الفصل الأول
نبأٌ من القاهرة
أطرق الأمير صامتًا
١ وطوَّفت أفكاره تجتاز المسافات وتقطع الأبعاد النائية؛ فهو في مجلسه من ذلك
الحصن الذي اتخذه قاعدةً لإمارته في أقصى المشرق، ولكنه مما يصطرع في رأسه من الخواطر،
وما
يتراءى له من صور الماضي القريب والبعيد، كالتائه في البيداء المترامية قد انفسح مداها
وتباعد ما بين أطرافها بُعدَ ما بين حصن كيفا والقاهرة.
أفمن أجل ذلك أخرجه أبوه من مصر وانتزعه من بين مماليكه وجنده، وَقذَف به إلى ذلك
المنفى
السحيق؟
وثقلتْ وطأة الصمت على أصحابه، وإن كانوا ليعلمون ما يصطرع في رأسه من خواطر، حتى
كأنهم
يسمعون حديثه إلى نفسه ويُبادلونه الرأي، فقد طالعوا منذ لحظات ما جاء به البريد من أنباء
القاهرة، فعلموا أن أميرهم منذ اليوم ليس وليًّا للعهد؛ لأن ولاية العهد قد صارت منذ
اليوم
لأخيه الصبي سيف الدين.
صبيٌّ لم يبلغ الحُلُمَ، والدولة يكتنفها الخطر ويتربَّصُ بها الأعداءُ من كلِّ جانبٍ؛
فَثمَّة الصليبيون يتحفَّزُون للوثبة على سواحل مصر والشام، والخطر المغولي يمدُّ مده
نحو
الغرب، ويكاد يبلغ بغداد عاصمة الخلافة ليثِبَ منها إلى الشام ومصر، فماذا يملك مثل ذلك
الصبي أن يدفع من هذا الويل؟ ألِأنَّ أُمَّهُ «سوداءَ بنتَ نصر»
٢ أحظى نساء الكامل وآثرُهن عنده؟! فَليَهنِهِ رضاها، ولا عليه بعد ذلك أن
يتبدَّدَ مُلك بني أيوب وتطأه خيل الصليبيين والمغول.
وإذن؛ فسيبقى الأمير نجم الدين في حصن كيفا أميرًا على ما يليه من بلاد الموصل، وسيبقى
معه أصحابه وبطانته؛ فإنَّ القاهرة منذ اليوم — أو منذ غد — قاعدةُ مُلك الأمير سيف
الدين!
وهَمَّ الأمير فخر الدين بن الشيخ
٣ أن يتكلَّم، ثم أمسك حين ارتفع صوتٌ من وراء الحجرات ينشد شعر الإرْبليِّ:
٤
وإذا رأيتَ بنيكَ فاعلم أنهم
قطعوا إليك مسافةَ الآجال
وصل البنون إلى محل أبيهمُ
وتجهز الآباء للتَّرحال!
ورفع الأمير نجم الدين رأسه وأدار عينيه فيمن حوله، وهو يردِّدُ في صوتٍ خافتٍ:
قال الأمير فخر الدين قلقًا: أتعني يا مولاي …؟
فابتدر الأميرُ وعلى شفتيه ابتسامة خابية:
٥ ماذا فهمتَ بالله يا فخر الدين فنال منك الجزع؟ إنْ هو إلا شعرٌ طرق مسمعي فجرى
على لساني، وإنه لأبي وإن غَلَبَتْهُ على حزمه وإرادته سوداءُ بنتُ نصر!
ثم زَمَّ شفتيه وأردف: ولكن ذلك الصبي لن يبلغ ما أرادت له أمه، ولن يكون له عرش
مصر!
ثم انفضَّ المجلس، وتفرَّق أصحاب الأمير، فمضى كلٌّ منهم إلى وجهٍ، وخلا الأمير إلى
نفسه
يُدبِّر أمره، ولزم الطواشي صوابٌ
٦ بابَه شاكيَ السلاح متأهبًا لما يصدر إليه من أمر.
•••
لم تكن الأنباء التي جاء بها البريد في ذلك اليوم من القاهرة مُفاجَأة غيرَ مُنتظرة؛
فقد
كان الأمير يعلمُ علم اليقينِ منذُ أُبعِدَ عن القاهرةِ إلى حصن كيفا، أنَّ ثمَّةَ أمرًا
قد
أَحكمتْ بنتُ نصرٍ تدبيرَه؛ ليخلو لسيف الدِّينِ وجهُ أبيه، ولكنه مع ذلك لم يكن يتوقَّع
أن
يتمَّ ذلك التدبير سريعًا قبل أن يستكمل أهبته للمقاومة، ويتكثَّرَ من الجند والعَتاد،
ويصطنعَ أسباب المودة بينه وبين جيرانه من أمراء الموصل،
٧ وبينه وبين ذوي قَرَابته من أمراء بني أيوب،
٨ وليس معه في هذا الحصن النائي من صحابته الأدنينَ إلا بضعةُ نفرٍ، وليس له من
المماليك إلا بضعُ عشرات، إلى بضع فِرقٍ من الجند لا تغني غناء، ومِن أين له بهؤلاء أن
يغلب
أخاه على العرش حين تحين الساعة؟
وتذكَّرَ نجمُ الدين أميرًا من أمراء الموصل يُرابطُ في طريقه إلى مصر مُتربصًا به؛
ذلك
هو بدر الدين لؤلؤ، وإنَّ له عند نجم الدين ثأرًا منذ غلبه نجمُ الدين على سنجار
٩ فاحتازها إلى إمارته وترك جيشه أباديدَ
١٠ على ظهر البادية، وما كان لبدر الدين أن ينسى ثأره!
وتذكر نجم الدين كذلك ثأرًا آخر بينه وبين السلطان غياث الدين صاحب بلاد الروم.
١١
أَفَيَكْفِيهِ شرَّ ذلك كله بضعُ عشراتٍ من مماليكه إلى بضع مئاتٍ من الجندِ؟ ولكنه
قد
عقد النيَّة على أن يكون له دون غيره عرش الأيوبية؛ ولا بدَّ أن يتمَّ له ما أراد.
ذلك كان هَمَّ الأمير، على حين كان لكلِّ واحدٍ من أصحابه في ذلك الحصن همٌّ
يشغله:
هذا الأمير فخر الدين بن الشيخ، قد أرَّق جفنيه وأقضَّ مضجعه ما جرى على الأمير نجم
الدين، وما يخشى أن يئولَ إليه أمرُه وأمرُ الدولة إذا بدا له أن يشقَّ عصا الطاعة، أو
يتمرَّدَ على أمر أبيه، وإنَّ على فخر الدِّين تبعات
١٢ تقتضيه أن يرحل إلى القاهرة بعد أيام، وليس يدري ما يكون شأنُ نجم الدين بعد أن
يُفارقه ويمضي لوجهه.
وهذا الصاحب بهاء الدين زهير
١٣ قد بَرَّح به الحنينُ إلى مصر وإلى أصحابٍ هنالك وصواحب، وإلى منازلَ آهلةٍ
ومغانيَ مأنوسةٍ، كان يُمنِّي نفسه بأن يعود إليها، فالآن هيهات هيهات المعادُ وقد صار
عرشُ
مصر لغير نجم الدين أيوب، فهو منذ بلغه ذلك النبأ يحسو
١٤ دمعه وحيدًا ويُنشد:
إلى كم حياتي بالفراق مريرةٌ؟!
وحتَّام طَرْفي ليس يلتذُّ بالغمضِ؟!
وكم قد رأت عيني بِلادًا كثيرةً!
فلم أرَ فيها ما يسر وما يُرضي
ولم أر مصرًا مثلَ مصرَ تَروقُنِي
ولا مثل ما فيها من العيش والخفض
١٥
وبَعدَ بلادي فالبلادُ جميعها
سواءٌ، فلا أختار بعضًا على بعضِ
إذا لم يكن في الدار لي مَن أحبهُ
فلا فرقَ بين الدَّار أو سائرِ الأرضِ
وهؤلاء المماليك الكثرُ من حاشية الأمير في الحصن لا يعنيهم من حياتهم إلا ما يستمتعون
به
من طيبات الرزق، وما يتقلبون فيه من ألوان النعمة، إذا اجتمعوا فليس لهم همٌّ إلا العبث
والفكاهة والضحك العريض، وإذا افترقوا فليس لواحدٍ منهم همٌّ غير طعامه وشرابه، وزيِّهِ
وشارته، وغلامه وجاريته …
أما أمير الحصن وسيده، فإنَّه من الهَمِّ والفكر واشتغال البال …
كريشةٍ في مهَبِّ الريحِ طائرةٍ
لا تستقرُّ على حالٍ من القلقِ!