الطبيعة المزدوجة للفيزياء الكلاسيكية
كان حديثنا حتى الآن مقتصرًا على الفلسفة. أما الآن، فلندرس تطوُّر العلم خلال تلك الأعوام الألفَين والخمسمائة، التي ظهرت خلالها، في مجال الفلسفة، المذاهب العقلية والتجريبية في شتى صورها.
فلماذا لم يقُم بطليموس بتجربة جاسندي؟ ذلك لأن فكرة التجربة العلمية، متميِّزةً من القياس والملاحظة المجردة، لم تكن مألوفة لليونانيين. إن التجربة إنما هي سؤال يُوجَّه إلى الطبيعة، وباستخدام الأدوات المناسبة يُحدِث العالم واقعة فيزيائية تؤدي نتيجتها إلى الإجابة ﺑ «نعم» أو «لا» على هذا السؤال. وطالما كنا نعتمد على ملاحظة الحوادث التي لا نتدخل نحن فيها، فإن الأحداث القابلة للملاحظة تكون عادة نتاجًا لعوامل تبلغ من الكثرة حدًّا لا نستطيع معه تحديد الدور الذي يُسهِم به كل عامل منفرد في النتيجة الكلية. أما التجربة العلمية فإنها تعزل العوامل بعضها عن البعض، ويؤدي تدخُّل الإنسان إلى إيجاد ظروف يتبدَّى فيها تأثير عامل واحد دون إقحام العوامل الأخرى فيه؛ وبذلك يكشف عن العملية الداخلية التي تتم في الحوادث المعقَّدة التي تحدث دون تدخُّل الإنسان. مثال ذلك أن سقوط ورقة من شجرة هو حادث معقَّد تتنافس فيها قوى الجاذبية مع القوى الهوائية الدنيامية الناتجة عن حركة الهواء تحت الورقة المُنزلِقة، التي تتحرك إلى أسفل في اتجاه متعرِّج؛ فإذا استبعدنا، من جهة، تأثير الهواء بأن نجعل الورقة تسقط في ساحة مُفرَغة من الهواء، لرأينا أن سقوطها هو، من حيث الجاذبية، مُماثِل لسقط الحجر؛ وإذا قمنا من جهة أخرى بإمرار تيار هوائي على سطح ثابت عبر نفق للهواء، لكشف لنا عن قوانين حركة الهواء. وهكذا فإن الحادث الطبيعي المعقَّد يُحلَّل إلى عناصره المكوِّنة له عن طريق القيام بتجارب مرسومة مخطَّطة؛ ولهذا السبب أصبحت التجربة أداة للعلم الحديث. أما عدم التجاء اليونانيين إلى التجارب على أي نطاق واسع فيدل على مدى صعوبة التحول من الاستدلال العقلي إلى العلم التجريبي.
هذه المجموعة المختارة المُوجَزة من الأحداث التي أدَّت إلى تطوُّر العلم، توضِّح السبب في ظهور مذاهب تجريبية في العصر الحديث تُشبِه في تأثيرها المذاهب العقلية الكبرى عند اليونانيين؛ فالمذهب العقلي اليوناني يعكس نجاح الأبحاث الرياضية في حضارة اليونانيين، والتجريبية الإنجليزية تعبِّر عن انتصار المنهج التجريبي في العلم الحديث، ذلك المنهج الذي يُوجِّه أسئلة إلى الطبيعة، ويترك للطبيعة مهمة الإجابة عنها ﺑ «نعم» أو «لا».
غير أن هناك تطورًا آخر يستحقُّ إيضاحًا، وهو إحياء الفلسفة العقلية في بلدان القارة الأوروبية خلال نفس الفترة التي كان الفلاسفة الإنجليز يضعون فيها المذاهب التجريبية الجديدة؛ ففي هذه الفترة شيَّد ديكارت وليبنتس وكانت، على الرغم من اهتمامهم البالغ بالعلم وإسهامهم في بعض الميادين العلمية، مذاهبَ عقلية تفوق في منهجها ودقتها مذاهب الأقدمين.
ولقد أدرك نيوتن ذاته بوضوحٍ أن نجاح قانونه يتوقف على التأييد المستمَد من تحقيق نتائجه، وكان عليه، من أجل استخلاص هذه النتائج، أن يبتدع منهجًا رياضيًّا جديدًا، هو حساب التفاضل، غير أنه لم يكتفِ بهذا النصر الاستنباطي، مع كل روعته، وإنما أراد الوصول إلى دليل كمي مبني على الملاحظة، واختبر نتائجه عن طريق القيام بملاحظات للقمر الذي كان دورانه الشهري يُعَد مثلًا لقانون الجاذبية عنده، غير أن أمله خاب عندما وجد أن نتائج الملاحظة لا تتفق مع حساباته، فما كان من نيوتن إلا أن أودع المخطوط الذي دوَّن فيه نظريته في أحد أدراجه، بدلًا من أن يجعل للنظرية، مهما كان تناسُقها، الأفضليةَ على الوقائع. وبعد حوالَي عشرين عامًا، قامت بعثة فرنسية بقياسات جديدة لمحيط الكرة الأرضية، أدرك منها نيوتن أن الأرقام التي كان قد بنى عليها اختباره لم تكن صحيحة، وأن الأرقام الأدق تتفق مع حسابه النظري. ولم ينشر نيوتن قانونه إلا بعد هذا الاختبار.
والحق أن قصة نيوتن مِن أروع أمثلة المنهج العلمي الحديث؛ فمعطيات الملاحظة هي نقطة بدء المنهج العلمي، غير أنها لا تستنفد هذا المنهج، وإنما يكمِّلها التفسير الرياضي، الذي يتجاوز بكثيرٍ نطاقَ إقرارٍ ما لُوحِظ بالفعل، ثم تُطبَّق على التفسير نتائج رياضية تُظهِر صراحةً نتائج معيَّنة تُوجَد فيه بصورة ضمنية، وتُختبَر هذه النتائج الضمنية بملاحظات. هذه الملاحظات هي التي تُترَك لها مهمة الإجابة ﺑ «نعم» أو «لا»، ويظل المنهج إلى هذا الحد تجريبيًّا، غير أن ما تؤكِّد الملاحظات صحته يزيد كثيرًا على ما تقوله مباشرة؛ فهي تُثبِت تفسيرًا رياضيًّا مجردًا؛ أي نظرية يمكن استنباط الوقائع الملاحظة منها بطريقة رياضية. لقد كان لدى نيوتن من الشجاعة ما يجعله يُغامر بتفسير مجرد، ولكن كان لديه أيضًا من الفطنة ما يجعله يمتنع عن تصديقه قبل أن يؤيِّده اختبارٌ قائم على الملاحظة.
والواقع أن المنهج الرياضي هو الذي أكسب الفيزياء الحديثة قدرتها التنبُّئية، وعلى كل مَن يتحدث عن العلم التجريبي أن يذكر أن الملاحظة والتجربة لم يتمكَّنا من بناء العلم الحديث إلا لأنهما اقترنا بالاستنباط الرياضي؛ فالفيزياء عند نيوتن تختلف اختلافًا كبيرًا عن صورة العلم الاستقرائي التي رسمها فرانسس بيكن قبل جيلَين من عهد نيوتن؛ إذ إن أي عالم لم يكن ليستطيع لو اقتصر على جمع الوقائع الملاحظة، كما يتمثل في قوائم بيكن، أن يكتشف قانون الجاذبية؛ فالاستنباط الرياضي مُقترنًا بالملاحظة هو الأداة التي تعلِّل نجاح العلم الحديث.
ولقد كان أوضح تعبير عن تطبيق المنهج الرياضي هو مفهوم السببية كما تطوَّر نتيجة للفيزياء الكلاسيكية؛ أي لفيزياء نيوتن. فلما كان من الممكن التعبيرُ عن القوانين الفيزيائية في صورة معادلات رياضية، فقد بدا كأن من الممكن تحويل الضرورة الفيزيائية إلى ضرورة رياضية. فلنتأمل مثلًا القانون القائل إن حركات المد تتبع موقع القمر، بحيث يتجه جزء من المحيط صوب القمر، ويتجه الجزء الآخر في الاتجاه المضاد، على حين أن الأرض تدور تحت هذا الجزء، وتجعله ينزلق فوق سطحه. هذه واقعة ملاحَظة، وعن طريق تفسير نيوتن يتضح أن هذه الواقعة نتيجة لقانون رياضي، هو قانون الجاذبية؛ وبذلك ينتقل يقين القانون الرياضي إلى الظواهر الفيزيائية. وهكذا فإن عبارة جاليليو التي يقول فيها إن قانون الطبيعة مكتوب بلغة رياضية، هذه العبارة قد أثبتت صحتها خلال القرون التالية، إلى حدٍّ يتجاوز كل ما كان يمكن أن يتخيَّله جاليليو ذاته. فقوانين الطبيعة لها تركيب القوانين الرياضية وضرورتها وشمولها، تلك هي النتيجة التي يؤدي إليها علمٌ فيزيائي يتنبَّأ بوجود كوكب جديد بقدرٍ من الدقة يكفي المرءَ معه أن يُوجِّه مِنظاره نحوه لكي يراه.
وهكذا بدا القانون الرياضي أداة للتنبؤ، لا أداة للتنظيم فحسب، واكتسب عالم الفيزياء بفضله القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وبدا التعميم البسيط الذي يتم في الاستدلال الاستقرائي التعدادي أداةً هزيلة إذا ما قُورِن بقدرة المنهج الفرضي الاستنباطي، فكيف يمكن تفسير هذه القدرة؟ لقد بدا الجواب واضحًا؛ فلا بد أن يكون هناك نظامٌ دقيق بين جميع الأحداث الفيزيائية، تعكسه العلاقات الرياضية، وهو نظامٌ يُعبِّر عنه لفظ السببية.
إن فكرة التحديد السببي الدقيق لكل حوادث الطبيعة هي نتاج للعصر الحديث؛ فاليونانيون قد وجدوا نظامًا رياضيًّا في حركات النجوم، غير أنهم رأوا أن الحوادث الفيزيائية الأخرى تتحدد، جزئيًّا على الأكثر، بالقوانين الفيزيائية. صحيحٌ أن بعض الفلاسفة اليونانيين كانوا يقولون بحتمية شاملة، غير أننا لا نعلم مدى اتفاق نظرتهم إلى الحتمية السببية مع النظرة الحديثة، فلم يترك واحد منهم صيغةً واحدة تحدِّد ما يعنيه بالحتمية، وليس مِن المحتمل أن يكون أحدهم قد نظر إلى السببية على أنها قانونٌ يسري بلا تخلُّف، ويتحكم في أتفه الحوادث مثلما يتحكم في أهمها، ويجعل كل حادث ناتجًا ضروريًّا عن الحادث السابق، بغضِّ النظر عما تعنيه هذه الحوادث بالنسبة إلى أهداف البشر؛ فلم يكن مِن الممكن تصوُّر التنزه الكامل للسببية عن القِيَم البشرية، في وقتٍ لم تكن فيه الفيزياء الرياضية قد عُرفت بعد.
فإذا كانت هذه هي صورة العالم كما رسمتها الفيزياء الكلاسيكية، فلا عَجب إذن إن ظهرت في عهد نيوتن موجةٌ من النزعة العقلية فضلًا عن النزعة التجريبية؛ فقد اقتصر التجريبيون على تحليل جانب واحد من العلم، هو الجانب القابل للملاحظة، بينما أكَّد العقليون جانبه الرياضي. على أن التجريبية انهارت آخرَ الأمر أمام نقد هيوم؛ لأنها عجزت عن تعليل الطبيعة التنبُّئية للعلم، ولم تستطع تفسير الطريقة التي يمكننا بها أن نعرف النظام السببي الدقيق للعالم، وهو النظام الذي أيقن العالم بوجوده، وكان يعتقد أنه يعرفه في خطوطه العامة على الأقل. وهكذا اعتقد العقليون أنهم كانوا على حق عندما هاجموا الموقف التجريبي، ووضعوا مذاهب ترمي إلى تفسير الدور الذي تقوم به الرياضيات في بناء العالم الفيزيائي.
ومما له دلالته الخاصة أن الدفاع ضد هجمات التجريبيين الإنجليز هو السبب الذي دعا اثنين من كبار العقليين في العصر الحديث، هما ليبنتس وكانت، إلى وضع مذهبَيهما، أو هو على الأقل واحد من أسباب وضع هذين المذهبَين؛ فقد رد ليبنتس على كتاب لوك «دراسة في الذهن البشري» بكتابه «دراسة جديدة في الذهن البشري»، وصرَّح «كانت» بأن هيوم «أيقظه من سباته القطعي»، وكتب «نقد العقل الخالص» بقصد إنقاذ المعرفة العلمية من النتائج المدمِّرة التي تترتَّب على انتقادات هيوم.
إن المذهب العقلي عند ليبنتس، وإن يكن يستوحي العلم الرياضي، إنما هو تأمُّل نظري بحت في ثوب استدلال منطقي، وهو يتخلى عن الأرض الثابتة التي نما فيها العلم الحديث، وأعني بها ارتكازه على الملاحظة التجريبية. ولقد أدَّى تجاهُل ليبنتس للعنصر التجريبي في المعرفة إلى اعتقاده أن كل معرفة إنما هي ضربٌ من المنطق. وعلى الرغم من أنه أدرك الطبيعة التحليلية للاستنباط المنطقي، فقد كان يعتقد أن المنطق لا يمكنه أن يمدَّنا بمعرفة فحسب، بل إنه يستطيع أيضًا أن يحلَّ محلَّ المعرفة التجريبية؛ فهناك حقائق من النوع الواقعي، أي حقائق تجريبية، وحقائق عقلية، أي تحليلية، غير أن هذا التمييز ليس إلا نتيجة للجهل البشري. ولو كانت لدينا معرفة كاملة، كتلك التي لدى الله، لرأينا أن كل ما يحدث يتصف بالضرورة المنطقية. مثال ذلك أن الله كان يستطيع أن يستنبط من مفهوم الإسكندر أنه كان ملكًا وغزا الشرق. هذا التفسير التحليلي للمعرفة التجريبية هو خطأ عقلي ارتُكب مرارًا على أمل أنه سيتيح تفسير الفيزياء الرياضية. وقد يكون في استطاعتنا تعريف مفهوم الإسكندر على نحوٍ مِن شأنه أن يتلو تاريخ الرجل كله تحليليًّا منه، ولكنَّا لم نكن لنستطيع عندئذٍ أن نعرف بالمنطق الخالص إن كان الإسكندر، من حيث هو فردٌ نلاحظه، هو ذلك الذي يحدِّده التصور بحق. وبعبارة أخرى فالقضية القائلة إن للفرد الملاحظ الصفات التي يعبِّر عنها التصور تغدو قضية تركيبية، وتخضع لكل عوامل الشك التي تُصيب المعرفة التجريبية؛ وإذن فلا سبيل إلى تجنُّب مشكلات النزعة التجريبية بالالتجاء إلى المنطق التحليلي.
على أن ليبنتس لم يشهد أبدًا مذهبًا تجريبيًّا متطرفًا؛ فعندما مات كان هيوم في الخامسة من عمره، ونحن نعرف نقده لجون لوك، الذي رفض فيه الاعتراف بمبدأ لوك القائل إن كل معرفة مستمَدة من الإدراك الحسي؛ إذ يرى أن التصورات التي تنطوي على ضرورة تتصف بأنها فطرية فينا. على أن هذه الحجة لم يعُد لها اليوم أهمية كبيرة، ما دام قد اتَّضح أن المشكلة الرئيسية للمذهب التجريبي ليست مبدأ لوك القابل بأن للتصورات أصلًا تجريبيًّا، وإنما هي مبدأ هيوم القائل إن التجربة هي الحكم الوحيد على صحة القضايا التركيبية، وهو مبدأ يؤدي إلى النتيجة القائلة إن التنبؤات لا يمكن تبريرها؛ وعلى ذلك فإن الأهم من هذا هو أن نعرف بماذا كان ليبنتس خليقًا بأن يردَّ على هيوم. والأرجح أنه كان سيعترف بمبدأ الاستقراء عند هيوم، ولكنه كان سيراه قاصرًا على استخدام البشر، وكان سيقول إن مشكلة الاستقراء لا توجد بالنسبة إلى الله، غير أن هذه ليست إجابة، حتى لو حدَّد معنى كلمة «الله» في هذه الحالة بأنه «المنطقي الكامل»، ما دام من المستحيل قبول رأي ليبنتس القائل برد المعرفة التجريبية إلى معرفة تحليلية؛ فليس في وسع النزعة العقلية القائلة بمعرفة تحليلية قبلية أن تحل مشكلة هيوم. ومع ذلك فليس هناك احتمال كبير في أن نقد هيوم القاطع كان حريًّا بأن يؤدي إلى تغيير آراء لبينتس، الذي كان السعي إلى اليقين لديه أقوى من أن يُتيح له التغلب على أوهام المذهب العقلي.
ولقد أتى رد المذهب العقلي على هيوم من جانب «كانت»، الذي لم يكن يصغُر هيوم إلا بثلاثة عشر عامًا، وإن يكن كتابه الرئيسي قد ظهر بعد وفاة هيوم. وقد سبق أن عرضنا فلسفة المعرفة التركيبية القبلية عند «كانت» في الفصل الثالث، وإنه لمن مزايا هذه الفلسفة أنها تسير في طريق مستقل عن ادعاء ليبنتس غير المفهوم بأنه رد المعرفة المتعلِّقة بالعالم إلى معرفة تحليلية؛ فلنبحث إذن كيف حاول المذهب العقلي في المعرفة التركيبية القبلية أن يردَّ على هيوم.
في رأي «كانت» أن مبدأ السببية تركيبي قبلي؛ فهو يرى أننا نعلم عِلم اليقين أن لكل حادث علةً، وكل ما يتبقى أمام الملاحظة هو الاهتداء إلى العلة الفردية. وأودُّ أن أوضِّح ذلك بمثال كان «كانت» ذاته خليقًا بأن يستخدمه؛ فعندما نرى المد البحري في إيقاعه الدوري، نعلم بالعقل الخالص أن لهذا الحادث سببًا، والأمر الذي تُعلِّمنا إياه الملاحظة مُقترنةً بالاستدلال الاستقرائي لا يعدو أن يكون أن السبب في هذه الحالة يتحدد بموقع القمر؛ وعلى ذلك فإن الاستدلال الاستقرائي يقتصر على الاهتداء إلى القوانين الفيزيائية الفردية، غير أنه لا يُستخدم في إثبات الحقائق العامة للفيزياء، مثل مبدأ السببية، وهي الحقائق التي يفرضها علينا العقل. ولما كنا نعلم عِلم اليقين أن هناك علة، فإن للاستقراء ما يبرِّره بوصفه أداةَ الاهتداء إليها؛ وبهذه الحجة يعتقد «كانت» أنه تغلَّب على نقد هيوم للاستقراء. فيقين المعرفة التركيبية القبلية يحلُّ محلَّ الشك الذي استسلم له التجريبي، تلك هي ماهية فلسفة «كانت».
وإنه لمن الصعب أن يفهم المرء كيف استطاع «كانت» أن يرى في هذه النظرية عاملًا على إيقاظه من السُّبات القطعي؛ فحجة «كانت» لا تنطوي على إجابة على سؤال هيوم. ولو كان هيوم قد عاش ليقرأ كتاب «نقد العقل الخالص»، فربما كان قد أجاب على «كانت» بقوله: «كيف يمكن أن يكون إدراكنا لوجود سبب عاملًا مُساعدًا لنا عندما يكون هدفنا هو معرفة هذا السبب؟ صحيح أننا لو كنا نعلم أنه ليس ثمةَ سببٌ لكان من العبث أن نبحث عن مثل هذا السبب، غير أن هذا ليس موقفنا؛ فنحن لا نعلم إن كان هناك سبب، وفي مثل هذا الموقف نقوم باستدلالات استقرائية مبنية على الملاحظة، ونستنتج مثلًا أن القمر سبب ظاهرة المد. هذا الاستدلال الاستقرائي هو ما أضعه موضع الشك، وهو سيظل مُعرَّضًا لنفس القدر من الشك لو استطعت أن تُثبِت القضية العامة القائلة إن ثمة سببًا؛ وبهذه المناسبة، فإن برهانك على المبدأ العام لا يبدو لي مقبولًا.»
فلأوضِّح هذا الدفاع المتخيَّل لهيوم بمثال. لنفرض أن شخصًا يبحث عن الذهب في بيرو، ولكنه لا يعلم في أي مكان ينبغي عليه أن يحفر، ولكنك تقول له: نعم، إن هناك ذهبًا في بيرو. فهل يمكن أن يساعده قولك هذا في شيء؟ إنه لم يتقدم خطوة واحدة عما كان عليه من قبل؛ إذ إن ما يريد معرفته هو ما إذا كانت البقعة التي يحفر فيها ستُخرِج له ذهبًا، وهو لا يستطيع أن يحفر كل بقعة في بيرو. ولو عرف أن هناك ذهبًا في مساحة صغيرة معيَّنة من هذا البلد، لظل يعمل على حفر متر مربع بعد الآخر، ولاهتدى إلى الذهب بعد عدد معيَّن من المحاولات، غير أن بيرو أكبر مِن أن تسمح بإجراء محاولات تشملها كلها؛ وعلى ذلك فإن معرفة مجرد وجود الذهب لا قيمة لها، ولو قلت له إنه لا يوجد ذهب في بيرو، لكانت هذه المعلومات مفيدة له؛ إذ إنها تدفعه إلى الكف عن الحفر. أما القول بأن هناك ذهبًا في بيرو فلا يساعده أكثر مما يساعده القول إنك لا تعلم إن كان هناك ذهب في بيرو.
وأودُّ أن أعبِّر عن هذا النقد ﻟ «كانت» بمزيد من الدقة؛ فقد أكَّد «كانت» على الدوام أنه يبحث عن الشروط المنطقية المُسبَقة للمعرفة، مميِّزًا إياها من الشروط النفسية المُسبَقة: «فلا يمكن أن يكون ثمة شكٌّ في أن كل معرفة لنا تبدأ بالتجربة، ولكن لا يلزم عن ذلك القولُ إنها كلها مستمَدة من التجربة.» بهذه الكلمات قدَّم «كانت» كتابه «نقد العقل الخالص». ولو طبَّقنا حجته هذه على مشكلة السببية، لكان معناها أننا نتوصَّل إلى فكرة السببية بالاهتداء إلى أسباب معيَّنة، غير أن معرفة المبدأ العالم للسببية لا تُستمد منطقيًّا من التجارب؛ فهذا المبدأ، في رأي «كانت»، هو الشرط المنطقي المُسبَق لأي قانون سببي محدَّد؛ ومِن ثَم كان من الضروري التسليمُ بصحته إذا شئنا الاهتداء إلى مثل هذه القوانين السببية.
وعلينا أن نتساءل عما يمكن استخلاصه من هذا اللزوم المحدود؛ فإذا كنت قد وجدت السبب المعيَّن، فهناك إذنْ سببٌ لهذا الحادث. ويعتقد «كانت» أن في استطاعتنا أن نستخلص من هذا اللزوم النتيجة الآتية: إذا كنت تبحث عن السبب الخاص، أي سبب ظاهرة المد مثلًا، فعليك أن تفترض أن هناك سببًا، وإلا لكان من غير المعقول، في رأي «كانت»، أن تُحاول البحث عن سبب.
على أن في هذه الحجة مغالطة؛ فإذا كنا نبحث عن سبب معيَّن، فلسنا بحاجة إلى افتراض وجود مثل هذا السبب، وإنما نستطيع أن نترك المسألة مفتوحة، مثل مسألة تحديد كُنْه السبب. وكل ما يمكن أن يقال هو أننا لو كنا نعلم أنه ليس ثمة سببٌ لكان من غير المعقول أن نبحث عن سبب خاص، ولكن إذا لم نكن نعرف شيئًا عن مسألة وجود سبب، ففي استطاعتنا أن نبحث في وقت واحد عن السبب الخاص، وعن الجواب عن السؤال المتعلق بوجود سبب أو عدم وجوده. فإذا نجحنا في الاهتداء إلى سبب معيَّن، فإنما نعلم أننا قد أثبتنا أن هناك سببًا للحالة موضوع البحث. هذه النتيجة التافهة هي كل ما يتبقى من حجة «كانت»؛ فصحة القضية المتعلقة بالسبب المعيَّن تفترض مقدَّمًا صحة القضية المتعلقة بوجود سبب، غيرَ أن البحث في صحة القضية الأولى لا يفترض مقدَّمًا صحة الثانية.
هذا التحليل يؤدي في الوقت ذاته إلى البت في مسألة المبدأ العام للسببية، وهو المبدأ القائل إن لكل الحوادث أسبابًا؛ فمِن المؤكَّد أن عبارةً تبلغ هذا القدر الهائل من العمومية ليست هي الشرط المنطقي المُسبَق للقانون السببي العام موضوع البحث، ولا يمكن أن يكون لها دور إلا بعد بحث القوانين السببية لجميع الحوادث. ولو طبَّقنا النتائج السابقة على هذه الحالة، لتوصَّلنا إلى العبارة الآتية: لو كان قد تم الاهتداء إلى قوانين سببية لكل الحوادث، لكان لكل الحوادث أسباب، غيرَ أن البحث عن كل هذه القوانين السببية لا يفترض مقدَّمًا التسليم بأن لكل الحوادث قوانين سببية؛ فمِن الممكن أن تُترَك المسألة الأخيرة معلَّقة، على أن تتم الإجابة عنها بعد أن يكون البحث قد نجح في جميع الحالات.
وهكذا تنهار خطة «كانت» في الاهتداء إلى عنصر تركيبي قبلي عن طريق الكشف عن الشروط المنطقية المُسبَقة للمعرفة؛ فوجود شروط مُسبَقة للمعرفة العلمية لا يعني أن هذه الشروط صحيحة. ولو شئنا أن نعرف إن كانت هذه الشروط صحيحة فعلينا أولًا أن نُثبِت أن المعرفة العلمية الصحيحة؛ وعلى ذلك فإن صحة الشروط المُسبَقة لا تثبت على نحوٍ أفضل مما تثبت صحته المعرفة العلمية. هذا التحليل المنطقي البسيط يدل على أن فلسفة «كانت» في المعرفة التركيبية القبلية لا يمكن قبولها.
إن تفسير المذهب العقلي للفيزياء الكلاسيكية لم يحلَّ المشكلات التي أثارها تفسير المذهب التجريبي. تلك هي النتيجة التي تؤدي إليها كل هذه المناقشة؛ فالدقة الرياضية للفيزياء لا ينبغي لها أن تدفعنا إلى الاعتقاد بأن في استطاعة المناهج الاستنباطية أن تشرح وتعلِّل جميع العمليات الفكرية المتضمَّنة في بناء هذا العلم؛ ذلك لأن الفيزيائي يعتمد، إلى جانب الاستنباط، على استخدام الاستقراء، ما دام يبدأ بملاحظات ويتنبَّأ مقدَّمًا بمزيد من الملاحظات. فالتنبؤ بالملاحظات المُقبِلة هو هدفه ومعيار صحة فرضه في آنٍ واحد. ولقد تمكَّنت الفيزياء الكلاسيكية، بفضل تشييدها لشبكة معقَّدة من الاستدلالات الاستنباطية والاستقرائية، من أن تصطنع مناهج تنبُّئية لها درجة عالية من الكفاءة، غير أنه لا الفيزيائي ولا الفيلسوف استطاع أن يُجيب عن السؤال الخاص بالسبب الذي يجعلنا نثق في هذه المناهج عندما نُطبِّقها على المزيد من التنبؤات.
وبانتهاء القرن الثامن عشر، كانت فلسفة الفيزياء قد وصلت إلى طريق مسدود؛ فقد ظل النسق الشامل للمعرفة، الذي خلقه الذهن البشري، غير قابل للفهم. والواقع أن هذا الاعتراف الصريح الذي صدر عن الفيلسوف التجريبي هيوم يبدو أرفع مِن زعم الفيلسوف العقلي «كانت» القائل إن أُسُس الفيزياء نتاج للعقل.
على أن الفيزيائيين أنفسهم لم يُلاحظوا ذلك الطريق الفلسفي المسدود، وإنما واصلوا القيام بملاحظات ووضع نظريات، وساروا من نجاح إلى نجاح، حتى وصلوا بدورهم إلى طريق مسدود. ومِن هذا الطريق الفيزيائي المسدود انبثقت فيزياء جديدة أمكن بواسطتها، آخرَ الأمر، الخروجَ من الطريق الفلسفي المسدود بدوره. فلنتحدث عن هذه التطورات في سياق العرض الذي سنُقدِّمه للقرنَين التاسع عشر والعشرين.