ما الزمان؟
الزمان مِن أظهر صفات التجربة البشرية؛ فحواسنا تقدِّم إلينا إدراكاتها حسب ترتيب الزمان، وعن طريقها تُشارك في المجرى العام المتدفِّق للزمان الذي يمرُّ خلال الكون، ويُنتِج حادثًا بعد حادث، ويخلِّف ما يُنتجه وراءه؛ ليكون أشبه ببلورة لكيانٍ سيَّال معيَّن كان مستقبلًا، وأصبح الآن ماضيًا لا يمكن تغييره. أما موقعنا نحن ففي وسط هذا المجرى المتدفِّق، وهو الوسط المُسمَّى بالحاضر، غير أن ما هو الآن حاضرٌ ينزلق إلى الماضي، على حين أننا ننتقل إلى حاضر جديد، ونظل على الدوام في الآن الأزلي. إننا لا نستطيع إيقاف التدفق، ولا نستطيع أن نعكس اتجاهه ونُعيد الماضي، فهو يحملنا معه بلا هوادة، دون أن يمنحنا فرصة للراحة.
على أن الرياضي الذي يُحاول ترجمة هذا الوصف النفسي للزمان إلى لغة المعادلات الرياضية يجد نفسه إزاء مهمة عسيرة، فلا عجب إذن أن يبدأ بتبسيط مشكلته؛ فهو يحذف الأجزاء العاطفية من الوصف، ويركِّز انتباهه على التركيب الموضوعي للعلاقة الزمانية، ويأمل أن يصل على هذا النحو إلى تركيب منطقي قادر على تقديم وصف وتعليل لكل ما نعرفه عن الزمان؛ وإذن فما نشعر به عن الزمان ينبغي أن يكون من الممكن تفسيره على أساس أنه رد فعل للكائن العضوي الانفعالي، على تركيب فيزيائي لهذه الصفات.
هذه الطريقة في البحث قد تخيِّب آمال القارئ ذي الميول الشاعرية، غير أن الفلسفة ليست شعرًا، وإنما هي إيضاح للمعاني عن طريق التحليل المنطقي، ولا مكان فيها للغة المجازية.
إن أول ما يهمُّ الرياضيَّ هو مقياس الزمان؛ فنحن نتصور الزمان على أنه يسير في تدفُّق مطرد أو متجانس، مُستقلٍّ عن السرعة الذاتية التي نُلاحظها، والتي تتباين تبعًا لدرجة الانتباه الانفعالي الذي نُبديه بمضمون تجربتنا. والتجانس يعني وجود مقياس؛ أي معيار للمساواة. فنحن نُقارِن بين فترات الزمان المتعاقبة، ولدينا الوسائل التي تُتيح لنا أن نحدِّد متى يكون طولها متساويًا، فما هذه الوسائل؟
إننا نضبط ساعات اليد التي نحملها عن طريق مقارنتها بساعات قياسية، وهذه الساعات الأخيرة بدورها يضبطها عالم الفلك؛ فإذا قِسنا مدة اليوم من الفترة الواقعة بين نقطة السمت التي تمرُّ بها الشمس (أي حين تعبُر الشمس خط الزوال) وبين النقطة التالية، أي مِن ظهر يوم معيَّن إلى الظهر التالي، فإننا لن نصل إلى زمان متجانس. فهذا النوع من الزمان، أي الزمان الشمسي، ليس متجانسًا تمامًا؛ لأن دورة الأرض حول الشمس تسير في مدار بيضاوي. ولتجنُّب الخطأ الناجم عن ذلك، فإن الفلكي يقيس دوران الأرض في فترات يحدِّدها سمتُ نجم ثابت معيَّن. هذا النوع من الزمان، المُسمَّى بالزمان النجمي، متحرِّر من التذبذبات التي تسبِّبها دورة الأرض؛ لأن النجوم الثوابت تبلغ من البعد حدًّا يجعل الاتجاه ما بين الأرض وبين نجم بعيد ثابت يكاد يظل بلا تغيُّر.
فكيف يعلم الفلكي أن الزمان النجمي متجانس بحق؟ إننا لو وجَّهنا إليه هذا السؤال لأجاب بأن الزمان النجمي ذاته ليس متجانسًا تمامًا إذا توخَّينا الدقة؛ لأن محور دوران الأرض لا يظل متجهًا في اتجاه واحد، وإنما ينحرف أو يتذبذب قليلًا على نحوٍ يُشبِه الحركة البطيئة لسن «النحلة» الدوَّارة (وإن كان هذا الانحراف حركة شديدة البطء؛ لأنها تستغرق حوالَي ٢٥٠٠٠ عام لإكمال دورة واحدة). وعلى ذلك فإن ما يُسمِّيه الفلكي بالزمان المتجانس ليس شيئًا يمكن ملاحظته مباشرة، وإنما يتعين عليه حسابه عن طريق معادلاته الرياضية، وتتخذ نتائجه صورة تصويبات معيَّنة يُضيفها إلى الأرقام التي استُخلصت بالملاحظة؛ وإذن فالزمان المتجانس نوعٌ من سريان الزمان، يُسقِطه الفلكي على المعطيات الملاحظة بالرجوع إلى معادلات رياضية.
ولم يتبقَّ بعد هذا إلا سؤالٌ واحد: فكيف يعلم الفلكي أن معادلاته تحدِّد زمانًا متجانسًا بالمعنى الدقيق؟ قد يُجيب الفلكي بأن معادلاته تعبِّر عن قوانين في الميكانيكا، وأنها صحيحة لأنها مستمَدة من ملاحظة الطبيعة. غير أن من الضروري، لكي نختبر قوانين الملاحظة هذه، أن يكون لدينا زمان نتخذه مقياسًا؛ أعني زمانًا متجانسًا نعرف بواسطته إن كانت الحركة المعيَّنة متجانسة أم لا، وإلا لما كانت لدينا وسيلة لتحديد ما إذا كانت قوانين الميكانيكا صحيحة أم لا. وهكذا يدور استدلالنا في حلقة مُفرَغة؛ فلِكَي نعرف الزمان المتجانس يتعين علينا أن نعرف قوانين الميكانيكا، ولكي نعرف قوانين الميكانيكا يتعين علينا أن نعرف الزمان المتجانس.
هذا التحليل يؤدي إلى حل مشكلة قياس الزمان على نفس النحو الذي حلَّلنا به مشكلة قياس المكان من قبل؛ فقد قلنا إن التطابق المكاني مسألة تعريف، وبالمِثل نقول الآن إن التطابق الزماني مسألة تعريف. فليس في وسعنا أن نُقارِن بين فترتَين زمانيتَين متعاقبتَين مقارنةً مباشرة، وإنما نستطيع فقط أن نسمِّيهما متساويتَين. وكل ما تمدُّنا به معادلات الميكانيكا إنما هو تعريف إحداثي للزمان المتجانس. ويلزم عن هذه النتيجة أن يكون الزمان نسبيًّا؛ إذ إن من الممكن استخدام أي تعريف للتجانس، وتكون أوصاف الطبيعة الناجمة عن هذه التعريفات أوصافًا متكافئة، وإن تكن مختلفة لفظيًّا، فما هي إلا لغات مُتباينة، أما مضمونها فواحد.
وفي استطاعتنا أيضًا أن نستخدم في تحديد مقياس الزمان ساعاتٍ طبيعية أخرى، كالذرَّات الدوَّارة أو الأشعة الضوئية السائرة، بدلًا من استخدام الحركة البادية للنجوم. ومن الأمور الواقعة أن مقاييس الزمان هذه جميعًا تتطابق نتائجها، وهذا هو مصدر الأهمية العملية للتعريف الفلكي للتجانس؛ إذ إن هذا التعريف مُماثِل لذلك الذي تقدِّمه كل الساعات الطبيعية. وهكذا فإن الساعة الطبيعية تقوم، في قياس الزمان، بدور مُشابِه لذلك الذي يقوم به الجسم الصلب في قياس المكان.
ولننتقل الآن من مشكلة قياس الزمان إلى مشكلة أخرى تهمُّ الرياضي؛ تلك هي مشكلة ترتيب الزمان. فمشكلة التعاقب الزمنى، أو السابق واللاحق، أو الترتيب الزمني، أهم حتى من مشكلة قياس الزمان؛ فكيف يمكننا أن نحدِّد إن كان حادثٌ معيَّن أسبق من حادث آخر؟ لو كانت لدينا ساعة، لكان التدفق المتجانس للزمان فيها منطويًا على تحديد للترتيب الزمني، غير أن علاقة الترتيب الزمني ينبغي أن تكون خاضعة لتعريف مستقل عن قياس الزمان. فلا بد أن يكون الترتيب الزمني واحدًا بالنسبة إلى مختلف مقاييس الزمان؛ وبالتالي ينبغي أن يكون من الممكن تعريف التعاقب الزمني بطريقة أخرى غير الإشارة إلى الأرقام المدوَّنة على الساعات.
ولو استعرضنا الوسائل التي نحكم بها على الترتيب الزمني لوجدنا أنه يُشترَط فيها دائمًا معيارٌ أساسي للتعاقب الزمني، فلا بد أن يسبق السبب النتيجة؛ وبالتالي فإننا إذا عرفنا أن حادثًا معيَّنًا هو سبب حادث آخر، فلا بد أن يكون الأول أسبق من الثاني. مثال ذلك أنه إذا اكتشف شرطيٌّ في بقعة خفية ثروةً من الذهب ملفوفة في ورقة جرائد، فإنه يعلم أن لف الثروة لم يتم قبل التاريخ المدوَّن على الجريدة، ما دام طبع الجريدة هو السبب الذي أدَّى إلى ظهور نسختها هذه. وعلى ذلك فإن علاقة الترتيب الزمني يمكن أن تُرَد إلى علاقة سبب ونتيجة.
ولسنا بحاجة إلى أن ندرس علاقة السبب والنتيجة (أو العلة والمعلول) في هذا الموضع؛ لأننا سندرسها في فصلٍ تالٍ. وحسبنا أن نقول إن الارتباط السببي يعبِّر عن علاقة من نوع «إذا كان … فإن …»، وهي علاقة يمكن اختبارها عن طريق تكرار وقوع حوادث من نفس النوع. غير أن ما ينبغي علينا تفسيره هو كيفية التمييز بين السبب والنتيجة، فلن يُعِيننا على هذا التمييز أن نقول إن السبب هو أسبق الحادثَين المرتبطين؛ إذ إننا نودُّ تعريف الترتيب الزمني على أساس الترتيب السببي، فلا بد إذن أن يكون لدينا معيار مستقل لتمييز السبب من النتيجة.
والواقع أن قيام علاقة السببية بإيجاد ترتيب متسلسل للحوادث الفيزيائية هو سمة من أهم سمات العالم الذي نعيش فيه، وعلينا ألا نعتقد أن وجود هذا الترتيب المتسلسل ضرورة منطقية؛ إذ إننا نستطيع تخيُّل عالم لا تؤدي فيه السببية إلى ترتيب مُتَّسق للسابق واللاحق. في مثل هذا العالم لن يكون الماضي والمستقبل مُنفصلَين انفصالًا قاطعًا، وإنما يمكن أن يتلاقيا في حاضر واحد، ونستطيع أن نتقابل مع أنفسنا كما كنا منذ عدة سنوات ونتحدث معها. على أن من الوقائع التجريبية أن عالمنا ليس من هذا النوع، وإنما هو يقبل نظامًا متسقًا على أساس علاقة متسلسلة مبنية على ارتباط سببي، تُسمَّى بالزمان. فالترتيب الزمني يعكس الترتيب السببي في الكون.
فعندما نرغب في معرفة زمن حادث بعيد، نستخدم إشارة تنقل إلينا رسالة وقوع الحادث، ولكن لما كانت الإشارة تستغرق زمنًا لكي تنتقل في مَسارها، فإن لحظة وصول الإشارة إلى مكاننا ليست هي ذاتها وقت وقوع الحادث الذي نودُّ التأكد منه. هذه الواقعة مألوفة عند استخدام الإشارات الصوتية، فعندما نسمع الرعد، تكون قد مرَّت عدة ثوانٍ على وقوعه في سحابة بعيدة. أما الشعاع الضوئي الذي يُحدِثه وميض البرق فإن سرعته أكبر بكثير، بحيث إن لحظة ظهور البرق يمكن أن تُعَد، بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية، هي ذاتها لحظة حدوث البرق في السحاب. أما إذا بحثنا الأمر من وجهة نظر القياس الأكثر دقة، لكان التحديد الزمني لوميض البرق من نفس نوع التحديد الزمني لقصف الرعد، ولكان علينا أن نأخذ في اعتبارنا الوقت الذي يستغرقه الشعاع الضوئي لكي ينتقل من السحابة إلى أعيننا.
على أننا كنا نستطيع أن نجد مخرجًا لو أمكننا قياس سرعة الضوء باستخدام ساعة واحدة؛ فبدلًا من قياس زمن وصول الإشارة الضوئية في النقطة البعيدة مثلًا، نستطيع أن نعكس الشعاع الضوئي بمرآة، بحيث يعود إلى النقطة الأولى؛ وبذلك يمكن قياس الفترة الزمنية التي استغرقتها رحلة الذهاب والإياب بساعة واحدة فقط؛ وعندئذٍ يكون علينا، لكي نحدِّد سرعة الضوء، أن نقسم زمن رحلة الذهاب والإياب على ضعف المسافة. وعلى الرغم من أن هذه الطريقة تبدو مبشِّرة بالخير، فإن الاختبار الدقيق كفيلٌ بأن يكشف نواحي النقص فيها، فكيف نعلم أن الشعاع الضوئي ينتقل في رحلة الإياب بنفس سرعة انتقال في رحلة الذهاب؟ إن الرقم الذي نحصل عليه للسرعة لن يكون له معنًى ما لم نكن نعرف أن هذه المساواة حقيقية، ولكن لا بد لنا، لكي نُقارِن السرعتَين في الاتجاهَين، من أن نقيس السرعة في كل اتجاه على حدة، ومثل هذا القياس يحتاج إلى ساعتَين؛ وبذلك نعود إلى نفس الصعوبة السابقة.
وقد نُحاوِل التأكد من التزامن عن طريق نقل الساعات؛ فنأخذ ساعتَين مضبوطتَين سويًّا، وتدلان على نفس الوقت ما دامتا باقيتَين في نفس النقطة المكانية، ثم ننقل إحدى الساعتَين إلى النقطة البعيدة، ولكن كيف نعلم أن الساعة المنقولة تظل متطابقة التوقيت خلال النقل؟ لا بد للتأكيد مِن تطابق التوقيت في الساعتَين من أن نستخدم الإشارات الضوئية؛ وبذلك نصل إلى نفس المشكلة التي صادفناها من قبل. ولن يساعدنا على حل هذه الصعوبة أن نُعيد الساعة الثانية إلى النقطة المكانية الأولى؛ لأن النتيجة التي نحصل عليها بهذه الطريقة لن تكون منطبقة إلا على حالة وجود الساعتَين متجاورتَين. والواقع أن هذه المشكلة شبيهة بمشكلة مقارنة قضيبَي القياس في نقطتَين مختلفتين، وهي المشكلة التي ناقشناها من قبل.
بل إن مشكلة الساعتَين المنقولتين أعقَدُ من مشكلة قضيبَي القياس المنقولَين ذاتها؛ ففي رأي أينشتين أن الساعة المنقولة تصبح بطيئة بعد رحلة الذهاب والإياب، إذا ما قُورِنت بالساعة التي تظل طوال الوقت في مكانها؛ ولهذا الرأي نتائج منطقية هامة؛ فهو ينطبق على جميع أنواع الساعات، وضمنها الذرَّات، التي تدل على فترة دورانها بلون الإشعاع الضوئي المُنبعِث عنها، وقد أيَّدت التجارب التي أُجريَت على ذرَّات سريعة التحرك تأخُّر دورانها على النحو الذي تنبَّأ به أيشتين. ولما كانت الكائنات العضوية الحية مُؤلَّفة من ذرَّات، فإن أي تأخير في الحوادث الذرية التي تقع في داخله ينبغي أن ينجم عنه تأخير في عملية الشيخوخة التي يتعرض لها الكائن العضوي؛ ويترتب على ذلك أن الأشخاص الأحياء الذين يسافرون بسرعة كبيرة ينبغي أن تتأخر عملية شيخوختهم، وأنه لو ذهب واحد من شقيقَين توءمين، مثلًا، في رحلة كونية، لأصبح بعد عودته أصغر من توءمه الآخر (وإن كان سيصبح بدوره أكبر مما كان عندما بدأ رحلته). هذه النتيجة تتلو بمنطقٍ لا جدال فيه من نظرية أينشتين التي ترتكز على أدلة قوية.
فإذا عُدنا إلى مشكلة التزامن، لوصلنا إلى النتيجة القائلة إن الساعات المنقولة لا يمكن أن تُستخدَم في تعريف علاقة «الحدوث في نفس الوقت»، وعلينا أن نبحث عن إشارات مناسبة للوصول إلى هذا التعريف. ولما كانت الإشارات الضوئية على الرغم من سرعتها الشديدة، ذات سرعة محدودة، فإن مما يساعدنا أن نجد في متناول أيدينا إشارات أسرع من الضوء؛ ذلك لأننا عندما نريد قياس سرعة الصوت، نستطيع استخدام الإشارات الضوئية في مقارنة الزمن؛ لأن سرعة الضوء أكبر جدًّا من سرعة الصوت؛ وبذلك يكون الخطأ الذي نقع فيه ضئيلًا من الوجهة العددية إلى حدٍّ يمكن تجاهله. وبالمثل، فلو كانت لدينا إشارة أسرع مليون مرة من الضوء، لأمكننا قياس سرعة الضوء بدقة كافية، وذلك بتجاهل زمن إرسال الإشارة الأسرع. على أن هذه نقطة أخرى تختلف فيها فيزياء أينشتين عن الفيزياء الكلاسيكية؛ ففي رأي أينشتين أنه لا توجد إشارة أسرع من الضوء، وهذا لا يعني فقط أننا لا نعرف إشارة أسرع منه، وإنما يرى أينشتين أن القضية القائلة إن الضوء أسرع الإشارات قانون طبيعي، يمكن أن يُطلَق عليه اسم مبدأ الطابع المحدود لسرعة الضوء، وقد قدَّم أينشتين أدلة قاطعة على هذا المبدأ، وليس لدينا من أسباب الشك فيه أكثر مما لدينا من أسباب الشك في قانون بقاء الطاقة.
فإذا ما جمعنا بين مبدأ أينشتين وبين التحليل السابق لمعنى التعاقب الزمني، لأدَّى بنا ذلك إلى نتائج غريبة بشأن التزامن. فلنفرض أن إشارة ضوئية أُرسلَت في الساعة ١٢ إلى كوكب المريخ وانعكست منه، وستعود هذه الإشارة بعد عشرين دقيقة مثلًا، فأيُّ زمن ينبغي أن نحدِّده للحظة وصول الإشارة إلى كوكب المريخ؟ إن تحديد هذا الزمن بأنه ١٢:١٠ يعني افتراض تَساوي سرعة الضوء في الذهاب والإياب، غير أننا رأينا من قبلُ أنه لا يوجد سبب يدعو إلى افتراض هذا التساوي. والواقع أننا نستطيع تحديد لحظة وصول الإشارة الضوئية إلى المريخ بأي وقت يقع بين ١٢:٠٠ و١٢:٢٠؛ ففي استطاعتنا أن نقول مثلًا إن الإشارة وصلت في الساعة ١٢:٠٥، ويكون معنى ذلك أنها قطعت رحلة الذهاب في خمس دقائق، ورحلة العودة في خمس عشرة دقيقة، ولكن الأمر الذي يؤدي تعريفنا للتعاقب الزمني إلى استبعاده، هو القول بأن الضوء وصل إلى المريخ الساعة ١١:٥٥؛ لأن معنى تحديد هذا الوقت هو أن الإشارة وصلت قبل وقت مغادرتها؛ وبذلك تكون النتيجة سابقة على السبب، ولكنا ما دُمنا نختار لوقت وصول الإشارة إلى المريخ رقمًا يقع في الفترة الواقعة بين ١٢:٠٠ و١٢:٢٠، فإننا نكون بذلك ملتزمين لشرط الترتيب الزمني. ولا بد أن يُستبعَد حدوث تأثير سببي متبادل بين أي حادث يقع في هذه الفترة الزمنية في موقعنا نحن، وبين الحادث الذي يقع في المريخ، والذي يدل عليه وصول الإشارة الضوئية. فلما كان التزامن يعني استبعاد إمكان وجود أي تأثير سببي متبادل، فإن أي حادث يقع خلال هذه الفترة الزمنية في مكاننا يمكن أن يُوصَف بأنه مُتزامِن مع وصول الشعاع الضوئي إلى المريخ. وهذا هو ما يسمِّيه أينشتين بنسبية التزامن.
وهكذا نرى أن التعريف السببي للترتيب الزمني يؤدي إلى عدم التحدد فيما يتعلق بالمقارنة الزمنية بين الحوادث التي تقع في نقاط متباعدة، وهو يؤدي إلى ذلك نظرًا إلى الطابع المحدود لسرعة الضوء. ولا يمكن أن يوجد زمان مُطلَق، أي تزامُن لا شك ولا غموض فيه، إلا في عالم لا يكون فيه لسرعة الإشارات حد أعلى، ولكن لما كانت سرعة الانتقال السببي محدودة في عالمنا هذا، فلا يمكن أن يكون هناك تزامن مُطلَق. والواقع أن النظرية السببية في الزمان تفسِّر معنى التعاقب الزمني والتزامن على نحوٍ مِن شأنه أن يكون التفسير قابلًا للانطباق على عالم الفيزياء الكلاسيكية مثلما ينطبق على عالمنا، الذي تكون فيه سرعة الانتقال السببي خاضعةً لحدٍّ أعلى، ولا يمكن فيه تعريف التزامن بطريقة قاطعة لا غموض فيها.
وبهذه النتائج نكون قد وصلنا إلى حدٍّ لمشكلة الزمان مُماثِل لذلك الذي وصلنا إليه لمشكلة المكان؛ فالزمان، كالمكان، ليس كيانًا مثاليًّا أو فكريًّا له وجود أفلاطوني يُدرَك بنوع من التبصر، وليس نوعًا ذاتيًّا من الترتيب يفرضه الملاحظ البشري على العالم، كما اعتقد «كانت»، بل إن في استطاعة الذهن البشري أن يدرك نُظمًا مختلفة للترتيب الزمني، يُعَد الزمان الكلاسيكي نظامًا واحدًا منها، وزمان أينشتين، بما يفرضه من حدود على الانتقال السببي، نظامًا آخر. أما اختيار الترتيب الزمني الذي ينطبق على عالمنا، مِن بين هذه الكثرة من النُّظم الممكنة، فهو مسألة تجريبية؛ فالترتيب الزمني يمثِّل صفةً عامة للكون الذي نعيش فيه، والزمان حقيقي بنفس المعنى الذي يكون به المكان حقيقيًّا، ومعرفتنا للزمان ليست أولية، وإنما هي نتيجة ملاحظة؛ أي إن النتيجة التي تؤدي إليها فلسفة الزمان هي أن تحديد التركيب الفعلي للزمان إنما هو عمل من أعمال علم الفيزياء.
وهكذا أدَّى التحليل العلمي إلى تفسير للزمان يختلف كل الاختلاف عن تجربة الزمان في الحياة اليومية؛ فقد اتضح أن ما نشعر بأنه تدفُّق للزمان، هو ذاته العملية السببية التي تكوِّن هذا العالم، وتبيَّن لنا أن تركيب هذه الصيرورة السببية ذو طبيعة أعقَدَ بكثير مما يكشفه الزمان الذي ندركه بالملاحظة المباشرة، حتى يجيء يوم يغزو فيه الإنسان الفضاء الواقع بين الكواكب، وعندئذٍ يصبح زمان الحياة اليومية مماثلًا في تعقيده للزمان كما يعرفه العلم النظري اليوم. صحيحٌ أن العلم يجرِّد المضمون الانفعالي لكي ينتقل إلى التحليل المنطقي. غير أن من الصحيح أيضًا أن العلم يفتح آفاقًا جديدة، قد تجعلنا نُمارِس يومًا ما انفعالاتٍ لا عهد لنا بها من قبل على الإطلاق.