظم المذاهب التجريبية؛ أعني مذاهب فرانسس بيكن (١٥٦١–١٦٢٦م) وجون لوك (١٦٣٢–١٧٠٤م)، وديفيد هيوم (١٧١١–١٧٧٦م). فلننتقل الآن إلى مقارنة موقف هؤلاء التجريبيين الإنجليز بالمذهب العقلي.
لقد وجد الموقف التجريبي أوضح تعبير عنه في فلسفات هؤلاء المفكرين؛ فالفكرة القائلة إن الإدراك الحسي هو مصدر المعرفة ومعيارها النهائي، هي النتيجة التي تؤدي إليها أبحاثهم آخر الأمر. فجون لوك يقول إن الذهن يبدأ وكأنه صفحة بيضاء، والتجربة هي التي تسطِّر هذه الصفحة ما يُكتَب فيها. ومع ذلك فهناك نوعان من الإدراك الحسي: إدراك الموضوعات الخارجية، وإدراك الموضوعات الداخلية. فالنوع الأخير من الموضوعات يُعطى لنا في الحوادث النفسية، كالتفكير والاعتقاد والشعور بالألم أو الإحساس باللون، وهي حوادث نلاحظها بالحس الباطن. ويقسِّم هيوم محتويات الذهن إلى انطباعات وأفكار؛ فالانطباعات تأتي من الحواس، وضمنها الحس الباطن، وأفكار الانطباعات السابقة وذكرياتها. ولا تختلف الأفكار عن الظواهر الملاحظة إلا في طريقة تجمُّعها. مثال ذلك أن الانطباعات المُلاحَظة للذهب وللجبل يمكن أن تُجمَع سويًّا لتكون جبلًا ذهبيًّا، وهو موضوع لم يُلاحَظ، وإن كان من الممكن تخيُّله. وهكذا فإن المذهب التجريبي، على خلاف المذهب العقلي، يجعل للذهن دورًا ثانويًّا هو إقرار النظام بين الانطباعات والأفكار، والنسق المُنظَّم هو ما نُسمِّيه بالمعرفة.
ويمكننا أن نضرب الأمثلة لتوضيح دور الذهن في بناء المعرفة، وهي أمثلة كان من الممكن أن يستخدمها بيكن أو لوك أو هيوم؛ فالذهن يلتقط مِن بين شتى التجارب التي تمرُّ به في يومٍ ما، وهجَ النار كما تراه العينان، ويربط بينه وبين الشعور بالحرارة، الذي نُحسُّ به عندما نقترب من النار؛ وبذلك نصل إلى القانون الفيزيائي القائل: إن النار ساخنة. وبالمثل يكشف الذهن قوانين حركة النجوم عن طريق مقارنة مختلف الصور التي نُلاحِظها عند التطلع إلى السماء في ساعات مختلفة من الليل، وفي ليالٍ مُتباينة. وعن طريق الربط بين مختلف مواقع نجم معيَّن في خط خيالي، يرسم الذهن مسار النجم، الذي لا يُعَد هو ذاته موضوعًا للملاحظة.
وعندما أقول إن للذهن في هذه النظرة إلى المعرفة دورًا ثانويًّا، فإني أعني أن الذهن لا يُعَد معيارًا للحقيقة؛ فقد تبدو الدائرة للذهن أفضل شكل لحركة النجم، ولكن الإدراك الحسي هو الذي يحكم إن كانت هذه الحركة دائرية بالفعل أم لا. وقد يدفعني العقل إلى القول إن المادة تتألف من جزئيات صغيرة؛ لأنني لا أرى كيف يمكن أن تنضغط المادة على أي نحو آخر، غير أن الإدراكات الحسية هي التي يمكنها أن تحكم على صحة النظريات الذرية. وفي هذا المثال نجد أن الإدراك الحسي لا يستطيع تقديم إجابة مباشرة على هذا السؤال؛ لأن الذرات أصغر مِن أن تُلاحَظ، غير أنه يُجيب على السؤال بطريق غير مباشر؛ إذ يُقدِّم إلينا سلسلة من الوقائع الملاحَظة التي تجعل التفسير الذري محتومًا. ومع ذلك فإن المثال الأخير يوضِّح أن وظيفة الذهن في بناء المعرفة لا يمكن أن تُسمَّى ثانوية. بمعنًى آخر، فالعقل هو الأداة الضرورية لتنظيم المعرفة، وهو الأداة التي لا يمكن بدونها معرفة الوقائع ذات الطابع الأكثر تجريدًا؛ فالحواس لا تبيِّن لي أن الكواكب تتحرك في مدارات بيضاوية حول الشمس، أو أن المادة تتألف من ذرات، بل إن ما يؤدي إلى هذه الحقائق المجردة هو الملاحظة الحسية مقترنة بالاستدلال العقلي.
وقد أدرك بيكن بكل وضوح الضرورةَ القصوى للعقل في التصور التجريبي للمعرفة؛ فهو يُشبِّه أصحاب المذهب العقلي، في مناقشة أجراها للمذاهب الفلسفية، بالعناكب التي تحيك نسيجها من مادتها الخاصة، ويُشبِّه التجريبيين القدامى بالنمل الذي يجمع المواد دون أن يتمكن من الاهتداء إلى نظام فيها. أما التجريبيون الجُدد فهم في نظره أشبَهُ بالنحل الذي يجمع المواد ويهضمها، ويُضيف إليها من جوهره؛ وبذلك يخلق نتاجًا من نوع أرفع. وذلك في الواقع برنامج عظيم صِيغَ في عبارة ذكية، فلنبحث إلى أي حد تحقَّق هذا البرنامج في المذهب التجريبي في القرنَين السابع عشر والثامن عشر.
ما هي الإضافة التي يقدِّمها العقل للمعرفة المُكتسَبة بالملاحَظة؟ لقد قلنا مِن قبلُ إنها إدخال علاقات مجردة تقوم بتنظيم هذه الملاحظات. ومع ذلك فإن العلاقات المجردة في ذاتها لن تكون لها كل هذه الأهمية لو لم تكن تشتمل على عبارات تتعلق بحقائق عينية جديدة؛ فلو كانت العلاقات المجردة حقائق عامة لما كانت تسري فقط على الملاحظات التي تمَّت، بل لكانت تسري أيضًا على الملاحظات التي لم تتمَّ بعد، ولكانت لا تتضمن إيضاحًا للتجارب الماضية فحسب، بل أيضًا تنبؤات بشأن التجارب المُقبِلة. هذه هي الإضافة التي يقدِّمها العقل للمعرفة؛ فالملاحظة تُنبِئنا عن الماضي والحاضر، أما العقل فيتكهَّن بالمستقبل.
ولأضرب بعض الأمثلة لإيضاح الطبيعة التنبُّئية للقوانين المجردة. فالقانون القائل إن النار ساخنة، يتجاوز نطاق التجارب التي بُني على أساسها هذا القانون، والتي تنتمي إلى الماضي، ويتنبَّأ بأننا كلما رأينا نارًا فسوف تكون ساخنة. وقوانين حركة النجوم تُتيح لنا التنبؤ بالمواقع المُقبِلة للنجوم، وتشمل تنبؤات بملاحظات مثل كسوف الشمس وخسوف القمر. والنظرية الذرية في المادة أدَّت إلى تنبؤات كيمائية، أمكن تحقيقها في تركيب مواد كيمائية جديدة، بل إن جميع التطبيقات الصناعية للعلم مبنيةٌ في الواقع على الطبيعة التنبُّئية للقوانين العلمية، ما دامت تتخذ من القوانين العلمية أساسًا لتكوين أجهزة تعمل وفقًا لخطة مرسومة مقدَّمًا. ولقد كان بيكن على وعي واضح بالطبيعة التنبُّئية للمعرفة عندما قال كلمته المشهورة: المعرفة قوة.
ولكن كيف يستطيع العقل أن يتنبَّأ بالمستقبل؟ لقد أدرك بيكن أن العقل وحده لا يملك أية قدرة تنبُّئية، وهو لا يكتسب هذه القدرة إلا مُقترنًا بالملاحظة، والمناهج التنبُّئية للعقل مُتضمَّنة في العمليات المنطقية التي نُنظِّم بها مادة الملاحظة ونستخلص نتائجها؛ فنحن إذن نصل إلى التنبؤات عن طريق أداة الاستخلاص المنطقي، وفضلًا عن ذلك فقد أدرك بيكن أنه إذا كان للاستخلاص المنطقي أن يخدم أغراضًا تنبُّئية، فلا يمكن أن يقتصر على المنطق الاستنباطي، بل ينبغي أن يشمل مناهج منطق استقرائي.
ويرجع الفضل التاريخي إلى بيكن في تأكيد أهمية الاستدلال الاستقرائي للعلم التجريبي؛ فقد اعترف بقصور الاستدلال الاستنباطي، وأكَّد أن المنطق الاستقرائي لا يمكنه أن يأتينا بالمناهج التي ننتقل بها من الوقائع الملاحظة إلى الحقائق العامة؛ وبالتالي إلى تنبؤات متعلقة بمزيد من الملاحظات، فلا يمكن أن يكون الاستدلال الاستنباطي تنبُّئيًّا إلا إذا كانت المقدمات تنطوي على إشارة إلى المستقبل.
كذلك فإن بيكن قد تجاوَز الأشكال القديمة للمذهب التجريبي في موقفه الإيجابي من الاستدلال الاستقرائي. مثال ذلك أن «سكستوس إمبريكوس» كان قد هاجم المنطق القياسي على أساس أنه فارغ، ولكنه لم يقبل استخدام الاستدلال الاستقرائي، الذي رآه غير صالح لإثبات المعرفة؛ وعلى ذلك فقد كان على التجريبية الإنجليزية أن تُحارِب المثل اليوناني الأعلى للمعرفة ذات اليقين المُطلَق، التي تتخذ من الرياضيات أنموذجًا لها. تلك كانت وظيفتها التاريخية، التي تجعلها رائدة للفلسفة العلمية الحديثة.
وعلى الرغم من اهتمام بيكن الهائل بالاستدلال الاستقرائي، فقد أدرك نقاط ضعفه بوضوح تام. ولكي يتغلب على هذه الصعوبات، وضع منهجًا يُصنِّف الوقائع الملاحظة على أساس صفة مشتركة. وهكذا درس طبيعة الحرارة بأن جمع في قائمة واحدة ظواهرَ مُتباينة تحدث فيها الحرارة، وفي قائمة أخرى ظواهر مُتماثلة لا تحدث فيها الحرارة، وفي قائمة ثالثة ظواهر تحدث فيها الحرارة بدرجات متفاوتة. ولقد كان تصنيفه خليطًا عجيبًا قارن فيه بين ملاحظات مثل وجود الحرارة في روث الخيل وبين غياب الحرارة في ضوء القمر. ومع ذلك فعلينا ألا ننسى أن التصنيف هو الخطوة الأولى في البحث العلمي، وأن بيكن لم يكن في موقف يسمح له بوضع نظرية في المناهج الاستقرائية للفيزياء الرياضية؛ لأن الفيزياء الرياضية كانت لا تزال في مهدها. صحيحٌ أن جاليليو كان معاصرًا لبيكن، وأن منهج جاليليو الرياضي كان أرقى من تصنيف بيكن الاستقرائي، غير أنه كان لا بد أولًا من وضع منهج الفرض الرياضي (انظر الفصل السادس)، واستخلاص نتائجه الكاملة، قبل أن يتسنَّى اتخاذه موضوعًا للبحث الفلسفي. ولم يتَّضح إمكان استخدام المناهج الاستنباطية مقترنة بالاستدلالات الاستقرائية إلا بعد ظهور نيوتن في الجاذبية، التي نُشرت بعد حوالَي ستين عامًا من وفاة بيكن. وعلى ذلك فليس بيكن هو الذي ينبغي أن يُلام على دراسته للمنهج العلمي من خلال أنموذج مُفرِط في البساطة يُغفِل دور الرياضيات في الفيزياء، وإنما الواجب أن يُوجَّه هذا اللوم إلى التجريبيين المتأخرين، ولا سيَّما جون استورت مل، الذي وضع بعد مائتَين وخمسين عامًا من وفاة بيكن منطقًا استقرائيًّا لا يكاد يرِد فيه ذِكر المنهج الرياضي، وكان في أساسه صياغةً جديدة لأفكار بيكن.
إن منطق بيكن الاستقرائي ساذج؛ لأنه يرتكز على الثقة في قاعدة يجد الذهن العادي في نفسه الاستعداد لتطبيقها. ومع ذلك فقد كان ذلك من وجهة أخرى منطقًا لا يستطيع العالم الاستغناء عنه، وليس لأحد أن يتوقع نقدًا للمنهج العلمي في وقت كان فيه ذلك المنهج لا يزال في مهده، وكان يغمره التفاؤل بما أحرزه في أول عهده من نجاح؛ وإذن فمن الواجب أن يدرك مؤرِّخو الفلسفة الذين يعيبون على منطق بيكن الاستقرائي كونه غير علمي، أن حكمهم إنما يصدر على أساس معايير لم تُعرَف إلا في عصر متأخِّر.
والواقع أن التجريبية لم تكن في مراحلها الأولى متَّسقة مع نفسها على الدوام؛ فتجريبية لوك تقتصر على المبدأ القائل إن جميع التصورات، وضِمنها تصورات الرياضة والمنطق، تأتي إلى ذهننا من خلال التجربة. وهو ليس على استعداد للتوسع في هذا المبدأ بحيث يشمل الرأي القائل إن كل معرفة تركيبية لا تتحقق إلا من خلال التجربة. وتمشيًا مع هذا الموقف غير النقدي، فقد أخذ بالاستدلال الاستقرائي دون نقد، وعدَّه أداةً مفيدة لكل معرفة تجريبية. فلم يخطر بذهن بيكن أو لوك احتمالُ الشك في مشروعية هذه الأداة وهدم الأساس الذي ترتكز عليه التجريبية، وكان دور هيوم هو أن يكيل هذه الضربة لفلسفة التجربة.
ويتفوق هيوم على لوك في وضوح نظرته إلى المذهب التجريبي؛ فقد تخلَّص من فكرة التوازي بين مجالَي الأخلاق والمعرفة، وأدرك بوضوح كامل أن الأحكام الأخلاقية لا تعبِّر عن الحقيقة، وإنما تعبِّر — كما يقول — عن مشاعر الاستحسان، أو الاستهجان؛ أي إن «التمييز بين الرذيلة والفضيلة لا يُدرَك بالعقل». ولما كان هيوم قد تحرَّر من خطأ أولئك الذين يضطرُّون إلى إدخال المعرفة التركيبية القبلية لكي يهتدوا إلى أساس للأخلاق، فقد تمكَّن من دراسة المعرفة غيرَ مقيَّد بأعباء الباحث الأخلاقي، وتوصَّل إلى النتيجة القائلة إن كل معرفة إما أن تكون تحليلية وإما أن تكون مستمَدة من التجربة؛ فالرياضة والمنطق تحليليان، وكل معرفة تركيبية مستمَدة من التجربة. وهو لا يعني بلفظ «مستمَدة» أن التصورات يرجع أصلها إلى الإدراك الحسي فحسب، بل يعني أيضًا أن الإدراك الحسي هو مصدر صحة كل معرفة تحليلية؛ وإذن فالإضافة التي يقدِّمها الذهن إلى المعرفة هي بطبيعتها فارغة.
ومِن المُلاحَظ أن تفسير هيوم هذا لا يقوم على أساس سليم تمامًا فيما يتعلق بالرياضيات؛ فنظرًا إلى أنه كان يجهل الإجابة التي قدَّمها القرن التاسع عشر على هذه المشكلة بعد ظهور الهندسات اللاإقليدية، فإنه كان يفتقر إلى الوسيلة التي تُتيح له تعليل الطبيعة المزدوجة للرياضيات، من حيث هي من إملاء العقل، ومن حيث هي قادرة على التنبؤ بالملاحظات. ومع ذلك يبدو أنه لم يُدرِك هذه المشكلة بوضوح كامل، ويمكن القول إنه كان حسن الحظ في هذه الحالة، كما كان في مشكلة الاستقراء الذي رأى أن كل أنواعه ترتدُّ إلى الاستقراء التعدادي؛ لأنه استبق نتائج ظهرت فيما بعد، على الرغم من أنه لم يكن يملك حججًا قوية ترتكز عليها آراؤه. وأنا لا أميل إلى النظر إلى هذا الاتفاق على أنه علامة العبقرية، وإنما أفضِّل أن أسمِّيه حسن الحظ، وإني لأُوثِر أن أرى عبقرية هيوم تتبدَّى، بدلًا من ذلك، في تلك النتائج التي كان يستطيع أن يقدِّم لها أسباب مُقنِعة، مثل رفضه للموازاة بين مجالَي الأخلاق والمعرفة، وأفضِّل أن أُثنِي عليه لما أبداه من اتساق في عرضه لأفكاره ضد شتى أنواع التراث المخالف له.
هذا الاتساق يتجلى في بحثه للاستقراء؛ فلو كان كلُّ ما يُسهِم به الذهن في المعرفة تحليليًّا، لنشأت صعوبات خطيرة بالنسبة إلى استخدام الاستدلال الاستقرائي. وإن أهمية هيوم في تاريخ الفلسفة لترجع إلى أنه لفت الأنظار إلى هذه المشكلة، التي يُمكِن تحليلها دون التزام بالتفسير التحليلي أو التركيبي للرياضة؛ فالاستدلال الاستقرائي ليس تحليليًّا. ويوضِّح هيوم هذه المسألة بأن يُشير إلى أن من الممكن تمامًا تصوُّر عكس النتيجة الاستقرائية. مثال ذلك أنه، على الرغم من أن كل الغربان التي لُوحِظت حتى الآن سوداء، ففي استطاعتنا أن نتصور على الأقل أن الغراب التالي الذي سنراه سيكون أبيض، ونحن لا نُؤمِن بأنه سيكون أبيض، ما دُمنا نركن إلى الاستدلال الاستقرائي. غير أن الإيمان لا صلة له بالموضوع حين يكون الأمر متعلقًا بالإمكانات المجردة؛ ففي استطاعتنا أن نتصور أن النتيجة باطلة دون أن نضطرَّ إلى التخلي عن المقدمة، وإن إمكان وجود نتيجة باطلة مقترنةً بمقدمة صحيحة لَيُثبِت أن الاستدلال الاستقرائي لا ينطوي في ذاته على ضرورة منطقية؛ وإذن فقضية هيوم الأولى هي أن الاستقراء له طابع غير تحليلي.
فكيف يمكننا إذنْ تبرير استخدام الاستدلال الاستقرائي؟ يُناقِش هيوم إمكان تحقيق الاستدلال بالتجربة، وأغلب الظن أن بيكن ولوك قد افترضا وجود تحقيق من هذا النوع، ولكنهما مع ذلك لم يُناقِشا أبدًا مشروعية الاستقراء. وقد نقول إننا استخدمنا الاستدلالات الاستقرائية في كثير من الأحيان وأحرزنا بها نجاحًا طيبًا، وهكذا نشعر بأن مِن حقنا أن نمضي في تطبيق هذا الاستدلال أبعدَ من ذلك. ومع ذلك فإن نفس طريقة صياغة الحجة توضِّح، كما يقول هيوم، أن هذا التبرير باطل؛ فالاستدلال الذي نودُّ أن نبرِّر به الاستقراء هو ذاته استدلال استقرائي؛ إذ إن القول إننا نُؤمِن بالاستقراء لأن الاستقراء كان ناجحًا حتى الآن، هذا القول ذاته هو استقراء من نوع استقراء «الغراب»؛ وبذلك نكون دائرين في حلقة مُفرَغة. فمن الممكن إثبات إمكان الاعتماد على الاستقراء إذا افترضنا أن من الممكن الاعتماد عليه، ولما كان مثل هذا الاستدلال ينطوي على دور، فإن الحجة لا بد أن تنهار؛ وعلى ذلك فإن قضية هيوم الثانية هي أن الاستقراء لا يمكن تبريره بالرجوع إلى التجربة.
إن هيوم يذهب إلى أن نتيجة نقده هي القول باستحالة تبرير الاستدلال الاستقرائي. والحق أن من الواجب إدراك خطوة هذه النتيجة إدراكًا كاملًا؛ فإذا كانت قضية هيوم صحيحة، فإن الأداة التي نستخدمها في التنبؤ تنهار، ولا تكون لدينا وسيلة لاستباق المستقبل. فقد رأينا حتى الآن أن الشمس تُشرِق كل صباح، ونحن نعتقد أنها ستُشرِق غدًا، ولكن ليس لاعتقادنا هذا أساس؛ وقد رأينا الماء ينحدر من أعلى إلى أسفل، ونحن نعتقد أنه سينحدر دائمًا على هذا النحو، ولكن ليس لدينا ما يُثبِت أنه سيفعل ذلك غدًا. ألا يجوز أن تبدأ الأنهار في الجريان من أسفل إلى أعلى غدًا؟ إنك قد تقول: لست مِن الحمق بحيث أعتقد ذلك، ولكن لمَ كان في هذا الاعتقاد حمق؟ ستُجيب بأن السبب هو أنني لم أرَ أبدًا ماءً يجري من أسفل إلى أعلى، وأنني كنت أنجح دائمًا في تطبيق أمثال هذا الاستدلال من الماضي إلى المستقبل. وهنا تكون قد وقعت في المغالطة التي كشفها هيوم؛ فأنت تُثبِت الاستقراء باستخدام استدلال استقرائي، وهكذا نقع في الفخ مرارًا وتكرارًا، ونرى أن من المستحيل تبرير الاستقراء، ولكنا نظلُّ نقوم باستقراءات ونحتج بأن من الحمق أن نشكَّ في المبدأ الاستقرائي.
هذا هو المأزق الذي يقع فيه صاحب النزعة التجريبية؛ فإما أن يكون تجريبيًّا كاملًا، ولا يقبل من النتائج سوى القضايا التحليلية أو القضايا المستمَدة من التجربة، وعندئذٍ لا يستطيع القيام باستقراء، ويتعيَّن عليه أن يرفض أية قضية عن المستقبل؛ وإما أن يقبل الاستدلال الاستقرائي، وعندئذٍ يكون قد قبِل مبدأً غير تحليلي لا يمكن استخلاصه من التجربة؛ وبذلك يكون قد تخلَّى عن التجريبية. وهكذا تنتهي التجريبية الكاملة إلى القول إن معرفة المستقبل مستحيلة، ولكن ماذا تكون المعرفة إن لم تكن تشتمل على المستقبل؟ إن مجرد بيان العلاقات الملاحَظة في الماضي لا يمكن أن يُسمَّى معرفة؛ فإذا شئنا أن تكشف المعرفة عن العلاقات الموضوعية للأشياء الطبيعية، فلا بد أن تنطوي على تنبؤات موثوق فيها؛ وعلى ذلك فإن التجريبية الكاملة تُنكِر إمكان المعرفة.
وهكذا تنتهي الفترة الكلاسيكية للمذهب التجريبي، وهي فترة بيكن ولوك وهيوم، بانهيار لهذا المذهب؛ إذ إن هذا هو ما يؤدي إليه تحليل هيوم للاستقراء. فنقدُ هيوم يؤدي إلى الانتقال من التجريبية إلى اللاأدرية، وهو ينادي — فيما يتعلق بالمستقبل — بفلسفة للجهل تقول إن كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف أي شيء عن المستقبل. ولا بد لنا أن نُعجَب بدقة ذلك الذهن الذي لم يمتنع عن استخلاص هذه النتيجة الهدامة، على الرغم من أنه تشرَّب الثقة بالمذهب التجريبي. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن هيوم يذكر هذه النتيجة صراحة، ويُسمِّي نفسه شكَّاكًا، فإنه لا يعترف بالمأساة التي يؤدي إليها استنتاجه هذا؛ فهو يحاول تخفيف تأثير هذه النتيجة بأن يُسمِّي الاعتقاد الاستقرائي عادة. وإن المرء ليشعر عند قراءة ما كتبه هيوم بأن هذا التفسير قد طامَن مِن شكوكه، وأنه كان في نظره تفسيرًا نفسيًّا للاعتقاد الاستقرائي. ومِن الملاحظ أن هيوم لم يكن من الأحرار الإنجليز، وإنما كان من المحافظين، ولم تكن هناك نزعة تحررية في اتجاهاته الإدارية تُناظر نزعته التحررية الذهنية. وهكذا يتضح لنا ذلك الوجه الغريب لفيلسوف يستبعد بابتسامة ودية التهمةَ الحاسمة التي وجَّهها هو ذاته إلى الفلسفة التجريبية.
على أننا لا نستطيع أن نشارك هيوم شعورَه هذا بالاطمئنان؛ فنحن لا نُنكِر أن الاستقراء عادة؛ إذ إنه كذلك بالطبع، غير أننا نودُّ أن نعرف إن كان عادة مستحبة أم عادة مرذولة. ونحن نعترف بأن من الصعب التخلص من هذه العادة، فمَن ذا الذي يجرؤ على أن يسلك على أساس افتراض أن الماء سيجري غدًا من أسفل إلى أعلى في كل الأحوال؟ ومع ذلك فحتى لو كان تعوُّدنا على الاستقراء يبلغ من القوة حدًّا لا نملك معه إلا أن نكون مُدمِنين للاستقراء، مثل مدمني المخدرات، فإنا نودُّ أن نعرف على الأقل إن كان الواجب يقضي علينا بالتخلص من هذه العادة. فالمشكلة المنطقية للاستقراء مستقلة عن مسألة كون الاستقراء عادة، وكوننا نستطيع التخلص من هذه العادة. إن الفيلسوف التجريبي يودُّ أن يعلم إن كان في وسع التجربة أن تمدَّنا بمعرفة للمستقبل، وبأي معنًى تمدُّنا بهذه المعرفة، فإن لم يستطع أن يجيب عن هذا السؤال، فعليه أن يعترف صراحةً بأن التجريبية قد أخفقت.
فإذا ما انتقلنا إلى إجراء مقارنة بين المذهب التجريبي والمذهب العقلي، لَوصَلنا إلى نوع غريب من التوازن؛ فصاحب المذهب العقلي لا يستطيع أن يحلَّ مشكلة المعرفة التجريبية لأنه يتصور مثل هذه المعرفة على مثال الرياضيات؛ وبذلك يجعل العقل مشرِّعًا للعالم الفيزيائي. والتجريبي بدوره لا يستطيع أن يحلَّ هذه المشكلة؛ إذ إن محاولته الاعترافَ بالكيان الخاص للمعرفة التجريبية من حيث هي مستمَدة من الإدراك الحسي تنهار بدورها؛ لأن المعرفة التجريبية تفترض مقدَّمًا منهجًا غير تحليلي، هو المنهج الاستقرائي. صحيحٌ أن التجريبي لا يكرِّر أخطاء العقلي، فهو لا يستخدم لغة مجازية، ولا يسعى إلى اليقين المُطلَق، ولا يحاول أن يشكِّل مجال المعرفة بحيث يكون أساسًا للتوجيهات الأخلاقية. ومع ذلك فإنه حين يقصر قدرة العقل على وضع المبادئ التحليلية، يقع في صعوبة جديدة؛ فهو لا يستطيع تفسير المبدأ الذي تنتقل به المعرفة التجريبية من الماضي إلى المستقبل؛ أي إنه لا يستطيع تفسير الطبيعة التنبُّئية للمعرفة.
وهكذا يتحتَّم علينا الاعتراف بضرورة وجود خطأ أساسي في المذهب التجريبي. فقد سبق أن ارتكب صاحب المذهب العقلي خطأ النظر إلى المعرفة الرياضية على أنها أنموذج كل معرفة؛ وبذلك أراد أن يجعل من العقل مصدرًا لمعرفة العالم، في أساسياتها على الأقل. أما التجريبي فقد صحَّح هذا الخطأ بأن أكَّد أن المعرفة التجريبية مستمَدة من الإدراك الحسي، وأن العقل لا يمدُّنا إلا بعلاقات تحليلية، وأن كل معرفة تركيبية هي من النوع الممتد من الملاحظة. ومع ذلك فالمعرفة المستمَدة من الملاحظة تقتصر على الماضي والحاضر، أما معرفة المستقبل فليست من النوع المستمَد من الملاحظة. ومع ذلك فالمعرفة المستمَدة من الملاحظة تقتصر على الماضي والحاضر، أما معرفة المستقبل فليست من النوع المستمَد من الملاحظة. على أن التجريبيين القدامى لم يُدرِكوا الصعوبات الناجمة عن هذا التمييز؛ فلما كان من الممكن تحقيق التنبؤات الخاصة بالمستقبل أو تكذيبها، في وقت متأخر، فقد نظروا إلى معرفة المستقبل على أنها من نفس نوع المعرفة المستمَدة من الملاحظة، وفاتهم أننا نودُّ معرفة حقيقة التنبؤات قبل وقوع الحوادث التي نتنبأ بها، وأن المعرفة عندما تصبح مستمَدة من الملاحظة لا تعود معرفة بالمستقبل. ولقد تنبَّه هيوم إلى هذه الصعوبة، ولكن لما لم يكن في وسعه التخلي عن فهم للمعرفة يقتضي ضِمنًا أن تكون معرفة المستقبل من نفس نوع معرفة الماضي؛ فقد انتهى إلى أن المناهج التنبئية للعلم لا يمكن تبريرها، وأن من المحال أن تكون لنا أية معرفة بالمستقبل.
ولقد اعترف المذهب التجريبي، في مفهومه الحديث، بهذا الخطأ. فلما كان من المستحيل تبرير القضايا المتعلقة بالمستقبل إذا ما نُظر إليها على أنها مِن نفس نوع القضايا المتعلقة بالماضي أو الحاضر، فإنا نستدل من ذلك على أن من الواجب تفسير القضايا المتعلقة بالمستقبل على نحو مختلف. فمِن الواجب تصوُّر معرفة المستقبل على أنها تختلف أساسًا عن معرفة الماضي. وبهذا التحول ينقلب السؤال؛ فبدلًا من أن نفترض أن طبيعة معرفة المستقبل معلومة، ثم ينصبُّ تساؤلنا على الطريقة التي يمكن أن تكون لنا بها معرفة بالمستقبل، فإن السؤال يتركز فيما ينبغي أن تكون عليه طبيعة معرفة المستقبل إن شئنا تبرير القضايا المتعلقة بالمستقبل.
على أن إحداث مثل هذا الانقلاب في السؤال كان أمرًا يفوق إمكانات هيوم. والحق أن نقده للاستقراء كان عملًا يبلغ من العظمة حدًّا المعرفة على نحو يهدف إلى العثور فيها على التركيب الذي يريد الفيلسوف الوصول إليه. فصاحب المذهب العقلي يتصور المعرفة التجريبية على أنها نسقٌ ينبغي أن تكون لأسسه يقينية الرياضيات، والتجريبي يستعيض عن يقينية الرياضيات بالتأكيد المُرتكِز على الملاحظة، ولكنه يشترط في القضايا المتعلقة بالمستقبل أن يكون لها نفس نوع التأكيد الذي ننسبه إلى القضايا المتعلقة بالماضي. وهكذا ينتهي صاحب المذهب العقلي إلى مواجهة هذه المشكلة: لماذا كان يتعيَّن على الطبيعة أن تتبع العقل؟ ويُواجه التجريبي هذه المسألة: كيف يمكن نقل التأكيد الذي تتَّسم به الملاحظات إلى التنبؤات؟
ولم يكن في مقدور فلسفة القرن الثامن عشر أن تصل إلى مخرج من هذا المأزق؛ إذ لم يكن من الممكن إحداث انقلاب في السؤال، بحيث يصبح متعلقًا بطبيعة المعرفة التنبُّئية، إلا بعد حدوث بعض التغيرات الحاسمة في أسس العلم. فقد كانت القوة الدافعة للعلم في القرن الثامن عشر هي الثقة غير النقدية بنجاحه، وكان لا بد للعلم في يشعر بقصور مناهجه قبل أن يصبح ناقدا لذاته ويتساءل عن معنى نتائجه. وقد بدأ هذا التطور في القرن التاسع عشر، وما زال مستمرًّا حتى يومنا هذا. ولم يكن مصدر هذا التطور هو الفلسفة؛ إذ إن العالم لم يكن في وقت من الأوقات يعبأ كثيرًا بتفسير الفيلسوف، بل إن نقد ديفيد هيوم ذاته لم يُؤثِّر فيه. ولقد اتَّضح أن عدم اكتراث العالم بالفلسفة كان موقفًا مفيدًا له، وإن كان ذلك من قبيل حسن الحظ فحسب؛ ذلك لأن النجاح كثيرًا ما يحالف أولئك الذين يفعلون، بدلًا من أن يفكروا فيما ينبغي أن يفعلوه. ولم يكن من الممكن تقديم تفسير لطبيعة المعرفة في إطار العلم السائد في القرن الثامن عشر؛ إذ كان من الواجب إعادة النظر في الفكرة السائدة عن طبيعة الرياضيات، وعن طبيعة العِلِّية، قبل أن يتسنى وضع نظرية للمعرفة تعلِّل في آنٍ واحد قدرةَ المناهج الاستنباطية في الفيزياء الرياضية، وكذلك فائدة الاستدلال الاستقرائي. وإذن فقد كان من حسن حظ العالم أنه لم ينتقل إلى بحث مسألة تبرير مناهجه قبل أن تتوافر لديه وسائل الإجابة عن هذه المسألة.
وإنه لمن المعقول أن تكون هذه الإجابة قد قُدِّمت في إطار نظرية للاحتمالات، وإن تكن صورة هذه النظرية تختلف كل الاختلاف عما قد يتوقعه المرء. فالقول إن ملاحظات الماضي يقينية، على حين أن التنبؤات احتمالية فحسب، ليس هو الجواب النهائي على مسألة الاستقراء، يضمن له موقعًا بارزًا في تاريخ الفلسفة. ولقد ذكرت من قبلُ أن من الواجب البحثَ عن مظاهر التقدم الفلسفي، لا في الإجابات التي قدَّمها الفلاسفة، وإنما في الأسئلة التي سألوها، وهذه القاعدة تنطبق على هيوم بدوره؛ فإلى هيوم يرجع الفضل في إثارة السؤال الخاص بتبرير الاستقراء، وإيضاح الصعوبات التي تعترض حله، أما إجابته عليه فلا تُفيدنا في شيء.
وعلى الرغم من أن التحليل المنطقي لفكرة الاحتمال شرطٌ ضروري لإيضاح المعرفة التنبُّئية، فلا بد من تغيير جذري في التفسير الفلسفي قبل أن يتسنَّى تقديم الإجابة النهائية التي تُخلِّصنا من مآزق التجريبية. ونحن نعلم اليوم أن المعرفة التنبُّئية ذاتها لا يمكن إثبات كونها احتمالية، وأن فكرة المعرفة الاحتمالية تتعرض لنقد مُماثل لذلك الذي أثاره هيوم بالنسبة إلى المعرفة التي تزعم لنفسها اليقين؛ وعلى ذلك فإن مشكلة المعرفة التنبُّئية تقتضي إعادة تفسير لطبيعة المعرفة. ولم يكن من الممكن الوصول إلى هذا الفهم الجديد للمعرفة في إطار فيزياء نيوتن، بل كان لا بد لحل مشكلة الاستقراء من انتظار ذلك التفسير الجديد للمعرفة، الذي ظهر بفضل فيزياء القرن العشرين.