تمهيد
١
تتحدث هذه القصة عن «شجرة الدُّرِّ» الملكة المشهورة في التاريخ، التي حكمتْ مصر في منتصف القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي).
ويعدُّها بعض المؤرخين آخر ملوك الدولة الأيوبية؛ ويعدُّها بعضهم أُولى سلاطين المماليك.
وسبب هذا الخلاف أنَّ الملكة «شجرة الدُّرِّ» تُعتبرُ عضوًا من الأسرة الأيوبية، وتعتبر في الوقت نفسه عضوًا من أسرة المماليك؛ أمَّا أنها كانت عضوًا من الأسرة الأيوبية؛ فلأنها كانت زوجةً للملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل ابن الملك العادل أخي صلاح الدين الأيوبي، ولا شكَّ أن زوجة الملك عضو من أسرته، على أنها — فوق ذلك — أمُّ الأمير خليل ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، الذي كان يعدُّه وليًّا لعهده، ويرشحه لولاية العرش من بعده.
وأما أنها كانت عضوًا من أسرة المماليك؛ فلأنها كانت جارية مملوكة قبل أن تكون زوجة للملك؛ فكان المماليك لذلك يعدُّونها واحدة من أسرتهم، ينتسبون إليها وتنتسب إليهم، فلمَّا تولَّت الحُكم بعد وفاة زوجها الملك الصالح نجم الدين أيوب، كانت في رأي الناس واحدة من الأسرة الأيوبية التي تتوارث عرش مصر منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، ولكنَّها لما نزلت عن العرش بعد ذلك، تولَّاه بعدها مملوك من مماليك الملك الصالح؛ هو الأمير عزِّ الدين أيبك التركماني، ثم صار عرش مصر بعد ذلك وراثة للمماليك، يتوارثونه مملوكًا عن مملوك نحو ثلاثة قرون — وتُسمى هذه الفترة في تاريخ مصر باسم «عصر سلاطين المماليك» — لذلك لا يخطئ مَن يقول إنَّ تولِّي «شجرة الدُّرِّ» عرشَ مصر يعتبر أول عصر سلاطين المماليك؛ لأنها كانت مملوكة مثل سائر المماليك الذين تولوا العرش بعدها.
٢
وشجرة الدُّرِّ — أو شجر الدر كما جاء في بعض التواريخ — اسمٌ مشهورٌ جدًّا في تاريخ مصر، بل إنها تعتبر أشهر امرأة في هذا التاريخ، لعدَّةِ أسباب:
منها: أنها أول امرأة وآخر امرأة تولَّت عرش مصر الإسلامية، فلا نعرف امرأة قبلها ولا بعدها — منذ أول عهد الإسلام إلى اليوم — تولَّت عرش هذه البلاد، تأمر وتحكم وتُولِّي وتعزل، وتُسيِّر الجيوش للحرب، وتوقع معاهدات الصلح، وتُعيِّن الوزراء، وتعقد الألوية للقواد، ويُنقش اسمها على الدراهم والدنانير، ويُدعى لها على المنابر في المساجد.
ومنها: أنها كانت أول «مملوكة» تجلس على العرش، فتصير ملكة يدِين لها الملايين بالطاعة والولاء، بعد أن كانت جارية مُشتراة بالمال، يأمرها سيدها فتأتمر، وينهاها فتنتهي!
ومنها: أن عهدها كان حدًّا فاصلًا بين مرحلتين من مراحل التاريخ؛ فقد كانت ولايتها آخر عهد الدولة الأيوبية، وأول عهد المماليك.
ومنها: أن عصرها كان مزدحمًا بالحوادث التاريخية العظيمة؛ ففي عهدها انكسر الصليبيون كسرة شنيعة، وكانوا قد زحفوا من فرنسا وسائر بلاد أوربة، ليستولوا على مصر والشام؛ فانهزموا عند مدينة المنصورة شرَّ هزيمةٍ، وقُتل قُوَّادهم وأُسِرَ مَلكهم لويس التاسع ملك فرنسا، واعتُقل في دار الأمير فخر الدِّين بن لقمان بالمنصورة، فلم يُفرَج عنه إلا بعد أن افتدى نفسه بمال، وعاهد على ألَّا يعودَ إلى غَزْوِ مصرَ.
وفي عهدها كان قد بدأ زحف المغول من أواسطِ آسيا على البلاد الإسلامية للاستيلاء عليها وإذلال أهلها، واستمرَّ زحفهم حتى استولوا على كثيرٍ من البلادِ الإسلاميةِ، وتوغَّلُوا فيها يفتكون ويهتكون ويسفكون الدم ويحطِّمون العروش، حتى أوشكوا أن يبلغوا حدُودَ مصرَ بعد أن قطعوا إليها مئات الآلاف من الأميال؛ ثم كانت هزيمتهم الساحقة الماحقة على يد الجيش المصري في موقعة «عين جالوت» بفلسطين، بعد وفاة شجرة الدُّرِّ بأمدٍ قليلٍ، فلم تقم لهم قائمة بعد هذه الهزيمة التي لم ينهزموا قبلها قَط.
وفي عهدها بدأت عادة تسيير المحمل في كلِّ عامٍ من مصر إلى الحجاز في موسم الحج، يحمل كسوة الكعبة كما يحمل كثيرًا من المؤن والأموال لأهل بيت الله الحرام، وتصحبه فِرقة كبيرة من الجيش المصري لحماية الحجاج. وما تزال هذه العادة مُتَّبعة إلى اليوم.
وفي عهدها نَبَغَ كثيرٌ من الأدباء والشعراء المصريين الذين يُذكرون في تاريخ الأدب العربي؛ كبهاء الدين زهير، وجمال الدين بن مطروح وغيرهما …
ومن أسباب شهرتها وبقاء اسمها مذكورًا إلى اليوم المسجدُ العظيمُ الذي بنته في حيِّ الخليفة في القاهرة؛ لتُدفنَ فيه بعد موتها، ولم يزل قائمًا إلى اليوم — بالقرب من مسجد السيدة نفيسة — يقصده الزوَّار وتُؤدَّى فيه الصلوات.
وما يزال اسم زوجها الملك الصالح كذلك مذكورًا مشهورًا في مصر إلى اليوم؛ وجميع أهل القاهرة يعرفون «كوبري الملك الصالح»، الذي يُوصِّل بين الفسطاط وجزيرة الروضة؛ وسبب تسمية هذا الجسر بهذا الاسم أنَّ الملك الصالح نجم الدين أيوب — زوج شجرة الدُّرِّ — بنى له قصرًا وقلعةً في هذه الجزيرة التي يُوصل إليها هذا الجسر، أما القصر فكان يقيم فيه هو وزوجه شجرة الدُّرِّ، وأمَّا القلعة فكان يُقيمُ فيها — بالقربِ منه — مماليكُه الأتراك الذين صاروا فيما بعد ملوكًا؛ ولذلك يُسمَّون في التاريخ باسم «المماليك البحرية»؛ لأن قلعتهم هذه كانت تشرف على البحر؛ أي النيل.
٣
هذا حديثٌ قصيرٌ عن الملكة شجرة الدُّرِّ، وعن زوجها الملك الصالح أيوب.
والآن فلنذكر طَرَفًا من التاريخ الذي يُعينُ على فهم حوادث هذه القصة:
كانت مصر منذ دخلها الإسلام يحكمها أميرٌ من أمراء المسلمين، يُعيَّنُ من قِبَلِ الخليفةِ، في المدينة أو في دمشق أو في بغداد، ويكونُ تابعًا له.
وظلَّ الأمرُ كذلك إلى أن وَلي مصرَ الأميرُ أحمد بن طولون في مُنتصف القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) في عهد الخليفة المعتز العباسي، فاستقلَّ ابن طولون بمُلك مصر، وجعلها دولة مُستقلة له ولأولاده من بعده، ولكن هذا الاستقلال لم يستمر إلا نحو خمسين سنة؛ إذ ضعفت الدولة الطولونية، فعادت مصر تابعة للخليفة العباسي في بغداد.
•••
واستمرَّت مصر تابعة لبغداد ثلاثين سنة أُخرى، إلى أن وليِها الأمير أبو بكر محمد الإخشيد في عهد الخليفة المقتدر العباسي؛ ففعل مثل ما فعل ابن طولون من قبل، واستقلَّ بمصر، وصار عرشها وراثة له ولأولاده من بعده، واستمرت «الدولة الإخشيدية» في مصر بضعًا وثلاثين سنة، وكان آخر ملوكها كافور؛ وهو عبدٌ مملوكٌ من مماليك بني الإخشيد!
•••
ثم ضعفت الدولة الإخشيدية، فطمع في مُلك مصر مَلكٌ من ملوك المغرب، اسمه المعزُّ لدين الله الفاطمي، فزحف عليها من تونس في جيشٍ كبيرٍ، فملكها في منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي).
وكان هذا الملك «المعزُّ لدين الله» يقولُ إنَّه من أبناء السيدة فاطمة بنت سيدنا محمد ﷺ؛ ومن أجل ذلك كان يُسمِّي نفسه «الفاطمي»، ويرى أنه أحق بالخلافة من العباسيين في بغداد؛ فأنشأ خلافة فاطمية في مصر، وأعلن الاستقلال عن الخليفة العباسي في بغداد، وصار عرش مصر وراثة له ولأسرته من بعده أكثر من مائتي سنة.
وكان للفاطميين مذهبٌ في الدِّين لا يُوافقهم عليه أكثر المسلمين؛ لذلك لم تكد بوادر الضعف تظهر على ملوك الدولة الفاطمية في منتصف القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، حتى أخذ أصدقاء الخلافة العباسية في المشرق يتطلَّعونَ إلى غزو مصر، ليُخلِّصوها من الفاطميين ومذهبهم «الشيعي».
•••
وكان مما ساعد على ضعف الدولة الفاطمية، غزوات الصليبيين المتوالية على مصر والشام، فانتهز «صلاح الدين الأيوبي» هذه الفرصة ودخل مصر، وكسر شوكة الصليبيين، وقضى على الدولة الفاطمية، واستقلَّ بحكمِ البلاد وأزال منها مذهب الفاطميين، وأعلن ولاءه للخليفة العباسي في بغداد؛ وكان ذلك في الثلث الأخير من القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي).
•••
وكان صلاح الدين قائدًا من أعظم القواد، وحاكمًا من أعدل الحُكَّام؛ وأصل أبيهِ من بلادِ الكرد، واسمه «أيوب بن شاذي»، فلمَّا ملك صلاح الدين بن أيوب مصر، انتقل أبوه وأسرته إليها، وصار عرش البلاد وراثة لهم، يتوارثونه أيوبيًّا بعد أيوبيٍّ؛ ولذلك تُسمَّى دولتهم «الدولة الأيوبية».
وفي عصر الدولة الأيوبية اتَّسعَ مُلك مصر حتى شمل الحجاز واليمن إلى شواطئ المحيط الهندي، وامتدَّ على بلاد الشام إلى أطراف العراق وحدود الموصل، ووصل إلى أواسط آسيا وحدود التركستان.
وظلَّت هذه البلاد تحت حكم الأيوبيين أكثر من ثمانين سنة، من عهد صلاح الدين إلى عصر شجرة الدُّرِّ، ثم انتقل الحكم إلى المماليك الذين أنشأهم ورعاهم الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وخلال هذه المُدَّة التي حكم فيها الأيوبيون هذه البلاد، كان في كلِّ بلدٍ منها أمير أيوبي؛ ففي دمشق أمير، وفي حلب أمير، وفي اليمن أمير، إلى أمراء آخرين في كثيرٍ من البلاد، ولكن أكبر هؤلاء الأمراء وأعظمهم هو السلطان الذي يجلس على عرش قلعة الجبل في القاهرة.
٤
وكان الذي يجلس على عرش القاهرة حين بدأت حوادث هذه القصة، هو الملك الكامل ناصر الدين ابن الملك العادل سيف الدين أخي صلاح الدين الأيوبي مُؤسِّس الدولة.
وكان أكبر بنيه هو الأمير نجم الدين أيوب — الذي سُمِّي فيما بعد الملك الصالح — وكان في ذلك الوقت واليًا من قِبَلِ أبيه الملك الكامل على حصنٍ من حصونِ المشرق، اسمه «حصن كَيفا»، وكان معروفًا أن نجم الدين هو ولي عهد أبيه الكامل، وأن مُلك مصر سيئولُ إليه بعد أن يتخلَّى أبوه عن العرش، وكان مما يُقوِّي هذا الظن، أنَّ نجم الدين كان ينوبُ عن أبيه في الحكم حين يُضطر أبوه إلى الخروجِ من مصر للحرب أو لسببٍ آخر.
وكان لنجم الدين أخٌ أصغر منه، هو الأمير سيف الدين — الذي سُمِّي فيما بعد الملك العادل — وكانت أمه أقرب إلى قلب الملك من أمِّ الأمير نجم الدين، وكانت أم سيف الدين مصرية خالصة النسب، وكان أبوها من شيوخ الفقه المشهورين في مصر، واسمه الشيخ نصر الفقيه.
٥
هذا هو الأمير نجم الدين الذي كان زوجًا لشجرة الدُّرِّ، وهذا هو موقفه من أبيه وأخيه وأُسرته، أمَّا شجرة الدُّرِّ نفسها فكانت فتاة مقطوعة الجِذْر، لا يُعرف لها أبٌ ولا أمٌّ ولا أصل، ولم تترك بعد موتها ولدًا ولا بنتًا ولا ذريةً، فكانت حياتها من أعجبِ العجب؛ إذ ليس لها أصلٌ يُذكر ولا فرعٌ يبقى! وماتت قبل أن يأفل شبابها، ومع ذلك ظلَّ ذِكرها باقيًا على توالي القرون منذ القرن السابع الهجري إلى اليوم، وإلى الغد وإلى الأبد …
أيُّ قوة من قوى الغيب تجمَّعت في هذه الجارية الأنثى، فكتبت لها في التاريخ هذا الخلود؟!
كانت جاريةً ذات أدبٍ وعلمٍ وفنٍّ!
وكانت أُنثى ذات جمالٍ وفتنةٍ وحيلةٍ!
وكانت زوجةً ذات حب ووفاءٍ وغيرة!
وكانت ملكةً ذات حزمٍ وإرادةٍ وتدبيرٍ!
صفاتٌ أربعٌ لا يجتمعُ مثلُها في امرأةٍ، واجتمعن في شجرة الدُّرِّ.
أحبت وتزوجت وحملت ووضعت، ولكنها لم تنس في أي أحوالها أنها ملكة، على رأسها تاج، وفي يدها صولجان، وتحتها عرش، وبها ترتبط مصاير أمة؛ فكانت — حتى في اللحظة التي تنسى فيها كلُّ أنثى أن لها إرادة — ملكةً ذاتَ إرادةٍ وتدبيرٍ وكيدٍ …
وملكت وتسلَّطت وقَبضَتْ على الصولجان، وركع تحت قدميها الرجال، ولكنَّها لم تنس في لحظةٍ من لحظاتِ السُّلطان الباطش أنها أنثى، وأنَّ لكلِّ أُنثى رجلًا تخضعُ له، وتذوب إرادتها في إرادته، فكانت — حتى في اللحظة التي ينسى فيها كل ذي سلطان أنه بشر — أنثى تستسلم للحب استسلام كل ذات قلب.
فلما جدَّت في آثارها الحوادث، وأرغمتها على أن تختار بين أن تكون امرأةً لرجلٍ أو ملكةً لعرشٍ وتاجٍ وصولجان، تَنَازعتها الكبرياء والغيرة، فطاشت فلم تكن في طيشتها أنثى ذات قلب، ولا ملكة ذات تدبير، وفقدت الرجل والعرش والحياة جميعًا.
•••
تلك شجرة الدُّرِّ: تاريخ أُمَّة في تاريخ أَمَة!
وفي التاريخ قصص كثيرة لملكاتٍ غير شجرة الدُّرِّ، ولكن التاريخ لم يأثر عن ملكةٍ منهن ما أثَر عن شجرة الدُّرِّ من صفاتٍ لم تجتمع مثلها في أنثى ولا في ملكة.